الفصل السادس
لم أسمع قط بوجود شخص يحلِّل إلحاده أو مذهبه في وحدة الوجود بمثل تلك الحرية والصراحة. وما يساور أوتو من آراء كامدة لا تُرضيه فأمرٌ تعرفه، ولا مِراء في إخلاصه، وفي هذا ما يُشجِّع إلى الغاية، وهو لا يزال، مع ذلك، ذا خوف أمام ما لديه عن الله من وهْم. وهو يذكر جيدًا تلك الليلة التي أحياها بآخر صلاة له منقطعًا عن ذلك بعدئذٍ متعمِّدًا. وما يزهو به المؤمنون من أن الحقَّ فيما يعتقدون، ومن عظمة الله الذي لن يباليَ بمخلوق حقير مثله، ومن جحوده التام، ومن ميله البعيد إلى الإيمان، ومن عدم اكتراثه للمسرَّة والألم، ومن غمِّه الذي لا يُسبَر غَوره، ومن فراغه الذي لا قعرَ له، فمما يُبعده عن العقيدة التي هو عاطلٌ منها في الحقيقة، ومن قوله: إن على الله أن يأخذ بناصيتي أو يُدخل الإيمان إلى فؤادي من غير أن أُساعِد على ذلك أو من غير أن أكون راغبًا في ذلك، هو قد كان كثير الهيجان، محمرَّ الوجه حينًا بعد حين، ولكن مع عجزه عن الإفلات، هو لم ينصرف، بل داوم على تفاسيره الحارَّة مع ارتباطه في وعد بالغداء تلبيةً لدعوة وجَّهها إليه بعضُ الجيران. ومن الواضح أن كان أوتو ذا اضطراب مستعذَب؛ فقد شعر بنفوذ الحبِّ في نفسه، وأنت تعرف جيدًا مقدار ما قد يكون عليه من اللطف وما هو عليه الآن من الأُنس. وقد جرى ألف مرة على رأس لساني قولي: أوتو، أوتو! اتخذْ حياة جديدة إذن، دع عنك طرُق الفسوق إذن!
وتعلَّم قواعد النصرانية، وتسلَّح اليوم بمذهب العقليين كما كان عليه في السنة السادسة عشرة من عمره، ولكن مع خيلاء نفسٍ حساسة تأبى كلَّ همٍّ وكلَّ تقدُّم، وذلك وفقَ ما كان عليه أيام وظيفته، ومِن رأيه أن من شأن الله أن يُعيده إلى نفسه كما أن من شأن الملِك أن يستدعيَه، ثم أصبح من فَوره ولدًا صالحًا، ويعود بعد يومين فيبدو هادئًا متأملًا رصينًا، جزوعًا أحيانًا.
وتأخذ تلك الفتاة الحسناء المختلجة الصدر بمجامع قلبه، ويجد لذة في كتبٍ يُرسلها إليه خطيبها بلانكِنبُرغ الذي كان مهتديًا أيضًا، وعن هذه الرسائل يقول كاتبها: «إنها كُتبت بحرارة صديق وحماسة نصراني، فتنزل على فؤادك المريض كبَرَد عريض مع أشرف ما في الدنيا من مقاصد.» ويكتب بلانكِنبُرغ ثلاث مرات إلى بسمارك فلا ينال جوابًا، ولا بدَّ من أن يكون أوتو عازمًا على الإيمان وقراءة التوراة والاعتراف بما يكنُّ، وماري وراء ذلك على الدوام؛ وذلك لأن مما يُثير خيال هذه البنت هو «تلك الصداقة مع عنقاء بوميرانية ذلك الذي يُفترض أنه مثال الصولة والغطرسة التامُّ، ولكن مع كبير جاذبية.» وهي حين أرسلت إلى موريتز «زهرةً زرقاء فوضعها على صدره مباركًا إياها.» أرسلت أيضًا زهرة حمراء إلى صديقه أوتو عارفة معنى ذلك جيدًا.
بيدَ أن ارتيابه المتنبِّه يبدو، فيكتب إلى أبيه بعد عاصفة بحرية قائلًا: «لقد أغميَ على بعض السيدات، وقد بكى بعضٌ آخرُ منهن، ولم يقطع الصمتَ في حجرة الرجال غيرُ دعاء تاجر من بريم بصوت عالٍ بعد أن ظننتُ عنايتَه بصُدْرته أكثر مما بربِّه. وهكذا كان لنا خلاصٌ بصلاة هذا السيد البريميِّ في هذه المرة أيضًا.»
وأسفر عُرس ماري فون تادِن عن احتراق القرية كلِّها بالأسهم النارية، فلما أشار بعض الأتقياء على الناس بالدعاء أكثر مما بالإطفاء استشهد بسمارك بقول كرومويل: «اتَّكلوا على الربِّ يا أبنائي، ودَعُوا البارود يكون جافًّا!» وركب حِصانًا وقضى ليلته في مكافحة النار، وفي الغد جادل بعضهم في إباحة التأمين على أنه يجعل الربَّ افتراضًا، فقال بسمارك: «حقَّا إن ذلك تجديفٌ صِرف؛ فالربُّ يستطيع أن يُصيبَنا!»
ومنذ قليل شاع في بوميرانية أن بسمارك عاشق للسيدة بلانكِنبُرغ، والحق أن ذلك لم يكن في غير محلِّه؛ فكلاهما كان يعيش معًا، وكلاهما كان يَسبح في بحر من الأحلام معًا، وكان متعصبًا لبايرون، وكانت متعصبة لجان بول الذي لم يُعجَب به أوتو قطُّ. وهي لم تُعتِّم أن صارت أمًّا، فتقول له «دعْني أُبلغك أن مَن يغشَون حَلْقتنا قليلون، وقد قصدتها الآنسة (س) التي هي مليحة، وأن جميع الغواني والعواجز يلدْنَ، وأنني سأكون بعد يومين في كاردومن (من أملاك بلانكنبُرغ)، حيث أتناول شايًا فنيًّا، وحيث أطالع وأدعو، وحيث آكلُ أناناسًا.» وبهذا اليُسر تراه يقوم بما يُفرَض عليه من عبء في تلك البيئة ما وجد فيها عافية وما وجد فيها ما يبحث عنه من ذكاء وجمالِ شكلٍ «وحياة منزلية أكون عضوًا فيها، ومن مقام تقريبًا.»
ومن الواقع أن ظلَّت أعصابُه نَزِقة حتى في ذلك المقام، ويغدو في إحدى النُّزَه سوداويَّ المزاج من فوره، ويمكن ألين القول أن يقوده إلى الضَّنَى، وتروي ماري «أنه يسهل قيادُه إذا شعر بأنه قبضة صديق.» ولمَّا أرادت ماري أن تغيظَه فأحزنته بصرير كأسَين ضرع إليها أن تكفَّ قائلًا: «إن هذا يُثير الأشجان، إن هذا يُذكِّرني بقصة الكونت هوفْمان حول النفس السجينة في كمَان.»
وذات يوم يُلاقي حنَّة فون بوتكامر في منزل بلانكِنبُرغ، وليس لها سحرُ ماري، فهي قصيرة، وهي سمراء، وهي خفيفة، وهي إيطالية المنظر، غير أنها ذات بصر حديد، وتلمَع حرارة فؤادها من عينَيها الشهباوين، وتسطَع من شخصيتها ذات الحماسة، والذي يميزها من ماري هو ظرفها وعدم تصنُّعها وعنف مشاعرها، ولا تقدر على التفكير مرتين، ويسهل أخذها بالعاطفة التي تُنعش بدنها النحيف النحيل، وحنة من الفتيات اللاتي يتمسَّكن بأي قرار بعد اتخاذه، وحنة تخصِّص نفسها، بلا تحفُّظ، للرجل الذي تهَبُ له حُبَّها، فلا تسأله شيئًا لذاتها وتُسرُّ بما يحدث من تضحيتها، وكلُّ ما تحتاج إليه هو وجود رجل يكون دليلًا لها، وكلُّ ما تقدِّمه هو ميناءٌ أمين من هبوب الريح.
وتبدأ بلوم ذلك العملاق المكرَّم على إلحاده لومًا صريحًا، وإن بدا دليلًا لها، ومن المحتمل أن أغضت عن ذلك ذات حين، فقد كتبت ماري تقول لها: «إن مخالفتك لم تُزعجه بالحقيقة، فهو يحب الصراحة، وهو سيغيِّر آراءَه كما تُخبرين، وهو يفكِّر وفق ذلك في سويداء في فؤاده، ولكن مَن يكون ذا مزاجٍ مثل مزاجه لا يكافح في سبيل النور بسرعة ولا بسهولة، فيظلُّ ذلك مكنونًا فلا يبدو لعيون الناس إلا بعد زمن طويل.»
وتُصيب ماري المحزَّ في وصفها ذلك، وهي تُشبهِّه بنهر جامد، فلا يذوب إلا مؤخرًا وبشدة، وهي تُبصر فيها طبيعة غامضة، وهي تحفزه حفزًا رمزيًّا إلى ولاية في الأسداد، وهو يرغب في سماع اختلاج نهر الإلبة في الربيع، وهو يودُّ أن يلاحظ المجرى العظيم حين ذوبان الجليد، وهو يحب أن يوجه مياهَه كما يحب أن يوجه الحركاتِ السياسيةَ العنيفة، وكما يحب أن يوجه نفسه.
«لا ريب في أن الترقي يكون حليفي ببروسية الشرقية، ولكن من سوء حظي أن كل وظيفة أنالها تظهر لي مرغوبًا فيها إلى أن أشغلها، ثم أجدها ثقيلةً مملَّة، وسيكون مثل هذا نصيب المنصب الذي يُعرض عليَّ، وإذا ما ذهبت إلى بروسية الشرقية رفضتُ مديرية الأسداد التي وُعدتُ بها من قِبل الحكومة، ولكن إدارة الأسداد مع العمل في اللَّنْدتاغ الذي أراني مطمئنًّا إلى انتخابي عضوًا فيه، مما يُدنيني من مراقبة أملاكي، وأوجِّه همِّي إلى تأدية بعض الديون قبل كل شيء.» وهو في الوقت نفسه يُصرُّ على نيَّته أن يكون عمدة الناحية هنالك، ويلوح أن الموظف العتيد لا يظلُّ في منصبه أكثر من ثلاث سنوات أو أربع سنوات، «لِما عليه صحته من وهنٍ بادٍ، فتُبصر أن خططي تقوم على آراء طبيَّة، وستقام حفلة رقص في راتينوف يوم السبت، ولا أذهب إليها، فليس لديَّ قفَّاز، فأنا حادٌّ.»
وهكذا يحسُب ما يصير قبل أن يسير، فيُوعَد بإدارة الأسداد ويثقُ بانتخابه عضوًا في اللَّنْدتاغ ويُقدِّر مدة مرض سلَفه، ثم يسأل عن عزْل رئيس الأسداد لغيابه بلا إذن، وهو حين يلتمس المنصب يُطالب بخفض الضرائب النهرية المفروضة على أملاكه، وينبُش نظامًا قديمًا قائلًا بأن يُولَّى رئاسةَ الأسداد رجلٌ مثلُه ذو أملاك واقعة على شواطئ النهر، ويعود إلى مبادلة أراضٍ فُرضت على أجداده منذ بضعة قُرُون دعْمًا لادعائه بالمنصب، وهو يجد في ذلك حقًّا، وهو ينتحل بذلك إنقاذًا لجيران من موظف كسلان، وهو يصنع ذلك حِفظًا لأطيانه وخَفضًا لضرائبه وفرضًا لاسمه على الولاية حتى يغدوَ نائبًا وعمدةَ ناحية.
والنشاط والاستعداد والذرائع والإنجاز وابتغاء السلطان؛ أمورٌ أظهرَها بسمارك في عمله السياسي الأول فكان له بهذا العمل فلاحٌ ثابت سريع، حافز إلى قيامه بجديد الأفعال على الدوام.