نشأة التصوف الإسلامي والعوامل التي أثَّرت فيه

يقول المرحوم الدكتور محمد إقبال في كتابه الصغير القيِّم «تطور الفلسفة الميتافيزيقية» في فارس The Development of Metaphysics in Persia (ص٩٦):

ليس من الصواب أن نرجع كل ظاهرة في بيئةٍ ما إلى عوامل خارجة عنها فنُهمل بذلك العوامل الداخلية، فإنه لا فكرة من الأفكار ذات قيمة يكون لها سلطان على نُفوس الناس إلا إذا كانت تمتُّ إليهم بصِلَة، فإذا جاء عامل خارجي أيقَظَها، ولكنه لا يَخلقها خلقًا، وعندما بحث المُستشرقُون في أصل التصوُّف، ذهبوا إلى أن مردَّه إلى هذا العامل الخارجي أو ذلك، ونسوا أن أيَّة ظاهرة عقلية أو تطوُّر عقلي في أمة، لا يكون لهما معنًى ولا يفهمان إلا في ضوء الظروف العقلية والسياسية والدينية والاجتماعية التي عاشَت فيها هذه الأمة قبل ظهور تلك الظاهرة.

في هذه العبارة الموجَزة الرائعة لخَّص إقبال النقد الأساسي الذي نريد أن نوجهه إلى المستشرقين في نظرياتهم في هذه المسألة؛ مسألة نشأة التصوف الإسلامي، وأشار إلى الطريق السويِّ في معالجتها: وهو النظر أولًا إلى البيئة العقلية والدينية والسياسية والاجتماعية التي نشأت فيها تلك الظاهرة الكبرى (التصوُّف) التي غيَّرت مجرى تاريخ الإسلام.

لا داعي إذن لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن أصل التصوُّف في الإسلام يرجع إلى هذا العامل الخارجي أو ذلك؛ إذ من الخطأ البيِّن أن نقول إن كذا وحده هو العلَّة في ووجود كذا الآخر، لا سيما إذا كانت العِلَل والمعلولات من الأمور الواقعة في الميادين العقلية أو الروحية أو الاجتماعية؛ لأن الظواهر العقلية والروحية والاجتماعية لا تخضع لقوانين العلِّية البسيطة التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.

التصوف من حيث هو — سواء أكان إسلاميًّا أو غير إسلامي — استبطان مُنظَّم للتجربة الدينية ولنتائج هذه التجربة في نفس الرجل الذي يُمارسها. فهو — بهذا الوصف — ظاهرة إنسانية ذات طابع رُوحي لا تحدُّه حدود مادية زمانية أو مكانية، وليس وقفًا على أمة بعينها، ولا على لغة أو جنس من الأجناس البشرية، وكذلك الحال في الفلسفة والفنون فإنها كلها وليدة تجارب روحية تعتلج في النفوس البشرية من حيث هي نفوس بشرية لا من حيث هي نفوس شرقية أو غربية، ساميَّة أو آرية.

وقد يكون من العبث وضياع الوقت أن نَصرف مجهودًا كبيرًا في تعقُّب أصول فلسفة فلان أو تصوُّفه أو فنه، ونُحللها إلى عناصر ونرجع تلك العناصر إلى مصادر خارجية، مع إغفال الدَّور الذي تقوم به عقلية فلان هذا ورُوحه في التفكير والهضم والتمثيل والتعبير بما يتلاءم مع تكوينه العقلي والرُّوحي؛ ولهذا لا نرى قيمة لإنكار وجود فلسفة إسلامية على أساس أن أصل الفلسفة الإسلامية هو الفلسفة اليونانية، ولا لإنكار تصوُّف إسلامي على أساس أن التصوف الإسلامي في صميمه هندي أو فارسي أو أفلاطوني حديث، كما أنه لا معنى للقول بأن فلانًا من الفلاسفة أو الصوفية، أخذ فلسفته أو تصوفه عن فلان لمجرد وجود الشبه بين الاثنين. بل يجب أن نُراعي دائمًا الأمور الآتية:
  • الأول: يجب ألا نتكلَّم في مسألة التأثير والتأثُّر إلا إذا كانت هناك أدلة تاريخية أي اتصال تاريخي بين شخصٍ وشخص، أو أصحاب مذهب وأصحاب مذهب آخر. فلا يكفي مثلًا أن نقول كما قال الأستاذ آسين بلاثيوس أن دانتي متأثِّر بابن عربي في الكوميديا الإلهية في وصفه للجحيم خاصةً، فإن مجرد وجود الشَّبَه بينهما لا يكفي في تقرير تأثُّر أحدهما بالآخر.
  • الثاني: ألا نُبالغ في مسألة التأثير والتأثُّر إلى حدِّ أن نُهمل شخصية الفرد وعمله العقلي والروحي.
  • الثالث: يجب أن نَعترف بالمؤثِّرات الخارجية في صورها العامة لا في تفاصيلها. فمما لا شكَّ فيه أن الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي قد تأثَّرا بعوامل خارجية وتيارات فكرية وصلت إلى بيئات المسلمين من ثقافات غير إسلامية متعدِّدة، ولكن تفاصيل المذاهب الفلسفية الإسلامية والنظريات الصوفية الإسلامية من عمل المسلمين أنفسهم، والنتائج التي رتبوها على المذاهب التي استعارُوها تختلف في جوهرها عن النتائج التي رتَّبها عليها أصحاب تلك المذاهب والنظريات أنفسهم. انظر كيف استغل المسلمون نظرية أفلاطون في المثل، ونظرية أرسطو في المحرِّك الأول، ونظرية أفلوطين في الفيوضات، وكيف استغل متصوفة الإسلام النظريات اليونانية والمسيحية في «الكلمة» Logos،١ وكيف وصلُوا إلى نتائج لم تَخطر لأصحاب هذه النظريات ببال.

والذي أُريد أن أُقرِّره هنا هو أن تاريخ التصوف في الإسلام جزء لا يتجزَّأ من تاريخ الإسلام نفسه ومظهَر من مظاهر هذا الدين وما أحاط به من ظروف وما دخل فيه من شعوب، وليس شيئًا اجتُلب من الخارج دون أن تكون له صِلة بالدين الإسلامي ورُوحه وتعاليمه.

نعم؛ ليس الإسلام نفسه دينًا صوفيًّا، وما كان ليَصير دينًا صوفيًّا لو أنه ظلَّ محصورًا في الجزيرة العربية؛ لأنه دِين عقلي يُخاطب العقل أكثر مما يُخاطب الوجدان، ويدعو إلى النظر في خلق السموات والأرض ليستدلَّ الناظر بما يُشاهدُه وما يلاحظه في الكون وفي نفسه على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعظمته وجلاله وقيامه بنفسه، لا ليُؤديَه تأمُّلُه في العالم وفي نفسه إلى إنكار ذاته وفنائه في الله والاتِّصال به عن طريق هذا الفناء كما يقول الصوفية. لم يكن الإسلام، وهو الدين المستنِد إلى عقيدة التوحيد البسيطة التي يقنع بها العقل بمحضِ فطرته، ليظهر عنه التصوف وما في التصوُّف من نظريات مُعقَّدة لو لم يَخرُج من حدود البيئة الصحراوية التي نشأ فيها، وتَمتزِج تعاليمُه بتعاليم وأديان الأمم التي نشَر فيها ضوءه، تلك الأمم التي كانت على حظٍّ كبيرٍ من الفلسفة والعلم والحياة الرُّوحية العميقة، ولو لم يتَّصِل بتلك الديانات القديمة الغنية بتقاليدها وطقوسِها وأساليب عبادتها ومناهج رياضتها النفسية؛ ولهذا نقول: إنَّ التصوف وليد تاريخ الإسلام الديني والسياسي والعَقلي والعُنصري ولم نَقُل أنه وليد الإسلام وحده، وتاريخ الإسلام الدِّيني والسياسي والعَقلي والعُنصري هو تاريخ الأمم الإسلامية، وما كان لها من حضارات وثقافات مُزجِت بالدين مزجًا.

ولم يلقَ الإسلام داخل الجزيرة العربية تأويلًا فلسفيًّا ولا صوفيًّا، ولكنَّه لما أصبح الكتاب المقدَّس للفُرس والمصريِّين والعراقيين وغيرهم من أهل الحضارات والديانات القديمة، تناولوه بالتفسير والتأويل وقرءوا فيه من معاني التصوُّف والفلسفة ما شاءت لهم ثقافاتهم، وارتفعوا بهذه التأويلات والتفسيرات إلى مُستوى البحوث النظرية العالمية في كثير من الأحيان. لكنَّ الاتصال بين الإسلام والثقافات الأجنبية غير الإسلامية شيء، ونتائج هذا الاتصال شيء آخر، وما وصَل إليه المسلمون في ميدان الفلسفة والتصوف كان مَزيجًا من الإسلام وما اتَّصل به الإسلام من هذه التيارات الفكرية الخارجية، أو كان نتيجةً لازدواج هذَين العنصرَين، وكان أكبر عامل في هذا الازدواج مُحاوَلة المسلمين التوفيق بين دينهم والأفكار الأجنبية التي دخلَت البيئات التي انتشر فيها. عن هذا الطريق نجح المسلمون في جعل الإسلام دينًا صوفيًّا، اختلف من غير شك عن الإسلام في نشأته الأولى، ولذلك تلقَّاه بعض أهل السنة بالقَبول وتلقَّاه غيرهم بالرفض؛ لأنه جرى على أساليب وأتى بأفكار لم تكن معهودة عند أهل السلف.

١  انظر «نظريات الإسلاميين في الكلمة»، بحث للمؤلِّف بمجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، سنة ١٩٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤