دراسة مقارنة بين المسيحية والإسلام

الإسلام والمسيحية من الأديان التي تشهد ﻟ «الحقيقة البدئية» شهادة مباشرة بهذه الدرجة أو تلك، فهما يمثلان الميراث الرُّوحي لهذه الحقيقة، كلٌّ من وجهة نظر مختلفة، لكن، قبل كل شيء، يجب علينا أن نعرف ماذا تعنيه «وجهة النظر» بحد ذاتها. ولكي يتسنى لنا فهم ذلك، لا نرى أيسر من أن نتحقق منها بأنفسنا على نفس الصعيد الذي نفهم فيه الرؤية الفيزيائية، من حيث إن وجهة النظر تعيِّن لنا تمامًا منظورًا متناسقًا ضروريًّا، وعلى أكمل وجه دائمًا، ومن حيث إن الأشياء تغير من مظهرها تبعًا لموقع الناظر منها، بالرغم من أن عناصر الرؤية تبقى دائمًا هي نفسها، وهي: العين والضوء والألوان والأشكال والنسب والأوضاع في الفراغ. فالذي يتغير هو نقطة انطلاق الرؤية، لا الرؤية بحد ذاتها. ولئن سلم الناس جميعًا بأن الرؤية هي كذلك في العالم الفيزيائي، وما هو غير انعكاس عن الحقائق الرُّوحية، فلا سبيل إلى نكران قيام نفس العلاقات فيما بين هذه الحقائق، أو سبق قيامها بالأحرى. وعندئذٍ تكون العين هي القلب — وهو عضو «الوحي»، والشمس هي «المبدأ الإلهي» الذي يوزع النور، والنور هو «العقل»، والأشياء هي «الحقائق أو الأعيان الإلهية». لكن في الوقت الذي لا نجد فيه ما يمنع الكائن الحي بعامةٍ من تغيير وجهة نظره الفيزيائية، نجد الأمر على خلاف ذلك تمامًا في وجهة النظر الرُّوحية التي تتخطى الفرد دائمًا، ولا يمكن إلا أن تظل إرادته معينة وسلبية حيالها.

لكي نفهم وجهة نظر رُوحية، أو ما يؤدي إلى نفس الشيء، وجهة نظر دينية، لا يكفي أن نعمد، ونحن في أفضل أحوال حسن النية، إلى إجراء المطابقات فيما بين العناصر الدينية القابلة للمقارنة خارجيًّا، إن هذا لا يؤدي بنا إلا إلى تركيبية بالغة السطحية وقليلة الجدوى، بالرغم مما لهذه المقارنات من مشروعية، لكن شريطة ألا نجعلها نقطة انطلاقنا. قلنا لا يكفي أن نعمد إلى إجراء المطابقات، بل لا بد لنا، قبل كل شيء، من تدبر البنية الداخلية للأديان. لكي نفهم وجهة نظر دينية علينا أن نستشف الوحدة التي تتناسق بواسطتها اضطرارًا جميع عناصرها المكونة لها، هذه الوحدة هي وجهة النظر الرُّوحية نفسها، وهي الوحي. وغنيٌّ عن البيان أن السبب الأول للوحي لا يقبل أبدًا أن تتمثله وجهة نظر، مثلما لا علاقة للنور بموقع العين من الفراغ. إن ما يكوِّن الوحي هو تلاقي نور وحيد مع صعيدٍ محدود وحادث يمثل محل انكسار رُوحي، خارجه يتعذر أن يكون ثمة وحي.

قبل أن نتناول بالدرس مختلف العلاقات بين المسيحية والإسلام، نجد من المناسب أن نبين بأن الرُّوح الغربي، بكل ما فيه من إيجابية، يكاد أن يكون كله ذا جوهر مسيحي. ليس في مقدور البشر أن يبطلوا مفعول وراثة في مثل هذا العمق بوسائلهم الخاصة، أي بواسطة حيل أيديولوجية؛ لأن عقولهم لا تعمل إلا وفق عادات دنيوية، حتى ولو كانت اختراعاتها عبارة عن أخطاء، لا يسعنا أن نغض النظر عن هذا التشكل العقلي والنفسي، مهما أردنا أن نقلل من شأنه. وإذا كان الأمر كذلك، وكان ثمة شيء من مثل وجهة نظر تقليدية قائمًا في الخافية (= اللاشعور) حتى عند من يظنون أنهم تحرروا من كل صلةٍ به، أو عند من يحلو لهم أن يضعوا أنفسهم خارج وجهة النظر المسيحية لمجرد حرصهم على الحياد، فكيف نتوقع منهم أن يفسروا عناصر ديانة أخرى على معناها الحقيقي؟ أليس من الأمور الصارخة أن الآراء المتداولة حول الإسلام، مثلًا، تكاد أن تكون واحدة عند أكثر الغربيين، سواء أكانوا من الذين يقولون عن أنفسهم إنهم مسيحيون، أم كانوا من الذين يتباهون بأنهم لم يعودوا كذلك؟ الأخطاء الفلسفية نفسها يتعذر علينا فهمها إن لم تكن تمثل نفيًا لحقائق معينة، وإن لم يكن هذا النفي رجعًا (= رد فعل) مباشرًا أو مداورًا على تحديداتٍ شكلية معينة من الدين، بذلك نرى أنه ما من خطأ، مهما كانت طبيعته، يمكنه الادعاء بأنه مستقلٌّ تمامًا عن المفهوم التقليدي الذي يرفضه أو يشوهه.

الدين جهازٌ أشبه ما يكون بجهازٍ عضوي حي يتطور وفق قوانين ضرورية ومحددة، ويمكننا — تبعًا لذلك — أن نسميه جهازًا رُوحيًّا، أو اجتماعيًّا بما له من مظهرٍ خارجي، لكنه يظل دائمًا جهازًا وليس بناء مؤلفًا من مواضعاتٍ اعتباطية؛ ولذلك لا يمكننا أن ندرس العناصر المكونة لديانةٍ ما بمعزلٍ عن وحدتها الداخلية وتكون دراستنا مع ذلك مشروعة في نفس الوقت، كما لو كان الأمر يتعلق بدراسة وقائع من أي نوعٍ كان.

ذلكم هو الخطأ الذي يقع فيه دائمًا حتى الذين يفصلون في الموضوع بدون تحيز، عندما يسعون إلى إجراء المطابقات من الخارج، من غير أن يأخذوا بالاعتبار أن العنصر التقليدي إنما تعينه نقطة الانطلاق الخاصة بالديانة المتكاملة البنيان، ومن غير أن يأخذوا بالاعتبار أيضًا أن نفس العنصر أو الشخص أو الكتاب مثلًا قد يكون له معنى يختلف قليلًا أو كثيرًا بين دينٍ وآخر.

سوف نجلِّي هذه الملاحظات في تناولنا لبعض العناصر الأساسية من التقليدين المسيحي والإسلامي، لقد اعتاد الممثلون العاديون لهاتين الديانتين نوعًا من قلة فهم متبادلة تظهر حتى في التفصيلات التي تكاد أن تبلغ حد التفاهة، من ذلك مثلًا اصطلاح «المحمدي» نفسه الذي يُطلَق على المسلمين ما هو إلا توضيع لكلمة «المسيحي» التي تناسب تمامًا المؤمنين بالديانة التي تعتمد على المسيح وتؤيده بواسطة سر الأفخارستيا و«الجسد السري»، وهو ما لا ينطبق مباشرة على «النبي»، بل على القرآن «بما هو الشهادة للوحدة الإلهية»، ولا يقوم على تأبيد محمد، بل على موافقةٍ شعائرية ورُوحية من جانب الفرد، كما من جانب الجماعة، على شريعة القرآن، وبالتالي على «الوحدة». من جهةٍ ثانية، إن اصطلاح «المشركين» العربي، الذي يُرمى به المسيحيون، لا يأخذ بعين الاعتبار أن المسيحية لا تقوم مباشرة على فكرة الوحدة، وليس ينبغي لها أن تشدد عليها ما دام أساسها الذي تنهض عليه هو «سر المسيح»، ومع ذلك إن اصطلاح «المشركين»، من حيث هو اصطلاح مقدس، في معناه القرآني، من الواضح أنه يشكل سندًا لحقيقةٍ تتخطى الواقعة التاريخية للديانة المسيحية. زد على ذلك أن الوقائع تأخذ في الإسلام دورًا أقل أهمية مما تأخذه في المسيحية التي نهض أساسها جوهريًّا على «واقعة» لا على «فكرة»، كما هو عليه الحال في الإسلام. هنا يظهر التباين الأساسي في مجمله بين الصيغتين التقليديتين اللتين نتعرض لهما: عند المسيحي، كل شيء هو في «التجسيد» و«الفداء»؛ المسيح يمتص كل شيء، حتى فكرة «المبدأ الإلهي» الذي يتخذ مظهر التثليث، مثلما يمتص البشرية كلها التي تصبح «جسده السري»، أو الكنيسة المناضلة والمتألمة والظافرة. عند المسلم، كل شيء هو في الله، المبدأ الإلهي، منظورًا إليه تحت مظهر الوحدة،١ ومفارقته (للخلق) وموافقة (الخلق) له وإسلامهم إليه. في مركز العقيدة المسيحية يقوم «الإنسان-الإله»: الإنسان الشمولي، أو في شموليته، هو الابن، الأقنوم الثاني من التثليث، والإنسان المفرد، أو مفرد هو يسوع المسيح. أما الإسلام فلا يقبل بإيلاء الوسيط مثل هذا الرجحان، إذ ليس هو الذي يمتص كل شيء، إنما مفهوم «الإله الواحد» هو الذي يحتل المركز في العقيدة الإسلامية ويحكمها كلها.

من وجهة نظر مسيحية، قد يبدو ما أولاه الإسلام من أهميةٍ لفكرة التوحيد أمرًا زائدًا وعقيمًا، أو ضربًا من الحشو بالقياس إلى التقليد اليهودي-المسيحي، إلا أننا ننسى بهذا أن ما يتمتع به الإسلام من عفويةٍ وحيوية لا يمكن أن يرتد إلى استعارةٍ خارجية، وإن ما يتصف به المسلمون من أصالةٍ عقلية لا يمكن أن ترتد إلى غير الوحي. ولئن كانت فكرة التوحيد في الإسلام أساسًا لكل الحياة الرُّوحية ولكل تطبيقٍ اجتماعي، في نطاقٍ معين، فهي ليست كذلك في المسيحية. كما سبق لنا وقلنا، النقطة المركزية في المسيحية إنما هي عقيدة التجسيد والفداء، مفهومة شموليًّا في التثليث، وليس لها تطبيق بشري آخر إلا في الأسرار والاشتراك في جسد المسيح السري. بمقدار ما تسمح لنا المعطيات التاريخية بالحكم، لم يكن للمسيحية تطبيق اجتماعي بتمام معنى الكلمة، المسيحية لم تتكامل كليةً في الجماعة الإنسانية، بل أقامت نفسها، في صورة الكنيسة، في موقع البشر، بدون أن ترتبط بهم عن طريق تعيين وظائف لهم، وهي لو فعلت لربما أتاحت لهم المساهمة في حياتها الداخلية مساهمة أكثر مباشرة؛ لم تُولِ الوقائع البشرية عناية كافية، بل تركت جميع الشئون غير الدينية خارجة عنها، لم تدخر لهم غير مساهمة في التقليد على هذه الدرجة أو تلك. بهذا الشكل يتبدى تنظيم العالم المسيحي من منظورٍ إسلامي.

في الإسلام، كل إنسانٍ هو كاهن نفسه، بمجرد أن يكون مسلمًا، هو الإمام أو الخليفة في عائلته، وهذه انعكاس للجماعة الإسلامية كلها. الإنسان وحدة بحد ذاته، صورة الخالق وخليفته على الأرض، وتبعًا لذلك يتعذر عليه أن يكون علمانيًّا. والعائلة هي وحدة أيضًا، جماعة في قلب الجماعة، كتلة صماء لا يخترقها شيء،٢ تمامًا كما هو الإنسان مسئول أمام الله ومنقاد أو مسلم له، وكما هو العالم الإسلامي متجانس ومستقر لا يكاد يتطرق إليه فساد. الإنسان والعائلة والجماعة، كل أولئك تصهرهم فكرة التوحيد وتكيف منهم الحياة، إنهم «وحدات» كالله وكلامه، القرآن.

لا يستطيع المسيحيون أن يدَّعوا لأنفسهم فكرة التوحيد على نفس المستوى الإسلامي بأن فكرة الفداء غير مرتبطة اضطرارًا بفكرة التوحيد الإلهي؛ فهذه الفكرة يمكن أن تشتمل عليها عقيدة تقوم على تعدد الآلهة، أما التوحيد الإلهي الذي تسلم به المسيحية تسليمًا نظريًّا فلا يظهر فيها عنصرًا «ديناميكيًّا»، فالقداسة المسيحية، والمساهمة التامة في جسد المسيح السري، لا تصدران عن فكرة التوحيد إلا بطريقةٍ غير مباشرة. العقيدة المسيحية، كالعقيدة الإسلامية، تنطلق من فكرةٍ إلهية، إلا أنها تصر صراحةً «على المظهر الثلاثي للألوهة، الله تجسد وافتدى العالم، «المبدأ» ينزل في التجلِّي لكي يعيد إليه توازنًا مفقودًا.» في العقيدة الإسلامية، الله يشهد لنفسه بالوحدانية، لا يتجسد بناء على تمايزٍ داخلي، ولا يفتدي العالم، بل يمتصه بإسلامه له. لا ينزل في التجلِّي، بل يعكس نفسه فيه، كما تعكس الشمس نفسها بأشعتها، وليس كهذا الانعكاس، ما يتيح للبشرية أن تأخذ نصيبها منه تعالى.

يحدث أن نجد من المسلمين، الذين ينزل القرآن منهم بمنزلة المسيح من النصارى، من يأخذون على هؤلاء افتقارهم إلى كتابٍ كالقرآن، أي كتاب واحد، هو في نفس الوقت كتاب عقيدة وشريعة، مكتوبٌ بنفس لغة الوحي التي نزل بها. ويرون في أسفار «العهد الجديد» علامة انقسام يزيد في خطورته أن هذه الأسفار غير محفوظة باللغة التي نطق بها يسوع، بل بلغةٍ غير ساميَّة، أو حتى مترجمة عن لغة الأصل إلى لغةٍ أخرى غريبة عن الأقوام المنحدرة من نسل إبراهيم، وأن هذه الأسفار قابلة للترجمة إلى أي لغةٍ أجنبية أخرى. يشبه هذا الخلطُ تمامَ الشبه الخلطَ الذي يأخذ على «النبي» أنه مجرد إنسانٍ فانٍ. والحق أنه في الوقت الذي يكون فيه القرآن هو «الكلام الإلهي»، يكون المسيح الحي في طقس الأفخارستيا هو «الكلمة الإلهية»، لا «العهد الجديد». إن هذا ليس له غير دور المؤيد أو السند، بنفس المقدار الذي لا يلعب فيه «النبي» غير دور المؤيد أو السند للرسالة الإلهية، دون أن يكون هو نفسه الرسالة نفسها. فذكر النبي والاقتداء به وشفاعته؛ كل ذلك تابع للكلام الموحى.

«الإسلام» كتلةٌ رُوحية دينية اجتماعية،٣ أما الكنيسة فمركز، ما هي بكتلة. المسيحي العلماني كائنٌ محيطي، تعريفًا، أما المسلم، بحكم صفته الكهنوتية، فهو كائنٌ مركزي في تقليده حيثما كان، ولا يهمه إلا قليلًا انفصاله خارجيًّا عن جماعته المسلمة؛ يبقى دائمًا كاهن نفسه ووحدة مستقلة، على الأقل في علاقته الدينية الصرفة، ومن هنا يستمد المسلم إيمانه الراسخ. أما إيمان المسيحي فمن طبيعةٍ أخرى؛ «يجتذب» و«يمتص» النفس بأكثر مما «يحيط» بها أو «ينفذ» فيها. المسيحي، منظورًا إليه من وجهة نظر المسلم التي تهمنا هنا، لا يرتبط بتقليده إلا بالأسرار، دائمًا في موقع انعزالٍ نسبي، ودائمًا يحتفظ بموقف التلقي أو الاستقبال. في أعلى رمز له، الصليب، تتباعد الشُّعب عن المركز إلى ما لا نهاية له، فيما تظل مرتبطة به. الكعبة، من جهتها، تعكس نفسها في انكسارها الأصغر الذي يبقى، بحكم قوامه وتماسكه الداخلي، متواحدًا مع الانكسارات الأخرى ومع الكعبة نفسها.

إن عقد المقارنات فيما بين العناصر التقليدية التي أشرنا إليها آنفًا لا يستبعد عقد مقارنات أخرى منظورًا إليها من وجهة نظر مختلفة، وبذلك يظل التشابه بين «العهد الجديد» والقرآن أمرًا واقعيًّا على صعيده، وبين المسيح والنبي اللذين يتشابهان اضطرارًا من وجهة نظر معينة. وما إنكار هذا النوع من المقارنات إلا زعم بوجود مشابهات بدون سببٍ كاف، وبالتالي مجردة من المعنى. لكن الطريقة الخارجية الصرفة، أو حتى التوفيقية، التي كثيرًا ما تنعقد بها هذه المقارنات، والتي يكاد أن يكون فيها دائمًا واحد من العنصرين موضوع البحث على حساب الآخر، إنما تنتزع كل قيمة حقيقية من نتائج هذه المقارنات. والحق أنه يوجد نوعان من المقارنات التقليدية، فهناك المقارنات المبنية على ظاهرة العناصر التقليدية، إن صح التعبير، من جهة، وهناك المقارنات التي تكشف عن البنية الداخلية في كل دين، من جهةٍ ثانية.

في الحالة الأولى، ننظر في عنصر التقليد باعتباره شخصًا أو كتابًا أو طقسًا أو مؤسسة، وفي الحالة الثانية، ننظر فيه باعتباره يتضمن هذا المعنى العضوي أو ذاك من التقليد. هنا نعقد المقارنة بين وجهة النظر الرُّوحية ووجهة النظر الفيزيائية: بالنسبة إلى هذه الأخيرة، كائنة ما كانت، يظل الموضوع دائمًا هو نفس الموضوع، لكنه قد يغير مظهره وأهميته بالنسبة إلى المنظورات المختلفة، وإن هذا القانون لينتقل في يسرٍ إلى الصعيد الرُّوحي.

يهمنا أن نبين أن الأمر في جميع هذه الاعتبارات لا يتعلق إلا بالأديان بما هي كذلك، أي بما هي مؤسسات، لا بما هي إمكانيات رُوحية صرفة، وهي إمكانيات واحدة مبدئيًّا، وواضحٌ أننا لا نستطيع من هذه الوجهة أن ندخل في مسألة المفاضلة؛ إذا كان الإسلام، بما هو مؤسسة تقليدية يتمتع بانسجامٍ وتماسك في بنيته الداخلية أكثر مما تتمتع بهما المسيحية، فإن اتصافه بذلك يظل أمرًا ممكنًا. ومن ناحيةٍ أخرى، إن الصفة المركزية التي تمنحها المسيحية للمسيح لا تمنحها تفوقًا على الإسلام، ولسوف نعمد إلى إيضاح أسباب ذلك فيما بعد، أما هنا فنقتصر على التذكير بأن كل صيغةٍ تقليدية تتفوق اضطرارًا على الصيغ الأخرى التي تقف معها على نفس الصعيد، وهو تفوق لا ينهض إلا بالنسبة إلى علاقةٍ معينة وإلا مظهر هذه الصيغة أو تلك، لا بالنسبة إلى جوهرها وإمكانياتها الرُّوحية. وللذين يريدون الاعتماد على عقد مقارنات سطحية واعتباطية بالضرورة بين الصيغتين الإسلامية والمسيحية بهدف النيل من الإسلام، نقول: إن الإسلام، من حيث انطباقه على إمكانية رؤية رُوحية، هو كل ما يجب أن يكون من أجل تحقيق هذه الإمكانية. كذلك، إن «النبي»، رغم أنه لم يكن كالمسيح، كان كل ما ينبغي أن يكون عليه من أجل تحقيق الإمكانية الرُّوحية المتمثلة بالإسلام، ولئن كان النبي ليس بالمسيح، وكان يظهر بمظهرٍ بشري أكثر من المسيح، فلأن مبرر وجود الإسلام لا يقوم على الفكرة المسيحية أو الأواطارية (= التنزل الإلهي في الإنسان)، بل على فكرةٍ لم يكن أمامها بد من استبعاد هذه الفكرة. الفكرة التي تحققت بالإسلام والنبي هي فكرة «التوحيد الإلهي»، التي ينطوي جانبها المباين مباينة مطلقة — بالنسبة إلى عالم الخلق أو عالم التجلِّي — على جانبٍ يناسبه من نقص الكمال، وهذا ما قد أتاح للمسلمين منذ البداية أن يستخدموا وسائل بشرية كالحرب من أجل إقامة عالمهم التقليدي، بينما اقتضى ذلك المسيحية بضعة قرون من الزمن الرسالي لاستخدام نفس الوسيلة، وهي مع ذلك وسيلة لا بد منها لانتشار الدين. أما الحروب التي خاضها صحابة النبي أنفسهم فتمثل العذاب الإلهي الذي يرمي إلى ما يمكن تسميته بإحكام — أو بلورة — المظاهر الشكلية التي سوف يكون عليها العالم الجديد. الحقد لم يكن له دور في هذه الحروب، والصدِّيقون الذين يقتتلون على هذا النحو لا يقاتلون من أجل منافع بشرية، بل بالمعنى الذي اشتملت عليه تعاليم اﻟ «بهاكفات جيتا»؛ «كرشنا» يأمر «أرجونا» بأن يقاتل لا عن حقدٍ ولا في سبيل الغلبة، بل تنفيذًا لما قدِّر عليه باعتباره أداة في الخطة الإلهية، وبدون أن يكون له تعلق بثمار أعماله. هذا الاصطراع في وجهات النظر، عند تأسيس عالم تقليدي، إنما يعكس تزاحم إمكانيات التجلِّي فيما بينها عند «الخروج من العَماء» الذي يحدث في أصل العالم الكوني، وهو تزاحم ذو طبيعة مبدئية صرفة، بطبيعة الحال. ولقد كان من طبيعة الإسلام، أو من طبيعة رسالته، أن يقف منذ بداياته على صعيدٍ سياسي لإثبات وجوده الخارجي، وهو أمرٌ ما كان ليتناقض مع طبيعة المسيحية البدائية أو مع رسالتها وحسب، وإنما كان أمرًا متعذرًا تحقيقه في محيطٍ متماسك ومستقر كمحيط الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك لم تكد تصبح المسيحية دينًا للدولة حتى وقفت على صعيدٍ سياسي تمامًا كما فعل الإسلام. والتغييرات التي طرأت على الإسلام من الخارج منذ وفاة النبي لا يمكنها أبدًا أن ترتد إلى نقصٍ رُوحي، وإنما هي من العيوب الملازمة للصعيد السياسي بما هو كذلك. أن يكون الإسلام قد أقام نفسه خارجيًّا بالاعتماد على وسائل بشرية؛ فلأن له أساسًا فريدًا في المشيئة الإلهية التي تستبعد، على وجه التحديد، كل تدخلٍ باطني في البنية الأرضية للصيغة التقليدية الجديدة. من جهةٍ أخرى، فيما يتعلق بالفرق بين «المسيح» و«النبي»، نضيف أن كبار الرُّوحيين، كائنةً ما كانت درجة كل منهم، إما أن يُظهِروا ترفعًا عن العالم أو توجهًا إليه؛ الحالة الأولى هي حالة بوذا والمسيح مثلما هي حالة جميع القديسين من الرهبان أو النسَّاك، والثانية هي حالة إبراهيم وموسى ومحمد مثلما هي حالة جميع القديسين الذين يعيشون في هذا العالم، ومنهم القديسون من الملوك والمحاربين. موقف الأولين ينطبق عليه قول المسيح: «مملكتي ليست من هذا العالم»، وموقف الآخِرين ينطبق عليه قوله: «ليأت ملكوتك.»

الذين يحسبون أن عليهم أن ينكروا على نبي الإسلام كل مشروعيةٍ متذرعين بحججٍ تتعلق بالمناقب ينسَون أن المسألة الوحيدة التي ينبغي طرحها هنا هي معرفة ما إن كان محمد موحًى له من الله أم لا، لا مسألة ما إن كان يمكن مقارنته بيسوع، أو ما إن كان متوافقًا مع أخلاقياتٍ معينة. عندما نعلم أن الله قد أباح للعبريين تعدد الزوجات، وأمر موسى أن يُعمل السيف في رقاب الكنعانيين، تكون المسألة الأخلاقية المتعلقة بهذا النوع من الفعل غير مطروحة على أي حال. فالذي يهمنا، دومًا وحصرًا، هو أن نعلم أن الإرادة الإلهية لا تغير من هدفها، وأن الذي يتغير هو وسائلها وأساليبها بسببٍ من «لا نهائية إمكانياتها» أولًا، وبسببٍ من تنوع الممكنات تنوعًا غير محدود ثانيًا. من الجانب المسيحي، يؤخذ على النبي قضاؤه على يهود بني قريظة، لكننا ننسى أن ما من نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل إلا وكان يفعل نفس الشيء بل وأشد منه وأقسى، ولعله يحسن بنا أن نتذكر ما فعله صموئيل بالعمالقة ومليكهم بأمرٍ من الله. إن قضية بني قريظة تقدم لنا مثالًا على «تمييز النفوس» الذي يحدث بنوعٍ من التلقائية لدى احتكاكه بأحد تجلِّيات «النور»، وهو نورٌ حيادي من بعض الأوجه، ومن شأنه إظهار إنسان طالما أقام في وسطٍ عَمائي أو غير متمايز — وهذه الصورة تتفق مع صور جميع الأوساط التي يجب أن يحدث فيها إعادة تكييف للدين — لكن على شيءٍ من الوهن، أو لِنَقُل على شيءٍ من الرجوع إلى حالةٍ كامنة يمكنها أن تُظهر الميل الأساسي عند إنسانٍ مقيم في وسطٍ من عدم التمايز الرُّوحي، ومن شأن هذا الميل أن ينشط بصورةٍ عفوية أمام الخيار الذي يطرح نفسه عند احتكاكه ﺑ «النور»، وهذا ما يفسر لنا لماذا تنفتح أبواب السماء كما تنفتح أبواب الجحيم، عند انبثاق الوحي، تمامًا كما ينشر النور ظلًّا في العالم المحسوس.

إن كان محمد نبيًّا كاذبًا، فإننا لا نرى سببًا لماذا لم يتكلم عنه المسيح كما تكلم عن «ضد المسيح» (الدجال). أما إذا كان نبيًّا صادقًا، فينبغي أن يكون هو المقصود في المقاطع الإنجيلية المتعلقة ﺑ «الفارقليط»،٤ لا على سبيل الحصر بل إلى أبعد حد، ذلك أنه كان يستحيل على المسيح، وهو يتكلم عن المستقبل، أن يلوذ بالصمت عن ظهور مثل هذا البعد (المحمدي)، وليس كهذا البعد ما يستبعد بَدئيًّا a priori أن يكون المسيح قد عد محمدًا في جملة «الأنبياء الكذبة»؛ ذلك لأن محمدًا في تاريخ حقبتنا ليس أبدًا مثلًا في جملة أمثلة أخرى من نفس النوع، بل هو ظاهرة فذة لا تقارَن بها ظاهرة أخرى.٥ لو كان محمد من الأنبياء الكذبة الذين حذر منهم المسيح لكان أعقبه كثيرون مثله، وربما وجدنا في أيامنا عددًا كبيرًا من الأديان الزائفة ظهرت بعد المسيح يمكن مقارنتها، من حيث أهميتها وانتشارها، بالإسلام. لكن الحياة الرُّوحية في الوسط الإسلامي، منذ بدايته حتى أيامنا هذه، حقيقة يتعذر أن ينكرها أحد، «من ثمارهم تعرفونهم». ثم، لعلنا نذكر أن النبي قد شهد، في تعاليمه نفسها، للمجيء الثاني للمسيح، ولم ينسب لنفسه مجدًا من أي نوع، اللهم إلا أنه خاتم الأنبياء في هذه الدورة، وهذا هو التاريخ شاهدًا على صحة قوله، لم يظهر بعده أحدٌ يمكن أن يقارن به.
أخيرًا، لا بد لنا من قول بضع كلماتٍ عن الطريقة التي ينظر بها الإسلام إلى الجنس: إذا كانت الأخلاقيات الإسلامية تختلف عن الأخلاقيات المسيحية — وهذا الاختلاف ليس أبدًا حول الحرب المقدسة (الجهاد) ولا حول الرق، بل حول تعدد الزوجات والطلاق٦ — فلأنها تكشف عن جانبٍ آخر من «الحقيقة الكلية»؛ المسيحية لا ترى في الجنس، وشأنها في هذا كشأن البوذية، غير جانبه الجسدي، وبالتالي جانبه المادي أو الكمي، على حين أن الإسلام، وشأنه في هذا كشأن اليهودية والتقاليد الهندوكية والصينية — نحن لا نتكلم هنا عن طرائق رُوحية معينة تنبذ الجنس لأسبابٍ تتعلق بالمنهج — يرى في الجنس جانبه الجوهري أو النوعي، ويمكننا القول جانبه الكوني. وفي الحقيقة، إن تقديس الجنس يضفي عليه صفة تتجاوز صفته الجسدية وتحيِّده أو حتى تبطله في حالاتٍ معينة، مثلما هو الحال عند «كساندر» أو «سيبيل» في الأزمنة القديمة، أو مثلما هو الحال عند «شري شكرا» في الطنطرية، أو عند كبار الرُّوحيين الذين نرى من المناسب أن نضرب عليهم مثالَي سليمان ومحمد. بعبارةٍ أخرى، الجنس قد يكون له مظهر نبالة مثلما قد يكون له مظهر رذالة. نحن هنا بإزاء اتجاهٍ عمودي مثلما نحن بإزاء اتجاهٍ أفقي، إن كان لنا أن نتكلم بالاصطلاح الهندسي.

الجسد دنس بحد ذاته، بالجنس أو بدونه، والجنس نبيل بحد ذاته، داخل الجسد أو خارجه. ونبالة الجسد مستمدة من نموذجه السماوي؛ لأن «الله محبة». بالتعبير الإسلامي نقول إن «الله واحد»، والمحبة بما هي شكل من التوحيد، إنما تتفق في هذا مع «الطبيعة الإلهية». المحبة قد تطهر الجسد، كما أن الجسد قد يحط من المحبة. الإسلام يولي الأهمية لأولى هاتين الحقيقتين، على حين تولي المسيحية الأفضلية للثانية، اللهم إلا في سر الزواج حيث تنضم راغمة، وبنوعٍ ما عرضًا، إلى النظرة اليهودية والإسلامية.

نأتي الآن إلى بيان العناصر التي تشكل في الحقيقة الفرق بين المظاهر المسيحية والمظاهر المحمدية. يهمنا أن نذكر بجلاءٍ أن هذا الفرق يتعلق حصرًا بمظهر الإنسان-الإله، لا بحقيقته الداخلية والإلهية التي هي شيء واحد، وهي الحقيقة التي أعلن عنها المعلم إكهارت: «كل ما يقوله الكتاب المقدس عن المسيح يصدق كليًّا على كل إنسانٍ صالح وإلهي أيضًا»؛ أي على كل إنسانٍ يتوفر لديه امتلاء التحقق الرُّوحي، على حسب «السعة» و«الارتقاء»، يقول شري راما كرشنا: «في المطلق لا أكون ولا تكون ولا يكون الله؛ لأنه وراء الكلام والفكر. لكن، بما أنه موجودٌ خارج أنيَّتي، يجب عليَّ أن أجد براهما، في حدود العقلي، بما هو شيء موجود خارج نفسي.» يفسر لنا هذا التعليم كيف تسنى للمسيح أن يصلي في الوقت الذي فيه هو نفسه كائنٌ إلهي من جهة، ويفسر لنا كيف أمكن النبي أن يكون إلهيًّا في حقيقته الداخلية من جهةٍ ثانية، فيما يظهر إنسانًا صريحًا بسبب الطريقة الخاصة من تجلِّيه. على هذا الصعيد من الأفكار، يقتضي أيضًا أن نوضح ما يلي: يقوم المنظور الدُّغماطيقي أساسًا على «واقعة» تُنسب إليها صفة مطلقة، فمثلًا، يقوم المنظور المسيحي على الحالة الرُّوحية العليا المتحققة بالمسيح، ولا تقع في متناول الخبرة الصوفية الفردية، بل تنسبها إلى المسيح وحده، ومن هنا نفي الاتحاد الميتافيزيقي، في اللاهوت العادي على الأقل، أو نفي الرؤية السعيدة في هذه الحياة. ونضيف أن الباطنية، على لسان المعلم إكهارت، تُرجع سر التجسد إلى صعيد القوانين الرُّوحية، إذ تنسب صفات المسيح إلى الإنسان الذي وصل إلى مرتبة القداسة العليا، باستثناء المهمة النبوية، أو الافتدائية بالأحرى. وشبيه بهذا ما ينسبه بعض الصوفية إلى بعض كتاباتهم من وحيٍ يساوي وحي القرآن الكريم، بينما لا تُنسب هذه الدرجة من الوحي في الإسلام الظاهري إلا للنبي وحده، طبقًا للمنظور الدغماطيقي الذي يقوم دائمًا على «واقعة مفارقة» تدعي حصرًا هذا المظهر أو ذاك من الكلمة.

قلنا فيما تقدم إن القرآن هو ما يتطابق تمامًا مع المسيح في سر الأفخارستيا، وإنه يشكل التجلِّي الفارقليطي الكبير، أي «التنزيل» الذي نزل به «الرُّوح القدس» (الرُّوح الذي يتعين باسم جبريل في أثناء وظيفة الوحي)، وبالتالي فإن دور النبي مماثلٌ لدور «القديسة العذراء»، بل متحدٌ به رمزيًّا في العلاقة التي نحن بصددها، من حيث إن العذراء كانت أيضًا محلًّا لاستقبال الكلمة. وكما كانت القديسة العذراء، التي أخصبها الرُّوح القدس، ذات دور في الفداء، و«ملكة السماء»، ومخلوقة قبل سائر الخلق، كذلك كان النبي، الذي أوحى إليه نفس الرُّوح الفارقليطي، «رسول الرحمة» و«سيد الكونين» (الدنيا والآخرة)، ومخلوقًا أيضًا قبل سائر الخلق، هذا «الخلق السابق» يعني أن العذراء والنبي يجسدان حقيقة مبدئية أو ما بعد كونية،٧ أي أنهما يتواحدان — في دورهما الاستقبالي لا في معرفتهما الإلهية، ولا فيما يتعلق بمحمد في وظيفته النبوية — في الجانب القابل أو السلبي من الوجود الشمولي «براكريتي» (اللوح المحفوظ، بالعربية)، ولذلك كانت العذراء «بلا دنس»، وكانت عذراء من وجهة نظر فيزيائية محضة، وكان النبي «أُميًّا» مثلما كان كذلك الرسل؛ أي نقيًّا من «دنس» المعرفة البشرية، أو من المعرفة التي اكتسبها البشر. هذا النقاء هو الشرط الأول لاستقبال «الهبة الفارقليطية»، وكذلك الزهد والفقر والتواضع وما سوى ذلك من أشكال البساطة أو الوحدة، وهي أمور لا غنى عنها، على الصعيد الرُّوحي، لاستقبال النور الإلهي. ولكي نوضح وجه الشبه تمامًا بين العذراء والنبي، نضيف أن هذا الأخير، في الحالة الخاصة التي كان يستغرق فيها عند نزول الوحي عليه، كان يشبه العذراء التي تَحبَل بالطفل يسوع أو تلده، تمامًا. لكن محمدًا كان يحقق، بسبب وظيفته النبوية، بعدًا جديدًا وفاعلًا، سواء عندما كان ينطق بسور القرآن، أو بعامةٍ عندما كانت «الأنيَّة الإلهية» تتكلم من فمه. بواسطة هذا البعد كان يتواحد بالمسيح مباشرة الذي هو نفسه بمنزلة الوحي من النبي، الوحي الذي كل كلمةٍ منه هي من كلام الله. وفيما عدا القرآن، لا تظهر هذه الصفة الإلهية عند النبي إلا في «الأحاديث القدسية»، أما كلامه الآخر فيكشف عن درجةٍ ثانوية من الإلهام أو الوحي (نفث الرُّوح، ويقابله «سمريتي» في الهندوكية)، وهي أيضًا درجة فصول معينة من «العهد الجديد»، ولا سيما «الرسائل». لكننا لو عدنا إلى «نقاء» النبي، لوجدنا عنده المعادل التام ﻟ «الحبَل بلا دنس». فبناء على الرواية التقليدية: ملكان يشقان صدر محمد الطفل ويغسلان «الخطيئة الأصلية» بالثلج، وقد ظهرت على شكل لوثة سوداء في القلب. إن محمدًا إذن، وشأنه في هذا كشأن مريم أو الطبيعة البشرية من يسوع، لم يكن إنسانًا عاديًّا، ومن أجل ذلك كان القول: «محمد بشر وليس كالبشر، بل هو ياقوتة والناس كالحجر»، وهذا يذكرنا بمخاطبة الملَك للعذراء: «أنت المباركة بين النساء»، وهي، بحد ذاتها وبمعزلٍ عن وصفها وعاء للرُّوح القدس، «ياقوتة» بالنسبة إلى المخلوقات الأخرى، ونوع من النموذج الأعلى بالتالي.
في علاقةٍ معينة، العذراء والنبي يجسدان الجانب المؤنث، أو القطب السلبي، من الوجود الشامل (براكريتي)، وهما يجسدان، لهذا السبب بالذات ومن باب أولى، الجانب المحسن أو الرحيم من اﻟ «براكريتي»،٨ وهو ما يفسر لنا وظيفتهما الأساسية في «الشفاعة»، وفي أسماءٍ من مثل «أم الرحمة» أو «سيدة المعونة الدائمة»، وفيما يتعلق بالنبي، في أسماءٍ من مثل «مفتاح رحمة الله»، و«الرحيم»، و«الشافي»، و«كاشف الكرب» (الذي يمحو الخطايا)، و«العفو»، و«أجمل خلق الله»،٩ لكن ما علاقة هذه الرحمة أو هذا السماح أو هذا الإحسان بالوجود الشامل؟ على هذا نجيب بأن الوجود، من حيث هو وجود غير متمايز، بِكرٌ أو نقي بالنسبة إلى ما يُنتج من كائنات، بإمكانه أن يبتلع في عدم تمايزه الصفات المتمايزة للأشياء. بعبارةٍ أخرى، إن اختلال التوازن في التجلِّي يمكنه دائمًا أن ينضم إلى توازن المبدأ، وكل «شر» إنما يأتي من صفةٍ كونية، وبالتالي من اختلالٍ في التوازن. وبما أن الوجود ينطوي على جميع الصفات في حالةٍ من التوازن غير المتمايز، بإمكانه أن يحل في لا نهائيته جميع التقلبات التي تطرأ على العالم. الوجود، في حقيقته، «بِكر» و«أم»، بمعنى أنه لم يعيِّنه شيء خارج عن الله من جهة، وأنه (الوجود) يلد عالم التجلِّي من جهةٍ أخرى. إن مريم هي «الأم العذراء» بسبب سر التجسد، ومحمد هو «بكر»، أو «أمي»، من حيث إنه لم يتلق الإلهام إلا من الله وحده، ولم يتلق شيئًا من البشر، وهو «أم» بسبب دالَّة الشفاعة التي له عند الله. فالبراكريتي الإلهية تؤلف جوهريًّا جوانب النقاء والمحبة في تشخيصاتها البشرية والملائكية. ثم إن جانب النعمة أو الرحمة من الألوهية العذراء أو الأمومية يفسر لنا لماذا تتجلى الألوهة على نحوٍ محسوس وتتخذ لها شكلًا من الظهور البشري الذي يقع في متناول إدراك بني البشر. إن ظهورات العذراء أمور معروفة في جميع أنحاء العالم الغربي، وكذلك ظهورات محمد فهي كثيرة وشبه منتظمة لدى أولياء المسلمين، حتى أنه لتوجد مناهج للحصول على هذه البركة التي تساوي في مجملها الرؤيا السعيدة.١٠

رغم أن النبي لا يحتل في الإسلام نفس المكانة التي يحتلها المسيح في المسيحية، إلا أن مكانته في المنظور الإسلامي لا تقل مركزية عنه، اضطرارًا. يبقى علينا أن نوضح الأساس الذي يمكن أو يجب أن تنهض عليه هذه المكانة من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية أن نعلم كيف يُدخل الإسلام المسيح في منظوره، في الوقت الذي يعترف له فيه بنوعٍ من الصفة المركزية من خلال ولادته العذرية. «الكلمة»، في المنظور الإسلامي، لا تتجلى أبدًا في مثل هذا الإنسان المفرد، بل في الوظيفة النبوية، بأعلى ما في الكلمة من معنًى، وقبل كل شيء، بالكلمة الموحاة. وبما أن وظيفة النبوة حقيقة عند محمد، والقرآن وحيٌ صحيح، والمسلمون لا يسلِّمون بغير هذين المعيارين؛ لذلك نجدهم لا يرون سببًا يفضلون به يسوع على محمد، بل لا بد لهم من أن يمنحوا هذا الأخير تفوقًا على الأول، لا لشيءٍ إلا لأنه الممثل الأخير للوظيفة النبوية، يدمج ويركِّب جميع أنماط هذه الوظيفة، ويَقفِل دورة تجلِّي «الكلمة»؛ ومن هنا اسم «خاتم الأنبياء». إن هذا الوضع الفريد هو الذي يمنح محمدًا تلك المكانة المركزية التي يعترف له الإسلام بها، ويسمح بتسميته ﺑ «الكلمة» نفسها وﺑ «النور المحمدي».

يفسر لنا المنظور الإسلامي، وهو لا يرى الوحي إلا على هذا النحو مستبعدًا أوجهه المحتملة الأخرى، لماذا لا يولي معجزات المسيح تلك الأهمية التي توليها المسيحية. جميع المرسلين، بما فيهم محمد، قد صنعوا المعجزات،١١ لكن الفرق في هذا الموضوع بين المسيح وغيره هو أن للمعجزة أهمية مركزية لدى المسيح، وأن الله يتولى إجراءها «في» المحل البشري، لا «بواسطة» هذا المحل. إن دور المعجزة لدى المسيح وفي المسيحية إنما تفسره خصوصية هذا الشكل من الوحي التي هي سبب وجوده، وهو ما سوف نتولى تفسيره في الفصل التالي. أما وجهة النظر الإسلامية، فلا تحتل فيها المعجزات تلك الأهمية التي تحتلها في المسيحية، بل الأهمية الأولى في الإسلام إنما هي الصفة الإلهية لرسالة الرسول، بصرف النظر عن درجة الأهمية التي تحتلها المعجزة في هذه الرسالة. لعلنا نستطيع القول إن الخصوصية المسيحية تتكون مما يقوم على المعجزة في المحل الأول، تلك المعجزة التي تؤيد نفسها في «الأفخارستيا»، على حين يقوم الإسلام، قبل كل شيء، على «الفكرة» المؤيدة بوسائل بشرية، إنما بالعون الإلهي، التي تؤيد نفسها في الوحي القرآني الذي تعتبر تلاوته في الصلاة نوعًا من التنشيط الذي يتجدد أبدًا ولا ينقطع.
بيَّنَّا فيما تقدم أن محمدًا، في حقيقته الداخلية، متحد ﺑ «الكلمة»، وشأنه في هذا كشأن المسيح، وكشأن كل كائنٍ متحقق بالامتلاء الميتافيزيقي، خارج المنظور الدغماطيقي تخصيصًا، ومن هنا هذه الأحاديث: «من رآني فقد رأى الحق»،١٢ (من حيث كونه مظهرًا من الحقيقة المطلقة)، و«كنت نبيًّا (كلمة) وآدم بين الماء والطين»، وهي أحاديث قريبة من أقوال المسيح: «أنا والآب واحد»، و«الحق أنني قبل أن يكون إبراهيم كنت.»
١  جاء في «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة أن الله واحدٌ لا عن عدد، بل بمعنى نفي الشركاء عنه.
٢  الكعبة، وهي أعلى رمز في الإسلام، كتلة مربعة، وهي بذلك تعبر عن العدد «٤» وخاصيته الاستقرار. للمسلم أن يؤسس عائلته على أربع زوجات يمثلن قوام العائلة أو قوام الجماعة نفسها، ويُعزَلن عن الحياة العامة، أما الرجل فوحدة مغلقة فيها. والبيت العربي يتأثر نفس الفكرة، فهو مربع الشكل، موحده، مغلق تجاه الخارج، مزين من الداخل ومنفتح على صحن الدار.
٣  الكتلة صورة الوحدة، والوحدة بسيطة لا تقبل القسمة. وفي رأي أحد كبار الموظفين الإنكليز القدامى في مصر أن «الإسلام لا يقبل الإصلاح (بالمعنى البروتستانتي للكلمة. المترجم)؛ لأنه بذلك لا يعود إسلامًا بل شيئًا آخر.»
٤  يُرجَع إلى الطبعة العربية من إنجيل يوحنا (الفصول: ١٤، ١٥، ١٦) حيث وردت الكلمة (فارقليط) بألفاظ: المعزِّي، رُوح الحق، رُوح القدس. (المترجم)
٥  «لئن كانت ضخامة الخطة، وضآلة الوسيلة، وعظم النتائج، هي المعيارات الثلاثة لعبقرية الرجل، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن، على الصعيد البشري، عظيمًا من عظماء التاريخ المعاصر بمحمد؟ فأشهرهم لم يفعل أكثر من أنه سير جيوشًا، وقلب أنظمة، وأطاح بإمبراطوريات، وإن هو شيد شيئًا — إن كان شيد شيئًا على الإطلاق — فدولًا قِوامها المادة ما لبثَتْ أن تداعت أمام عينيه. أما محمد فقد سير جيوشًا، وقلب أنظمة، وأطاح بإمبراطوريات، وحرك أقوامًا، وأطاح بأسرٍ مالكة، وهز ملايين البشر يقطنون الآن في ثلث المعمورة. إلا أنه، وفوق هذا كله، حرك أفكارًا وعقائد ونفوسًا، لقد أسس على كتابٍ، أصبح كل حرفٍ منه قانونًا، قوميةً رُوحية ضمت إليها أقوامًا من كل الألسنة والأجناس، وغرس في نفوس أتباعه بُغض الآلهة الزائفة، وحب الله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء، مما هو الطابع المميز لهذه القومية الإسلامية.» (لامارتين، تاريخ تركيا).
«الفتح العربي، الذي انطلق نحو آسيا وأوروبا في وقتٍ واحد، حدث لا مثيل له من قبل، لا يمكن مقارنة سرعة الفوز الذي حققه بالسرعة التي نشأت بها، في عصورٍ لاحقة، إمبراطوريات المغول؛ كإمبراطورية أتيلا أو جنكيز خان أو تيمورلنك. وهذه الإمبراطوريات ما لبثت أن زالت، على حين ثبت الفتح الإسلامي. إن هذه الديانة (الإسلام) لم يزل لها أتباع يؤمنون بها إلى اليوم في كل مكانٍ من العالم تقريبًا، منذ أن فرضت نفسها في ظل الخلفاء الأولين. وإنها لمعجزةٌ حقيقية حين يقارن انتشارها الصاعق ببطء انتشار المسيحية.» (هنري بيرين، محمد وشارلمان).
«القوة لم يكن لها علاقة بانتشار القرآن؛ لأن العرب كانوا دائمًا يتركون المغلوبين أحرارًا في الاحتفاظ بأديانهم. وإذا كانت الشعوب المسيحية قد تحولت إلى دين الغالبين؛ فلأن الفاتحين الجدد كانوا أكثر إنصافًا لهم من أسيادهم القدماء؛ ولأن دين العرب كان أبسط مما كانوا تعلموه حتى يومِئذٍ. القرآن لم ينتشر بالقوة، وإنما انتشر بالاقتناع، وليس كالاقتناع ما حمل فيما بعد أقوامًا غلبت العرب على أمرهم، كالترك والمغول، على الإيمان بالإسلام. في الهند، حيث لم يكن الوجود العربي غير وجود عابر، بلغ انتشار القرآن فيها مبلغًا بات معه أتباعه يُعدُّون اليوم (١٨٨٤م) أكثر من خمسين مليونًا، وإن عددهم ليزداد يومًا بعد يوم … كذلك ما كان انتشار القرآن في الصين ليقل عنه أهمية، ورغم أن العرب لم يفتحوا حتى ولا جزءًا صغيرًا من «إمبراطورية السماء»، يشكل المسلمون فيها اليوم أكثر من عشرين مليونًا.» (غ. لوبون: حضارة العرب).
٦  كان تعدد الزوجات أمرًا ضروريًّا لشعوب الشرق الأوسط، وهي الشعوب المحاربة، لكي يتوفر لجميع النساء من يُعِيلُهن، ما دام الرجال كان يتناقص عددهم في الحروب. يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة الوَفَيات بين الأطفال، بحيث بات تعدد الزوجات أمرًا يفرض نفسه حتى ولو من أجل حفظ النوع. أما الطلاق فقد كان ضروريًّا — ولم يزل — بسبب انفصال الجنسين الذي يجعل من الزوجين لا يعرف أحدهما الآخر، أو لا يعرفان بعضهما بعضًا قبل الزواج إلا قليلًا، وهذا الانفصال بدوره مشروط بالمزاج الحسي عند العرب، وشعوب الجنوب عمومًا. وما قلناه لتونا يوضح أسباب ارتداء المسلمات للحجاب، كما يوضح أسباب ارتداء نسوة الطبقات العليا الهندوكية للبورداه Purdah، ثم إن الحجاب لم يتم ارتداؤه إلا في مرحلةٍ متأخرة من حياة التقليد الإسلامي، ومن ناحيةٍ ثانية، لم تُتخذ البورداه رداء في الهندوكية إلا في مرحلةٍ متأخرة أيضًا، وإن هذا ليوضح لنا أن كثيرًا من هذه التدابير لا نجد تفسيرها إلا في الشروط الخاصة بنهاية «العصر الحديدي»، وإنه بسببٍ من هذه الشروط كان عزل النساء عن طقوسٍ براهمانية معينة، وكانت مباحة لهن في البدء.
٧  القول بأن المسيح هو «مليكا أواطارا»، أي «التنزل الإلهي على البرابرة» أو «من أجلهم»، أي التجسد التاسع للإله «فشنو»، هذا القول يجب نبذه، أولًا، بسببٍ من طبيعةٍ تقليدية، ثم بسبب يتعلق بالمبدأ: أولًا لأن «البوذا» هو، في نظر الهندوس دائمًا، «أواطارا» لكن لما كانت الهندوكية مضطرة إلى استبعاد البوذية، كان تفسير الزندقة البوذية الظاهرة قائمًا في ضرورة إبطال الذبائح الدموية، وفي ضرورة غواية الفجار لكي تزل أقدامهم نحو حتمية الكالي-يوغاء ثانيًا. من المستحيل على كائنٍ يجد مكانه «العضوي» في النظام الهندوكي أن ينتسب إلى عالمٍ آخر بعيد عنه جدًّا كالعالم اليهودي.
٨  اﻟ «كوان-ين»، في بوذية الشرق الأقصى، مُستمدة من «بوذي ساتو آوا لوكي تشوارا»، أو «الرب ذي النظرة الرحيمة».
٩  تجدر الملاحظة هنا أن الأوصاف المنسوبة للنبي قد جاء بها المؤلف باللفظ العربي لكن بالحرف اللاتيني.
١٠  نذكر بهذا الصدد ظهورات اﻟ «شاكني» في الهندوكية، عند شري راما كرشنا وشري سارادا داوي، مثلًا، أو ظهورات «كوان ين» أو «كوانون» في تقاليد الشرق الأقصى، مثلًا، عند «شونين شنران»، وهو كبير قديسي البوذية في اليابان. وفي اليهودية كانت تظهر اﻟ «شكيناه» في هيئة امرأة جميلة خيِّرة.
١١  أكثر المستعربين، إن لم يكن كلهم، يستنتج خطأ من مختلف آيات القرآن أن النبي لم يصنع معجزات، وهذا لا يتناقض مع التفسيرات التقليدية للقرآن وحسب، وإنما مع السنَّة التي تشكل عمود الإسلام. وفيما يتعلق بالصفة «الأواطارية» عند النبي، فإننا نجد، فضلًا عن المعيارات التي لا تخطئ وهي ترتد إلى نظامٍ أبعد غورًا، علامات سبقت ورافقت مولد النبي، بحسب ما ترويه السنة، وهي مشابهة للعلامات التي ترويها التقاليد المسيحية والبوذية عن المسيح وبوذا.
١٢  أورد المؤلف هذا الحديث بلفظه العربي مرسومًا بالحرف اللاتيني، ولعل أصل هذا الحديث: «من رآني فقد رآني حقًّا لأن الشيطان لا يتشبه بي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤