الفصل السادس عشر
كان نابليون الثالث راغبًا عن الحرب، ولكنه كان مفتقرًا إليها، ومن الصعب أن يُعرَف ماذا كانت فرنسة تريد، ولا أن يُعرف عدم احتمالها عن طموح لاقتراب الوحدة الألمانية التدريجيِّ بأوضحَ مما في الماضي، ومن المحتمل عدمُ ذيوع أيِّ شعور في هذا الأمر ما انحصر في باريس سُخْطُ أيام يوليو، وقد اقتصر ما وقع من تظاهر على بضعة شوارع بباريس، وقد نُظِّمَ هذا التظاهرُ بفعل بعض الجرائد المأجورة من قِبَل الحكومة، والشيءُ الوحيد الذي تُستَبر به مشاعرُ الشعبِ الفرنسيِّ في ذلك هو الاستفتاءُ العامُّ الذي وقع في شهر مايو، فعلى ما تخلَّل هذا الاستفتاءَ من ضغط وفساد لم يَنَل نابليون الثالث سوى سبعة ملايين صوتٍ على حين صوَّتَ ضدَّه مليون ونصفُ مليون، وعلى حين أَبدَى ثلاثةُ ملايين خصومةً ضمنيَّة له بالإمساك عن التصويت.
ولكننا إذا علمنا أن نابليون الثالث كان يزدلِفُ بنظامه إلى الشعب مُدَّعيًا أنه يودُّ أن يحافظ على مجد فرنسة وعظمتها؛ أبصرنا أن فريق الأُمَّة الفرنسية المعارض والمستنكف ذلك كان يُعرب جهرًا أو سرًّا عن رُغبِه في سياسة عمل وسِلم ثابتة، وما كانت الأُمَّة الفرنسية الهادئة المرحة بطبيعتها، والتي لا تسير مع العاطفة إلا بفعل زعماء ممتازين أو عن ضرورة؛ لتميلَ إلى مقاتلة أيٍّ كان، وحالٌ روحية كتلك مما لا يروق فاتحًا يرى بَهْرَ عيون الجمهور حفظًا لمقامه، والأمة كانت راغبة في النظام الجمهوري حُبًّا للسِّلم، والإمبراطور كان يبحث عن انتصارات فيرتعدُ عند تفكيره فيما قد يُمنَى به من غلَب بدلًا من الوصول إليها.
وكان نابليون الثالث يرى الحرب أمرًا لا مفرَّ منه بعد مسألة اللوكسنبرغ، وكان أهونَ على بسمارك من غيره أن يَحُولَ دون وقوعها بعد الهَرْج مع عُسر ذلك، وكان نابليون الثالث قد تفاهم هو وإيطالية والنمسة، فلمَّا كانت أوائلُ سنة ١٨٧٠ وضَع مع أرشيدوكٍ نمسويٍّ خِطةً مشتركة لمحاربة بروسية، ويُعيِّن في ذلك الحين دوك دوغرامون وزيرًا للخارجية مع مَقْته له شخصيًّا؛ وذلك لِما كان من إصرار الإمبراطورة وكارهي بروسية في البلاط على ذلك التعيين، وكان هذا الوزير قد أبدَى في سنة ١٨٦٦ رأيًا في الهجوم على بروسية، فلا بدَّ من أن يكون قولُ بسمارك «إن غرامون غبيٌّ» قد انتهى إلى مسمعه، وهكذا كان كلُّ شيءٍ مُعدًّا للحرب، وشَهْرُ الحرب لا يحتاج إلى غير ذريعة، ولَسُرعان ما ظهرت!
وبسمارك إذ لم يكن لديه سببٌ ولا شوقٌ إلى الحرب (ضمًّا للألزاس مثلًا)، وبسمارك إذ كان يرى الحرب آتيةً من أجل توحيد ألمانية، وبسماركُ إذ كان مستعدًّا لقبول الحرب على هذا الأساس، لم يَنشُد أيَّةَ ذريعة مطمئنًّا إلى أنَّ فرنسة ستجد من ناحيتها ما يكفي لذلك في مسألة إسبانية؛ ولذا كان عازمًا على الانتظار.
وكان بِنيدِيتِّي قبل الاقتراحات الرسمية قد أنبأ في شهر مايو سنة ١٨٦٩ بأن صدامًا من الطراز الأول يقع لا محالة إذا ما قَبِل رجل من آل هُوهِنْزُلِّرن تاجَ إسبانية، واجتَنب بسمارك تحريضَ الملك على رفْض العرض الإسبانيِّ ناظرًا إلى أن المسألة مسألةُ أُسرةٍ يُمكن الكلالة أن تصنع ما تراه فيها، فلا يرتبط في شيء تاركًا الخصمَ خائفًا، ولم يَلبثْ بسمارك أن أبصر أنَّ المسألة شائكةٌ، وكيف يُغري الملكَ بقبول العرض الإسبانيِّ بعد أن كان الملك مخالفًا قبول العرض الروماني؟
«ومن المحتمل أن يكون الإسبان كثيري الشكر لألمانية إذا ما حرَّرتْهم ألمانية من خطر الفوضى، وإذا ما نُظرَ إلى صِلاتنا بفرنسة رُئيَ من الأمور الطيبة أن يكون في الناحية الأخرى من فرنسة بلدٌ يمكننا الاعتمادُ على عواطفه ولا مَعدِل لفرنسة عن الركون إليه»، وبهذا تقتصد بروسية فيلقًا أو فيلقين، وبذَينك الفيلقَين يُوَجَّه ذهن الملك.
ويَعرف بسمارك أنَّ تلك الخطوة مما يؤدي إلى الحرب، وبسمارك كان مستعدًّا للمخاطرة، وبسمارك إذ كان لا يَعمل إلا من أجل سلطان بروسية وما يتعلَّق به لأسباب سياسية، وبسمارك إذ كان اليوم قليلَ المبالاة بالألزاس قلَّةَ مبالاته بسليزية النمسوية سنة ١٨٦٦، وبسمارك إذ لم يُرِد اليومَ ولا في أيِّ يومٍ آخرَ أن يستوليَ على أرض ألمانية أو أجنبية في سبيل بروسية، وبسمارك إذ كان راغبًا في بَسْط زعامته السياسية على ألمانية، أعدَّ العُدَّة لمحاربة نابليون الثالثِ كما كان قد أعدَّها لمحاربة فرنسوا جوزيف، ومن كلَا العاهلَين نُزِعتْ جامعة دول ألمانية الشمالية ثم الإمبراطورية الألمانية.
وكانت رغبة ذلك القطبِ السياسيِّ الألمانيِّ المعقولةُ في جمْع أبناء أمته — ولو على الرغم منهم — سببَ كلتا الحربَين، ولم يكن في ألمانية شيءٌ يُقال له مسألةُ الألزاس في الحقيقة كما أنه لم يكن في فرنسة شيءٌ يقال له ضِفَّة الرَّين في الحقيقة، وما كانت هاتان المسألتان إلا من اختراع متحذلقين قليلين أرادوا تحريض شعوبٍ مسالمة على مَسْكِ بعضها برقاب بعض. ولكلٍّ من سياسيِّي فِيَنَّة وباريس حقٌّ كبيرٌ في الحيلولة دون قيام دولة موحَّدة على الحدود، ولكلٍّ من جموع الألمان والأمراء أن تُجاهد في سبيل شَيْد تلك الدولة مع اختلاف الخطط وتفاوتِ الأدوار والمبادرات.
ويُطبَّق المَثَل الذي ضربه بسمارك في نِقُولْسبُرْغ، فقال فيه إن محاربة النمسة لبروسية ليستْ أنفى للأخلاق من محاربة بروسية للنمسة، على الحرب الفرنسية الألمانية بمثل ذلك الوضوح أيضًا، وما كانت أمة لتأذَن للأمم الأخرى في إتمام وَحدتها وفي تحوُّلها إلى أُمة ذات سلطانٍ عظيم إلا حربًا ما دامت الدول العظمى في أوروبة الصغيرة وَلُوعًا بالزعامة والسيطرة كَلِفةً بالمحالفات.
وكان بسمارك لا يَنشُد غير الممكن لا المُشتهى فيتجاذبُه متباينُ العوامل لِما كان من تباغُض الألمان وانقسام بلادهم، ولو كان بسمارك بافاريًّا لَقاومَ مقاومةً عنيفة كُلَّ وحدة بزعامة بروسية، وبسمارك — بروسيًّا — أراد هذه الوحدة وهدَف إليها عن عزٍّ شخصيٍّ وشعور طبقيٍّ وزهوٍ قوميٍّ، وبسمارك — سياسيًّا — وجَد رُغبَه معقولًا من الوجهة الألمانية العامة، ويلائمُ هذا المفهومُ المجرد رُغبَه الطبيعيَّ فيجعل هذا الرغب موافقًا للأخلاق وحافزًا له إلى ضغط دول الجنوب ضغطًا سهلًا غير معترفٍ به.
وإذا كانت الأمة «لا تُوحَّد إلا بسُخطٍ عام»، فكيف يُثارُ هذا السُّخط بأكثرَ من التدخل الأجنبي؟ إن موارباتٍ نفسيةً مثل تلك التي تُهدِّد بها فرنسة لا تكون إلا ملائمةً لرجل التحليل بسمارك، كما أنَّ الحرب تلائمُ رجلَ السياسة بسمارك مع عدم طلبه إياها.
ويُبصِر بسمارك في أمر إسبانية إمكانَ إبلاغ المسألة إلى حدِّها، وتُثار غيرةُ بسمارك الدِّبْلُمِيَّة بما رآه من وجوب تذليل بعض العوائق، ويُرسِل إلى إسبانية وكيلين، يُرسِل إلى إسبانية بُوشِرَ وأحدَ ضباط الجيش؛ ليبعث الاقتراحَ من مرقده بعد أن كاد يُترَك، ويصنع بسمارك ذلك سرًّا ليضع نابليون الثالث أمام أمر واقعٍ وليوقِعَ هذا الإمبراطور في الخطأ إذا أبدى اعتراضًا، إسبانية بلدٌ مستقلٌّ! ولِمَ لا تستطيع أن تَنشُدَ لنفسها مَلِكًا أينما شاءت؟ لقد أُرسِل الطلبُ الرسميُّ، وقُبلَ في سِيغْمارِنْجِن من خلف وِلْهِلْم، والملك في النهاية، وملك بروسية، «وافق على الأمر كُرهًا بعد كفاحٍ عنيف».
وهنالك وقُبيل البلاغ الرسميِّ يُعرَفُ الأمرُ في باريس، ويُصبِح الشحم في النار! ويُقيم غرامون صِحافةَ باريس ويُقعِدها بمقالة شبه رسميَّة يُوعِز بنشرها حول الموضوع، ويستحوذ غضبٌ حقيقي أو مصنوعٌ على الصحف فتُذيع نبأَ «المفاجأة باختيار ملكٍ ألمانيٍّ»، والواقعُ هو أنَّ غرامون كان يَعلم أن بسمارك تكلم عنه مُزدريًا، فأراد أن يَلطمَ الوزيرَ البروسيَّ على وجهه جهرًا ليرَى العالمُ ذلك.
والآن تنفجرُ القنبلةُ في باريس، ويَذرَعُ بسمارك غرفتَه ذهابًا وإيابًا بعد قصير زمنٍ مُمليًا موحيًا ما يودُّ طبعَه جوابًا عن صخب باريس، ويُملِلُ بسماركُ «أكداسَ ملاحظاتٍ؛ لتكون مدارًا لمقالات ولرسائلَ مفصَّلة، ويجب أن تكون التصريحاتُ الرسمية هادئةً، وأن يُؤذَى شعورُ الفرنسيين في البيانات شِبه الرسمية»، «ويظهر أن الإمبراطورة التي تزيد النار لهيبًا راغبةٌ في إيقاد حربٍ جديدةٍ حول وراثة عرش إسبانية، والفرنسيُّ كالملايَوِيِّ الذي يُثار فيسير في الشارع مُزبِدًا حاملًا خنجرًا ليطعنَ به كلَّ من يَجدُ في طريقه …» وفي اليوم السابع من شهر يوليو يقرأ بسمارك الخُطبة التي ألقاها غرامون في مجلس النواب قبل يوم، فجاء فيها: «لا نعتقد أن احترام حقوقِ دولةٍ مجاورة يَحمِلنا على احتمال نَصْبِ دولةٍ أجنبية أحدَ أُمرائها على عرش شارلكِن مُقوِّضةً أركان التوازن الأوروبيِّ الراهنِ بما فيه ضررُنا معرِّضَةً للخطر مصالحَ فرنسة وشرفَها، فإذا ما حدث ذلك قُمنا بما هو واجبٌ علينا بلا تردُّد ولا ضَعف!» عاصفة تصفيق!
فلما قرأ بسمارك ذلك قال لكودِل: «يَلوح أنه لا مفرَّ من الحرب، وما كان غرامون ليَنطقَ بهذا قبل تفكير في الأمر وتقديرٍ له، ولو هجمنا على فرنسة لأسفرَ ذلك عن نصرنا لا ريب! ومن المؤسِف أنني لا أستطيع ذلك لأسباب كثيرة.»
وفي ذلك اليوم يُوعِز غرامون إلى سفير فرنسة في برلين بمقابلة الملك وِلْهِلْم ما دام بسمارك قد رفض كلَّ بحثٍ رسميٍّ في مسألة أُسريَّة.
وكان الملك ذا مزاجٍ رضيٍّ، ولم يكن ليُريد تكديرَ صفوِ صيفِه في إمْس؛ أي كان راغبًا عن تعكير معالجته ومجده وسنِّه، فرضِيَ بمباحثة بِنيدِيتِّي في الأمر بدلًا من صرْفِه من فوره كما أراد بسمارك، وفي اليوم التاسع من الشهر يقول الملك الذي أبصر شؤم الأمر لسفير فرنسة إنه بصفته رئيسًا لأسرة هُوهِنْزُلِّرن سينصح ابن عمِّه بالعدول، وإنه أرسل مرافقًا له إلى سيغمارِنجِن، ويكتب وِلْهِلْم إلى زوجه قائلًا: «أسأل الله أن يُلهِم آل هُوهِنْزُلِّرن الصواب!» وينتهي الخبرُ إلى بسمارك بفارزين فيغضب ويصرخ قائلًا: «وها هو ذا الملكُ يبدأ بالارتداد!» ويشعر بسمارك بأن أمله خاب، وبأن وضْعَ وِلْهِلْم يُفسَّر باستسلام بروسية.
ويُبرِق بسمارك في الحال سائلًا مقابلة الملك فلم يتلقَّ الأمر إلا في اليوم الحادي عشر من الشهر، ويا لَهول الانتظار يومًا واحدًا! ويقصد في اليوم الثاني عشر من الشهر برلين مع كودِل لِما لا غُنيةَ له عن المرور بها، ويدخل بسمارك ساحةَ وزارته بعد رحلة عشر ساعات فيُسلَّم برقيةً فلا يجدُ أن ينتظر نُزُوله من العربة فيفتحها غيرَ صابر، فيعلم منها أن بِنيدِيتِّي حاولَ محاولةً جديدة في إمس وأن الملك قابله بجواب مُهذَّب، ويُدعى مولتكه ورون إلى العشاء بسرعة، ويصلان بعد بسمارك بوقتٍ قصير، وفيما كان هؤلاء الثلاثة حول المائدة وردتْ برقيةٌ أخرى قائلة بإقلاع الأمير الهُوهِنْزُلِّرني عن رغبته في العرشِ الإسبانيِّ.
قال بسمارك بعد حينٍ مُحدِّثًا عن الماضي: «كانت الاستقالة أول ما فكرتُ فيه؛ وذلك لِما ينطوي عليه ذلك الإذعان الإلزاميُّ من خِزيٍ على ألمانية، لستُ مسئولًا عنه رسميًّا، ويَفُتُّ ذلك في عضُدي إلى الغاية؛ لأنني لم أسطِعْ أن أجد ما أُصلِح به فَتْقًا نشأ عن سياسة خائرة، فيمكن أن يؤثِّر في وضْعنا القومي ما لم ألجأ إلى نزاعٍ عامدًا، وأعدِل عن الذهاب إلى إمس وأرجو من الكونت أُولِنْبُرْغ أن يذهب إلى هنالك ويعرض على الملك وجهة نظري، والملكُ لِما كان من مَيله إلى توجيه أمور الدولة بشخصه وعلى مسئوليته الخاصة؛ وضَع نفسه في مأزقٍ لا يقدر على الخروج منه، ومولاي المعظَّم لِما كان له من رغبةٍ شديدة في أن يكون له قُرصٌ في كلِّ عُرس، إن لم يُقرِّر جليل الأمور بذاته، لم يكن ليستطيع أن ينتفع بالشعار القائل بالعمل من وراء سِتار، ومصدرُ هذا الخطأ إلى مدًى بعيدٍ، هو تأثيرُ الملكة في الملك من مدينة كوبلنز المجاورة، وكان الملك في الثالثة والسبعين من سِنِيه، وكان مُحبًّا للسِّلم، وكان كارهًا لتعريض إكليل المجد الذي ناله سنة ١٨٦٦ للخطر، والملك إذا كان طليقًا من هذا النفوذ النسويِّ خضَع لما يوحي به حسُّ الشرف على الدوام، والملك لِما اتصف به من الفروسية تجاه المرأة، كان عاطلًا من الحَول أمام نفوذ زوجه الصادر عن وَجَل ثابت وعن قِلَّة وطنية.»
وبسمارك لم يَصُبَّ كأس النقد ذلك على ملك بروسية وملكتها إلا بعد عشرين عامًا من الحوادث التي أشار إليها، وبسمارك فعل ذلك في وقت يُفتَرض فيه أن تكون الأعمالُ العظيمة والانتصاراتُ الكبيرة قد مَحَت ما ساوره من الأحاسيس عن عطَل الملك من حسِّ الشرف وخُلُوِّ الملك من الشعور القوميِّ، لا كما فعل غرامون الذي ملأ وصْفَه لتلك الأيام بلَوم الإمبراطور والإمبراطورة حين خَسِر معركةً سياسية، وبسمارك بلغ من الغضب الغايةَ؛ لأن الملك أباح لنفسه النقاشَ المباشرَ في «أمرٍ خاصٍّ بالأسرة المالكة»، وبسمارك كتب في تلك الليلة يقول لأُسرته: إنه سيعودُ سريعًا، وإنه لا يعرف أنه سيرجعُ إلى منزله وزيرًا.
كتب صاحب الجلالة يقول لي: «دنا الكونت بِنيدِيتِّي مني في أثناء نُزهتي ليسألَني مُلحًّا أن آذَن له في الإبراق حالًا بأنني أُلزِم نفسي في المستقبل بألَّا أوافقَ على ترشيح أحدٍ من آل هُوهِنْزُلِّرن، وقد رددتُه بشيءٍ من الشدة قائلًا إنه لا يمكن، ولا ينبغي إعطاءُ مثل هذا التعهُّد إلى الأبد، ومن الطبيعيِّ أن قلتُ له إنني لم أتلقَّ خبرًا بعدُ، وإنه إذ كانت عنده أنباءٌ أحدثُ مما لديَّ من باريس ومدريد، يمكنه أن يحقِّقَ أنه لا شأنَ لحكومتي في الأمر.» ثم أخذ الملك كتابًا من الأمير شارل أنطوني بعد ذلك، وبما أنَّ صاحب الجلالة قال للكونت بِنيدِيتِّي إنه ينتظر أخبارًا من الأمير عزَم على عدم مقابلة الكونت بِنيدِيتِّي لِما تقدَّم مُتَّبِعًا نصيحتي ونصيحةَ الكونت أولنبُرغ كما عزم على تبليغه بواسطة حاجبٍ أنَّ لديه الآن ما يُوَكِّد النبأ الذي تلقَّاه بِنيدِيتِّي من باريس، وأنه ليس عنده ما يقولُه للسفير، فصاحبُ الجلالة قد ترك لفخامتكم أن تُقرِّروا: هل من الأصلح أن تُبَلِّغوا إلى سُفرائنا وإلى الصحافة في الحال خبرَ طلب بِنيدِيتِّي الجديد وخبرَ رفضه.
بعد أن بُلِّغ رسميًّا خبرُ عدول الوارث الهُوهِنْزُلِّرني عن كل مطالبة بالتاج الإسباني إلى حكومة فرنسة الإمبراطورية بواسطة حكومة إسبانية الملكية قدَّم سفير فرنسة إلى الملك بإمْس طلبًا آخر بالإذن له في الإبراق إلى باريس بأن صاحب الجلالة الملكَ أَلزمَ نفسَه بعدم الموافقة في المستقبل على ذلك إذا ما عاد آلُ هُوهِنْزُلِّرن إلى خطَّة الترشيح، فهنالك رفض صاحبُ الجلالة مقابلةَ سفير فرنسة مرةً أخرى، مفوِّضًا الحاجبَ العتيد بأن يقول لهذا السفير إنه ليس عند صاحب الجلالة ما يُبلِّغه إليه.
ومن ثَم ترى أن كلمةً جدية لم تُدَسَّ إلى البرقية، أجلْ حُذِف منها بعضُ الكلمات، ولكنه لم يُضَف إليها شيءٌ، حتى إن الكلمةَ الجافية: «ليس عنده ما يقوله للسفير» قد حُوِّلَت إلى ما هو ألطفُ منها؛ أي حُوِّلت إلى: «ليس عنده ما يُبلِّغه إليه»، وتبليغُ الأمر إلى السفراء وإلى الصحافة، وهو خُطوةٌ ذات تأثير هائل، هو من إيحاء الملك وإيصائه وإيعازه، ويمكن ذلك الرجلَ الذي أعاد كتابةَ البرقية أن يتمثَّل، وأن يسمع ترجمتها إلى الفرنسية، وأن يرى بعين بصيرته «رفضه» حينما ينادي به باعةُ ملحقات الجرائد في شوارع باريس، ولا يوجد تزويرٌ مع ذلك، ولا يوجد أكثرُ من تكثيف مع ذلك.
وأراد بسمارك أن يُباغت الملك فضلًا عن ذلك، وبسمارك كان يُفكِّر في الملك حينما أتى بذلك البتِّ السريع الذي هو نتيجة سلسلة من الأفكار القديمة ساورت ذهنه في سنواتٍ كثيرة كما هو أمرُه مدى عمره في أحوال مماثلة، ويودُّ بسمارك الضربَ والحديدُ حامٍ؛ وذلك خشية قولِ زوجة الملك بالسِّلم غدًا وخشية قولِ ابن الملك بها بعد غدٍ، والواقع أن بسمارك بنشره تلك البرقية جعل الحرب أمرًا لا مفرَّ منه من غير أن يسأل مولاه عن رأيه، بيدَ أن الملك كان ذا مَنازعَ حربيةٍ في ذلك الحين، وآيةُ ذلك ما كان من إرساله برقيةً ثانية من إمْس بعد قصيرِ وقتٍ وبعد أن كانت البرقية الأولى مرسلةً لتُنشَر على العالم، فقد جاء في هذه البرقية رفضٌ ثالث لمقابلة بِنيدِيتِّي كما يُرى من العبارة الآتية، وهي: «إن ما قاله صاحب الجلالة في هذا الصباح هو كلمتُه الأخيرة في الموضوع، وصاحب الجلالة يُذكِّرُكم بقوله السابق.» وهذه الكلمةُ جاءت مُصدِّقة لِما أذاعه بسمارك!
وتصرُّفُ بسمارك منطقيٌّ ما أبصر القائدَ العامَّ يُصرِّح له بأن الوقت ملائمٌ، وما رأى أنَّ تطوُّر الأحوال في السنوات الأخيرة القليلة يُنبئُ بأن الحرب آتيةٌ لا ريب فيها، وما أريد بناء ألمانية الحقيقية. وبسمارك إذ كان عليمًا بأحوال النفس، وبسمارك إذ كان عارفًا أنَّ فوزَه يتوقَّف على رُوح أوروبة إلى أبعدِ حدٍّ؛ وجَد تلك الفرصةَ أحسن ما يبدو به معتدًى عليه شكلًا وجوهرًا. وإذا ما ظهر لنا، نحن أبناءَ الجيل الأخير، أن توحيد شعبٍ في المستقبل يستحقُّ الكفاح كان جيرانُنا الفرنسيون في أسوأ مأزق خُلُقيٍّ؛ لعزمهم على شَهْر الحرب منعًا للوحدة الألمانية من القيام.
ومهما يكن الأمر فإن بسمارك قبل كلِّ شيء وبعد الظهر لم يَخْلُ من سببٍ ومن وضْعٍ يُلهِب بهما آخِرَ بافاري مُوالٍ لفرنسة وآخرَ وُرْتَنبِرغيِّ مُعادٍ لبروسية؛ بغيةَ الاشتراك في السخط العامِّ الذي كان محتاجًا إليه، وتمضي ثلاثةُ أيام فتَشيع بين الأنام أسطورةُ تنزُّه الملك الشائب المحبِّ للسلام في بلد المياه المعدنية وانتظارِ الفرنسيِّ الشاطِر له مترقبًا في غَيضةٍ كالمُغتال، ويرى بسمارك ذلك ببصيرته، وبسمارك يكتب في الساعة السادسة تلك البرقيةَ التي سيَقذِفها في منتصف الليل في جميع عواصم أوروبة كما لو كانت قنبلةً هائلةً.