الفصل الثالث عشر

انفجار شريان في المخ، انفجار الحياة. شريان، صغير أو كبير لا يهم، لقد انفجر وكانت الحياة معلقة بهذه الخيوط الرفيعة التي تجري فيها الدماء، ولم تحتمل الخيوط الحياة، فانفجرت فمات. مات همام كأي إنسان يموت، لم يرحم الموت أنه أراد أن ينقذ صديقه، ولم ترحم الحياة أنه اندفع إلى غمار المخاطرة من أجل الصداقة. لا، لم يراعِ الموت ولم تعطف الحياة، شأنهما دائمًا يغبيان المروءة ولا يحفلان بالرجولة، سيان عندهما شقيٌّ مات وهو يتسلق بيتًا ليسرق، أو رجل رمى بنفسه إلى البحر لينقذ واحدًا من أبناء الحياة. الموت يستقبل كلا الاثنين وتصدف الحياة عن كليهما.

حلت الكارثة بالبيت الكبير، وكان أكبر الرجال فيه هو ذلك الشاب الذي يريد أن يستقبل الحياة، فأبت الحياة أن تستقبله. ونزلت النازلة بأمه سميرة هانم، فهي من الخطب في هلع آخذ حزين مر، وهي من النازلة في يقظة كاملة تريد أن تواجه هذه الجديدات التي تطالعها بها حياة جديدة من الفقر وهي لم تعود الفقر، ومن العسر قد كانت للآخرين يُسرًا.

وتقدم عزت يجاهد بأقصى جهاده أن يبقي عليهم البيت، ولكن خيري أبى في عزم واثق.

– ماذا نفعل بالبيت يا عمي؟ سيكون ثمنه دينًا علينا، وأولى بنا أن نواجه الموقف بغير حرص على المظاهر.

وقالت الأم: ومن يخدم هذا البيت الكبير؟ وأين لنا بما يكفي خدمه والعيش فيه. بل أينا لنا بالقلوب التي تستطيع العيش تحت سقف كان يظل كبيرنا وكُنَّا ننعم في بره؟

وقال خيري: لا تخش علينا من كلام الناس يا عمي. فقد عاش والدنا غنيًّا ومات فقيرًا، ولكنا نشرف بفقره ونعتز به أكثر من اعتزازنا بغناه. لقد أراد أن ينقذ صاحبه فأصابتهما الفاجعة.

وقال عزت: يرحمهما الله، مات كلاهما من الصدمة، على كل حال يا خيري أنا معجب بهذا الكلام الذي أسمعه منك، وكل رجائي أن تعوِّض أنت ما فاتكم من غنى وتلتفت إلى المذاكرة.

– سأعمل يا عمي.

– تعمل؟! فيمَ؟

– سأتوظف.

– بالبكالوريا؟

– نعم.

– وتترك التعليم العالي؟

– سأحاول أن أذاكر من الخارج.

– يا ابني الحالة لا تستدعي هذا.

– كيف؟

– أمك عندها العشرون فدانًا التي كتبها لها أبوك.

– وماذا تفعل العشرون فدانًا في هذه الأزمة يا عمي؟ أنت أدرى، قنطار القطن بثلاثة جنيهات.

– إنها تكفي ولا شك، سأشرف عليها أنا.

– بل لا يا عمي، أعفني.

– ماذا؟

– لا نستطيع.

– ماذا؟

– أكثر الله خيرك وأبقاك، أمَّا هذا فلا نقبله.

– ما هو هذا الذي لا تقبله؟

– لا نقبل الصدقة يا عمي عزت.

– صدقة؟!

– نعم صدقة، صدقة كريمة تحاول كل جهدك أن تغلفها بخلقك السامي، ولكن لا نستطيع.

– يا بني، لا صدقة هناك.

– نحن نعلم حبك لأبي، ونعلم أنه أودعنا أمانة في عنقك، وكل أملنا أن ترعانا بإشرافك، أمَّا مالك فحرام علينا.

– يا خيري لا تقل هذا.

– إنك لا ترضى أن تقبل الصدقة يا عمي عزت، لم يصل بنا الحال إلى هذا.

– وأين الصدقة في إشرافي على أرضكم؟

– الصدقة في أن تقدم لنا من أموالك ما نحتاج وتدَّعي أن ما تقدمه إلينا إنما هو من نتاج الأرض، وأنا لا أقبل هذا، وأمي أيضًا لا تقبله.

وجرت دمعات على خد الأم الوالهة وهي تقول: يرحمك الله يا همام، تركت والله رجلًا وإن كان صغيرًا.

وأطرق عزت في حُزن وإكبار: أي والله، ترك رجلًا. أنا تحت أمرك يا بني، افعل ما تراه.

– تجد لي وظيفة.

– غدًا تتسلم عملك.

– شكرًا يا عمي.

•••

لم يحس يسري ولم تحس نادية من الفاجعة إلا ظلالًا ضئيلةً، فقد علما أنهما لن يريا أباهما من بعد، ورأيا الحزن القاتل يخيم على البيت الكبير. ثم رأيا البيت الكبير ينكمش إلى شقة صغيرة. ثم رأيا الخدم يتضاءلون ويختفون الواحد منهم بعد الآخر، فاختفى سائق السيارة مع السيارة نفسها، وتناقص الخدم والخادمات فلم يبقَ إلا الحاجة زينب التي تقوم على تربيتهما والتي كانت حاضنة لأمهما وهي طفلة، وبشير أغا الذي كان عبدًا ثم نال حريته وأبى نيلها وظل مع جدهما ثم مع أبيهما، ثم ها هو يظل معهم بعد أبيهم، فهو لا يعرف بيتًا غير بيتهم، وقد كان في أخريات أيام همام لا يعمل شيئًا، ولكنهما يريانه في هذه الأيام وفي هذه الشقة الصغيرة يقوم بكل عمل يمكن أن يقوم به. وشيئًا آخر أحساه، أصبح خيري فجأة ذا أهمية لم تكن له في البيت الكبير، ورأياه يصدر أمرًا عجبا له أول الأمر ثم ما لبث أن أصبح طبيعيًّا على الأيام، فقد أصبحت الحاجة زينب في الشقة الصغيرة طباخة وتركت أمر رعايتهما، وأصبح كل منهما يقوم بشأن نفسه ما وسعه الجهد.

رأيا هذا وأحساه، ولكنه لم يصل إلى أعماق نفسيهما، فالوفاء صغير عند الأطفال والنسيان كبير. عجبا ولعلهما ضاقا بالبيت بعض الشيء، ولكن ما أسرع ما وجد يسري أصحابًا بدل الصحاب وما أسرع ما شغلته المدرسة التي لم يصبها في هذا الانقلاب الكبير تغيير، فهي هي مدرسة المنيرة لا تزال.

وأمَّا نادية فقد بدأت تذهب للمدرسة، وكان هذا تغييرًا جديدًا على حياتها، لم تدرِ إن كانت له صلة باختفاء أبيها أو بالنقلة من بيت إلى بيت، أم لا صلة هناك.

واستطاع عزت أن يستقدم للشقة الجديدة أثاثًا من البيت الكبير، وقد وجد من الدائن ترحيبًا، فقد أكبر هذا الدائن خيري الذي قدم كل ما يملك سدادًا للدين ولم يُهرِّب شيئًا. وأراد عزت أن يأخذ المكتبة إلى الشقة، ولكن خيري أبى، فقد أصبح يكره هذه المكتبة التي لم تشهد في بيتهم إلا مصرع أبيه، ولكنه أخذ الكتب جميعًا وجعل منها هوايته.

واستقر الأثاث الفخم في الشقة الصغيرة يشهد ما يشهده أصحابه من فقر بعد غنى، وعسر بعد يسر، وضيق بعد سعة. لم يفكر خيري ولم تفكر أمه أن يبيعا الأثاث ليستبدلا به رخيصًا غيره، فقد كان الأثاث يحمل ماضيًا للأسرة، ومهما تكن في هذا الماضي من مرارة إلا أنه قطعة منهم، تحن لها النفس، وإن أمضَّ النفس أن تذكره.

استقرت الحياة بالأسرة، ومهما يكن الحال الذي استقرت عليه إلا أنه استقرار خير من الضياع. وجاهدت الأم نفسها وأعانها كبرها، فاستطاعت أن تظل دائمًا الست الكبيرة الهادئة المطمئنة، إن حزنت فلزوجها، وإن بكت فعلى فقيدها، ولم تذكر عزًّا مضى ولا غِنًى زال ولا رفاهية ذوت، وإنما تذكر زوجًا كريمًا ورجلًا رجلًا، وركنًا ظل إلى أن مات ركنًا. وفي هذه المعاني عاش خيري، واستطاب أن يرى نفسه عماد بيت، والتذ بشعوره بأنه يجاهد من أجل أمه أن تعيش كريمة وأخيه أن يُتم تعليمه وأخته أن تتثقف حتى يرضيهم ربهم بمن يضمها إلى بيته فقيرة ذات أصل وثقافة وجمال.

وكانت أسرة عزت تكثر من زيارتها للشقة الصغيرة. وكانت سميرة هانم ترد الزيارات في ثقة بالنفس وهدوء، فقد أكرمها الله بولد أبقى على كرامتها أن تُهان وعلى يدها أن تُمد. فهي إن شكرت عزت، فإنما تشكر الوفاء لم يَشُبْه عطاء، والرعاية لم تخالطها الصدقة، فهي بعد مثلها مثل إجلال لا تقل عنها شيئًا، فأمر غناها وفقرها لا شأن له بصلاتها بقريباتها وصديقاتها ما دامت لا تحتاج إليهن في فقرها كما كانت لا تحتاج إليهن في غناها.

لا شأن لواحدة منهن أنها كانت تأتي إليهم بالسيارة، وأصبحت تأتي بعربة أجرة يجرها حصان أو اثنان، ولا شأن لواحدة منهن أنها كانت ترجع إلى البيت الكبير فأصبحت ترجع إلى الشقة الصغيرة، ومن تشأ منهن أن تزورها فبيتها بيتها، كبيرًا كان أو صغيرًا.

وبهذا التفكير الواثق المطمئن كانت تزور من يزورها من قريباتها وصديقاتها، شيء واحد جد على علاقتها بالناس، أقلعت عن زيارتها للفقيرات من قريباتها، فقد أخجلها أن تذهب إليهن دون أن تحمل ما تعوَّدت أن تحمله لهن مما يعين على الحياة. ورفضت أيضًا أن تبدأ صديقة أو قريبة من مثيلاتها لم تبدأها بالزيارة، فقد رأت إحجامهن ترفعًا منهن لا يقابله عندها إلا ترفع مثله.

•••

لم يستطع خيري في غمرة عمله والأحزان والتغيير الذي أصاب حياته جميعًا أن ينسى هواه، وكيف له أن ينساه؟ فقد تستطيع الحياة أن تفقد أباه، وتستطيع أن تفقده المال ورفاهية العيش، وتستطيع أن تفقده آماله من شهادة عالية ومكان بين الناس كبير. وقد يستطيع أن يقنع عن اليتم بساعد إن يكن ضعيفًا إلا أنه لا بد له على الأيام أن يشتد. وقد يستطيع أن يرضى من المال بالستر، ومن الرفاهية بالعيش الرضي. وقد يستطيع أن يخدع آماله في مكان كبير بين الناس بأن يرى نفسه داخل نفسه كبيرًا يسعى من أجل أمه وأخويه. ولكن بماذا يقنع هواه وهو هوى في القلب بلا منطق أو عقل؟ إنه هوى، بماذا يستطيع أن يخدع حبه أو يرضيه؟ وكيف السبيل إليها اليوم؟ لقد صحبت أمها إلى البيت في كل زيارة، ولقيها، وحادثها. يا له من حديث كالحصان الجامح العربيد تمسك به يد طاغية عاتية لا يملك منها فكاكًا. حادثها عن عمله هنيهات، وانتظر أن تدعوها أمها كما كانت تفعل. ولكنها لم تدعها، لقد أرادت الأم أن تشعره أن شيئًا بينهما لم يتغير، وشعر هو وفهم، ولكن هيهات، لقد تغير كل شيء، رفض هو سكون أمها فلم يلبث أن دعا هو وفية أن يذهبا معًا ليجلسا إلى أمها، رفض الخلوة التي كان يحلم بها ويدعوها ويرجوها ويسعى إليها. وأحست هي، ولكن كيف تبين له عما تحس؟ أرادت أن تقول له إن شيئًا لم يتغير، وقالتها بما صنعت من جلوسها إليه، ولكنها لم تستطع أن تذكر هذا في حديث. خُيِّلَ إليها أنها لو قالت إن شيئًا لم يتغير فكأنما تقول إن كل شيءٍ قد تغير. أرادت الأمور أن تجري في نفس المجرى الذي كانت تسير فيه، ولكن الأمور أبت وأبى هو وأبت الحياة.

هيهات، إنه هوى لا سبيل إليه، قالها وأحس في نفسه الطعنة، وأحس راحة الموت بعد الشقاء، وهدوء المنكوب بعد الفاجعة. لا أمل له في هواه، فليبحث له عما يصرفه عن هذا الهوى، فها هو ذا أصبح حُرًّا من الحب، وإن كان الجرح في نفسه عميقًا.

وأحست وفية أنه حزم أمره على اليأس، وحاولت في زياراتها العديدة أن ترسل إلى هذا اليأس وامض أمل، ولكنه أغلق نفسه من دونها.

أتراها تيأس مثل يأسه وتتركه؟! لكم تمنى ألا تفعل، ولكم تمنى أن تفعل، حيران بين يأس استقر عليه وبين حب شبَّ معه وانتهى إلى رماد من ذكريات ودماء من جراح. أيتزوجها فيصبح عالة عليها وعلى أبيها؟ هو يعلم أن أباها يقبل، ولكن أيقبل هو؟ ولكن أيقبل أن تصبح أيامه الماضية جميعًا من طفولة وشباب ذكريات لا تحمل إلا الألم والحسرة؟ وما له لا يقبل؟ ألم تتغير حياته جميعًا؟ فليكن هذا جُرحًا مع الجراح، ولتتكسر النصال على النصال. ولكن هذا الجرح أشد عمقًا وأبعد في الزمن والنفس غورًا. لعلها … لعلها ماذا؟ إنني لن أقبل، أم تراني أقبل؟ رحماك يا رب العالمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤