الخصوصية والشمولية في التقليد المسيحي

إن ما يضطرنا إلى القول بظاهريةٍ مسيحية، اللهم إلا أن يكون ثمة اصطلاح أفضل، لا تشبه الظاهريتين اليهودية والإسلامية تمام الشبه، لا من حيث النشأة ولا من حيث البنية. ففي الوقت الذي نجد فيه الظاهريتين اليهودية والإسلامية قد تأسستا كذلك منذ بدايتهما، بمعنى أنهما تشكلان جزءًا لا يتجزأ من «الوحي»، وتتميزان فيه من العنصر الباطني تميزًا تامًّا، نجد أن ما قد أصبح «ظاهرية مسيحية» فيما بعد لم يظهر كذلك أبدًا في «الوحي المسيحي»، أو على الأقل لم يظهر فيه إلا عرضًا. صحيحٌ أن النصوص القديمة، ولا سيما رسائل القديس بولس، تجعلنا نتلمس أسلوبًا ظاهريًّا أو دغماطيقيًّا؛ من ذلك مثلًا تمثيل العلاقة المرتبية المبدئية القائمة بين الباطن والظاهر بالعلاقة التاريخية القائمة بين الميثاقين الجديد والقديم، من حيث إن الميثاق القديم قد ظل حتى ذلك الحين يمثل «الحرف الذي يقتل»، والميثاق الجديد يمثل «الرُّوح الذي يحيي»،١ إلا أن هذه الطريقة من التعبير لا تأخذ في الحسبان الحقيقة الملازمة للميثاق الجديد، وهي حقيقة تساوي الميثاق الجديد مساواة مبدئية تامة، من حيث إن هذا الميثاق ما هو غير شكل جديد منها أو تكييف جديد لها. يعلمنا هذا المثال كيف تَعمِد وجهة النظر الدغماطيقية أو اللاهوتية،٢ لأسبابٍ تتعلق بالمناسبة، إلى اختيار جانب واحد من الحقيقة وإكسابه صفة الحصر والإطلاق، بدلًا من أن تحيط بالحقيقة بكاملها. بدون هذه الصفة الدغماطيقية، وهو ما يجب ألا يغيب عن بالنا، تبقى الحقيقة الدينية غير ذات أثر في تحقيق الهدف المخصوص الذي ترمي إليه وجهة نظرها اعتمادًا على نفس أسباب المناسبة المذكورة. هناك إذن تقييد للحقيقة الصرفة له صفة مزدوجة: فهو، من جهة، يُكسب جانبًا من الحقيقة صفة الحقيقة الكلية، ومن جهةٍ أخرى، يُكسب ما هو نسبي صفة الإطلاق، زيادة على أن وجهة نظر المناسبة هذه تقودنا إلى نفي كل ما يتجاوز مبرر وجود المنظور اللاهوتي مما ينبغي له أن يظل بمنأى عنه، بما هو أمر ليس في متناول الجميع وما هو بالأمر الذي لا غنى للجميع عنه، من هنا التبسيط أو التركيب الرمزي الخاص بكل ظاهرية،٣ ثم لنذكر أيضًا — وهذا ما يشكل علامة بارزة من علامات هذه العقائد (الظاهرية) — امتصاص الحقائق المبدئية للوقائع التاريخية، وما يترتب على ذلك من التباساتٍ لا مفر منها؛ فعندما يقال مثلًا إن على جميع البشر، بدءًا من آدم حتى الذين ماتوا في عهد المسيح، أن ينتظروا نزوله إلى الجحيم لكي يخلصهم، يختلط المسيح التاريخي بالمسيح الكوني، وتبدو الوظيفة الأبدية ﻟ «الكلمة» وكأنها حقيقةٌ زمانية، لا لشيءٍ إلا لأن يسوع كان تجلِّيًا لهذه الكلمة، وهذا يعني أنه كان التجسيد الوحيد للكلمة في العالم الذي حدث فيه هذا التجلِّي. وهناك مثال آخر على ذلك نجده في الاختلاف بين المسيحية والإسلام حول موضوع موت المسيح؛ فالقرآن في نفيه الظاهر لموته، فضلًا عن أنه لا يفعل في الأساس غير الشهادة له بأنه لم يقتل يقينًا، وهذا لا ينطبق على الطبيعة الإلهية للإنسان-الإله وحسب، وإنما ينطبق أيضًا على طبيعته البشرية التي ما لبثت حتى انبعثت فيها الحياة. إن القرآن إذ ينفي موت المسيح إنما يرفض التسليم بالفداء التاريخي، وبالتالي يرفض الوقائع التي رافقته، والتي تشكل في نظر البشرية المسيحية التعبير الأرضي الوحيد عن الفداء الشمولي، وهذا يعني في التحليل الأخير أن المسيح لم يمت من أجل «الأصحاء»، وهم هنا المسلمون الذين يستفيدون من صيغةٍ أرضية أخرى من صيغ الفداء الواحد الأبدي. بعبارةٍ أخرى، لئن كان المسيح قد مات مبدئيًّا من أجل جميع البشر — بمقدار ما يتوجه الوحي الإسلامي إلى الناس أجمعين — لم يمت في الحقيقة إلا من أجل الذين يستفيدون، وينبغي لهم أن يستفيدوا، من وسائل النعمة التي تؤيد فعل الفداء،٤ فالمسافة التي تفصل التقليد الإسلامي عن المسيحي توجب عليه أن يرتدي ظاهريًّا صيغة النفي، تمامًا مثلما كان على الظاهرية المسيحية أن تنكر إمكانية النجاة خارج الفداء الذي قام به يسوع. مهما يكن من أمر، إن كانت مناقشة منظور ديني من خارجه أمرًا ممكنًا، أي من منظورٍ ديني آخر يكشف عن جانبٍ مختلف من الحقيقة المعنية، فإن مناقشته من داخله لا تقل عنها إمكانية، من حيث إنها تتيح لنا أداة التعبير عن الحقيقة الكلية التي يشكل منها هذا المنظور مفتاحًا لها. كذلك يجب ألا يغيب عن البال أن القيود التي تلازم وجهة النظر الدغماطيقية تتفق على صعيدها الخاص مع «الخير الإلهي» الذي لا يريد للإنسان أن يقع في مواطن الضلال، وإنما يهبه ما يتيح له الوصول إليه مما لا غنى عنه للجميع، آخذًا دائمًا بعين الاعتبار ما عند الجماعة البشرية من استعداداتٍ عقلية.٥
تسمح لنا هذه الاعتبارات بأن نفهم أن كل ما في كلام المسيح، مما قد يبدو متناقضًا مع شريعة موسى، أو ما يُستشم أنه انتقاصٌ منها، لا يعبر في العمق إلا عن تفوق الباطن على الظاهر،٦ وأنه — بالتالي — لا يقف على نفس الصعيد الذي تقف عليه هذه الشريعة،٧ على الأقل بدئيًّا a priori، أي إن هذه العلاقة المرتبية بمقدار ما تكون غير مفهومة بالطريقة الدغماطيقية، يكون من الواضح جدًّا أن تعاليم المسيح الرئيسية تتجاوز هذه الطريقة، وتتجاوز الشريعة تبعًا لذلك، وهو ما يبرر قيام هذه التعاليم، وهذا ما يفسر لنا موقف المسيح من حكم «العين بالعين والسن بالسن»، وموقفه من المرأة الزانية ومن الطلاق. إن «تحويل الخد الأيسر» لمن «يضرب الخد الأيمن» لا يمكن تطبيقه في حياة الجماعة من أجل إقامة التوازن فيها،٨ وليس له معنى إلا على أساس أنه موقفٌ رُوحي. وليس إلا صدِّيقًا مَن يربأ بنفسه أن ينقاد وراء التسلسل المنطقي لردود الأفعال الفردية؛ لأن هذا الانقياد هو عنده أمرٌ يساوي السقوط، على الأقل عندما يكون لهذا الانقياد مركز الصدارة أو عندما يستولي على نفس الإنسان، لا عندما يظل فعلًا خارجيًّا غير شخصي من أفعال العدالة التي هي نصب عين الشريعة الموسوية. إلا أن هذه الصفة غير الشخصية التي يتصف بها حكم «العين بالعين والسن بالسن» لهي الصفة التي حملت المسيح على التعبير عن حقيقةٍ رُوحية كانت تبدو وكأنها تُدين الشريعة وهي لا تُدين غير الادعاء، بعد أن أضحى هذا الحكم غير مفهوم وحلت الأهواء محله. وما قلناه لتَوِّنا يصح أيضًا على جواب المسيح على الذين كانوا يَهُمون برجم المرأة الزانية، فالمسيح في هذا الجواب، بدلًا من أن ينحو منحًى غير شخصي باسم الشريعة، كان يريد أن ينحو منحًى شخصيًّا يفضح به نفاقهم.٩ لم يكن المسيح في هذا يعبر عن وجهة نظر الشريعة، إنما كان يعبر عن وجهة نظر الحقائق الداخلية الرُّوحية التي تسمو على الحياة الاجتماعية، وقد كانت هذه أيضًا وجهة نظره في مسألة الطلاق. ولعل ما يُجلِّي الجانب الرُّوحي الصرف من تعليم المسيح، وبالتالي الجانب الذي يعلو على الحياة الاجتماعية، ويعلو في أخلاقيته، كلمته التالية: «إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته، بل نفسَه أيضًا، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذًا.» (لوقا ١٤: ٢٦)، واضحٌ أنه يتعذر مقابلة مثل هذا التعليم بالشريعة الموسوية.
المسيحية إذن لا تتصف أبدًا بالصفات الطبيعية أو المعهودة التي تتصف بها ظاهرية قامت على هذا الأساس، بل تطرح نفسها على أساس أنها ظاهرية «واقع» لا ظاهرية «مبدأ». ثم إن الصفة الباطنية، من ناحيةٍ ثانية، هي الصفة التي نجدها دائمًا في دلالاتٍ معينة ذات أهمية من الدرجة الأولى، حتى بدون أن نرجع من أجل ذلك إلى فِقَر معينة من الكتاب المقدس، من ذلك مثلًا عقيدة التثليث، وسر الأفخارستيا ولا سيما استعمال النبيذ في هذا الطقس، وكذلك في مصطلحاتٍ باطنية صرفة من مثل «ابن الله» ولا سيما مصطلح «أم الله». لئن كانت الظاهرية هي «ما لا غنى عنه لجميع الناس، وما هو في متناولهم جميعًا في نفس الوقت وبدون ما تمييز»،١٠ يتعذر على المسيحية أن تكون ظاهرية بالمعنى المألوف للكلمة، من حيث إنها في واقع الأمر ليست أبدًا في متناول الجميع، بالرغم من أنها تفرض نفسها على الجميع في الواقع، بحكم تطبيقها الديني. وإن امتناع العقائد المسيحية الظاهرية عن تناول الجميع هو ما نعبر عنه عندما نصفها ﺑ «الأسرار»، وهي كلمة لا تتضمن أي معنًى إيجابي إلا على الصعيد الباطني الذي ترتد إليه، لكننا عندما نطبقها على الصعيد الديني تبدو وكأنها تبتغي أن تبرر أو تحجب عدم انطواء الدغماطيقا المسيحية على أي بداهةٍ عقلية مباشرة، إن كان لنا أن نعبر كذلك. فمثلًا، «الوحدة الإلهية» بداهة مباشرة، وهي — بالتالي — قابلة للصياغة الظاهرية أو الدغماطيقية؛ لأن هذه البداهة، في أبسط تعبير لها، في متناول كل إنسانٍ ذي عقل سليم. أما «التثليث»، من حيث انطواؤه على وجهة نظر أكثر تمايزًا، ومن حيث تمثيله لتطورٍ خاص في عقيدة التوحيد في جملة تطوراتٍ أخرى محتملة هي أيضًا، فغير قابل للصياغة الظاهرية، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا لشيءٍ إلا لأن أي مفهومٍ ميتافيزيقي يتصف بالتمايز أو الاشتقاق هو مفهوم لا يقع في متناول الجميع. من ناحيةٍ ثانية، ينطبق «التثليث» اضطرارًا على وجهة نظر أكثر من وجهة نظر «الوحدة»، بمقدار ما يشكل «الفداء» حقيقة أكثر نسبية من حقيقة «الخلق»، ما من إنسانٍ ذي عقلٍ سليم إلا ويستطيع أن يفهم الوحدة الإلهية، على هذه الدرجة أو تلك، من حيث إن هذه الوحدة هي المظهر الأشمل والأبسط من الألوهة، أما «التثليث» فلا يفهمه إلا من يستطيع أن يفهم الألوهة، بما هي وحدة وفي نفس الوقت في المظاهر الأخرى المتفاوتة في درجة نسبيتها، أي من يستطيع التوغل على نحوٍ ما في البعد الميتافيزيقي عن طريق مساهمة رُوحية في العقل الإلهي، لكن هذه إمكانية بعيدة جدًّا عن متناول جميع الناس، على الأقل في الوضع الحالي للبشرية الأرضية. وعندما قال القديس أوغسطين أن «التثليث» غير مفهوم، كان يعبر اضطرارًا — بسبب عادات العالم الروماني — عن وجهة نظر عقلانية هي وجهة نظر الفرد، التي لو طبقناها على الحقائق المباينة لما أثمرت غير الجهل. في ضوء العقل المحض، ليس أبدًا غير مفهوم إلا ما لا حقيقة له، أي العدم الذي يتواحد بالمستحيل الذي يتعذر أن يكون موضوعًا لأي فهمٍ من أي نوع، بما هو لا شيء.

نضيف أن ما اتصفت به الدغماطيقا المسيحية من صفةٍ باطنية، وما اشتملت عليه من أسرار، كان هو السبب العميق وراء الرجع (= رد الفعل) الإسلامي على المسيحية، فباعتبار أن هذه قد خلطت الحقيقة (الباطن) بالشريعة (الظاهر)، انطوت على مخاطر معينة أدت إلى خللٍ في توازن «الحقيقة» على مدى القرون، وأسهمت بصورةٍ غير مباشرة في الخراب الرهيب الذي عليه عالمنا اليوم، وفقًا لقول المسيح: «لا تطرحوا للكلاب ما هو قدسي، ولا تُلقُوا بدُرَركم قدَّام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها وترتد إليكم وتمزقكم.»

إن كانت المسيحية قد خلطت بين ميدانين كان ينبغي أن يظل كل منهما بمعزلٍ عن الآخر على مقتضى ما يجب أن يكون عليه الأمر في الأحوال العادية، وخلطت بين نوعين من الأفخارستيا يمثلهما هذان الميدانان، فهل معنى هذا أنه كان بمقدورها أن تكون غير ذلك؟ قطعًا لا. إن ما يجب قوله هو أن الحقيقة الداخلية أو الباطنية يجب أن تتجلى أحيانًا في رائعة النهار، وذلك بمقتضى إمكانية معينة من التجلِّي الرُّوحي، وبغض النظر عن عيوب الوسط البشري الذي تتجلى فيه. بعبارةٍ أخرى، إن هذا «الخلط» لهو النتيجة السلبية لشيءٍ إيجابي بحد ذاته، وما هو إلا تجلِّي المسيح نفسه. بهذا التجلِّي، وبكل تجلٍّ آخر مماثل للكلمة، على درجة الشمول الذي يحدثه، يتم اتصال الكلمة الموحاة: «وكان هو النور في الظلمة والظلمة لم تدركه». لقد كان على المسيح، بحكم تعريفه الميتافيزيقي أو الكوزمولوجي، إن كان لنا أن نعبر كذلك، أن يكسر القشرة التي كانت تمثلها الشريعة الموسوية، لكن دون أن ينفيها على أي حال، باعتبار أنه كان هو النواة الحية لهذه القشرة، وقد كان له ملء الحق في أن يفعل ذلك، لقد كان «أحق» منها، وهذا ما تعنيه إحدى كلماته: «قبل أن يكون إبراهيم، كنت». يمكننا أن نقول أيضًا، إن كان الباطن لا يعني جميع الناس، فذلك — وهو ما نقوله على سبيل التمثيل — لأن النور ينفذ في بعض الأجسام ولا ينفذ في بعضها الآخر، ولئن كان عليه أن يظهر في رائعة النهار، مثلما كان عليه الحال بالنسبة إلى المسيح، وعلى درجةٍ أقل من الشمول بالنسبة إلى الحلاج؛ فلأن الشمس — وما زلنا نقول ذلك على سبيل التمثيل — تشرق على الجميع بدون تمييز، وبالتالي إن كان النور يضيء في الظلمة؛ فلأنه يبين عن إحدى إمكانياته، وما الإمكانية بحكم طبيعتها إلا شيء لا يمكنه إلا أن يكون، بما هي مظهر من مظاهر الضرورة المطلقة التي ينطوي عليها المبدأ الإلهي.

هذه الاعتبارات يجب ألا تشغلنا عن جانبٍ متمم من المسألة يتصف بالدنيوية أكثر من الأول على أي حال، يجب أن يوجد أيضًا في الجانب البشري، أي في الوسط الذي يحدث فيه مثل هذا التجلِّي، سبب كافٍ له.

ولقد كان هذا التجلِّي في العالم الذي توجهت إليه رسالة المسيح منزوعًا فيه الحجاب عن الحقائق التي ينبغي أن تظل محجوبة في الأحوال الاعتيادية — في ظروفٍ معينة من الزمان والمكان على الأقل — وكان الوسيلة الوحيدة لإحداث التقويم الذي كان يحتاج إليه العالم، وهذا يكفي لكي يسوغ ما لعله يكون، في الإشعاع المسيحي على النحو الذي حددناه، أمرًا شاذًّا وغير مشروع في الظروف العادية. إن تعرية «الرُّوح» الخبيئة في «الحرف» على هذا النحو لا تستطيع على أي حالٍ أن تبطل بالمرة قوانين معينة ملازمة لكل باطنية، تحت طائلة سلبها لطبيعتها الخاصة؛ ولذلك لم يكن المسيح ليكلمهم إلا بأمثالٍ لكي يتم ما قيل في «النبي»: «… أفتح فمي بالأمثال، وأنطق بالخفيَّات منذ إنشاء العالم …» (متَّى ١٣: ٣٤ و٣٥). رغم هذا، إن هذه الطريقة من الإشعاع، وهي طريقة يتعذر تجنبها في الحالة الخاصة التي تتعلق بها، ليست أقل من «سيف ذي حدين»، إن كان لنا أن نعبِّر كذلك. لكن هناك أمر آخر، إن الطريق المسيحي هو جوهريًّا «طريق نعمة»، وهو في هذا شبيه بطرق «البهاكتية» في الهند أو طرق معينة من البوذية، وإننا لنجد في هذه الطرق، بسببٍ من طبيعتها الخاصة، ضعفًا في التمييز بين الجانب الخارجي والداخلي حتى ليكون هذا التمييز لا شأن له أحيانًا، بمعنى أن «النعمة»، وهي من صعيدٍ باطني في نواتها أو جوهرها، تميل إلى إعطاء نفسها، على أوسع نطاق ممكن، كل ما تستطيع أن تفعله بفضل ما في رموزها ووسائلها من بساطةٍ وشمول. ولعلنا نستطيع القول أيضًا، إن كان الفرق بين «طريق الاستحقاق» و«طريق المعرفة» هو، بالضرورة، فرقًا بعيدًا بسبب رجوع أولهما إلى فعل الاستحقاق، والثاني إلى التأمل العقلي، فإن «طريق النعمة» يحتل بمعنًى ما مركزًا وسطًا، من حيث إن التطبيقات الداخلية والخارجية تتقارب فيما بينها عند نقطة المركز وفي نفس شعاع الرحمة. في نطاق التحقق الرُّوحي فروق في الدرجة أكثر مما هي فروق في المبدأ، كل عقل، أو كل إرادة، يمكنه أن ينال نصيبه من نفس النعمة، كلٌّ في حدود إمكانياته، وهذا ما يسمح لنا بالتذكير بمثال الشمس التي تشرق على الجميع بدون تمييز، لكنها تفعل ذلك بصورةٍ مختلفة في مختلف المواد.

بصرف النظر عن أن هذه الطريقة التركيبية من الإشعاع كانت — بتعريتها للحقائق التي ينبغي للظاهرية السوية أن تتركها طي الحجاب — هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق التقويم الرُّوحي الذي كان يحتاج إليه العالم الغربي، ينبغي لنا أن نقول أيضًا إن لهذه الطريقة صفة ربانية بالنسبة إلى التطور الدوري، بمعنى أنها مبطونة في الخطة الإلهية المتعلقة بالتطور النهائي لهذه الدورة من حياة البشر. من وجهة نظر أخرى، يمكننا أن نتبين، في عدم التناسب بين الصفة الرُّوحية الصرفة التي تتصف بها «هبة المسيح» وبين وسطها البالغ التضارب الذي حصل فيه تلقِّي هذه الهبة، تلك العلامة الاستثنائية على الرحمة الإلهية التي تتجدد على الدوام بإزاء الخلق. لكي ينقذ الله جزءًا من الأجزاء «السقيمة» من البشرية أو من «إحدى البَشَريات»، يرتضي لنفسه أن يصير كائنًا دنيويًّا، لكنه من جهةٍ أخرى — وإننا هنا بإزاء تجلٍّ من «لا شخصيته» التي تنبو عن التحديد من وجهة نظر دينية — يستفيد من هذه الصيرورة الدنيوية، ما دام «لا بد من حدوث فضيحة»، لكي يحدد الانحطاط الدوري النهائي لهذه الدورة، وهو انحطاطٌ ضروري لاستنفاد جميع الإمكانيات التي تنطوي عليها هذه الدورة، وبالتالي لإقامة التوازن وإتمام الإشعاع الشمولي المجيد لله.

إن وجهة النظر الدغماطيقية مضطرة، إن لم تسلم بتناقض أفعال إلهها الشخصي، وهو الإله الوحيد الذي تضعه نصب عينيها، إلى وصف الأفعال المتناقضة ظاهريًّا الصادرة عن الألوهة غير الشخصية — هنا حيث لا تستطيع نفيها بكل بساطةٍ مثلما تفعل ذلك في حالة اختلاف الصيغ الدينية — مضطرة إلى وصفها ﺑ «الأسرار» وأنها لا يُسبر غورها، ناسبة هذه «الأسرار»، في الوقت نفسه، إلى «الإله الشخصي».

إن وجود باطنية مسيحية، أو صفة مغرقة في الباطنية اتصفت بها المسيحية البدائية، لا يظهر فقط في نصوص «العهد الجديد»، حيث نجد للمسيح كلمات ليس لها أي معنى ظاهري، لا لأنها ذات طبيعة طقسية وحسب — مقتصرين على ما هو في متناول الإدراك، من الخارج على نحوٍ ما، في الكنيسة اللاتينية — وإنما في شهاداتٍ صريحة صدرت عن المؤلفين القدامى.١١ من ذلك مثلًا، القديس باسيليوس، في مؤلفه «مقال في الرُّوح القدس»، حيث يتكلم عن «تقليد خفي وسري ظل طي الكتمان حتى أيامنا، وتعليم سري راعاه آباؤنا بدون مناقشة، ونتبعه نحن ملتزمين بساطة صمتهم؛ ذلك لأنهم قد تعلموا كم كان الصمت ضروريًّا للإبقاء على ما يجب لأسرارنا المقدسة من احترامٍ وإجلال. والحق أنه لم يكن من الملائم الكشف، كتابة، عن عقيدةٍ تنطوي على أشياء غير مسموح للمرشحين أن يفكروا فيها.»
يقول ديونيسيوس الأريوباجي: «النجاة غير متاحة إلا للنفوس المؤلهة، وما التألُّه إلا المواحدة والمشابهة بالله التي تحصل لنا بالاضطرار … إن ما هو موزَّع بالتساوي — وإن شئت قلت بصورة كتلة — في الأعيان السعيدة التي تسكن السموات، ينتقل إلينا على هيئة شظايا وعلى شكل حشدٍ غفير من الرموز المختلفة من المعرفة الإلهية.» ويجب ألا نفهم من هذه الكلمة ما خلَّفه لنا المعلمون الملهمون في رسائلهم المقدسة وحسب، وإنما ما نقلوه أيضًا إلى تلامذتهم بنوعٍ من التعليم الرُّوحي شبه السماوي، حين أسرُّوه لهم رُوحًا لرُوحٍ على نحو جسماني ولا ريب؛ لأنهم كانوا لا يتكلمون، لكنني أجرؤ على القول: على نحوٍ غير جسماني أيضًا؛ لأنهم كانوا لا يكتبون. لكن هذه الحقائق التي لم يكن بدٌّ من ترجمتها إلى أعرافٍ كَنَسية قام الرسل بعرضها تحت حجاب الرمز لا في عريها الأسمى؛ لأنه ليس كل أحدٍ قديسًا، أو، كما قال «الكتاب»: «العلم ليس للجميع.»١٢
قلنا فيما تقدم إن المسيحية تمثل طريق النعمة أو المحبة (البهاكتي مارغا عند الهندوس)، وهذا التحديد يدعونا أيضًا إلى ذكر بعض الإيضاحات العامة نصوغها على الشكل التالي: في العمق، إن ما يميز الميثاق الجديد من القديم سيادة الجانب الإلهي من «الشدة» في الميثاق القديم، وسيادة جانب «الرحمة» في الميثاق الجديد. وطريق الرحمة هو، بمعنًى ما، أيسر من طريق الشدة، لأنه يستفيد، بما هو من صعيدٍ أبعد غورًا، من الرحمة الخاصة: إنه «النجاة بالإيمان» الذي نَيِّره لطيف وحِماه خفيف»، الذي يجعل من «نَيِّر السماء» في شريعة موسى أمرًا غير ذي جدوى. هذه «النجاة بالإيمان» تماثل بالتالي «النجاة بالمعرفة»، وهي ما يمنحه بُعدها الباطني، من حيث إن أحدهما كالآخر مستقل نوعًا ما عن الشريعة، أي عن الأعمال.١٣ والحق أن الإيمان ليس إلا طريق «البهاكتي» إلى المعرفة واليقين، وهذا يعني أن الفعل السلبي من العقل، عندما لا تكون الحقيقة بما هي كذلك موضوعَه المباشر، بل رمز هذه الحقيقة، ومن طبيعة هذا الرمز أن يبوح بأسراره لمن كان إيمانه عظيمًا ويكون ذلك بموقفٍ من الثقة، أو اليقين العاطفي، وبالتالي بواسطة عنصر من «البهاكتي» أو المحبة. والإيمان، بما هو موقف تأملي، يجعل العقل موضوعه، حتى ليمكننا القول إن الإيمان معرفةٌ فعلية، لكن بما أن طريقته سلبية، كان لا بد له من الاستعاضة عن هذه السلبية بموقفٍ إيجابي يكمِّله، أي بموقفٍ إرادي قوامه ثقة وحماسة، بفضلهما يتلقى العقل يقينه الرُّوحي. والإيمان، بدهيًّا، استعداد طبيعي في النفس للتسليم بعالم الغيب، وهو، جوهريًّا، حدس لعالم الغيب، تستثيره النعمة التي تنشطها الثقة المفعمة بالحماسة،١٤ وعندما يصبح الإيمان كاملًا بفضل النعمة ينحلُّ في الحب، الذي هو الله؛ ولذلك لا يبقى سعداء السماء مؤمنين، من وجهة نظر لاهوتية، ما داموا يعاينون موضوع إيمانهم؛ وهو الله الذي هو الحب والغبطة. ونضيف أن هذه المعاينة يمكن أن تحصل، بل يجب أن تحصل، من وجهة نظر صوفية، في هذه الحياة، على ما تقول به تعاليم التقليد الأزيكياستي، لكن الذي يهمنا هنا هو الجانب الآخر من الإيمان الذي يجدر بنا أن نأتي على ذكره. نريد أن نتكلم عن العلاقة بين الإيمان والمعجزة، وهي علاقة لا تفسر الأهمية العظمى التي تحتلها هذه الأخيرة عند المسيح وحسب، وإنما عند المسيحية بما هي كذلك. خلافًا لما هي عليه الحال في الإسلام، تلعب المعجزة في المسيحية دورًا مركزيًّا يكاد أن يكون عضويًّا، دون أن ننفي عنها علاقتها بالصفة «البهاكتية» الخاصة بالطريق المسيحي. إن المعجزة تغدو أمرًا لا تفسير له إن لم يكن لها هذا الدور الذي تتخذه في الإيمان، من حيث إنها ليس لها قيمة إقناعية بحد ذاتها، وإلا كانت المعجزات الشيطانية معيارًا للحقيقة، إن لها — على العكس — جانبًا يتصل بجميع العوامل الأخرى التي تتدخل في الوحي المسيحي. بعبارةٍ أخرى، إذا كانت معجزات المسيح والرسل والقديسين ذات قيمة ومحل تقدير، فما ذلك إلا لأنها تنضاف إلى المعيارات الأخرى التي تسمح لنا، بدهيًّا، بأن نعزو إلى هذه المعجزات قيمة «الآيات السماوية». الوظيفة الأساسية والأولية للمعجزة هي أن تستثمر نعمة الإيمان، وهذا يفترض استعدادًا طبيعيًّا للتسليم بعالم الغيب لدى الإنسان الذي مسته هذه النعمة، لا فرق بين أن يكون هذا الاستعداد واعيًا أو خافيًا (= لا شعوريًّا)، أو أن تكمِّل إيمانًا مكتسبًا من قبل. ولكي نوضح دور المعجزة في المسيحية وفي غيرها من الصيغ الدينية الأخرى — لأنه ما من دينٍ يخلو من الحوادث الخارقة — نقول إن المعجزة، بصرف النظر عن صفتها الرمزية التي تواحدها بنفس موضوع الإيمان، جديرة بأن تستثير حدسًا يصبح عنصر يقين في النفس المؤمنة. ثم إن كانت المعجزة تستثير الإيمان، فإن الإيمان بدوره يستثير المعجزة التي تأتي مصداقًا ﻟ «الإيمان الذي ينقل الجبال». هذه العلاقة المتبادلة بين الإيمان والمعجزة تُظهر أن هذين العنصرين مترابطان كوزمولوجيًّا، وأن العلاقة بينهما لا تقوم على الاعتباط أو التحكم، باعتبار أن المعجزة تقيم اتصالًا مباشرًا بين القدرة الإلهية والعالم، وأن الإيمان بدوره يقيم اتصالًا مماثلًا، لكن سلبيًّا، بين العالم الأصغر (الإنسان) وبين الله. إن مجرد المماحكة النظرية أو الكلامية بعيدة عن الإيمان بُعد القوانين الطبيعية عن المعجزة، على حين أن المعرفة العقلية (= الصوفية) ترى المعجز في الطبيعي، والطبيعي في المعجز.

أما المحبة، وهي من الفضائل الإلهية الثلاث أفضلهن، فلها وجهان: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، الحب الرُّوحي مساهمة سلبية في الله الذي هو حب لا انتهاء له، لكن الحب إيجابي بإزاء المخلوق.

حب القريب، من حيث هو تعبير ضروري عن حب الله، تكملة للإيمان لا غنى له عنها. هذان الجانبان من المحبة (السلبي والإيجابي) يؤكدهما التعليم الإنجيلي المتعلق بالناموس الأسمى، من حيث إن الأول ينطوي على الشعور بأن الله وحده هو الغبطة والحقيقة، وأن الثاني ينطوي على الشعور بأن «الأنيَّة» EGO ليست إلا وهمًا، باعتبار أن «أنيَّة غيري» متواحدة في الحقيقة مع «أنيَّة نفسي».١٥ وإذا كان عليَّ أن أحب «القريب» لأنه «أنا»، فهذا يعني أن أحب «أنيَّة نفسي» بدئيًّا a Priori؛ لأنه لا يوجد إلا القريب، وإذا كان عليَّ أن أحب نفسي، سواء أكانت في «أنيَّة نفسي» أم في «القريب»؛ فلأن الله يحبني وعليَّ أن أحب ما يحب. وإذا كان الله يحبني فلأنه يحلب خلقه، أو بعبارةٍ أخرى لأن الوجود نفسه «حب»، وإن الحب لهو بمثابة عطر الخالق الذي يلازم كل مخلوق. كذلك إن «حب الله»؛ أي الحب الذي يكون موضوعه «الكمالات الإلهية» لا رغد العيش، هو معرفة الحقيقة الإلهية الواحدة التي تنحلُّ فيها حقيقة الخلق الظاهرة، وهي معرفة تنطوي على تواحد النفس بجوهرها غير المخلوق،١٦ وهذا أيضًا جانب من رمزية الحب. كذلك إن حب القريب ما هو في العمق غير معرفة «اللاتمايز» في الخلق أمام الله. قبل الانتقال من الخلق إلى الخالق، أو من التجلِّي إلى المبدأ، ينبغي لنا أن نكون قد أدركنا «اللاتمايز» أو «العدم» في محل التجلِّي، وهذا هو ما يرمي إليه التعليم الأخلاقي الذي يعلمه المسيح، لا عن طريق اللاتمايز الذي يقيمه بين «الأنا» و«اللا-أنا» وحسب، وإنما أيضًا عن طريق عدم الاكتراث — وهذا على نحوٍ ثانوي — بالنجاة الفردية والتوازن الاجتماعي. المسيحية، إذن تضع نفسها خارج «الأفعال ورجوعاتها»، التي هي من صعيدٍ بشري، وهي — بالتالي — ليست ظاهرية بمقتضى طبيعتها الأولى. المحبة المسيحية لا تهتم، ولا يمكنها أن تهتم، ﺑ «رغد العيش» من أجل ذاته؛ لأن المسيحية الحقة، وشأنها في هذا كشأن كل ديانةٍ قويمة، ترى السعادة الحقيقية التي يمكن للمجتمع البشري أن يتمتع بها في الارتقاء الرُّوحي أو رغد الحياة الرُّوحية الذي يصاحبه حضور المقدس كزهرةٍ فيه، وهو الهدف الذي تسعى إليه كل مدنيةٍ سوية؛ ذلك لأن في «كثرة الحكماء خلاص العالم» (الحكمة ٦: ٢٦). ثمة حقيقة لا يحفل بها علماء الأخلاق، وهي أنه عندما يكتمل فعل المحبة بحب الله، أو بمقتضى معرفتي «أنني أنا قريب» وأن «القريب أنا نفسي» — وهي معرفة تنطوي على هذا الحب — فإن فعل المحبة المبذول من أجل القريب لا يكون له قيمة المحبة الخارجية وحسب، وإنما قيمة البركة أيضًا. وفي المقابل، عندما لا نمارس فعل المحبة عن طريق حب الله، ولا بمقتضى المعرفة المذكورة، وإنما ابتغاء رغد العيش البشري حيث يعتبر غاية بحد ذاته، فإن البركة التي تلازم الحب الحقيقي تفارق المحبة الظاهرية ولا تصاحبها أبدًا، سواء بالنسبة لمن يمارسها أو بالنسبة لمن يتلقاها.
إن وجود طرق للرهبنة يتعذر أن يجد تفسيره إلا في وجود تقليد باطني، سواء في الكنيسة الغربية أو الشرقية، وهو تقليد يرجع إلى آباء الصحراء، وبالتالي إلى التلاميذ ثم إلى المسيح، كما يؤكد ذلك القديس «بنوا» وأتباع الرهبنة الأزيكياستية. ويثبت رجوع ترهُّب الكنيسة اللاتينية إلى نفس الأصول التي ترجع إليها الكنيسة اليونانية — وترهُّب هذه الأخيرة يشكل جماعةً واحدة لا طرقًا مختلفة — يثبت أن ترهُّب الأولى هو من جوهرٍ باطني مثلما هو ترهُّب الثانية. كذلك إن مذهب الزهاد والنساك يُعتبر من جانبٍ أو آخر بلوغًا بالكمال الرُّوحي إلى غايته — قاله القديس «بنوا» في قاعدته — وهو ما يسمح لنا أن نستنتج من غياب النساك أنه كان علامة على انحطاط الازدهار المسيحي. الحياة في الأديرة، من دون أن تكون طريقًا مكتفية بنفسها، إنما تعيِّنها قاعدة القديس «بنوا» بأنها «بداية الحياة الدينية»، أما «الذي يسرع الخطى نحو كمال الحياة في الأديرة، فمن أجله وُجدَت تعاليم الآباء القديسين التي إذا سار عليها الإنسان يصل إلى الهدف الأسمى من الدين»،١٧ وهذه التعاليم هي التي تكوِّن الجوهر العقدي عند أتباع الرهبنة الأزيكياستية.
عضو الرُّوح، أو المركز الرئيسي في الحياة الرُّوحية، هو القلب، وهنا أيضًا تتفق تعاليم الرهبنة الأزيكياستية مع تعاليم جميع التقاليد الباطنية الأخرى اتفاقًا تامًّا. لكن أهم شيء عند الأزيكياستية، من وجهة نظر التحقق الرُّوحي، هو ما تُعلِّمه من وسيلةٍ تتم بها المشاركة الطبيعية من العالم الأصغر البشري في «ما بعد العالم الإلهي»، إذ تحولها إلى مشاركةٍ فائقة للطبيعة ثم إلى اتحادٍ وهوية؛ هذه الوسيلة هي «الصلاة الداخلية» أو «صلاة يسوع»، هذه الصلاة تتجاوز مبدئيًّا جميع الفضائل الأخرى؛ لأنها فعلٌ إلهي فينا، وهي — تبعًا لذلك — خير فعل ممكن، وليس كهذه الصلاة ما يتيح للمخلوق أن يتحد بخالقه حقيقة، وهدفها هو — بالتالي — بلوغ الحالة الرُّوحية العليا التي يتجاوز فيها الإنسان كل ما يمت إلى الخلق بسبب، إذ يستنير بالنور الإلهي فيما هو يتحد بالألوهة من الداخل، هذه الحالة هي «الصمت القدسي»، الذي يُرمَز إليه مع ذلك باللون الأسود الذي تتشح به بعض «العذراوات».١٨

الذين يعتبرون «الصلاة الرُّوحية» أمرًا يسيرًا، وحتى مجانيًّا، تقول لهم «البالامية» إن هذه الصلاة هي أضيق الطرق، لكنها — في المقابل — تصل بالإنسان إلى أعلى قمم الكمال، شريطة أن تتطابق فاعلية هذه الصلاة مع كل الفاعليات البشرية الأخرى — وهذا أمرٌ جوهري يجعل من شكوك الأخلاقيين السطحية لا قيمة لها على الإطلاق. بعبارةٍ أخرى، إن الفضائل — أي موافقة الشريعة الإلهية — تشكل الشرط اللازم الذي بدونه لا تكون فاعلية للصلاة الرُّوحية. نحن إذن بعيدون جدًّا عن التوهم الساذج الذي يقع فيه من يتصورون أن بمقدورهم الوصول إلى الله بالاعتماد على رياضاتٍ آلية دونما ارتباط أو التزام. تعلمنا العقيدة البالامية أن «الفضيلة تُعِدُّنا للاتحاد بالله، لكن النعمة هي التي تحقق هذا الاتحاد الذي لا يعبَّر عنه». ولئن كانت الفضائل تؤدي إلى المعرفة؛ فلأنها تتأثر مواقف إلهية عن طريق التخلق بها، والحق أنه ما من فضيلةٍ إلا وتستمد أصلها من نموذجٍ إلهي، وهذا هو الموقف الأعمق للفضائل، «أن تكون» هو «أن تعرف».

ثم لنَلفت الانتباه إلى ما لذكر اسم الله من أهميةٍ أساسية وما فيه من شموليةٍ حقيقية. فالذكر، في المسيحية، كما في البوذية وفي بعض السلاسل المريدية في الهندوكية، إنما يكون لاسم الكلمة المتجلية،١٩ وهو هنا اسم «يسوع» الذي يتواحد سرِّيًّا بالألوهة، مثله في هذا كمثل كل اسمٍ إلهي موحًى ومنطوق طقسيًّا. واللقاء الخفي بين المخلوق وغير المخلوق، بين الحادث والقديم، بين المنتهي وغير المنتهي، إنما يحدث في الاسم الإلهي، وبذلك يكون الاسم الإلهي تجلِّيًا للمبدأ الأسمى، أو إن شئنا التعبير بطريقةٍ أكثر مباشرة قلنا: إن المبدأ الإلهي هو الذي يتجلى، وإنه — بالتالي — ليس تجلِّيًا في المحل الأول، بل هو «المبدأ» نفسه،٢٠ «الشمس لا تتحول إلى ظلماتٍ، ولا القمر إلى دم، قبل أن يأتي اليوم العظيم والرهيب، يوم الرب، يقول النبي يوئيل، لكن ما من أحدٍ يذكر اسم الرب إلا وتُكتب له النجاة.»٢١ ولنذكر أيضًا مطلع رسالة القديس بولس إلى القورنثيين التي تخاطب «كل الذين يذكرون، في كل مكان، اسم ربنا يسوع المسيح»، وفي الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكا جاء الأمر بالصلاة بدون توقف، وهو الأمر الذي يفسره القديس يوحنا الدمشقي بهذه العبارات: «يجب أن نتعلم ذكر اسم الله في كل لحظة، وفي كل مكان، وفي أثناء كل عمل.»٢٢ لذلك لم يكن أمرًا بلا سبب اعتبار الأزيكياستية لذكر اسم يسوع أمانةً عَهِدَ بها المسيح إلى الرسل: «تقول مئوية الرهبان الكاليين والأغناصيين: هذا ما عهد به ربنا يسوع المسيح الرحيم الحبيب، في اللحظة التي دنا فيها قربًا من آلامه، المقبولة منه بكل حريةٍ من أجلنا، وكذلك في اللحظة التي أعقبت قيامته وأظهر فيها نفسه بصورةٍ مرئية إلى تلاميذه، وحتى حين أعد نفسه للصعود إلى الآب … عهد إلى أتباعه بهذه الأشياء الثلاثة (بذكر اسمه وبالسلام وبالحب، التي تنطبق تعاقبًا على الإيمان والرجاء والإحسان). إن بداية كل فاعليةٍ للحب الإلهي هي في الذكر الخالص لاسم المخلِّص ربنا يسوع المسيح، كما قال ذلك هو نفسه (يوحنا ١٥: ٥): «بدوني لا تستطيعون فعل شيء …»، بالذكر الخالص لاسم ربنا يسوع المسيح، يكون لنا وطيد الأمل بِنَيْل الرحمة والحياة الحقيقية الكامنة فيه. إنه لأشبه بينبوعٍ إلهي آخر لا ينضب معينه أبدًا (يوحنا ٤: ١٤) الذي يجعل عطاياه تتدفق عندما يُذكر اسم ربنا يسوع المسيح، بدون شوائب، في القلب.» ثم لنورد أيضًا هذه الفقرة من رسالة القديس كريزوستوم: «سمعت الآباء يقولون: ما لهذا الراهب يترك القاعدة ولا يحترمها؟ أوْلَى به، حين يأكل ويشرب، وحين يجلس أو يخدم غيره، أو حين يمشي أو مهما يفعل، أن يذكر بدون توقف: أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله، لتكن لك رأفةً بي …٢٣ داوِم على ذكر اسم ربنا يسوع بلا توقف، حتى يتشرب قلبك الرب، والرب يتشرب قلبك، فيصير الاثنان واحدًا.»
١  التفسير الظاهري لهذا الكلام هو الانتحار بعينه؛ لأنه لا بد وأن يرتد على الظاهرية التي ارتبط بها، وهذا ما أثبته «الإصلاح» الذي كان شديد الحرص على التمسك بالكلام المذكور (الرسالة الثانية إلى القُورِنْثيين ٣: ٦)، ليجعل منه سلاحه الرئيسي في اغتصابه المكان الذي كان يجب أن يعود إلى الباطنية في الحالة السوية.
٢  كانت المسيحية وارثة لليهودية، التي تتفق في صيغتها مع أصل هذه الوجهة من النظر، ويكاد أن يكون من نافل القول التوكيد على أن حضور اليهودية في المسيحية البدائية لا يبطل أبدًا ما في هذه الأخيرة من جوهرٍ باطني. يقول أوريجين: «هناك أشكال مختلفة يتجلى فيها الكلمة لتلاميذه على حسب درجة النور التي بلغها كل منهم، وعلى حسب الدرجة التي بلغها من القداسة.»
٣  وهكذا نرى الظاهريات الساميَّة تنكر أن يكون ثمة تناسخ أو حلول، أو أن يكون للحيوانات رُوح خالدة، كما تنكر النهاية الدورية الكلية التي يسميها الهندوس «مها-برالايا»، وهي نهاية تنطوي على فناء كل الخليقة (سمسارا). هذه الحقائق ليست من الأمور التي لا غنى عنها للنجاة، بل تنطوي على مخاطر معينة على العقليات التي تتوجه إليها التعاليم الظاهرية، ومعنى هذا أن الظاهرية مضطرة أبدًا أن تهمل أو تنبذ العناصر الباطنية التي لا تتفق مع صيغتها الدغماطيقية. مهما يكن من أمر، ولكي نقطع الطريق على كل اعتراضٍ ممكن على الأمثلة التي سقناها توًّا، ينبغي أن نسجل تحفظين: فيما يتعلق بخلود الرُّوح لدى الحيوانات، اللاهوت على حقٍّ في النفي، بمعنى أن كائنًا ما لا يمكنه في الحقيقة أن ينال الخلود ما ظل خاضعًا للحالة الحيوانية من حيث إن الحيوان، وشأنه في هذا كشأن المعادن والنبات، كائنٌ محيطي، وأن الخلود أو النجاة لا يمكن بلوغهما إلا انطلاقًا من حالةٍ مركزية كالحالة البشرية. وهكذا نرى في هذا المثال أن النفي الديني ذا الصفة الدغماطيقية ليس مجردًا من المعنى. من ناحيةٍ ثانية، فيما يتعلق بالنهاية الدورية الكلية، أو «المها-برالايا»، نجد لزامًا علينا أن نضيف بأن هذا النفي ليس بالأمر الدغماطيقي تمامًا، وأن نهاية الدورة الكلية، وهي نهاية تنهي واحدة من «حياة براهما»، نجدها مؤكدة صراحةً في مثل هذه الصيغة: «الحق أقول لكم أنه إلى أن تزول السماء والأرض لا تزول ياءٌ أو نقطة واحدة من الناموس حتى يتمَّ الكل» (متَّى ٥: ١٨). خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ (هود: ١٠٧).
٤  في سياق هذه الأفكار، نذكِّر أيضًا بهذه الجملة التي قالها القديس أوغسطين: «إن ما ندعوه اليوم بالديانة المسيحية كان موجودًا عند القدماء، وما انفك يوجد منذ نشوء النوع البشري إلى أن جاء المسيح نفسه فصارت الديانة الصحيحة التي كانت موجودة من قبل تدعى بالمسيحية.» وقد تولى القس ج. جلابير شرح هذه العبارة في كتابه «الكاثوليكية قبل يسوع المسيح»، فقال: «الديانة الكاثوليكية ما هي إلا امتداد للديانة البدائية التي أعاد إنشاءها وأغناها تكرمًا من كان يعرف عمله منذ البدء.» وإن هذا ليفسر لنا كيف أعلن بولس الرسول نفسه مفضلًا على «الأمم» بسبب معرفته ليسوع المصلوب. والحق أنه لم يكن على «الأمم» أن تكتسب شيئًا غير معرفة التجسد والفداء بما هما حقيقتان واقعتان، ذلك أن هذه الأمم قد سبق لها وأن تلقت الوديعة التي اشتملت على جميع الحقائق الأخرى … من المناسب أن نعتبر هذا الوحي، الذي كانت تجهله الوثنية، قد ظل مع ذلك بنقائه، ولربما بجميع كمالاته، مختفيًا وراء الأسرار القديمة، كأسرار إيلوسيوس وليمنوس وساموثراس. «هذه المعرفة للتجسد والفداء تتضمن قبل كل شيء معرفة التجديد العظيم الذي قام به المسيح بواسطة النعمة التي هي نعمة أزلية فيه، مثلما هو «الناموس» الذي جاء المسيح ليكمله لا ليبطله.» إن واسطة النعمة هذه هي جوهريًّا الواسطة نفسها دائمًا، وهي الأفخارستيا، وهي حقيقة شمولية، كالمسيح نفسه، مهما اختلفت أساليب تجلِّيها في مختلف الأوساط الإثنية والثقافية.
٥  وبهذا المعنى قال الإسلام: «اختلاف العلماء رحمة.»
٦  يظهر هذا جليًّا، وبصفة خاصة، من قول المسيح في القديس يوحنا المعمدان: من وجهة نظر ظاهرية، واضحٌ أن النبي الأقرب من المسيح-الإله هو أعظم الناس، لكن من ناحيةٍ أخرى، الأقل في ملكوت السماء أعظم شأنًا من الإنسان على الأرض، وهذا دائمًا بسبب الجوار الإلهي. ميتافيزيقيًّا، هذا القول يكشف عن أفضلية المبدأ على محل التجلِّي، ومريديًّا عن أفضلية الباطن على الظاهر، من حيث إن المعمدان هو قمة الظاهر وتمامه، وهذا ما يفسر لنا من ناحيةٍ ثانية لماذا يقرن اسمه باسم القديس الإنجيلي الذي يمثل الجانب الأعمق من المسيحية .
٧  نجد عند القديس بولس هذه الفقرة: «إن الختان ينفع إن عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعديًا للناموس فقد صار ختانك قَلَفًا، فإن كان الأقلَف يحفظ حقوق الناموس أفلا يُعَد قَلَفه ختانًا، ويكون القَلَف، الذي هو بالطبيعة وهو يُتم الناموس، يُدينك أنت الذي بالحرف والختان تتعدى الناموس، لأنه ليس اليهودي هو من كان في الظاهر، ولا الختان ما كان ظاهرًا في اللحم، بل إنما اليهودي هو من كان في الباطن، والختان هو ختان القلب بالرُّوح لا بالحرف، ومدحه ليس من الناس بل من الله.» (الرسالة إلى أهل رومية ٢: ٢٥–٢٩)
هذه الفكرة نعود فنجدها، في صيغةٍ أكثر تحديدًا، في الآيات القرآنية التالية: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ (نتبع) مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (الإسلام الفطري الأول) وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (إشراك المخلوقات بالله، أو النتائج بالسبب، أو محل التجلِّي بمبدأ التجلِّي) … (تلقَّوا) صِبْغَةَ اللهِ (معمودية الله لا معمودية البشر) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً (معمودية)؟ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (البقرة، الآيتان ١٣٥ و١٣٨). هذه الصبغة (المعمودية)، من وجهة نظر الفكرة الأساسية، تقوم مقام ما عبر عنه القديس بولس ﺑ «الختان».
٨  هذا صحيح إلى حد أن المسيحيين أنفسهم لم يؤسسوا على هذا الأمر التزامًا شرعيًّا، وهو ما يدل أيضًا على أنه لا يقف على نفس الصعيد الذي تقف عليه الشريعة اليهودية، وأنه لا يريد، ولا يستطيع تبعًا لذلك، أن يحل محلها.
وهناك حديث يبين التعارض بين وجهة النظر الرُّوحية التي أثبتها المسيح وبين وجهة النظر الاجتماعية، وهي وجهة نظر الشريعة الموسوية: اقتيد أول سارق في الجماعة الإسلامية إلى النبي لكي تُقطع يده على مقتضى حكم القرآن، فاربَدَّ وجه النبي وتغيرت أساريره فقيل له: «هل من اعتراض؟» فأجاب: «كيف لا أعترض، هل ينبغي أن أكون عونًا للشيطان في عدوانه على إخواني؟ إن أردتم أن يغفر الله لكم ويكفر عن خطاياكم، فاغفروا للناس خطاياهم؛ لأنه ما من مذنبٍ يؤتى به إلى السلطان إلا ويكون ملزمًا بإقامة الحد عليه.» (المترجم: لم نعثر على صيغة هذا الحديث بالعربية، فاضطررنا إلى ترجمته على النحو المبين أعلاه، وعسى أن نتداركه في الطبعات التالية من هذا الكتاب.)
٩  يشير المؤلف إلى سؤال اليهود للسيد المسيح عن حكم الزانية بموجب شريعة موسى، وقوله لهم: «من كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمها أولًا بحجر».
١٠  هذا تعريف «غينون» أورده في مقالٍ له بعنوان «الخلق والتجلِّي» (الدراسات التقليدية، تشرين الأول، ١٩٣٧م).
١١  التعبير الأعم عن هذا الخلط هو ما نجده في أسفار «العهد الجديد» بين درجتين من الوحي يسميها الهندوس «شروتي» و«سمريتي»، ويسميها المسلمون «نفث الرُّوح» و«إلقاء الرحمانية». هذا الاسم الأخير، مثل السمريتي، يدل على وحيٍ من الدرجة الثانية، بينما يتعلق الأول، مثل الشروتي، بالوحي بالمعنى الدقيق للكلمة، أي الكلام الإلهي بمعناه المباشر. في «الرسائل»، يظهر هذا الخلط بصورةٍ صريحة في عدة مناسبات، والفصل السابع من الرسالة الأولى إلى القورنثيين ذو دلالة خاصة في هذا الصدد.
١٢  نبيح لأنفسنا أيضًا أن نستشهد بمؤلفٍ كاثوليكي معروف هو بول فيليو، «بيَّنَّا أن طريقة النطق أو الإبانة عن العقيدة كانت في القرون الأولى هي «طريقة التعليم المتدرج»، وأنه كان في كل كلمة مسيحية ظاهرٌ وباطن. مهما كان رأي المؤرخين، لا جدال أننا نجد أثر «قانون السر» في أصل ديانتنا … لكي نفهم بوضوحٍ تعليم العقيدة المتعلقة بالوحي المسيحي، يجب علينا أن نسلِّم، كما أكدنا ذلك سابقًا، بوجود درجة مزدوجة من التبشير الإنجيلي. وقد ظل القانون الذي يحظر إفشاء السر لغير المريدين معمولًا به مدة تتيح لأكثر الناس عمًى وإصرارًا على المعصية أن يكتشف بذلك الآثار التي لا يمكن نكرانها. وقد كتب المؤرخ سوزومين معقبًا على مَجْمَع نيقية أنه يريد قبل كل شيء أن يروي تفاصيله «لكي يخلف للذرية نُصُبًا عموميًّا لأجل الحقيقة». وقد نصح له بأن يسكت عن «كل ما لا ينبغي أن يعلمه غير الكهان والمؤمنين». وقد ظل قانون السر معمولًا به بالتالي، في أمكنةٍ معينة، حتى بعد أن قام المجمع بإفشاء سر العقيدة … ويروي القديس باسيليوس في مصنفه المعنون في الإيمان الصحيح والبار، أنه يمتنع عن استخدام مصطلحات «التثليث»، و«الوحدة في الجوهر»، التي لا وجود لها في الأسفار المقدسة، رغم أن معانيها موجودة فيها … ويقول ترتوليان، خلافًا لبراكسياس: إنه يجب ألا نتكلم بصريح العبارة عن إلاهية يسوع المسيح، وإنه يجب أن ندعو الله بدلًا من الآب والسيد، أو الرب بدلًا من الابن … هذه الأقوال، المعتادة، ألا تبدو لنا دلائل على أنها كانت محل تطبيق قانوني متفق عليه، ما دمنا نجد هذه الصيغة من اللغة المتحفظة لدى جميع المؤلفين في القرون الأولى؟ كان نظام القبول الأوَّلي في المسيحية يتألف من جلسة امتحان يجري فيها قبول المؤهلين (الذين يطلبون المعمودية)، وكانت هذه الجلسة تدعى جلسة التمحيص، وكانت ترسم علامة الصليب على أذني المرشح مصحوبة بنطق كلمة «أفيتَّا»، وهي ما يعطي هذه المراسم اسم «الانتقاء بفتح الأذنين»، فالأذنان كانتا تُفتحان عند التلقي (قَبالاه)، على نمط تلقي الحقائق الإلهية … المشكلة بين الأناجيل المتماثلة (متَّى، مرقص، لوقا) وإنجيل يوحنا، لا يمكن أن تجد لها حلًّا إلا بالتذكير بوجود تعليم مزدوج، ظاهري وسماعي، تاريخي، ولاهوتي باطني … وهناك الأمثال أيضًا. وكان يشكل جزءًا من التراث الذي يسميه تيودوريه، في المقدمة على تفسيره لنشيد الأنشاد، «الميراث الأبوي»، وهو ما يعني نقل المعنى الذي ينطبق على تفسير الأسفار المقدسة … كانت العقيدة في جزئها الإلهي تتكون من الوحي الذي يُحتفظ به للمريدين بشرط «كتمان السر». وكان تانتزليوس يزعم أن أصل «قانون السر» يرجع إلى نهاية القرن الثاني … أما عمانوئيل شلستراته، قيِّم مكتبة الفاتيكان، فقد تبين له أنه يرجع إلى القرون الرسولية. والحق أن النهج الباطني في نقل الحقائق الإلهية وتأويل النصوص كان موجودًا لدى اليهود مثلما كان موجودًا لدى «الأمم»، ثم وُجِدَ أخيرًا لدى المسيحيين … ولو نحن امتنعنا عن دراسة الطرق المريدية للوحي، لم نصل أبدًا إلى رؤية التمثيل الذاتي العقلي للعقيدة (الدغماطيقا)، فاللِّيتُورجيات القديمة ليست معدَّة للمشاركة على نطاقٍ واسع، أما التعليم العبري فمهمَل تمامًا … لقد أحاط الرسل والآباء «جلال الأسرار» بالسرية والصمت، فقد سعى القديس ديونيسيوس الأريوباجي جاهدًا إلى استعمال كلمات غامضة، مثلما تكلف المسيح فسمى نفسه «ابن الإنسان»، «وكان يسمي «ارتياد الولادة الإلهية» بالمعمودية … لقد كان كتمان السر أمرًا مشروعًا جدًّا … فالأنبياء والمسيح نفسه، لم يكشفوا الأسرار الإلهية بوضوحٍ يجعلها مفهومة للجميع» (بولو فيليو، دراسات في الباطنية الكاثوليكية). ثم نبيح لأنفسنا أن نستشهد، على سبيل التوثيق، ورغم طول النص، من مطلع القرن التاسع عشر: «في الأصل، كانت المسيحية طريقًا باطنيًّا شبيهًا بطريق الوثنيين. فهذا كليمانت السكندري يهتف، وهو يتكلم عن هذه الديانة: «أيتها الأسرار المقدسة! أيها النور النقي! على ضوء المشاعل يسقط القناع الذي يحجب الله والسماء. إني أصبح قديسًا منذ أن أصبح مريدًا. الرب نفسه هو الكاهن الملقِّن، يضع خاتمه على المبتدئ فينيره، ولكي يثيبه على إيمانه، يوصي به أبدًا عند أبيه. هاكم فيض أسراري. تعالَوا إليَّ فتُسلَّم لكم.» يمكننا أن نحمل هذا الكلام على المجاز، لكن الوقائع تثبت أنه يجب تفسيره حرفيًّا. الأناجيل حافلة بالتحفظات المحسوبة، وبالإلماعات إلى الارتياد المسيحي، فيها نقرأ: «من له قدرة على الفهم فليفهم، ومن له أذنان للسمع فليسمع.» كان يسوع، وهو يخاطب الجموع، يستعمل الأمثال دائمًا، فكان يقول: «ابحثوا تجدوا، اقرعوا يُفتحْ لكم …» وكانت الاجتماعات تنعقد في سريةٍ تامة، ولا يُقبل فيها أحدٌ إلا بشروطٍ معينة. وما كان لأحدٍ أن يعرف العقيدة معرفة تامة إلا أن يجتاز ثلاث درجات من التعليم، وكان المريدون تبعًا لذلك على ثلاث فئات: مستمعون، ومرشحون أو مؤهلون، ومؤمنون. وكان المستمعون يشكلون نوعًا من المبتدئين أو الأغرار يجري إعدادهم لاستلام العقائد المسيحية عن طريق اتباع رياضات وتعليمات معينة. ويطلع المرشحون على جانبٍ من هذه العقائد بعد تلقيهم سر المعمودية أو «الولادة الإلهية» كما يسميها القديس ديونيسيوس في «المرتبيَّة الإكليريكية»، وقيامهم بسلسلةٍ من أعمال التطهير وفق ترتيب خاص، وعندئذٍ يصبحون «خُدامًا للإيمان» وينضمون إلى الكنيسة. أما المؤمنون فلا يُحجب شيء عنهم، كل شيءٍ يجري في حضورهم، ولهم أن يروا كل شيءٍ ويسمعوا كل شيء، ولهم أيضًا أن يحضروا اللِّيتُورجيا بكاملها، إلا أنهم كانوا يخضعون إلى فحصٍ دقيق لئلا يندس بينهم أبناء الدنيا أو مريدون من درجةٍ أدنى، وكانوا يتوسلون إلى معرفة بعضهم بعضًا برسم علامة الصليب. وكانت الأسرار على قسمين؛ الأول: ويدعى «قداس المرشحين»، ويستطيع أن يحضره أفراد هذه الفئة، ويتألف من كل ما يقال منذ بداية القداس حتى تلاوة الرمز. والثاني: ويدعى «قداس المؤمنين»، ويتألف من تحضير الذبيحة، ومن الذبيحة نفسها، ويتبع ذلك فعل النعمة. وعند البدء بهذا القداس ينادي الشماس بصوتٍ عالٍ: «الأشياء المقدسة للقديسين وعلى الكلاب أن ينسحبوا!»، وعندئذٍ يخرج المرشحون أو التائبون؛ أي المؤمنون الذين ارتكبوا فاحشةً تستحق التوبيخ، وتترتب عليهم الكفارة التي تقررها الكنيسة، ولم يكن بوسعهم أن يحضروا مراسم «الأسرار المروِّعة» كما يسميها كذلك القديس يوحنا كريزوستوم. والمؤمنون الباقون كانوا وحدهم يتلون رمز الإيمان حتى يصار إلى التأكد من أنهم جميعًا سبق لهم أن تسلموا السر، وعندئذٍ يمكن التحدث أمامهم صراحةً وبدون تورية عن أسرار الدين الكبرى، ولا سيما سر الأفخارستيا. وكانت تحاط عقيدة هذا السر والمراسم المتعلقة به بسريةٍ تامة، وكان إذا تكلم عنه العلماء في مواعظهم أو كتبهم فبتحفظٍ كبير أو إيماءٍ وتورية. ولما أمر ديوكليتيان المسيحيين بتسليم كتبهم إلى القضاة كان نصيب الذين امتثلوا للأمر خوفًا على أنفسهم من الموت أن طُردوا من جماعة المؤمنين ونُبزوا بالخيانة والردة. ولعلنا نستطيع أن نلمس لدى القديس أوغسطين مبلغ الألم الذي أصاب الكنيسة عندما وقعت الكتب المقدسة في أيدي الكفار. لقد كان من الأمور الفظيعة أن يدخل المعبد غيرُ مريدٍ ويحضر مراسم الأسرار المقدسة. وقد أشار القديس يوحنا كريزوستوم إلى حادثٍ من هذا القبيل في كتابٍ بعث به إلى البابا إنُّوسنت الأول، فقد دخل جنودٌ من البرابرة إلى كنيسة القسطنطينية ليلة الفصح. «النسوة المؤهلات» وكن يومئذٍ قد خلعن ملابسهن، اضطُررن إلى الهرب عاريات تمامًا، لم يمهلهن هؤلاء البرابرة حتى يتسترن، فدخلوا إلى حيث تُحفظ الأشياء المقدسة على أعمق ما يكون من الاحترام، ورأى بعضهم، وكان لمَّا يتسلم بعدُ أسرارنا، كل ما كان موجودًا من أقدس الأشياء. وقد كان من أثر تزايد عدد المؤمنين في القرن السابع أن عمدت الكنيسة إلى إقامة تنظيمات دنيا كان من بينها البوَّابون الذين خَلَفوا الشمامسة وأنصاف الشمامسة في حراسة أبواب الكنيسة. ولما كان العام ٧٠٠م تقريبًا، صار بإمكان جميع الناس أن يشهدوا اللِّيتُورجيا، ولم يبق من الأسرار المقدسة التي كانت تحاط مراسمها بالكتمان في الأزمنة الأولى سوى تلاوة صلاة القداس سرًّا. غير أنه، في الطقس اليوناني، ما زال القائم بالقداس الإلهي إلى اليوم يؤدي الطقس خلف ستار لا يُرفع إلا عند رفع كأس القربان، لكن في هذه اللحظة ذاتها، يتوجب على الحضور أن يركعوا أو يغضوا من أبصارهم حتى لا تقع أعينهم على السر المقدس.»
١٣  مثل هذا الفرق الذي يعارض «الإيمان» ﺑ «الشريعة» نجده داخل النطاق الصوفي نفسه: فمن قبيل «الإيمان» الحركات الرُّوحية المختلفة القائمة على ذكر اسم إلهي (الجابا في الهندوكية، البوذا نو سمريتي أو نيانفو ونِمبوتسو في البوذية، أو «الذكر» في الإسلام)، والمثال النموذجي على ذلك هو «شري شيتانيا» الذي رمى بجميع كتبه لكي يمحِّض نفسه للذكر «البهاكتي» للإله كِرِشنا، مما يشبه موقف المسيحيين الذين نبذوا الشريعة والأعمال باسم الإيمان والمحبة. ومثالٌ آخر هو ما نجده في البوذية اليابانية لدى مدرستي «الجودو» و«الجودو شنشو» اللتين تنهض تعاليمهما على «السوترا-أميثابا»، التي تشبه في بعض تعاليمها تعاليم البوذية الصينية وتنطلق مثلهما من «إرادة أميدا الأصلية»، التي تشبه في بعض تعاليمها تعاليم البوذية الصينية وتنطلق مثلهما من «إرادة أميدا الأصلية»، وتنبذان معًا التأمل والتنسك اللذين تعتمدهما المدارس البوذية الأخرى، ولا تمارسان غير ذكر اسم «أميدا» المقدس. فرياضة الزهد تحل محلها الثقة بالنعمة الآتية من «بوذا-أميدا»، وهي نعمة يمنحها في رحمته لمن يذكرونه، وبدون أي «تأهيل» من جانب هؤلاء، «ويجب أن يصحب ذكرَ الاسم المقدس إخلاصٌ قلبي وإيمان كامل بالخير من عند «أميدا» الذي يريد الخلاص لجميع الخلق. وقد أباح «أميدا» أن يستعاض عن الفضائل والعرفان بالإيمان بالقيمة الفادية في نعمته، رأفةً منه بأناس آخر زمان»، «نحن متساوون جميعًا نتيجة لإيماننا المشترك وثقتنا بنعمة «أميدا-بوذا»، كل مخلوق، مهما بلغ خطؤه، تُكتب له النجاة ويحف به نور «أميدا»، ويحصل على مكانٍ في «أرض السعادة» الأبدية التي لا نفاد لها، إن كان يؤمن باسم «أميدا-بوذا» ويلقي بنفسه، متخليًا عن هموم هذه الدنيا العاجلة منها والآجلة، بين اليدين المخلصتين الممدودتين بالرحمة إلى جميع المخلوقات، ويدعو باسمه مخلصًا ومن صميم قلبه.» «نحن نعلم اسم «أميدا» من عظات «شاكيا-موني»، ونعلم أننا نجد في هذا الاسم رغبة شديدة عند «أميدا» لتخليص جميع المخلوقات. أن نسمع هذا الاسم هو أن نسمع صوت السلام يخاطبنا «ثقوا بي فأنقذكم»، وهو كلام يخاطبنا به «أميدا» مباشرة. هذا المعنى هو ما اشتمل عليه اسم «أميدا»، فبينما جميع أفعالنا ملوثة بالدنس ولو طفيفًا، يأتي تكرار اسم «نامو-أميدا-بو» فعلًا مبرَّأً من كل دنس؛ لأننا لسنا نحن الذين نتلوه، بل أميدا نفسه هو الذي يجعلنا نكرره، إذ يهبنا اسمه العلم. بمقدار ما يكون إيماننا بنجاتنا بفضل أميدا يقظًا وقويًّا، بنفس المقدار يتحدد مصيرنا، وعندئذٍ نعود فنولَد في الأرض الطاهرة ويصبح كل منا بوذا، وعندئذٍ يغمرنا نور أميدا كليًّا وتصبح حياتنا ممتلئة، ونحيا برعايته العامرة بالحب، والفرح الذي لا يوصف، هبة لنا من بوذا.» «إرادة أميدا الأصلية هي أن يلقي في أرضه السعيدة كل من ينطق باسمه بإخلاصٍ مطلق. طوبى للذين ينطقون باسمه! قد يكون الإنسان مؤمنًا، لكن إن لم ينطق بالاسم فلا ينفعه إيمانه بشيء، وقد ينطقه آخر غير مفكر إلا فيه، لكن إن كان غير عميق الإيمان، فولادته غير حاصلة، لكن من يؤمن إيمانًا قويًّا بالولادة نتيجة يفضي إليها الذكر (غبوتسو) وينطق الاسم، فهو لا بد مولود في أرض الثواب.»
نستطيع أن نتعرف بلا عناء إلى التشابه الذي أردنا أن نَلفت الانتباه إليه: ليس أميدا إلا «الكلمة الإلهية». وأميدا بوذا، إذا صغناه بالمصطلح المسيحي قلنا إنه «الإله-الابن» أو «المسيح»، والاسم «يسوع المسيح» يساوي «بوذا-شاكيا-موني». ثم إن التمييز بين جيريكي (القدرة الفردية، أي الجهد المبذول بغرض التأهيل) وتاريكي (قدرة الآخر، أي النعمة بلا جهد)، من حيث إن هذه الأخيرة تشكل طريق «الجودو-شنشو» تمامًا، يشبه تمييز بولس بين «الناموس» و«الإيمان». ثم نضيف: إن كانت المسيحية الحديثة تعاني من درجةٍ من الانكفاء العقلي، فلأن ذلك يرجع إلى أن رُوحانيتها الأصلية هي من نوع «البهاكتي» (= الحب)، وإن «استظهار البهاكتي» (= جَعْلَها ظاهرية) لا بد وأن يؤدي إلى انكفاءٍ عقلي لمصلحة الجانب العاطفي.
١٤  تقدم لنا حياة المحب الكبير «شري راما كرشنا» مثالًا قوي الدلالة على طريقة «البهاكتي» في المعرفة. فبدلًا من الانطلاق من معطًى ميتافيزيقي يسمح له برؤية ما في الغنى من غرور، مثلما كان عساه أن يفعل واحدٌ من أتباع الطريقة الجنابادية، دعا الإلهة «كالي» إلى أن تعلمه وحيًا عن الوحدة بين الذهب والصلصال: «… كل صباحٍ من الأشهر الطويلة، كنت أمسك بيدي قطعةً من النقد وقطعة من الغَضَار، وأردد: الذهب صلصال والصلصال ذهب. لكن هذه الفكرة لم تُحدث أي تأثيرٍ رُوحي، لم يأت شيء يثبت لي حقيقة هذا التوكيد. لا أستطيع أن أتذكر كم شهرًا قضيت في التأمل حتى وجدتُني ذات صباح قاعدًا على ضفة ساقية أضرع إلى «أمِّنا» أن تنير مني القلب، وفجأة بدا لي الكون كله وقد ارتدى كساء يتألق ذهبًا … ثم ما لبث حتى اتخذ المشهد بريقًا كامد اللون، هو لون الصلصال الأسمر، أجمل كثيرًا من الذهب. وبينما أخذَتْ هذه الرؤيا تنتقش عميقًا في ذات نفسي، إذا بي أسمع كما لو أن زعيق أكثر من عشرة آلاف فيل يدوِّي في أذني: ما الصلصال والذهب إلا واحد عندك. استجيبت صلواتي ورَميْتُ في نهر الغانج قطعة الذهب والغضار.»
في سياق هذه الأفكار نورد هذه التأملات لواحدٍ من رجال اللاهوت الأرثوذكسي: «الدغماطيقا التي تعبر عن حقيقةٍ موحاة، وتبدو لنا سرًّا لا يُسبر له قرار، يجب علينا أن نعيشها في سياقٍ ينبغي علينا في خلاله أن نترقب تغيرًا عميقًا وتحولًا داخليًّا في رُوحنا، بدلًا من أن نتمثل السر على طريقتنا في الفهم، لكي نكون جديرين بالتجربة الصوفية.»
١٥  هذا التحقيق من اﻟ «لا-أنا» يفسر لنا الدور الهام الذي يلعبه التواضع في الحياة المسيحية، ويقابله «الفقر» في الإسلام، و«الطفولة» (الباليا) في الهندوكية. وهنا نتذكر رمزية الطفولة في تعليم المسيح.
١٦  يقول المعلم إكهارت: «لقد تحولنا كليًّا وصرنا إياه، وكما يتغير الخبز ويصير جسد المسيح في الأفخارستيا، كذلك أصير إياه حتى ليجعلني كينونته الواحدة لا مجرد مثيل، بالله الحي لا يبقى ثمة تمييز.»
١٧  نورد فيما يلي أيضًا هذه الفقرة من الفصل الأخير المعنون من الكتاب بعنوان «ليكن تطبيق العدالة غير مشمول كله بهذه القاعدة»: «أي صفحة في الحقيقة، بل أي كلامٍ من كلام السلطة الإلهية في العهدين القديم والجديد، لا تشكل قاعدة أكيدة جديدة للسلوك البشري، أو أي كتابٍ من كتب الآباء القديسين الكاثوليك لا يعلمنا عاليًا الطريق المستقيم الذي يوصلنا إلى خالقنا، زيادة على ذلك، محاضرات الآباء، مؤسساتهم وحيواتهم، وكذا قاعدة أبينا القديس باسيليوس، إن هي إلا وثائق أصلية للفضائل، إن لم تكن قدوة للرهبان الذين يعيشون كما ينبغي. أما نحن، المتحللين العاصين المهملين، فلدينا ما نحمرُّ منه خجلًا. كائنًا من كنت أيهذا الذي يسرع الخطى نحو الوطن السماوي قم أولًا بمساعدة المسيح وأكمل هذا المخطط الضعيف من القاعدة التي وضعناها فتصل برعاية الله إلى هذه القمم السامية من العلم والفضائل التي ذكرناك بها».
١٨  هذا «الصمت» يعادل تمامًا «النِّرفانا» الهندوكية والبوذية، و«الفناء» الصوفي. و«الفقر» الذي يتحقق فيه «التوحيد» إنما يرتد إلى نفس الرمزية. فيما يتعلق بالتوحيد الحقيقي أو «اندراج المنتهي في غير المنتهي»؛ وهذا عنوان كتاب للقديس غريغوار بالاماس، لنَذكرْ أيضًا: «شهادات القديسين التي تُظهر أن الذين ينالون حظهم من النعمة الإلهية يصبحون، طبقًا للنعمة، بلا أول ولا آخر»، وهذا يذكرنا بقولٍ نجده في عالم الباطن الإسلامي: «الصوفي غير مخلوق».
١٩  في ذهننا هنا ذكر «أميدا بوذا»، وصيغة «أوم ماني بادمي هوم»، وفيما يتعلق بالهندوكية ذكر «راما كرشنا».
٢٠  كذلك المسيح، بحسب المنظور المسيحي، ليس بشرًا في المحل الأول بل إله.
٢١  تشتمل المزامير على عدة إشارات إلى ذكر اسم الله: «أذكر اسم الرب بصوتي، ويسمعني من جبله المقدس.» «لكنني ذكرت اسم الرب: أيها الرب خلص نفسي.» «الرب قريب من كل من يذكرونه، ومن يذكرونه بصدق.» هناك فقرتان تحتويان في الوقت نفسه على إشارة إلى الأفخارستيا: «افتح فمك، أريد أن أملأه.» «الذي يجعل فمك سعيدًا حتى تعود شابًّا كالنسر.» وإشعيا: «لا تخف؛ لأني خلصتك، دعوتك باسمك، أنت لي.» «انشد الرب فتجده، ادعه فإنه قريب.» وسليمان في سفر الحكمة: «دعوت ورُوح الحكمة جاءت إليَّ.»
٢٢  في وثيقة القديس يوحنا الدمشقي هذه نجد كلمتي «دعاء» و«ذكر» تُستعملان للتعبير عن نفس الفكرة، ونحن نعلم أن الكلمة العربية «ذكر» تعني «الدعاء» في الوقت نفسه في البوذية أيضًا؛ «التفكير في بوذا» و«دعاء بوذا» يُعبَّر عنه بكلمةٍ واحدة هي «بوذا نو سمريتي»، وهي في الصينية «نيانفو»، وفي اليابانية «نِمبوتسو». من ناحيةٍ ثانية، يجدر بنا أن نلاحظ أن الأزيكياستيين والدراويش يستخدمون للدعاء أو الذكر نفس الكلمة؛ الأزيكياستيون يسمون تلاوة صلاة يسوع ﺑ «الشغل» travail، والدراويش يسمون كل ذكرٍ أو دعاء بالشغل Chughul أيضًا.
٢٣  ترتد هذه الصيغة دائمًا، وخصوصًا عند المتقدمين في الطريق الرُّوحي، إلى مجرد اسم يسوع: «أهم وسيلة في حياة الصلاة هي اسم الله الذي نذكره في الصلاة.» الزهاد، وكل الذين يحيون حياة الصلاة، منذ النساك الطوبائيين حتى الأزيكياستيين في جبل آثوس … يؤكدون بصفةٍ خاصة هذه الأهمية لاسم الله. خارج القداس، يوجد لجميع الأرثوذكس قاعدة للصلوات، مؤلفة من المزامير ومن مختلف الأدعية، أما الرهبان فتُعتبر هذه القاعدة ذات أهمية بالغة عندهم، لكن أهم شيء في الصلاة، وهو ما يكوِّن منها اللباب، هو ما نسميه «صلاة يسوع»: «أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله. لتكن لك رأفة بي أنا الخاطئ!» هذه الصلاة التي تتكرر مئات المرات، وحتى بلا نهاية، تشكل العنصر الجوهري لكل قاعدة صلاة الرهبانية، ويمكنها عند الاقتضاء أن تحل محل القداس وجميع الصلوات الأخرى، لما فيها من قيمةٍ شمولية. إن قوة هذه الصلاة لا تكمن في محتواها، وهو محتوى بسيط وواضح (إنها صلاة جابي المرور)، بل في اسم يسوع البالغ العذوبة. والزهاد يشهدون لما ينطوي عليه هذا الاسم من قوة حضور لله. بهذا الاسم لا يُدعى الله وحسب، وإنما يحضر في هذا الدعاء. يمكننا أن نؤكد هذا الحضور في كل اسمٍ من أسماء الله، لكن ينبغي النطق، على وجه الخصوص، بالاسم الإلهي والبشري ليسوع، الذي هو اسم عَلَم لله والإنسان. باختصار، إن اسم يسوع، الماثل في القلب البشري، يمده بقوة التأليه التي منحنا إياها «الفادي»، يقول القديس برنار: «إن اسم يسوع ليس نورًا وحسب، إنما هو غذاء أيضًا، وكل غذاء هو أيبس من أن تسوغه النفس إن لم يُتبَّل بهذا التابل، إنه تَفِهٌ جدًّا إن لم يُملَّح بهذا الملح، لا أجد لكتاباتك طعمًا إن لم أقرأ فيها هذا الاسم، ولا لخطاباتك مساغًا إن لم أسمع رنينه فيها، فهو عسل في فمي، ونغمة في أذني، وفرح في قلبي، وهو شفاء أيضًا. وأيَّما أحد منكم أثقل الحزن قلبه فليذق طعم يسوع بفهمه وقلبه، هو ذا نور اسمه الذي تنقشع به كل غيمةٍ وتصحو به كل سماء، وأيَّما أحد خُلِّيَ بينه وبين الخطأ وأشرف على اليأس، فما عليه إلا أن يذكر اسم الحياة، وعندئذٍ تعيد إليه الحياة حياته» (الموعظة ١٥ حول «نشيد الأناشيد»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤