الإيمان والإسلام والإحسان

ينهض الدين الإسلامي، أو الإنسان المسلم بتعبيرٍ أدق، على ثلاثة عناصر وأسس: أولها الإيمان، ومركزه القلب. وثانيها الإسلام، وهو الاستسلام أو الانقياد للإرادة الإلهية، وهو موقف يشمل كلية الإنسان، بما في ذلك حده الجسماني، وعلى الأخص جوارحه وأفعاله.١ وثالثها الإحسان (والكلمة هنا تنطوي على معنى «العمل» و«الحسن» أو «الجمال»)، ويتكون من ارتقاء العنصرين المتقدمين ارتقاءً نوعيًّا. وهذان العنصران — الإيمان والإسلام — يدخلان، بدئيًّا a priori، وبحسب التفسير العادي، في نطاق «الشريعة»، أي قانون الظاهر. أما الإحسان، فيتواحد في لغة الصوفية بالتصوف نفسه، أي بعلم الباطن، فهو من العنصرين الآخرين — الإيمان والإسلام — حياتُهما التي تسري فيهما وتُعمِّقهما، وعندئذٍ لا يُنظر إليهما في اعتبارٍ يكشف عن ميدان نشأتهما — وهو ميدان الظاهر٢ — ما دامت إمكانية هذا الميدان محدودة بحدود الإنسان. فالظاهر، إذ يلح على الإيمان والإسلام بما هما منه العمودان والمحتوى في الوقت ذاته، لا يقدِّم للإحسان غير تعريفٍ ظاهري واحد،٣ ولا يبحث في طبيعته. وهنا يتدخل التصوف، بما هو علم الإحسان نفسه، وبما هو نظرية ومنهج رُوحيان، فضلًا عن كونه عقيدة ميتافيزيقية، وبذلك يكون الإحسان همزة الوصل بين تدين العموم والحكمة العملية.

قبل أن نعود إلى الإحسان، لننظرْ في الإيمان والإسلام في معناهما العميق: فالإيمان، مبدئيًّا، هو القبول بفكرة، لكن الانتساب إلى عقيدةٍ دينية يستوجب أن يتحقق في الأفراد بما هم جماعة. وفي هذا الانتساب الحدس والعقل والعاطفة والخيال، أي أن الانتساب سلبي جزئيًّا، وسلبيته هذه مستمدة من سلبية الجماعة. لكن الإيمان، بالمعنى الرُّوحي صرفًا، لا يبقى شعورًا غير مباشر بالإلهي أو مجرد شعور رمزي به، بل يغدو نوعًا من المقاسمة المباشرة والفاعلة التي يمنحها الإلهي للمؤمن، أي إننا هنا لسنا بإزاء إيمان بسيط بالله، بل بإزاء اعتراف من العلم الإلهي نفسه، إن كان لنا أن نعبِّر كذلك.

من ناحيةٍ أخرى، إذا اعتبرنا الإيمان — بالمعنى العادي للكلمة — فضيلة، وهذا يدل على أنه ليس شأنًا من شئون العقل، فغنيٌّ عن البيان أن «اليقين» الذي تنطوي عليه المعرفة — بما هي تحمل ثمرتها في ذاتها — لا يمكنه أن يكون فضيلة تستحق الثواب بأكثر مما يمكن أن تكون كذلك بداهة نكتسبها بواسطة الحواس. لكن هذا لا يجرد المعرفة من صفتها «الفارقليطية» والتطهيرية والمنجِّية، وهي صفة يتضمنها مفهوم «الإيمان الذي ينجِّي». على كل حال، لا بد للمنظور الظاهري — وهو منظور أخلاقي بصفةٍ أساسية — من أن يرى في الإيمان نوعًا من الثواب، في معزلٍ عن الفضل أو اللطف grâce. وليس ما يضفي على الإيمان صفة الثواب والقيمة الأخلاقية إلا أن ينتفي عن محل الإيمان سببه الموضوعي الكافي، إذ ليس أصلح ولا أفضل من امرئٍ يؤمن بما لا يرى٤ على حين أن المعرفة تحمل مبرر وجودها في نفسها، أو هي هي مبرر وجودها. لكن هذا لا يعني أبدًا أن تكون المعرفة في جميع الظروف والأحوال ذات صفة مباشرة، فالمعرفة مراتب أو درجات، وهي إن لم تكن كذلك فقدت صفتها التي تميزها من جوهرها النهائي، ولعل التفاوت أو الاختلاف في مراتب الصوفية من الأمور المعروفة جدًّا. لكن، إذا كانت المعرفة ذات صفة غير مباشرة من بعض الوجوه، وهي في هذا تستوي مع الفهم النظري مثلًا، فصفتها غير المباشرة هذه مغايرة للإيمان مغايرة عظيمة، بمقدار ما ننظر إلى الإيمان في مظهره العادي والنفسي. كل معرفة فهي موضوعية وساكنة بحكم حدها بينما الإيمان ذاتي ومتحرك بما هو وظيفة عقلية من الحب.
ولعلنا نستغرب أن يصطلح الدين الإسلامي على «الإسلام»، لا على الإيمان، مفهومًا له، لكن استغرابنا ما يلبث أن يزول عندما نعلم أن تطبيق الإسلام أوسع من الفكرة التي تنطوي عليه، وأن الفكرة ليست أوسع من تطبيقها إلا من حيث مظهرها فقط. ففي الإسلام نميز ثلاث مراتب؛ أُولاها: الإسلام الطبيعي أو الفطري، وهو الموافقة الضرورية والسلبية وغير الشعورية الكامنة في الأشياء مع سببها الأُنطولوجي، ويكون بمقتضاها كل حادثٍ (مخلوق) مسلمًا. والثانية: إسلام القصد والإرادة والحرية، ويُترجَم إلى موافقةٍ تعبدية وأخلاقية مع الشرع المقدس، وهذه الموافقة تعني الذين أسلموا لله بإرادتهم، وهم عامة «المسلمين»٥ فهؤلاء هم المسلمون، ولو جوَّزنا لأنفسنا أن نتوسع في تطبيق هذه الفكرة تطبيقًا لا يقتصر على المجال الإسلامي المعروف قلنا إن المسلمين هم جميع الناس بالقدر الذي يتمسك فيه كل منهم بدينه. والثالثة: الإسلام الرُّوحي، وهو الإسلام الذي لا يقتصر على جماعةٍ معينة بما هي كذلك، بل يشمل المسلمين ما داموا متحدين بالمحبة الإلهية، إن إسلامهم جاء ثمرة لتحققهم الرُّوحي بإرادةٍ منفصلة عنهم بعض الانفصال، وهم من أنفسهم شريعة أنفسهم. فالصوفي، وهو مسلمٌ في كل كيانه وعن معرفةٍ تامة بالسبب، إنما يحقق الإسلام الكوني L’Islam cosmique، الذي هو أشبه كمالًا بالإسلام الطبيعي أو الفطري L’Islam naturel، لكنه إسلام فاعل وشعوري٦ يحتوي في طيَّاته احتواء ظاهرًا على جميع أوجه الموافقة (الإسلام) الممكنة. وهذه الحالة متأتِّية من اندغامٍ أو تداخل فيما بين الإسلام الإرادي عند الإنسان المسلم وبين الإسلام الطبيعي الكامن في كل شيء. في هذه الحالة تطَّلع النفس على التجلِّي الكلي وتستوحي منه على نحوٍ من الأنحاء، كما يدخل التجلِّي الكلي في النفس، إن جاز التعبير، ويصبح «إسلامها». بعبارةٍ أخرى، يصبح الإسلام الطبيعي أو الكوني إسلامًا ساريًا في النفس الإنسانية، ومالكًا للوعي رمزيًّا، متوسلًا إلى ذلك بالإسلام الرُّوحي الذي تحقق في الصوفي. بذلك يكون العالم معتمدًا على الصوفي، ويصبح الصوفي شريعة العالم، بما أن الصوفي شريعة نفسه، ومن ناحيةٍ أخرى، يصبح الصوفي ساريًا في العالم بواسطة الإسلام الكوني، ويصبح إسلامه الخاص متواحدًا مع الضرورة العميقة الكامنة في الأشياء.

بقي علينا أن نتكلم على الحالة الثالثة وهي الإحسان، ولعلنا نستطيع أن نفعل ذلك، مستعينين بهذا الثلاثي: الشريعة والطريقة والحقيقة. فالشريعة تشتمل على الإيمان والإسلام، بما هما عنصران دينيان واجتماعيان، وبالتالي على كل ما ينطويان عليه على الأصعدة الدغماطيقية والعبادية والتشريعية. والطريقة تتواحد بالإحسان. ثم الحقيقة، وهي مبرر وجودهما (الشريعة والطريقة) وغايتهما العظمى. فالعنصران الأخيران من الثلاثي؛ أعني الطريقة والحقيقة، هما — تبعًا لذلك — من ميدان الباطني. أما الشريعة فهي المساهمة غير المباشرة في عنصر الحقيقة، وأما الطريقة فتصل إحداهما بالأخرى متوسلة إلى ذلك ﺑ «المعرفة»، وبذلك يكون «الإحسان» هو الطريقة والحقيقة والمعرفة والمحبة. والجدول التالي يوضح لنا هذه العلاقات المختلفة:

(١) الإيمان (١) الشريعة
(٢) الإسلام (٢) الطريقة (الباطن) المعرفة
(٣) الإحسان (٣) الحقيقة المحبة

ولو نظرنا في مقامَي الإحسان؛ وهما المعرفة والمحبة، لرأيناهما يترجمان على نحوٍ من الأنحاء — تعاقبًا — الإيمان والإسلام. فالمعرفة إيمان «دبَّت فيه الحياة» في تجاوزه للحرف وصيرورته «رُوحًا»، والمحبة إسلام «دبَّت فيه الحياة» بمعنى مماثل. الإسلام السكوني يصبح «مقاسمة»، أو «مساهمة» دينامية؛ لأن الله «محبة». والمعرفة النسبية تنفصل عن المحبة النسبية، كما ينفصل الإيمان عن الإسلام، لكن المعرفة المطلقة تتواحد بالمحبة المطلقة، فتكون المعرفة والمحبة وجهين من حقيقةٍ واحدة، كما أن الحقيقة والكمال كينونة واحدة.

في العالم البشري الأصغر، يقوم العقل بدور «المبدأ»، ويقوم الإنسان بدور محل التجلِّي، وما الإحسان إلا التحقق الواعي الفاعل المباشر الذي تتولاه العلاقات القائمة بين المبدأ «والتجلِّي»، فهو، من جانبٍ، تقديس للمخلوق، ومن جانبٍ آخر، امتصاص في «الثابت».

١  الجوارح هي اليدان والرجلان والسمع والبصر واللسان والمعدة وأعضاء التناسل.
٢  كل عنصرٍ يكشف عن هذا الميدان فهو قابل للانتقال إلى ميدان الباطن، على حين أن العكس غير ممكن دائمًا، فثلاثي الإيمان والإسلام والإحسان هو من الدين، وهو اصطلاحٌ لا يعيِّن التدين العام وحسب، وإنما يعيِّن الباطن أيضًا. فالتصوف لا يتميز من الدين بل من الشريعة بما هي مظهر خارجي من الدين.
٣  الحد الظاهري للإحسان يرجع إلى المعنى الحرفي لهذا الحديث: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك.»
٤  الكلمة الإنجيلية: «طوبى لمن لم يروا وآمنوا» ترتد إلى الاستعداد الأساسي في النفس المتأملة للتسليم بدهيًّا بما فوق الطبيعي.
٥  رغم أن اصطلاح «المسلم» يدل في معناه العام على من «أسلموا» لله؛ أي على «المسلمين»، نجد في المقابل اصطلاح «المؤمن» يدل على جانبٍ أعمق؛ كل الناس يجب أن يكونوا «مسلمين»، لكن لا يحق لأحدٍ أن يزعم أنه «مؤمن»، وأقل من ذلك أن يزعم أنه «محسن». الصوفية يعتبرون أنفسهم المسلمين بامتياز. وكلمات مثل «كاثوليكي» (وتعني العالمي) و«الأُرثوذكسي» (وتعني المستقيم الرأي)، شأنها كشأن جميع النعوت التقليدية، قابلة لنفس التطبيق العالمي الذي يقبله اصطلاح «المسلم» و«المؤمن».
٦  كذلك إن الكمال السلبي للتراب يمكنه، بسببٍ من سكونيته، أن يقارَن بالكمال الإيجابي الذي يتصف به «العقل» الثابت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤