الفصل الرابع
عندما صار بسمارك كونتًا رحَّب برفع مستوى أُسرته، ولكن مع ازدراء لرهطه من الأشراف الذين كانوا غيرَ معتقِدِين إمكانَ ظهورِ عبقريٍّ منهم، ويستحوذ ذُعرٌ على بسمارك عندما أنعم الملك عليه بلقب أمير (برنس) بعد العود من فرنسة، ويعزم على نصيحة مولاه بأن يُنحِّيَ عنه ذلك، غير أن الملك يباغتُهُ بمقابلته أميرًا ويُهنِّئه آلُ العاهل بذلك مع إجماعهم على معاداتِه، فلم يبقَ له سوى التسليم بالأمر الواقع، ويلومه الأمير فردريك شارل على ما كان من عدَم شكره، فيجيب بسمارك هذا الضابطَ عن ذلك بالكلمة الآتية الرائعة وهي: «ما فَتِئْتُ أَعُدُّ نفسي حسيبًا.»
وإذا ما قاس بسمارك الخادمُ مجدَه العتيد بمجد مخدومه في ذلك الحين اعترف بما يُواثب نفسَه من شكٍّ عميقٍ كما واثَب الملكَ آنئذٍ، وذلك عن خوف من «رهطه» وإلى أيِّ وقت يصبر ملوك بافارية وسكسونية هادئين على ما تَمَّ لابن عمِّهم الهُوهِنْزُلِّرني من ارتقاء لا مثيل له؟ وإلى أيِّ وقتٍ يصبر أشرافُ بُومِيرانْيَة والمارش على ما تَمَّ لابن عمِّهم الشُّونْهاوْزِنيِّ من ارتقاء لا مثيلَ له؟ أفلا ينمو فيهم حسُّ التنافُس؟ أفلا يُرى في كلتا الحالَين أنَّ الحسد يؤدي إلى دسائسَ سياسيةٍ؟ إن ما يصدر من الحسد عن أعزِّ الأقرباء الذين يَعزون إلى سوء حظِّهم ما يجب عليهم أن يَعزوه إلى عدم ألمعيَّتهم؛ يُميط اللِّثام عن أصدق الأسباب في انقسام أفرادِ طبقة بسمارك بما يَعيبهم أمام محكمة التاريخ، وذلك بدلًا من أن يتمتعوا بنعمة التفكير في مَجْد ذلك الرجل العبقريِّ الذي نبَغ من بينهم.
ووتَّر الخصومُ السياسيون الوضْعَ حتى انقطع، مع أن من حسنِ الشعور اجتنابَ ذلك، ولم ينفصل هؤلاء الشرفاء البروسيُّون عنه إلا محافظين مع أنهم لم يظهر منهم قبل ذلك رجلٌ يَعدله ذكاءً ومضاءً، وهكذا ينفضُّ آخر الأحزاب السياسية الكُبرى من حول رئيس الدولة بسمارك مسيئين إلى مصالحهم الخاصة بتسهيلهم له سبيلَ الاتفاق مع الأحرار خلافًا لطبيعته. وهكذا، يمثِّل الشرفاء دورَ الزوجة المُهانة التي يَكشف لها زوجُها عن تصابيه فتبتعدُ عنه متوعِّدة، فتدفعُهُ بذلك إلى الاستمتاع في مكان آخرَ على حين كان يمكنُها أن تسايره فتحول دون إتيانه شيئًا من ذلك.
وكان بسمارك في سنة ١٨٦٨ قد أخبر حزبه بأن من الضروري في الحين بعد الحين أن يُعتَمد على عَون فريقٍ لا يروقُهُ، وإلا «اضطُرَّت الحكومةُ إلى السير والائتمار بالدستور، فتُصاب إذ ذاك بوهْن الوزارات الائتلافية»، وترى المحافظ المتصلِّب رون يشتكي منذ ذلك الحين من «غطرسة بعض المحافظين الخبيثة المشوبة بالحسد، وعلى الحزب أن يعلمَ — في نهاية الأمر — أن من الضروريِّ أن تختلف أهدافه ووجهات نظره عما كانت عليه في بدء الصراع، وعلى الحزب أن يتحوَّل إلى حزب محافظٍ تقدُّميٍّ وأن يعدِل عن بقائه عائقًا».
والآن يغدو ابنُ العمِّ بسمارك أميرًا وطاغيةً فيُوغر الصدورَ، والآن يقول بسمارك في ذلك: «تنحَّ حتى أَحُلَّ محلَّك.» ويذكر بسمارك في مذكِّراته التي كتَبها بعد نهاية تلك المنازعات بزمنٍ طويل أنَّ أرنيم وغولتز كانَا خصمَين من الطبقة الثانية، ويُنبئُ بسمارك بأن الطبقة الثالثة تشتمل على «أعضاءِ طائفتَي الإقطاعية التي أثارها ما رأتْهُ من عدمِ تقيُّدي في أثناء مهنتي الاستثنائية بالتقاليد التي هي بولونيَّة أكثر من أن تكون ألمانيةً والقائلة بمبدأ المساواة الإقطاعي، أجَل إنه يُغفَر لي أمرُ ارتقائي من دائرتي الريفية إلى منصب وزير، ولكن مما حدَث من الإنعام عليَّ بالمهور وبلقبِ أميرٍ على الرغم مني فمما لا يُغفر، وليست مخاطبتي ﺑ «صاحب الفخامة» بالتي تجاوز الحدود المألوفة، وتُثير مخاطبتي ﺑ «صاحب السموِّ» أشدَّ انتقادٍ، ويَسهُل عليَّ احتمالُ جفَاء أصدقائي السابقين ورفقائي في الطلب إذا وُجد في مزاجي ما يُسوِّغ ذلك.» ولا تجدُ أحدًا يفوق بسمارك ببيانٍ نفسيٍّ يعلو ذلك البيانَ عن طبقته الخاصة. قال أحد أشراف بُومِيرانْيَة في سنة ١٨٧٢: «سنُصغِّر بسمارك حتى يأكل بيَدِ أيِّ شريف ريفيٍّ بوميراني!»
والكَدَر يبدأ بمكافحة الكنيسة حين يجدُ البِيَاتِيُّون اللوثريُّون على البابا بحماسة، وكان بسمارك متَّهمًا بالإلحاد لاتفاقه مع الملحد فيرشوف على الكنيسة، ويُكرَه في دِفاعه الخاصِّ على الكلام من فوق المنبر بأسماء التفضيل غيرِ المعتادة تأييدًا «للإصلاح البروتستانيِّ الذي هو أهمُّ سبب لذلك الكفاح، والذي يتصل بروحنا ونجاتنا اتصالًا وثيقًا»، وليس الشِّيبُ أشدَّ مهاجمي بسمارك، ونسمع موسيقى القلب حين نسمع الشيخ غِرْلَاخ يقول: «إن بسمارك يُسيءُ معاملتي، ولكنني أُحِبُّه مع ذلك!» ويبدو حامي بسمارك التقيُّ الآخرُ — سِينْفِت بيلساخ — رجلًا كريمًا حين يُحذِّر هذا المستشار مجاملًا متنبِّئًا ويُثيره بقوله: «يجب أن تشتدَّ عزيمةُ سُموِّكم بخشوع، ويجب أن تشتدَّ عزيمتكم بالربِّ الذي أحبَّكم كثيرًا، فمدَّ عُمرَكم وفتحَ يديه المثقوبتين لكم، فإذا ما أصررْتَ يا صاحب السموِّ على الإعراض عن إنذار الربِّ، أثبت الربُّ لك أنَّ عملَه هو الصحيح، فأصابَك في عملك العظيم وصِرْت هدفًا لحسابه.»
وذلك الأسلوب يدفع الفارسَ إلى وضع السَّرج على الحصان، فلما قرأ بسمارك ذلك أجاب بعنف قائلًا: «يَسرُّني جدًّا إذا ما وَثقْتُ بتوجيه إنذارك إلى أناس يقفون بجانبك فيَبدون أعداءً لحكومة صاحب الجلالة، إلى أناس بعيدين من تواضع منقذنا الذي تُذَكِّرني به فينظرون إلى ذلك التواضُع حانقين متكبرين وثنيِّين كما لو كان دَأْبهم أن ينتصبوا سادةً للبلاد والكنيسة، أُداوم على عملي اليوميِّ مخلصًا مستغنيًا عن حثِّ سعادتك، ولكنني فيما أخشى الله وأحبُّه وأخدِم مليكي بصدْقٍ وبجدٍّ مُضنٍ لا أجدُ في السُّخف الفِرِّيسيِّ حول كلام الربِّ، وفي خُرْق الخصوم من أهل بُومِيرانْيَة وأتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ما يُضَعْضع إيماني بيسوع، فدعْني يا صاحبَ السعادة أَلتمِسُ منك الحذَر من عُجبِك؛ لكيلا يسوقَك إلى حساب الربِّ الذي تُنذرني به.» ثمَّ يدعو بسمارك مخاطبَه إلى إنعام النظر في قول التوراة: «قُمْ يا ربِّ، خلِّصْني يا إلهي، فإنك قد ضربتَ جميعَ أعدائي على فُكوكِهم وقصَمْتَ أسنانَ المنافقين، للربِّ الخلاصُ، على شعبك بركتُك، سِلَاه!»
وهنالك في ذلك الهوى الخاصِّ بالتوراة آخِرُ وَثَباتٍ لنصرانية بسمارك.
هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الأمير بسمارك كان قبل أن يصير وزيرًا في بروسية ذا صلة بالأوساط العظيمة في عالم المال، ويرجع ما بين فون بِلِيشْرُودِر والأمير من صلاتٍ وثيقةٍ على وجهٍ غير مباشر على الأقل إلى ما قبل نَصْبه وزيرًا؛ أي إلى الأيام التي استطاع فيها — براتبه الضئيل ومع ضعْف ثروته — أن يُمثِّل مولاه سفيرًا لبروسية في سان بطرسبرغ وباريس وفرانكفورت، فكان لا بُدَّ له من الإفادة في الأمور المالية. ومما لا ريب فيه أنه يحقُّ للأمير بسمارك — كما يحقُّ لكلِّ إنسان آخر — أن يطالب ببراءة ذمَّته إلى أن يظهر من الأدلة ما يَدينُه، ومما لا يمكن إنكاره مع ذلك أن هذا القطبَ السياسيَّ القدير جعل من نَهَّابي الشعب المعروفين محلًّا لرعايته، ولا يكاد يوجدُ خطأٌ لم تقترفْه الحكومةُ الحاضرة، وذلك سترًا لصِلاتها الشائنة برجال المال في برلين.
وذكر البارون فون لويه أنه لقيَ بِلِيشْرُودِر في الوزارة في شهر يوليو سنة ١٨٧٠ وقبل شهْر الحرب بيومٍ واحدٍ، فقال: «لا يُفترض أن يكون فون بِلِيشْرُودِر وفون بسمارك قد حَضَرَا معًا للكلام عن المطر وحُسْن الجوِّ، ولا أعرفُ هل باع فون بِلِيشْرُودِر أو اشترى في ذلك النهار؛ أي ضارب على الحرب والسِّلم، وإنما الذي لا أشكُّ فيه هو أنَّ ما بين فون بِلِيشْرُودِر وفون بسمارك من الصداقة كان مفيدًا لهذا الأخير، أعني: مفيدًا ذهنيًّا!»
ثمَّ قيل إن بسمارك وضَع أمور الحكومة في يدِ يهوديٍّ مستأجِر لمصنع ورقه في فارزين اسمُه بهرند، ثمَّ كتب قائد المائة المسمَّى فون بوتكامر يقول: إن وضْعَ بسمارك للقانون الخاص بإقطاعات بُومِيرانيَة هو لتتمكنَ زوجتُهُ من وراثة إحدى إقطاعات آل بوتكامر!
وهل تَصِل الخسَّة إلى ما هو أبعدُ من ذلك؟ أندادُ بسمارك يَرمون بالقول السيِّئ هذا الرجل الذي يَكسِفُهم ظلُّه جميعًا، فيودُّون عرْضَه على أنظار الناس إنسانًا مُضاربًا، وهم بمداخلهم يَنزعون منه كلَّ وجه للشكوى، وهم يؤذونه في دور تقدم الشِّركات، وهم يجعلون من اليهود في كل حال محلَّ لَعَناتهم، وهم يُسيئون إلى بلدهم قبل كلِّ شيءٍ بما تُسرُّ به أوروبة من تلك التُّهَم بالارتشاء، وهم على ما كان من إفادتهم من المضاربات الموفَّقة في ذلك الدَّور بفضل حِذْق معظم المصارف اليهودية؛ تَجدُهم يفترون على هذه المصارف ويجعلون من بسمارك الذي أوجب ذلك الانتعاشَ القوميَّ مبتكرًا لتلك القبائح، «وذلك لاتساع مدى الارتشاء، ونحن نعيشُ تحت ظلِّ حكومة فاسدة تُسمَّى بسمارك»، وهذه هي الجملةُ الوحيدة التي أمكنَ رفعُ قضيةٍ بسببها، وقد فرَّ كاتبُها اللاساميُّ مجتنبًا للسجن مواظبًا على الكتابة في سويسرة.
ولو وُجِّهت هذه المثالب إلى فِينْدهُورْست الذي كان يجتمع ببليشْرُودِر في الحين بعد الحين لأَثارتْ تبسُّمًا؛ وذلك لبقاء فِينْدهُورْست فقيرًا حتى مماته، وعكسُ ذلك أمرُ بسمارك الذي عزَم على جَنْي بعض الفوائد الشخصية مستعينًا بلوذعيَّته وقدرته، وهو الذي كان يُشيرُ — في الغالب — إلى الهدايا العظيمة التي يُقدِّمها الشعبُ الإنكليزيُّ إلى أقطابه السياسيين مقدِّرًا أنه لا يَقدرُ على حفظ مقامه أميرًا إلا بمثل هذه الهبات، فاستطاع أن يجمع ثروةً كبيرة في أثناء السنين الثلاثين التي ظلَّ قابضًا فيها على زمام الأمور.
بيدَ أنَّ بسمارك كان من الذكاء العظيم ما لا يُخاطر معه بمقامه الرسميِّ أو بصِيتِه الشخصيِّ ولو أتتْه هذه المجازفةُ بالملايين، وماذا فعل؟ اكتشف — بما اتَّفق له من دهاءٍ سياسيٍّ — طريقًا وحيدةً يستطيعُ أن يَبلغ بها غايتَه من غير أن يخاطر بشيء؛ وذلك أنه اختار من بين أصحاب مصارف الرَّيخ رجلًا رآه أجرَأهم وأشرفَهم فربَط هذا الرجلَ به مكلِّمًا إياه عن سَير المعاملات عند الاقتضاء ضامنًا أقصى ما يمكن من نموِّ ماله بإمضاء واحد؛ أي بتوكيل صاحبه هذا وكالةً عامةً.
ويَعمُّ الناسَ عظيمُ استياء ضدَّه لعمله ذلك، ولا سيَّما في دور نموِّ الشركات ذلك، حيث ترى كلَّ رجل ناجح عينًا على الآخرين، ويسري بين النبلاء الذين كانوا يجمعون مالًا قولٌ حول «الخطر على يُسْر الدولة العامِّ من إعطاء قطب الإمبراطورية السياسيِّ الأول وكالةً عامةً بإدارةِ أموالِه لرأس أصحاب البنوك الذي هو ماليٌّ يهوديٌّ كبير»، ويحاول مولتكه وقُوَّادٌ آخرون أن يَفصلوا بسمارك عن بِلِيشْرُودِر بوسائلَ غيرِ مباشرة، ويُنذرُه خُلصاؤُه القدماء كتابةً، ومن ذلك قولُ أحدِهم: «لا أستطيع أن أمنع نفسي من مصارحة سموِّكم بذيوع نكتةٍ بين الشعب قائلةٍ إن بِلِيشْرُودِر شريكٌ في الحكومة، وقد هُتِكَ شرفُ بروسية القديم بما يُلاقيه أصحابُ الشركات من الحظوة لدى المقامات العليا.»
وما كان لبسمارك ليسمتع لأيةِ نصيحةٍ كانت، فلما كتَب بعضهم إلى الإمبراطور محذِّرًا عملَ بسمارك على زيارة بِلِيشْرُودِر لوِلْهِلْم في أملاكه، وأموالُ الإمبراطور الخاصة — فضلًا عن ذلك — كانت سائرةً في طريق النجاح على يدِ «ماليٍّ يهوديٍّ» آخرَ كما تسير أموال بسمارك.
ويقول بسمارك في مشيبه: «أعرف ماذا يجب عليَّ أن أفكِّر فيه حول بِلِيشْرُودِر وأولاده، فقد كان صرَّافي، ومن البهتان أن يُقال إنني كنت أُعطيه إشاراتٍ سياسيةً يتمكَّن بها من القيام بأمورٍ مفيدة لي أو له، ومن الصحيح أنه أمدَّني في سنة ١٨٦٦ بوسائل مواصلة الحرب على حين كان كلُّ واحدٍ غيرَ راغبٍ في إعطائنا قرضًا، وهذا ما جعلني شاكرًا له، وإنني — كرجلٍ مسئول — كنت لا أدَعُ إنسانًا يهوديًّا أو غيرَ يهوديٍّ يقول إنني استغللتُه ثمَّ قصَّرْت في مكافأته على ما قدَّم من خِدَم لا يسعني سوى تقديرها كرجلٍ سياسيٍّ.» وهنا نرى تشابُكَ الشكران والإذعان.
ويُعنَى بسمارك بالجزئيات في السنوات العشر الأُولى، وهو يَقُصُّ علينا أنه لم يَبِعْ سنداتِه الأجنبيةَ حتى سنة ١٨٧٧، «فلما علمتُ أن شوفالوف عُيِّن سفيرًا في لندن لم أنَمْ ليلةً واحدة قائلًا في نفسي: إن الروس بانفصالهم في ذلك الحين عن أنبهِ رجلٍ فيهم يكونون قد أخطئوا، وهذا ما جعلني في اليوم التالي أُوعِز إلى بِلِيشْرُودِر بأن يبيع ما لديَّ من سندات الدولة الروسية، فأثنى بِلِيشْرُودِر على سعة نظري في هذا الأمر.»
واستطاع بسمارك أن يتوارَى وراء تلك الوكالة العامة فيصوِّب إلى خُصومه في الرَّيشتاغ ضرباتٍ قاتلةً، ومن ذلك قولُه: «إذا ما بلغتْ جريدةٌ كجريدة كرُوزْزايْتُنْغ من القِحَة ما وجَّهتْ به أفظعَ إفكٍ وأكذبَ بهتان إلى أُناس مِن ذوي المقامات العالية في العالم فوضعتْهما في قالب لا يمكن معه أن يُرفَع أمرُهم إلى القضاء، وأثارتْ بهما — مع ذلك — رِيَبًا حول شرف هذا أو ذلك الوزير في أعماله؛ وجَب علينا تجاه هذا الزور أن نُؤلِّف جميعًا جبهةً واحدة فلا يُشجِّع كلُّ واحدٍ هذه الجريدةَ بالاشتراك فيها، وكلُّ واحدٍ يحفظ هذه الجريدة يكون شريكًا فيما تَنشره من افتراء وأكاذيب.»
ولكن الأشراف «أبناء العمِّ» يتحدَّونه؛ فقد برز ستةٌ وأربعون من حملة الألقاب، وقد انضمَّ إليهم مئاتٌ كثيرة من الإكليروس فيما بعد، فصرَّحوا من فَورِهم في كرُوزْزايْتُنْغ بأنهم أنصارٌ مخلصون للراية الملكيَّة المحافظة، وبأنهم لا ينفصلون عن صحيفتهم هذه «وبأن مستشار الإمبراطورية إذا كان يشكُّ في صدْق مشاعرنا النصرانية فإننا نترفَّعُ عن مجادلتِه كما نترفَّع عن قبول نصائحه عن الحشمة والشرف»، ومن مُوَقَّعِي ذلك ترى أسماء فِيدِل وزِيتْزِيفِتْز ومارْفِيتْز وسِهرْتوس وغوتبِرْغ وأسماء أقدم أصدقاء بسمارك مثل بلانْكِنْبرغ وكليست ريتزوف، والشيخ تادن-تريغلاف «مع الأسف العظيم».
وهكذا تُبصِر أولئك الذين أيَّدوا بسمارك في مغامراتِ شبابِه يُعادونَه مغاضبين في كمال رشدِه حين أصبح أقوى رجلٍ في الإمبراطورية، وينشر بسماركُ قائمةَ «المصرِّحِين» هؤلاء في جريدة «رايْخسانْزِيجر» معلنًا أنهم يُثبتون عِداءهم للدولة بحملتهم على شخصه، وبسمارك بعد هذه الضربة الشديدة ينفصلُ عن طبقته لعدة سنوات.
وإليك أيضًا ثُغرةً قاطعة للرجاء بين بسمارك وهانس فون كلِيسْت رِيتْزُوف الذي هو من أقرباء حَنَّة، والذي كان رفيقًا لغرفة بسمارك أيام اللَّنْدتاغ، والذي كان يَمُدُّ عينَيه معه إلى منصب وزاريٍّ، والذي بدَا أبا عِمادٍ لابنةِ بسمارك، والذي كان لا يُخاطبُه فيما يكتب إليه من كُتُب إلا بكلمةِ «حبيبي بسمارك»، والذي احتمل بسمارك آراءَه الدينية صابرًا، فالآن يتواجه الرجلان في المجلس الأعلى، والآن يظهران خصمَين، والآن حين يتراشقان بجارح الكلامِ يذكران — على ما يحتمل — ما كان منذ خمس وعشرين سنةً من إسماع كلٍّ منهما للآخر ما يُلقيه من خُطَب ضدَّ الديمقراطيين.
ويدعو المستشارُ صديقَه إلى زيارته طمعًا في إقناعه، ويأبى كليست الإذعان، ويُمسك بسماركُ السكين ويبدو كمَن يقطع غطاء المائدة، وينهض، ويدَع صديقَه السابق ينصرف، ولم يُعَتِّم بسمارك أن صار يتكلم عنه من فوق المنبر ساخرًا، ومن ذلك قولُه: «لقد قضى جناب الخطيب وقتًا طويلًا في دراسة علم اللاهوت، ولا جرمَ أنه سيفكِّرُ ذات يوم في هل تَحفِزه سلامةُ روحه إلى انتحال الكثلكة!»
ويحاول كليست أن يصالح بسمارك، فيَنظم قصيدة بسبب عيد زواجه الفضي، غير أن بسمارك يمنع زوجه حتى من الكتابة إليه، ويقول لخادمه على مَسْمع من الحضور: «إذا جاء فون كليست فبلِّغْه أنني لست في المنزل.»