الخطة

قال «تختخ» وهو ينظر إلى المنزل: إن هناك ثلاثة أشياء سنفعلها في وقت واحد: أولًا، تذهب «نوسة» فورًا إلى أقرب تليفون وتتصل بالمفتش «سامي» وتطلب منه الحضور بأسرع ما يمكن، ثانيًا: سيقف «محب» و«عاطف» لمراقبة البيت.

عاطف: وماذا تفعل أنت؟

تختخ: سأدخل البيت!

محب: غير معقول!

تختخ: لا تنسَ أن «لوزة» في الداخل ونحن لا ندري ماذا يحدث هناك … لا بد أن يكون أحدنا بجوارها … فقد يحاول هؤلاء الرجال إيذاءها … إنهم لا يتورَّعون عن شيء إذا أدركوا أن «لوزة» عرفت حقيقتهم.

انصرفت «نوسة» مسرعة ووقف «تختخ» يفكر قليلًا ثم قال: إذا حاولت دخول المنزل من الباب فقد يمنعونني، أو قد يُطلقون عليَّ الرَّصاص … ولهذا سأحاول الوصول من إحدى النوافذ المفتوحة … إن المنزل مُحاط بسور مرتفع وتُحيط به الأشجار العالية من جميع الجهات … وسأستفيد من هذا لأدخل.

وتقدم «تختخ» مستترًا بما يجد من أشجار حتى أصبح بجوار سور المنزل، ثم استند إلى جذع شجرة وتسلَّق السور … وكان «زنجر» يتبعه عن قرب فقفز خلفه. ومن السور وصل «تختخ» إلى السطح ودار حوله في محاولة لإيجاد مكان مفتوح ينزل منه إلى البيت، وأخذ «تختخ» يبحث عن شيء في السقف كان ينتظر وجوده … كان ماسورة ممتدة بجوار السقف مفتوحة من أحد الجوانب ومُخرَّمة تُشبه المصفاة، وأدرك «تختخ» أن «لوزة» كانت على حق في تصورها عن خطة الجواسيس في خطف الدكتور «عرفان».

كان «تختخ» يسير محاذرًا أن يسمعه مَن في الداخل، ولكنه لم يكن يعرف أن أحد الجواسيس الثلاثة كان بالخارج، وفي هذه الأثناء حضر الجاسوس يركب سيارة سوداء … شاهد «تختخ» على السطح، وبسرعة صعد إليه وصاح قائلًا: لا تتحرك وإلا أطلقت الرصاص!

كانت الأشجار العالية تخفي ما يحدث عن عيون المارة، ولم يكن هناك في هذا المكان المتطرف من المعادي إلا قلة قليلة … فوجئ «تختخ» بما حدث ولكن «زنجر» لم يُفاجأ، فسرعان ما قفز على الرجل كالعاصفة وأَعْمَلَ أسنانه ومخالبه فيه، وصاح الرجل لاعنًا فالتفت «تختخ» سريعًا واشتبك معه في صراع عنيف، وكان المسدس قد وقع بعيدًا والجاسوس يحاول الوصول إلى المسدس، وأخذا يتدحرجان على السطح، ولفتت الحركة أسماع الجاسوسين فصعد أحدهما إلى السطح وحسم المعركة بقوله: ابتعد أيها الولد وإلا أطلقتُ النار …

ومرة أخرى تدخل «زنجر» وقفز على الرجل، ولكن الرجل كان أسرع منه فأطلق عليه الرصاص من مسدسه الصامت وصرخ «زنجر» وأدرك «تختخ» أنه قد أصيب، وجُن جنونه ودفع الرجل الذي كان مشتبكًا معه دفعة قوية، ثم التفت إلى الرجل الآخر محاولًا مهاجمته ولكن الرجل ابتعد عنه مسرعًا وقال في صوت منذر: لا تتحرك وإلا أطلقتُ الرَّصاص.

أسرع «تختخ» غيرَ مبالٍ بتهديد الرجل إلى «زنجر» الذي كان ينام على جانبه وأخذ يبحث عن مكان إصابته واطمأن قليلًا عندما وجد أن «زنجر» قد أُصيب في ساقه وأنها ليست إصابة مميتة.

تحت تهديد المسدسين اضطُر «تختخ» أن يحمل «زنجر» وينزل السلم إلى أسفل حيث كان الجاسوس الثالث ما زال يحرس «لوزة» و«توحيدة» وتحدَّث الرجال الثلاثة بسرعة، وكان واضحًا أنهم يتفقون على مغادرة المنزل بأسرع ما يمكن، وذهب أحدهم إلى إحدى الغرف وأحضر حبلًا وبسرعة وبأيدٍ مدرَّبة ربَطَ «لوزة» ثم «توحيدة» ثم «تختخ» إلى كراسيِّهم، ووضع على أفواههم كمامات، وأخذ الرجال الثلاثة يحزمون أمتعتهم بسرعة و«تختخ» يفكِّر فيمَ يفعل … سيهرب الجواسيس وسيكون من الصعب العثور عليهم مرة أخرى.

وحمل الجواسيس حقائبهم واتجهوا إلى الباب وكان أحدهم يقترح إشعال النار في المنزل لإخفاء آثارهم وإسكات «لوزة» و«توحيدة» و«تختخ» إلى الأبد، ولكن الرجلين الآخرين رفضا الفكرة وفتحوا الباب واتجهوا إلى السيارة.

لم يحسب الجواسيس الثلاثة حساب خطة «تختخ» الذكية، فقد كان «محب» و«عاطف» في أثناء مراقبتهما المنزلَ قد شاهدا السيارة وهي تقف بالباب وشاهدا الجاسوس وهو يصعد إلى السطح خلف «تختخ» وفكَّرا بسرعة وقررا التدخُّل.

لقد أسرعا إلى السيارة فأفرغا عجلاتها الأربع من الهواء ثم انتظرا حتى تأكدا أن الصراع على السطح قد انتهى فصعد «محب» إلى السطح وشاهد كل ما حدث في صالة المنزل، وانتظر حتى خرج الجواسيس ثم نزل مسرعًا إلى الصالة ليفك قيود «تختخ» و«لوزة» و«توحيدة» على حين وقف «عاطف» يراقب ما سيفعله الجواسيس الثلاثة عندما يجدون السيارة وقد أُفرغت إطاراتها الأربع، وبرغم خطورة الموقف فإن «عاطف» المرِح الساخر لم يملك نفسه من الابتسام وهو يرى الارتباك الذي أصاب الجواسيس أمام السيارة التي أصبحت جثة هامدة.

عندما كانت هذه الأحداث تجري كانت «نوسة» قد اتصلت بالمفتش «سامي» ثم اتصلت أيضًا بالشاويش «فرقع» الذي لم يصدِّق شيئًا مما روته له ولكنها اضطُرت أن تقول له إن المفتش «سامي» هو الذي يطلبه حتى يتحرك سريعًا … وقد وصل الشاويش على دراجته في نفس الوقت الذي خرج فيه الجواسيس الثلاثة ووقفوا حائرين أمام السيارة.

وكانت «نوسة» قد عادت وانضمت إلى «عاطف» فشاهدا معًا الشاويش وهو يتقدم على دراجته باحثًا عن المنزل فأسرعا إليه وأشارا إلى السيارة وإلى الجواسيس الثلاثة.

وصاح الشاويش: هل هي نكتة أخرى سخيفة؟ أين المفتش «سامي»؟

قالت «لوزة» بصوت هامس: خفِّض صوتَك يا حضرة الشاويش؛ إن أمامك صيدًا ثمينًا، فهؤلاء هم الجواسيس الذين خطفوا الدكتور «عرفان».

أُصيب الشاويش بذهول ولم يصدِّق أن الأولاد قد صَدَقوه القولَ وأنهم يضعون بين يديه هذا الصيد الثمين … وفي هذه اللحظة كان الجواسيس الثلاثة قد استقروا على رأي فألقَوْا بحقائبهم الثقيلة وانطلقوا يمشون مسرعين يبحثون عن تاكسي يُخرجهم من المعادي، وكان «تختخ» قد ظهر ومعه «محب» و«لوزة» و«توحيدة» عند الباب … ورأى الجواسيس يسرعون بالفرار، وأخذ يفكر في طريقة تمنعهم دون أن يعرِّض نفسه أو أصدقاءه للخطر، ولكن الشاويش «علي» تصرَّف لأول مرة في حياته التصرُّفَ الصحيح، فقد تقدَّم من الجواسيس الثلاثة وأطلق عيارًا ناريًّا في الهواء إنذارًا لهم … كان دويُّ الرَّصاص كافيًا للفت انتباه المارة، وأهم من هذا أنه أرشد سيارات رجال الشرطة التي كانت تبحث عن المنزل في تلك اللحظة تتقدمهم سيارة المفتش «سامي»، فقد اتجهت السيارات فورًا إلى اتجاه الطلقة … وكان الجواسيس قد اختاروا ثلاث أشجار واختفَوْا خلفها وأخرجوا مسدساتهم وبدءوا إطلاقَ رَصاصهم الصامت على الشاويش.

أطلق الشاويش رَصاصة أخرى ثم سمع «عاطف» يناديه ليختبئ بعيدًا عن مرمى رَصاص الجواسيس فأسرع يختفي خلف بعض الطوب … في تلك اللحظة وصلت السيارات، ونزل رجال الشرطة يحملون المدافع الرشاشة وأحاطوا بالمكان، ونزل المفتش «سامي» من سيارته واتجه ببساطة إلى حيث أشارت «نوسة» إلى مكان الجواسيس وكان الجواسيس الثلاثة قد أدركوا أن لا فائدةَ من المقاومة، فخرجوا يرفعون الأيدي بعد أن أسقطوا مسدساتهم.

كان المفتش «سامي» سعيدًا بالقبض على الجواسيس الثلاثة … ولكن الشاويش «علي» كان أشدَّ سعادةً بعد أن هنَّأه المفتش على مجهوده … ولكن مَن صاحب الفضل الأول في كشف مكان الجواسيس الثلاثة؟

إنها «لوزة» صاحبة أغرب فكرة لتفسير اللغز … وعندما أخذ المفتش يُقبِّلها مُعجبًا بها وسألها عن فكرتها أشارت إلى «تختخ» قائلة: سيشرح لكم «تختخ» فكرتي … لقد قلتُها له وهو أقْدَرُ مني على شرحها وسأهتم أنا ﺑ «زنجر» …

قال «تختخ» — وقد جلس مع المفتش والأصدقاء في منزل الجواسيس على حين يقوم الضابط بتفتيشه: إن فكرة «لوزة» غريبة حقًّا … ولكنني تأكدتُ من صحتها، فالدكتور «عرفان» لم يخرج من مصر!

التفت جميع الحاضرين إلى «تختخ» في انتباه شديد ودهشة بالغة وهو يقول: نعم، إن الدكتور «عرفان» لم يخرج من مصر بل لم يغادر المعادي مطلقًا … ولم يركب طائرة … لقد كان ذلك من قبيل الوهم.

المفتش: كيف؟ لقد ركب الطائرة وحُبس في منزل تسقط عليه الأمطار وكان يتناول طعامًا غريبًا، ويقرأ جرائدَ أجنبية … ويسمع محطة إذاعة أجنبية فكيف لم يخرج من القاهرة؟

قال «تختخ»: لقد كان كل ذلك مجرد خطة نُفِّذَت ببراعة … لقد كان الدكتور «عرفان» واقعًا تحت تأثير مخدر خفيف، وقد كان المخدر الخفيف مقصودًا حتى يشعر بما يحدث حوله دون أن يراه، وبهذا يتوهم ما يريدون إحداثه من تأثير فيه إيحاء له … ولو كانوا يريدون ألا يعرف أين يذهب لأعطَوْه مخدِّرًا قويًّا بحيث لا يعرف مطلقًا ماذا حدث وأين ذهب.

وسكت «تختخ» قليلًا وقد حبس الجميع أنفاسهم يستمعون ثم مضى يُكمل: لقد صعد الدكتور «عرفان» سُلَّمًا حديديًّا مرتفعًا ظن أنه سُلَّم طائرة، ولكنه كان سُلَّم هذا المنزل، وقد وضع في مدخل الباب جهاز تسجيل يذيع تسجيلًا لأصوات المطار والمسافرين، وعندما دخل المنزل كانوا قد أعدوا كُرسيًّا ضيِّقًا ككراسيِّ الطائرة له حزام ربطوه على وسطه ليظن أنه في طائرة، ثم أداروا مروحة قوية تشبه مروحة الطائرة ليظن أنه في طائرة، ثم حقنوه بمخدر قوي ونقلوه إلى غرفة مكيفة الهواء تكييفًا باردًا وقد فُرشت بأثاث غربي، وعلى سطح هذه الغرفة مأسورة مثقوبة كالمصفاة كانوا يملئونها بالماء، بحيث يتساقط منها مثلما يتساقط المطر الخفيف على النافذة ثم كانوا يقدِّمون له طعامًا أجنبيًّا وكان هناك راديو قوي ينقُل بعضَ الإذاعات الأجنبية … وأحضروا له بعض الجرائد الأجنبية وهكذا ظن الدكتور «عرفان» أنه قد طار ونُقل إلى بلد أجنبي.

عندما انتهى «تختخ» من قصته، نظر إلى الوجوه التي حوله فوجدهم جميعًا يُحملقون فيه كأنه يتحدث عن قصة خرافية، فقال: لقد عثرتُ على الماسورة المثقوبة وسوف تجدون بقية الأدوات التي استُخدِمت لخداع الدكتور «عرفان» في هذا المنزل.

وفعلًا خرج الضباط وهم يحملون في أيديهم المروحة الضخمة وجهاز التسجيل والراديو وأشياء أخرى كثيرة مما استُخدِمت في خداع الدكتور.

وعندما روى المفتش «سامي» للجواسيس الثلاثة القصة كاملة كما رواها «تختخ» لم يستطيعوا الإنكار واعترفوا بكل شيء … ولما سألهم المفتش «سامي» لماذا لم يكتفوا بخطف الدكتور «عرفان» دون كل هذه التأثيرات الغريبة، قال أحدهم: ظننا أنه إذا أدرك أنه نُقل إلى بلد أجنبي فسوف لا يجد مناصًا من تزويدنا بالمعلومات التي نطلبها … ولكنه كان شجاعًا ولم يعترف.

نظر المفتش «سامي» إلى «لوزة» نظرة إعجاب قوية، ثم قال لها: كيف بدأتِ تشُكِّين في قصة الرجل الذي طار؟

ردَّت «لوزة» في حياء: أولًا لأنني أثق في قدرة رجال الشرطة عندنا … ومن غير المعقول أن يستطيع أحد تهريب رجل تحت أعين رجال الشرطة في المطار دون أن يتنبَّهوا … ثانيًا، عندما رأيت الجاسوس ذا الرأس الكبير في عيادة الدكتور «مكرم» في الوقت الذي كان فيه — حسب رواية الدكتور «عرفان» — في «لندن» … فكيف يوجد شخص في مكانين في وقت واحد؟! … مستحيل، وأنتم لم تصدِّقوا أن الرجل الذي رأيتُه في عيادة الدكتور «مكرم» هو الجاسوس، ولكن قلبي كان يحدِّثني بذلك وقد شجَّعني «تختخ» على المُضيِّ في حل اللغز.

وبينما كانت سيارة المفتش «سامي» تنقُل «زنجر» إلى المستشفى كان الأصدقاء يُحيطون به من كل جانب … وكان الشاويش «علي» يروي للناس الذين تجمَّعوا حول المنزل … كيف قبَضَ وحده على الجواسيس الثلاثة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤