موقع الإسلام من اليهودية والمسيحية

تظهر الوحدة الداخلية في الصيغ الدينية بطريقةٍ لها دلالتها، خصوصًا في العلاقات المتبادلة فيما بين الديانات الكبرى الثلاث التي تُعرَف بديانات التوحيد. وإن الأمر ليظهر على هذا النحو؛ لأن هذه الديانات هي الوحيدة التي تطرح نفسها أديانًا ظاهرية ولا تقبل أي نوعٍ من التنازل عن هذه الصفة. إلا أنه ينبغي لنا قبل كل شيء أن نميز بين ما يمكننا تسميته ﺑ «الحقيقة الرمزية» و«الحقيقة الموضوعية»، فنعرض على سبيل المثال لما للمسيحية والبوذية من مآخذ على الصيغتين التقليديتين اللتين نشأتا عنهما، ونعني بذلك اليهودية في الحالة الأولى، والهندوكية في الحالة الثانية. فهذه المآخذ صحيحة رمزيًّا بمعنى أن الصيغتين المرفوضتين ليستا هما المقصودتين بذاتهما وما تشتملان عليه من حقائق داخلية؛ بل لأن بعضًا من مظاهرهما العارضة والسلبية يرتد إلى انحطاطٍ جزئي أصاب هاتين الصيغتين.

فالبوذية عندما نبذت كتاب «الفيدا»، لقد فعلت ذلك لأن هذا الكتاب أضحى على عهد بوذا رمزًا لثقافةٍ عقيمة بلغت مبلغًا خطيرًا من السعة والانتشار. كذلك نَبْذُ بولس للشريعة اليهودية يجد تسويغه في الشكلانية الفريسية التي فقدت كل معنى من معاني الرُّوح، وأضحت هذه الشريعة منها الرمز والعَلَم.

لئن كان في وسع «وحي جديد» أن يغض من شأن قيم تقليدية ترجع إلى أصلٍ سابق، فلأنه مستقلٌّ عن هذه القيم، وليس بحاجةٍ إليها أبدًا، ما دام مكتفيًا بذاته، بما لديه من قيمٍ مكافئة. وإن هذه الحقيقة لتصبح في قلب الصيغة التقليدية الواحدة، من ذلك مثلًا الانشقاق الذي وقع بين الكنيستين اللاتينية واليونانية، وهو «انشقاق» عارض لا يستطيع أن يؤثر في الحقيقة الداخلية والجوهرية التي تجمع ما بين الكنيستين. غير أن هذا الانشقاق بين الكنيستين، شأنه كشأن الانشقاق الذي وقع في الإسلام ونشأ عنه الإسلام الشيعي، لا ينشأ عن إرادةٍ فردية أبدًا، وإن كانت الظواهر تشعرنا بأنه كذلك، إذ هو يكشف عن طبيعة الدين نفسه وقابليته للانقسام في الخارج لا في الداخل. فقد تحتاج رُوح الدين إلى تكيفٍ مغاير، تبعًا للممكنات الإثنية وغيرها، ويبقى هذا التكيف مع ذلك أمينًا دائمًا على صحة التقليد، خلافًا لما هو عليه الأمر في الزندقات أو الهرطقات التي تقسم الدين من الداخل والخارج في وقتٍ واحد، دون أن تستطيع مع ذلك أن تقسمه فعلًا من حيث إن الباطل لا يشكل جزءًا من الحق، وهي بدلًا من أن تكون مجرد زندقات منافية لمظاهر معينة من نفس الحقيقة على صعيد الشكل، تكون باطلة بحد ذاتها.

علينا أن نتناول الآن مسألة التجانس الرُّوحي والدوري فيما بين الأديان في مجملها: التوحيد، الذي يشمل اليهودية والنصرانية والإسلام؛ أي الديانات ذات الرُّوح الساميِّ، إنما يقوم أساسًا على فهمٍ دغماطيقي للوحدة (لا الثنائية) الإلهية. وعندما نقول إن هذا الفهم دغماطيقي، فلكي نبين أنه يصاحبه رفض لكل وجهة نظر أخرى، وإلا كان التطبيق الظاهري لهذا المفهوم ضربًا من المستحيل، بما هو المبرر الوحيد لكل عقيدةٍ دغماطيقية. لقد رأينا فيما تقدم أن هذا التقييد — وهو تقييدٌ ضروري رغم كل شيء من أجل حيوية الصيغة الدينية — هو في الأساس تحديد ملازم لوجهة النظر الظاهرية بما هي كذلك. بعبارةٍ أخرى، إن وجهة النظر الظاهرية تتميز بأنها لا تنطبق، في مجالها الخاص، على الصيغ المتعارضة ظاهريًّا، بينما تحتوي العقائد الميتافيزيقية الصرفة أو الصوفية على إباناتٍ لها مظهر التناقض، لكنها لا تتنافى ولا تتضارب بحال.١

يرتد تقليد التوحيد أصلًا إلى الفرع البدوي من المجموعة الساميَّة، وهو الفرع الذي تحدَّر عن إبراهيم ثم انشعب شعبتين تفرعت إحداهما عن إسحق والأخرى عن إسماعيل، لكن التوحيد لم يصبح يهوديًّا إلا ابتداء من موسى. والحق أن موسى هو الذي كان مدعوًّا، في الوقت الذي كان فيه التقليد الإبراهيمي يغمره الظلام لدى أبناء إسماعيل، إلى إعطاء التوحيد سنده المكين، عندما أوثق رباطه بشعب إسرائيل الذي أصبح بذلك الحارس المؤتمن عليه. لكن هذا التكييف، وإن كان ضرورة فرضتها العناية، كان لا بد له من أن يئُول إلى تقييدٍ للصيغة أو الشكل الخارجي، بسبب الميل إلى الخصوصية التي تلازم كل شعب. إذن، نستطيع القول إن اليهودية اعتنقت عقيدة التوحيد وجعلت منها شأنًا إسرائيليًّا بات معه الإرث الإبراهيمي، في هذه الصيغة الجديدة، ومنذ ذلك الحين، أمرًا غير منفصل عن جميع التكييفات الثانوية، وعن جميع الآثار الطقسية والاجتماعية التي اشتملت عليها الشريعة الموسوية.

والتوحيد، إذ انصب في مجرى اليهودية وتبلور فيها، اكتسب بذلك صفةً تاريخية من نوعٍ ما، إلا أننا يجب ألا نفهم من هذه الكلمة حصرًا معناها العام والخارجي؛ لأن مثل هذا الفهم قد يتعارض مع صفة إسرائيل المقدسة. وإن هذا الامتصاص للتقليد الابتدائي من قِبل الشعب اليهودي، هو الذي يسمح لنا بالتمييز خارجيًّا بين التوحيد الموسوي وتوحيد «الآباء» أو «الأسباط»، بدون أن يقوم هذا التمييز، وهذا بيِّن بذاته، على أساسٍ من العقيدة. ولقد استدعى هذا الطابع التاريخي الذي انطبعت به اليهودية، بحكم طبيعته بالذات، نتيجة ما كان من الممكن أن تكون ملازمة للتوحيد الابتدائي، على الأقل في نفس الصيغة، هي فكرة المِسيانية،٢ ولذلك بدت هذه الفكرة، بهذا الوصف، وكأنها مرتبطة بالموسوية أشد ارتباط.

لعل هذه الإيضاحات عن التوحيد الأصلي، وتكييفه الموسوي، وإلحاقه بالشعب اليهودي، وتجسيده بالفكرة المِسيانية؛ لعل هذا كله كافٍ لأن يسمح لنا بالانتقال إلى النظر في الدور العضوي الذي قامت به النصرانية في الدورة التوحيدية. ولذلك نقول إن النصرانية قد امتصت بدورها جميع الإرث العقدي في الشهادة المِسيانية، وكان لها ملء الحق بأن تفعل ذلك بما هي الخاتمة المشروعة للصيغة اليهودية، إن صح التعبير، فالمسيح، بمقدار ما كان يجب عليه أن يحقق في شخصه «الإرادة الإلهية» التي كان التوحيد نتيجتها، لم يكن أمامه بدٌّ من تجاوز الصيغة التي كانت تحول دون تحقيق رسالته على وجهها الأكمل. ولكي يستطيع إذابة صيغة ذات طابع انتقالي، كان لا بد له من أن يتمتع، بوصفه «المسيح»، بالسلطة الملازمة للتقليد الذي كان منه بمثابة الكلمة الأخيرة، ولذلك لم يكن بدٌّ من أن يكون أكثر من موسى وأقدم من إبراهيم. إن هذه الشهادات الإنجيلية لتكشف عن مواحدة «بالقوة القاهرة» بين المسيح والله، وتسمح لنا بالقول إن مسيحية تنكر إلهية المسيح لهي مسيحية تتنكر لسبب وجودها.

قلنا إن الصفة «الأواطارية» التي اتصف بها المسيح قد امتصت عقيدة التوحيد امتصاصًا كليًّا، وهذا معناه أنه لم يكن على المسيح أن يكون خاتم اليهودية التاريخية وحسب، وإنما أن يكون أيضًا، بهذه الصفة، سند التوحيد المكين وهيكل الحضور الإلهي. ومع ذلك فقد أدت هذه اليقينية التاريخية المفرطة بالمسيح، بدورها، إلى تحديد للصيغة التقليدية، تمامًا مثلما كانت عليه الحال في اليهودية عندما قام إسرائيل بدورٍ ترجيحي كان حتمًا على المسيح أن يقوم به في زمنٍ لاحق، وهو دور مقيد ومحدد بالضرورة في وجه تحقيق التوحيد على وجهه الأكمل، وإن هذا التقييد هو الذي اقتضى تدخل الإسلام الذي يبقى علينا أن نحدد مركزه ومعناه في الدورة التوحيدية.٣
لكن قبل أن نبدأ بهذا الموضوع، يتوجب علينا أن نتناول جانبًا آخر من المسألة التي عالجناها توًّا. يروي الإنجيل عن المسيح هذا القول: «بقي الناموس والأنبياء إلى يوحنا ومنذئذٍ يبشر بملكوت الله وكلٌّ يغصب نفسه إليه» (لوقا ١٦: ١٦). كذلك يروي أن حجاب الهيكل قد تمزق من أعلى إلى أسفل عند وفاة المسيح. إن دلت هذه الرواية على شيءٍ فعلى أن مَقدَم المسيح سوف يكون خاتمة للموسوية. وقد يُعْتَرَضُ على هذا بالقول إن الموسوية لا تُنْقَضُ بما هي كلام الله، و«التوراة باقية إلى الأبد، لا يضاف إليها شيء ولا يُحذف منها شيء» كما يقول ابن ميمون. إذن، كيف نستطيع التوفيق بين نَسخ الموسوية، أو بالأحرى بين الدورة المجيدة في وجودها الأرضي، وبين أبدية الوحي الموسوي؟ قبل كل شيء، يجب علينا أن نعلم أن هذا النسخ، إن كان حقيقيًّا على صعيده الخاص، ما هو غير نسخ نسبي، بينما حقيقة الموسوية الداخلية مطلقة، بما هي حقيقة إلهية، وإن هذه الصيغة الإلهية هي التي تتعارض اضطرارًا مع نسخ الوحي، ما دامت صيغة هذا الوحي العقدية والطقسية لم يتناولها النسخ، الأمر الذي ينطبق على الموسوية، إذ لولا ذلك لما كان للمسيح أن يتوافق معها.٤ إن قيام المسيح بنسخ الموسوية قد جاء تعبيرًا عن «المشيئة الإلهية»، لكن ديمومة الموسوية دوامًا غير ملموس هو من صعيدٍ أعمق، بما يكشف عن «الجوهر الإلهي» الذي لا تشكل هذه المشيئة منه غير جانب خاص، مثلما لا تغير الموجة من طبيعة الماء بما هي مظهر خاص منه. إن المشيئة الإلهية التي تجلت في المسيح لا تؤثر إلا في شكلٍ خاص من الموسوية، ولا تؤثر في صفتها «الأبدية»، وتبعًا لذلك يبقى الحضور الإلهي ماثلًا في إسرائيل، رغم أن حضوره الحقيقي (شكيناه) قد غادر «قدس الأقداس» المتمثل في هيكل أورشليم، صحيحٌ أنه لا يبقى دائم الاشتعال كالنار المقامة في المذبح، لكنه يظل كالنار الكامنة في حجر الزناد لا تظهر إلا دوريًّا أو عرضيًّا، لكن من دون أن تبقى دائمة الاشتعال.

كان التوحيد في اليهودية والمسيحية يتألف من صيغتين كُبريين متناقضتين قام الإسلام، رغم مناقضته لهما، فأدمجهما بنوعٍ ما، فيما هو يحل هذا التناقض في تركيبٍ كان خاتمة للتوحيد في امتداده وكمال تحققه، يعزز هذا مجرد كون الإسلام المظهر الثالث من هذا التيار التقليدي، أي إنه يمثل العدد «٣»، وهو عدد الانسجام، بينما يمثل العدد «٢» فكرة التناوب، فلا يكتفي بذاته تبعًا لذلك، فإما أن يرتد إلى الوحدة بامتصاص أحد الحدين للآخر، وإما أن يعيد إنشاء هذه الوحدة بإنتاج وحدة جديدة، هاتان الطريقتان من تحقيق الوحدة تشكلان حقيقة الإسلام الذي يقدم الحل للتناقض اليهودي-المسيحي الذي ينتج عنه بمعنًى ما من جهة، وينفيه بالرجوع إلى التوحيد الإبراهيمي الصرف من جهةٍ ثانية. على صعيد هذه الأفكار، يمكننا تشبيه الإسلام بيهوديةٍ لا تنبذ المسيحية، أو بمسيحية لا تتنكر لليهودية، لكن إن كان الإسلام يوصف نتاجًا لليهودية والمسيحية، فإن موقعه هو خارج هاتين الديانتين من حيث إنه يتوحد بأصلهما، ينبذ «التطوير» اليهودي من جهة، ويرفض «التجاوز المسيحي» من جهةٍ ثانية، ويعيد الأهمية المركزية التي كان اكتسبها الشعب اليهودي أولًا ثم المسيح ثانيًا إلى شهادة التوحيد الأساسية القائمة على وحدانية الله. ولكي يستطيع الإسلام أن يتجاوز «المِسيانية»، تعين عليه أن يضع نفسه في وجهة نظر أخرى، وأن يُرجع هذه المسيانية إلى وجهة نظره الخاصة، من هنا إدراجه المسيح في قائمة الأنبياء التي تبدأ بآدم وتنتهي بمحمد. وغني عن البيان أن الإسلام قد ظهر إلى الوجود — شأنه في هذا كشأن الديانتين السابقتين — بواسطة تدخل إلهي مباشر من «الإرادة الإلهية» التي كان التوحيد نتاجًا لها، وأنه كان على النبي، بناء على إمكانيةٍ خاصة وطريقة تحقيق مناسبة لها، أن يعكس الحقيقة المِسيانية الجوهرية والملازمة للتوحيد الأصلي أو الإبراهيمي. يمكننا تسمية الإسلام بمعنًى ما «رد الفعل» الإبراهيمي على تخصيص التوحيد بإسرائيل من جهة، وعلى تخصيصه بالمسيح من جهةٍ ثانية. ولئن كانت هاتان الوجهتان من النظر لا تتنافيان ميتافيزيقيًّا، يتعذر على الطريقة الدغماطيقية أن تحققهما معًا، ويتعذر عليها أيضًا — بحكم طبيعتها — أن تشهد لهما إلا بواسطة عقائد متناقضة تُقْسَم من التوحيد الذي لا يتجزأ مظهره الخارجي.

لئن كانت اليهودية والمسيحية تمثلان، في ظل علاقة معينة، جبهة موحدة بإزاء الإسلام، فإن المسيحية والإسلام يتعارضان بدورهما مع اليهودية، وذلك في جنوحهما إلى تحقيق عقيدة التوحيد على وجهها الأكمل. لكننا رأينا هذا الجنوح، في الصيغة المسيحية، قد حد منه رجحان فكرة «المِسيانية» التي لا يمكنها أن تكون غير فكرة ثانوية بالنسبة إلى التوحيد الخالص. فقد حطم العنصرَ التشريعي في اليهودية «استظهارُ» المسيحية، وهو استظهار ضروري ومشروع، للمفاهيم الباطنية، إذ امتصه «الماوراء» إن صح التعبير، طبقًا لصيغة تُحِلُّ النظام الرُّوحي محل النظام الاجتماعي، بما أن أسرار الكنيسة ليست غير التشريع الذي يتوافق مع هذا النظام. لكن، بما أن هذا التشريع الرُّوحي لا يجيب على المتطلبات الاجتماعية، لم يكن بد من اللجوء إلى عناصر تشريعية متباينة، وهو ما خلق ازدواجية ثقافية كانت شؤمًا على العالم المسيحي. أما الإسلام فقد أعاد تشييد شريعة مقدسة من أجل «هذا العالم»، وبذلك عاد إلى الانضمام إلى اليهودية، فيما هو يعيد توكيد العالمية التي كانت أكدتها المسيحية من قبل عندما تولت كسر قشرة الشريعة الموسوية.

لعلنا نستطيع القول أيضًا إن التوازن بين المظهرين الإلهيين من النقمة والرحمة هو ما يشكل جوهر الوحي المحمدي الذي يعود فينضم بواسطته إلى الوحي الإبراهيمي. أما الوحي المسيحي فإن كان أثبت تفوقه على الوحي الموسوي؛ فلأن الرحمة «سابقة» مبدئيًّا ووجوديًّا على الغضب، كما تشهد بذلك الكتابة على عرش الله: «إن رحمتي سبقت غضبي.»٥ فالتوحيد الموحى به إلى إبراهيم يتمتع بتوازنٍ تام بين الظاهر والباطن، لكن على حالٍ من عدم التمايز الفطري أو البدئي، بالرغم من أن الأمر لا يتعلق في جميع الأحوال إلا ببدئيةٍ ذات صلة بالأديان من الأروقة الساميَّة وحدها. بموسى، أصبح الظاهر تقليدًا، أي أنه عيَّن له الشكل دون أن يمس منه الجوهر، وبالمسيح، أصبح الباطن بنوعٍ ما تقليدًا، وبمحمد، أُعيدَ تشييد التوازن الأولي، وبه كانت خاتمة دورة الوحي التوحيدي. هذا التناوب من الوحي التوحيدي المتكامل إنما ينبع من طبيعة التوحيد نفسه، وتبعًا لذلك لا يمكننا أن نعزوه إلى تقلبات الحوادث فقط.٦ فالحرف والرُّوح، إذ فهمناهما تركيبيًّا في التوحيد الفطري أو الإبراهيمي، لا بد لهما من أن يتبلورا على نحوٍ من الأنحاء تتابعًا وتمايزًا، طوال مدة دورة الوحي التوحيدي، من حيث إن الإبراهيمية لم يكن لها بد من أن تعبر عن التوازن بين الرُّوح والحرف، لكن على نحوٍ غير متمايز، فإن كانت الموسوية هي الحرف، والمسيحية هي الرُّوح، كان الإسلام هو التوازن المميز بين هذين المظهرين من الوحي.

كل دين هو «تكييف»، وبما هو تكييف، فهو تحديد، ولئن صح هذا على التقاليد الميتافيزيقية الصرفة، إن من باب أولى أن يصح على العقائد الدغماطيقية التي تمثل تكييفًا يتناسب مع عقلياتٍ أكثر منها محدودية. وإنما يجب البحث عن هذه التحديدات في أصول الصيغة التقليدية، والكشف عنها في مجرى تطورها وعندما تصير على أظهرها وهي عند نهايتها، أي عندما تصير عونًا على الوصول إلى هذه النهاية نفسها. ولئن كانت هذه التحديدات ضرورية لحيوية الأديان، إلا أنها تبقى مع ذلك تحديدات، ويترتب عليها كل ما يترتب على التحديدات من آثار. وما البدع نفسها إلا آثار غير مباشرة من هذه الضرورة التي تحدُّ من رحابة شكل التقليد، ويزداد حدُّها له كلما أوغل التقليد سيرًا في عصر الظلام، ولا يمكنه أن يكون غير ذلك حتى بالنسبة إلى الرموز المقدسة، لأنه ما ثمة إلا الجوهر غير المنتهي الأبدي غير المتشكل، الذي هو وحده النقي إطلاقًا، ووحده الذي لا يطاله الإدراك، ووحده الذي ينبغي لاستعلائه أن يتجلى في انحلال الشكل، بمثل ما يتجلى إشعاعه عبر هذا الشكل.

١  أن يجري تفسير معطيات معينة من الكتاب المقدس من طرفٍ واحد، هو طرف أهل الظاهر، دليل على أن فكرة المصلحة ليست غريبة عن أفكارهم التحديدية، كما بيَّنَّا ذلك في الفصل الذي عقدناه للظاهرية. فالظاهرية تقبل بالتفسير الباطني للوحي كلما جاء معززًا لمذهبهم، وترفضه كلما كان مخالفًا للدغماطيقية الخارجية التي تتستر خلفها فردانية عاطفية. هكذا تلجأ إلى الاستفادة من الحقيقة المسيحية، التي ما هي غير باطنية يهودية، لكي تُدين شكلانية مفرطة في اليهودية، لكنها تُغفل أمر تطبيق هذه الحقيقة نفسها على جميع الأصعدة فلا تسلط نورها على كل شكلٍ بلا استثناء، ومنها شكلها هي بالذات، أو نقول أيضًا، بحسب رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (٣: ٢٧، ٤: ١٧): الإنسان ينجو بالإيمان لا بالأعمال، وبحسب رسالة القديس يعقوب (٢: ١٤–٢٦): الإنسان ينجو بالأعمال لا بالإيمان وحده. الاثنان يتخذان من إبراهيم مثلًا، فلو أن هذين القولين صادران عن دياناتٍ مختلفة، أو حتى عن فرقتين كل منهما تعتبر الأخرى منشقة على العقيدة الصحيحة الواحدة، لَبذَل علماء اللاهوت في كلٍّ منهما كل جهودهم لإثبات أن هذين القولين متناقضان، لكن بما أنهما صادران عن نفس الديانة، تُبذل الجهود، على النقيض من ذلك، لإثبات الاتساق فيما بينهما، لماذا لا نقبل بغير الوحي الذي ننتسب إليه؟ سوف يقال لنا إن «الله لا يتناقض مع نفسه»، بالرغم مما في هذا القول من مصادرة على المطلوب. نحن أمام واحدٍ من اثنين: إما أن نسلم بأن الله يتناقض مع نفسه، وعندئذٍ لا نؤمن بأي وحيٍ مهما كان، وإما أن نسلم، ما دام لا سبيل لنا لأن نفعل غير ذلك، بأن عند الله مظاهر متناقضة، وعندئذٍ لا يعود من حقنا أن ننبذ وحيًا غريبًا لمجرد أنه بادئ الرأي يتناقض مع الوحي الذي نؤمن به بدهيًّا.
٢  مجيء المسيح في آخر الزمان. والمِسيانية تقابلها المَهدوية في الإسلام. (المترجم)
٣  الرؤية التي أوضحناها لتوِّنا تذكرنا بما كتبه يواكيم فلور الذي ينسب لكل أقنومٍ من الأقانيم الثلاثة رجحانًا خاصًّا لجزءٍ معين من الدورة التقليدية في المنظور المسيحي؛ فالآب للعهد القديم، والابن للعهد الجديد، والرُّوح القدس للمرحلة الأخيرة من الدورة المسيحية التي بدأت مع الرهبنات التي أسسها سان فرانسوا وسان دومينيك. نستطيع في يسرٍ أن نرى ما في هذه المطابقات من قلة اتساق. إن صاحب هذه النظرية يجهل، في الواقع أو من أجل الشكل، وجود الإسلام الذي ينطبق تمامًا، بحسب العقيدة الإسلامية، على هذا العهد من عهود الفارقليط، لكن الذي لا يقل يقينًا عن ذلك أن العصر الذي وضعه يواكيم فلور تحت التأثير الخاص للرُّوح القدس قد شهد في الغرب تجديدًا في الحياة الرُّوحية.
٤  يهمنا أن نبين أن انحطاط الباطنية اليهودية في زمن المسيح (نيقوديموس من أحبار اليهود كان يجهل سر البعث) قد أتاح لنا أن نعتبر الموسوية في مجملها، وبالنسبة إلى الوحي الجديد، ظاهرية صرفة، وبالتالي كثيفة بنوعٍ ما، وهي طريقة من الرؤية ليس لها سوى قيمة عارضة ومؤقتة؛ لأنها محدودة بما هي في أصل المسيحية. مهما يكن من أمر، فإن الشريعة الموسوية ما كان ينبغي لها أن تشترط الوصول إلى الأسرار الجديدة كما قد تشترط ذلك ظاهرية بالنسبة إلى باطنيةٍ تكملها، مما اقتضى قيام ظاهرية أخرى تشكلت من أجل الديانة الجديدة، لكن مع تقلباتٍ من التكييفات والمداخلات ظلت باقية على مدى قرون. وفي مقابل ذلك، قامت اليهودية من جهتها، فأعادت إنشاء ظاهريتها وأعادت تكييف نفسها في الدورة الجديدة من تاريخها «الدِّياسبُورا». ويبدو أن ثمة سياقًا متناسبًا نوعًا ما مع سياق المسيحية، وهذا بفضل الفيض الغامر من الرُّوحانية التي تمثلت بظهور الكلمة المسيحية، إذ خضعت جميع العناصر المجاورة لوسط هذا الظهور لتأثيراتٍ مباشرة أو مداورة، صريحة أو ضمنية. وهكذا حدث في القرن الأول من الدورة المسيحية أن تلاشت الأسرار القديمة، إذ امتصت الباطنية المسيحية نفسُها جزءًا هامًّا منها من جهة، كما حدث إشعاعٌ للقوى الرُّوحية في تقاليد البحر المتوسط كان منه الأفلاطونية الحديثة على سبيل المثال، من جهةٍ ثانية. أما اليهودية فقد كان وُجِدَ فيها حتى أيامنا هذه تقليد باطني حقيقي، لا فرق أن يكون الزمن الحقيقي الذي حدث فيه هذا التقليد بعد ظهور المسيح والدورة التقليدية الجديدة المتمثلة بالدِّياسبُورا، ولا فرق إن كان متأخرًا ذلك الدور الذي كان من الواضح أنه مشابهٌ لدور الإسلام بالنسبة إلى اليهودية مثلما هو مشابه لدوره بالنسبة إلى المسيحية.
٥  اقتبس المؤلف هذا الحديث القدسي وأدرجه بلفظه العربي لكن بالحرف اللاتيني. (المترجم)
٦  إن صح القول أن عقلية شعوب الغرب، بما في ذلك شعوب الشرق الأدنى، أكثر محدودية من غالبية شعوب الشرق، فإن هذا راجعٌ إلى إقحام العنصر العاطفي على الميدان العقلي، ومن هنا ميل هذه الشعوب إلى عدم رؤية الأشياء المخلوقة إلا من هذا الجانب، جانب «الواقعة الخام»، وعدم استعدادها للتأمل الحدسي للجواهر الكونية والشمولية التي تومئ لنا عن نفسها من خلال الصورة، وهذا يفسر لنا ضرورة الاعتقاد بألوهيةٍ مجردة تفاديًا لخطر الوقوع في الوثنية والحلول. إن الأمر يتعلق هنا بعقليةٍ آخذة في الاتساع شيئًا فشيئًا لدى جميع الشعوب، منذ قرونٍ خلت ولأسبابٍ ذات طبيعة دورية، وهذا ما يسمح لنا أن نفسر السهولة النسبية التي يتم بها الانتقال من دينٍ إلى آخر لدى شعوب المدنية غير الدغماطيقية من جهة، أي الميتافيزيقية والميثولوجية، كما يسمح لنا أن نفهم تدخل العناية الإلهية التي ساعدت على انتشار الإسلام في قلب هذه المدنيات، من جهةٍ ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤