«لوزة» و«نوسة»

عندما عادت «لوزة» بأسئلتها وأفكارها إلى حيث كان الأصدقاء وجدتهم قد انصرفوا ما عدا «تختخ» الذي ما زال يجلس في الحديقة في انتظار موعد زيارة جَدِّه حيث يذهب لاستقباله في محطة السكة الحديد.

جلست «لوزة» واستلقى «زنجر» تحت قدميها على الحشيش الأخضر، وبعد لحظات قالت: اسمع يا «تختخ» إنني أحس أن قصة الدكتور «عرفان» فيها أشياء كثيرة غير واضحة أو غير معقولة.

ردَّ تختخ: وأنا أيضًا.

لوزة: هل في ذهنك أسئلة كما في ذهني؟

تختخ: طبعًا … ولكن ما هي أسئلتك يا «لوزة»؟

لوزة: مثلًا، إذا كان الجواسيس قد خطفوا الدكتور «عرفان» وأخذوه إلى الخارج فلماذا أعادوه وعرَّضوا أنفسهم لمخاطر اكتشافهم عند عودتهم؟

تختخ: سؤال معقول جدًّا.

لوزة: وهل الدكتور «عرفان» الموجود حاليًّا هو الدكتور «عرفان» الأصلي؟

تختخ: هل تقصدين أن الرجل الذي قابلتُه مع المفتش «سامي» ليس هو الدكتور «عرفان» الحقيقي؟

لوزة: هذا ما يُخَيَّل لي.

تختخ: ولماذا يعرض نفسه لمخاطر الاكتشاف؟

لوزة: لعل الجواسيس يريدون الحصول على أوراق من عند الدكتور «عرفان»، وعندما وجدوا أن المنزل عليه حراسة جيدة فقد فضَّلوا أن يَلجئوا للحيلة ويدسُّوا شخصًا مزيَّفًا باسم الدكتور «عرفان» على حين أن الدكتور «عرفان» الأصلي ما زال خارج البلاد.

تختخ: هذا أيضًا معقول.

لوزة: ثم هناك ذلك الشخص المجروح اليد الكبير الرأس الذي شاهدتُه أمس صباحًا في عيادة الدكتور «مكرم» … وإني أحس أنه أحد أعضاء عصابة الجواسيس، فكيف يكون في العيادة في ذلك الوقت في حين يقول الدكتور «عرفان» إنه كان في هذه اللحظة في الطائرة؟

تختخ: سأنقُل شكوكَكِ إلى المفتش «سامي» لأنني مشغول اليوم باستقبال جَدِّي ولن أستطيع المشاركة في أية أبحاث.

ودخلا معًا الفيلا واتصل «تختخ» بالمفتش «سامي» وأنصت المفتش إلى كل ما قاله «تختخ»، ثم قال: هناك أسئلة معقولة مثل: لماذا عاد الجواسيس؟ ولكن الإجابة سهلة، فلعل عندهم عملًا آخر سوف يقومون به في مصر، أما الرجل المجروح فإن إحساس «لوزة» أنه أحد الجواسيس لا يكفي لإثبات الحقيقة، أما الدكتور «عرفان» الذي قابلناه فليس شخصًا مزيفًا. إنه الدكتور «عرفان» الحقيقي لأنني أعرفه.

قال «تختخ»: هل نكفُّ إذن عن البحث؟

المفتش: لا لا مطلقًا، فعندنا واجب القبض على أفراد عصابة الجواسيس.

وانتهت المكالمة ونقل «تختخ» ﻟ «لوزة» وجهة نظر المفتش ثم نظر في ساعته وقال: سأذهب الآن لاستقبال جَدِّي على محطة القطار … هل تأتين معي؟

لوزة: لا … سأعود إلى البيت، فإنني متعبة وسوف أمر في المساء.

انطلقت «لوزة» عائدة وجلس «تختخ» لحظات ثم وقف قائلًا ﻟ «زنجر»: هيا بنا إلى المحطة.

وانطلق «تختخ» وخلفه كلبه الذكي، أما «لوزة» فركبت دراجتها واتجهت إلى منزل «نوسة» فوجدتها في الحديقة تقرأ كتابًا، واستقبلتها «نوسة» قائلةً: أهلًا بالمغامِرة الصغيرة … ماذا وراءك؟

قالت «لوزة» متنهدة: إن المفتش «سامي» و«تختخ»، بل أنتم جميعًا، مقتنعون أن لغز الدكتور «عرفان» قد انتهى، وأن المشكلة فقط هي القبض على العصابة، وهو عمل يتولاه رجال الشرطة … أما أنا فأحس أن اللغز لم يُحَلَّ بعد. إنني أشعر أن عندي فكرة لو جمعنا منها المعلومات الكافية فستتكشَّف عن لغز أكبر.

نوسة: وهل أستطيع أن أساعدك؟

لوزة: نعم، أريد أن تأتيَ معي إلى عيادة الدكتور «مكرم»؛ فإني أريد أن أتأكد من شخصية الرجل ذي الرأس الكبير. إنه أحد الجواسيس الثلاثة وأنا متأكدة أنه هو نفسه الذي كان في العيادة أمس، على حين يقول الدكتور «عرفان» إنه كان في الوقت نفسه موجودًا في الطائرة.

نوسة: وهل إثبات وجوده في العيادة يكشف لكِ شيئًا؟

لوزة: نعم … سوف يوجِّه أبحاثنا واستنتاجاتنا وجهةً أخرى.

نوسة: إذن سآتي معكِ.

وقامت «نوسة» مع «لوزة» وانطلقت الصديقتان إلى عيادة الدكتور «مكرم»، وليس في ذهنيهما خطة محددة للحديث مع الدكتور … ولكن الدكتور استقبلهما ببشاشة وسألهما عما تريدان فقالت «نوسة»: إن ما نسأل عنه قد يبدو لك غريبًا … ولكن أرجو أن تُسهم معنا في حل مشكلة تعترض طريقنا.

قال الدكتور مبتسمًا: اسألي عما تشائين.

نوسة: هل حضر إليك منذ خمسة أيام تقريبًا رجل مصاب في يده وبها آثار زجاج رفيع من المستخدم في صناعة الأنابيب، وهذا الرجل أجنبي؟

قال الدكتور ببساطة: نعم هذا حدث فعلًا، وقد كان الجرح مُلوَّثًا من آثار مادة كيميائية خطيرة، فأجريتُ له عملية صغيرة لإخراج الزجاج وتطهير الجرح، وطلبت منه التردد على العيادة كل يوم لتنظيف الجرح.

ودقَّ قلب «لوزة» دقًّا سريعًا وهي تسأل: وهل كان يتردد على العيادة بانتظام كما طلبت منه؟

الدكتور: نعم كان يتردد بانتظام ولم يُخلِف يومًا واحدًا، وقد حضر قبل أن تصلا بدقائقَ قليلة.

ابتسمت «لوزة» وقد أحسَّت أنها قد وصلت إلى شيء هام، وسألت: سؤال أخير يا دكتور … هل سيعود هذا الرجل للعيادة مرة أخرى؟

الدكتور: لا، لقد انتهت مدة علاجه اليوم ولن يعود مرة أخرى.

شكرت الصديقتان الدكتور بحرارة وانطلقتا على دراجتيهما في شوارع المعادي مسرعتَيْن إلى منزل «لوزة» حيث اعتاد الأصدقاء الاجتماع واتصلتا ببقية المغامرين …

كان «عاطف» موجودًا طبعًا في المنزل لأنه شقيق «لوزة»، وحضر «محب» مسرعًا ولكن «تختخ» اعتذر لانشغاله بوجود جَده، ووعد بأنْ يحضُرَ بعد ساعة.

جلس المغامرون الأربعة يتحدثون، وكانت «لوزة» هي صاحبة الكلمة فقالت: إن هناك مجموعة من الألغاز في هذا اللغز … وهو يذكرني ﺑ «لغز الألغاز» الذي اشتركنا في حله من قبل … وحتى لا نتوه وسط الألغاز هناك شيء واضح جدًّا … إن الجاسوس الجريح ذا الرأس الكبير كان موجودًا بالمعادي طول الوقت … ولم يغادر مصر مطلقًا! فكيف يقول الدكتور «عرفان» إنه كان معه في الطائرة في رحلتَيِ الذَّهاب والعودة وفي فترة بقائه خارج مصر؟!

عاطف: إذن الدكتور «عرفان» يكذب.

نوسة: هذا صحيح، إذا كان الرجل الذي قابلناه هو ولم يكن جاسوسًا متنكرًا.

محب: والحل؟

نوسة: الحل هو التأكد من شخصية الدكتور «عرفان».

عاطف: ولكن كما علمت فإن المفتش «سامي» متأكد من شخصية الدكتور «عرفان».

لوزة: هذا هو اللغز الذي لا يمكن حله إلا إذا وجدنا طريقة لوجود شخص واحد في مكانين مختلفين في نفس الوقت … أي أن يكون الجاسوس ذو الرأس الكبير في مصر وخارج مصر في نفس الوقت، وهو ما لا يمكن إثباته.

نوسة: إن الوحيد الذي يملك حل اللغز هو الجاسوس ذاته، ويجب أن نبذلَ كل جهد للعثور عليه ما دامت «لوزة» متأكدة أنه موجود في مصر، بل في المعادي بالذات.

محب: المهم من أين نبدأ؟

لوزة: نبدأ بما عندنا من معلومات … لقد قال سائق التاكسي الذي كان يقف عند زيارتي الأولى أمام عيادة الدكتور «مكرم»، إنه أخذ الراكب من قرب الاستاد … وفي الأغلب فإن ذا الرأس الكبير يسكن قرب الاستاد.

عاطف: ولكن سكنه قرب الاستاد يشبه أن نقول إن شخصًا يسكن قرب ميدان التحرير مثلًا … فهناك مئات بل آلاف البيوت … فكيف نبحث عن الإبرة في كومة القش؟

لوزة: إن عندي تصوُّرًا معينًا لهذا المنزل الذي يسكن فيه هذا الجاسوس أو الجواسيس الثلاثة معًا … بالإضافة إلى أن المنازل القريبة من الاستاد قليلة جدًّا.

محب: ما هو هذا التصور؟

لوزة: إنهم يسكنون في منزل له سُلَّم مرتفع.

عاطف: ومن أين حصلتِ على هذه المعلومات؟

لوزة: لن أصرِّح لكم بشيء الآن … هيا بنا حتى لا نضيِّعَ وقتًا أطول.

وتحرك الأصدقاء الأربعة خارجين، وفي هذه اللحظة وصل «تختخ» ومعه «زنجر»، فشرحت له «لوزة» ما وصلوا إليه من استنتاجات.

قال «تختخ»: ولكن يا «لوزة» لا بد أن أعرف كيف وصلتِ إلى معرفة شكل هذا البيت دون أن تراه عيناكِ، أو يأتيَ ذكرُه في التحقيقات.

مالت «لوزة» على أذن «تختخ» وأخذت تتحدث بحماس وتشير بيديها و«تختخ» يستمع في انتباه شديد، وعندما انتهت من روايتها كان وجهها يتضرَّج احمرارًا على حين كان «تختخ» مستغرِقًا في التفكير، ثم التفت إلى بقية الأصدقاء قائلًا: أيها المغامرون … لقد عثرت «لوزة» على أغرب لغز في العالم! وإذا صدق ما فكرت فيه فإنها تكون أكبر عبقرية بوليسية سمعت بها … هيا بنا.

وانطلق الأصدقاء جميعًا إلى ناحية «الاستاد» … وهي ناحية مهجورة في آخر المعادي وعلى مشارف الصحراء. وعندما اقتربوا من المكان وزَّعوا أنفسهم، واتفقوا على الانتشار في المنطقة على أن يلتقوا بعد ساعة عند شجرة ضخمة قُرب محطة الأتوبيس التي هناك.

مضى كلٌّ في طريقه، واختار «زنجر» أن ينضم إلى «لوزة». فقد أحس أنها صغيرة وتستحق رعاية خاصة … ومضى خلفها، ومضت الفتاة الصغيرة تقطع الطريق وهي تنظر حولها … وأخذت تلفُّ وتدور وفجأة شاهدت السيدة التي اصطدمت بها وأوقعت لها سلة الخضار … وكانت بالمصادفة تقف في شرفة منزل له سُلَّم مرتفع … واقتربت «لوزة» منها وألقت عليها التحية، وتذكرتها السيدة فردت التحية وقالت «لوزة»: إني أبحث عن منزل له سُلَّم مرتفع في هذه الناحية … مثل هذا المنزل الذي تسكنين فيه … فهل تعرفين منازل من هذا النوع؟

قالت السيدة: هناك أكثر من منزل له سلالم مرتفعة في هذه الناحية … عمن تسألين؟

لوزة: عن منزل يسكن فيه ثلاثة من الغرباء الأجانب، وربما كان سُلَّمُه من الحديد.

قالت السيدة ببساطة: إنهم يسكنون في هذا المنزل وأنا أعمل عندهم، وكما ترين فهذا السُّلَّم من الحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤