رأيت فيما يرى النائم

الحلم رقم ١

رأيت فيما يرى النائم.

أنني راقد، أنني نائم أيضًا، ولكنَّ وَعْيي يُرامق الظلام المحيط … وثمة أنثى أقبلَت يندُّ عنها حفيفُ ثوب، والحجرة ما الحجرة؟ أهي حجرتي الراهنة أم أخرى آوَتْني فيما سلف من الزمان؟ ويتهادَى الوجه إلى حسيٍّ رغم الظلام باستدارته الناعمة وسمرته الصافية ورنوته الناعسة، نسقُ تسريحتها عصريٌّ … أما ثوبها فقديم يجرُّ ذيلًا مثل سحابة رشيقة، وهمس صوتٌ لم أرَ قائله: للزمن نَصْلٌ حادٌّ وحاشية رقيقة.

وركعَت في استسلام وانهمكَت في عمل، ثبتَت عليها عيناي، ولكني لم أنبس بكلمة … وحَدسْتُ وراء انهماكها غايةً دانية، وقال الصوت: الأنفاس العطرة تصدر عن قلب طيب.

وانتظرتُ حتى جمعَت أدواتها ونهضَت في رشاقة، ومضَت نحو الخارج … شدَّتني بخيوط خفية لا تنقصف، فانزلقتُ من الفراش وتَبِعتُها، وهيمن عليَّ شعورٌ بأنني مدعوٌّ لأمر ما، وأنني لن أحيدَ عن التطلع إلى الأمام … تمضي متأوِّدة كأنها ترقص باعثة وراءها بنسائم من الذكريات، تعرف طريقها في الليل وأهتدي أنا بشبحها، ومررتُ بأشياء وأشياء ولكني أُنسيتها فتوارَت مثل شرَر متطاير. وعند موضعٍ عَبِق بشذا الحناء فصَلَ بيننا قطارٌ سريع طويل رجَّ الأرض ومَن عليها … وبذهاب ضجيجه استوى الليل أمامي وحده فضاعفت من سرعتي، وأطبق الليل وحده واختلجت فيه الوعود المضمَّخة بشذا الحناء … لم يَعُد في وسعي التراجع، وليس معي من الحوافز إلا الظمأ والشوق.

الحلم رقم ٢

رأيت فيما يرى النائم.

حبة رمل ملقاة بين جذور أشجار في مكان لعله غابة، جذبَت انتباهي واستحوذَت عليه ببريقها، وبما أوحَته إليَّ من أنها تراني كما أراها … وقلقت في موضعها فلم أشكَّ في أنها مقبلة على مغامرة، وأثارَت حبَّ استطلاعي إلى أقصى حدٍّ، ومضَت تنتفخ رويدًا حتى آلَت إلى كرة مغطاة بزوائد مثل أوراق الورد، مرقوم على صفحاتها كلمات لم أتبيَّنها … ووثبَت كأنما قذفَتها قوةٌ في الفضاء مقدار أشبار، وتهاوَت مرتطمةً بالأرض مُحدِثة صوتًا قويًّا استرسل صداه فيما يُشبه النغم، وتمادَت في الانتفاخ حتى صارت في حجم قبة ضخمة ثم انطلق منها عمودٌ عملاق بسرعة مخيفة زلزلت لها الأشجار الفارعة حتى تلاطمت ذراها مع حشائش الأرض، وانبثقت من العمود فروع لا حصر لها غاصَت في الفضاء، وانبسطت أوراقها كالزواحف مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة، وركبني الارتياعُ فعدوتُ بأقصى ما لديَّ من سرعة مبتعدًا عن مركزها المتفجر، عدوت منها، ولكني عدوت في مجالها وحضنها وقبضتها، فلا منفذ للهرب ولا صبر على التوقف أو الاستسلام … والفورة محدودة وسطح الأرض معاند والرياح على غير ما أشتهي، واستوى في شعوري البعدُ والقرب إزاء تلك الكينونة المتمادية في التعملق بلا نهاية. إن صوت نموها الهائل يدوِّي، وظلُّها يغشى الأشياء كالليل، وردَّة فعلِها تعبث بالكائنات، وأطراف قبضتها تنحدر فيما وراء الأفق، وتبيَّن لي أنني لست الوحيد في المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو، وأن السحب تركض أيضًا والرياح وأضواء النجوم، وارتفع صوت قائلًا: رفِّهوا عن أنفسكم بالغناء.

فتساءل صوت آخر: هل يطيب الغناء والمطرب يتخبط في القبضة؟

فقال الصوت الأول: رفِّهوا عن أنفسكم بالغناء!

وتحركت الحناجر تغنِّي كلٌّ على ليلاه، وتضاربَت الأصوات، فانقلبت عربدة تنضح بالوحشية والجمال.

الحلم رقم ٣

رأيت فيما يرى النائم.

أن ثمة عينًا ترنو إليَّ … عين كبيرة كأنها فَسْقِية، جميلة الرسم، عقيمة السواد، ناصعة البياض، مستوية في مكان غير معروف، ولكن سحائب بيضاء تُظلِّلها … وفي نظرتها ما يوحي بأنها تراني، وربما تعرفني، ولكن يكتنفها حيادٌ يُقصيني إلى ما وراء الغيب، وقلت لنفسي إنها عين امرأة، فأين بقيَّتها؟ وقلت أيضًا بصوت مسموع: آفة الحب الحياء!

عند ذاك رأيت خيالي رفيقَ صباي الراحل، فتعانقنا بحرارة، وفي غمرة الفرحة باللقاء نسيتُ حزني الكبير عليه، وسرعان ما اختفى من مجال البصر لتحلَّ محلَّه ساحةُ المولد النبوي في أيامها البعيدة الزاهرة … ووجدتُني في صفٍّ طويل أمام شباك التذاكر الخاص بخيال الظل. ودخلتُ مسرحَه الصغير، ولكني وجدتُ نفسي في سرادق امتحان … واتخذت مجلسي كتلميذ وشرعت في الإجابة، ولما لم يبقَ من الزمن إلا دقائق، وضح لي أنني أجبت على سؤال غير السؤال المطلوب الإجابة عليه … وضاق صدري، فتساءلت: سهوة عابرة تُضيع حياة؟!

فسألني المراقب متهكِّمًا: أنسيت قول المتنبي؟!

فحِرتُ أيَّ بيت يقصد، وتحاشيت السؤال، ووجدتُني بعيدًا أتأبَّط ذراع رفيق صباي الراحل متطلعَين معًا إلى العين … تبدَّت العين هذه المرة أوغل في العمر وأحوز للحكمة وأعمق في الحياد، قلت لصديقي: أخشى أن يغلبني الحزن.

فأضاء وجهه بضحكة صافية، وسألني هامسًا: مَن القائل «آه لو تعلمون ما أعلم؟ …»

فعصرتُ ذاكرتي لأتذكَّر، ولكن «الديك» صاح مؤذنًا بطلوع الفجر.

الحلم رقم ٤

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في العوَّامة كالأيام الماضية، وغنَّى صوتٌ في أعماقي «عادت ليالي الهنا»، وشعرتُ بالدفء وسط الأصدقاء والأحباب … ولما تفرَّسَت في الوجوه انتقلَت من حال إلى حال، المكان هو المكان، والمنظر هو المنظر، ولكن أين الوجوه أين؟! أمسك الزمن بقلمه ونقش على صفحاتها تجاعيدَه، وبثَّ في مجاريها ذبوله … وامتصَّ بنهمه النضارة والرونق، وفي مواضع المصابيح الكهربائية حلَّت شموع تحترق، فلم يبقَ من قاماتها الرشيقة إلا أنصاف وأرباع، ورقصت ظلال الأشباح فوق الجدران، ومن الأفواه المثرمة تساقطت ضحكات فاترة كأنها أنَّات وتنهدات، وفي مركز الجلسة بُسطت سجادة مربعة صُفَّت عليها جنبًا إلى جنب جثثٌ محنطة للأعزاء الراحلين، قال صوت: هكذا كان يفعل قدماء المصريين في حفلاتهم.

فتساءلت: ولكن أين ذهبت الحضارة؟

فقال صوت: المنبع والمصبُّ يقعان خارج أسوار الحضارة.

وافتقدت بشدة الحوار والثرثرة، فتساءلت: ماذا أسكتنا؟!

فأجاب صديق ضاحكًا وعيناه تدمعان: اللعنة في التكرار.

فتساءلت: أليس ثمة شكوى جديدة تقتضي ضحكة جديدة؟

فأجاب مستزيدًا من الضحك والدموع: ثبت أن جميع الشكاوى مسجلة على «حجر رشيد».

واقتحم عمُّ عبده علينا مجلسنا، وهو يقول: آن أوانُ قراءة الطالع.

ونظر في بطون نِعالنا مليًّا ثم قال: ستسيرون فوق الماء إلى جزيرة الذهب.

وهيمن علينا الحلم والابتسام.

الحلم رقم ٥

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في استديو، مضيتُ كمن يعرف طريقه إلى البلاتوه رقم «١» في صمت كامل يوحي بأن ثمة تصويرًا للقطة ما، اقترب مني رجلٌ بدينٌ ذو مظهر سيادي … وهمس في أذني: أهلًا بك يا أستاذ.

ووجدتُني أعرف أنه المنتج وأنني مندوب فني لمجلة الفن، وتابعت المشهد الذي تدور الكاميرا لتصويره وسط جمْع من الفنانين والفنيِّين يتابعونه أيضًا في صمت تقليدي وباهتمام غزير، وكان المشهد يمثِّل صحراء مترامية ليس بها قائم سوى نخلة فارعة رقَد تحتها عربيٌّ متلفِّعًا بعباءته … ويدخل المشهدَ رجلان، عربي وأعجمي، يقتربان من النائم ثم ينحني العربي فوقه، قائلًا بإجلال: يا أمير المؤمنين!

يستيقظ النائم ثم يجلس مرسلًا بصرَه نحو القادمين، فيقول العربي مشيرًا إلى الأعجمي: رسول قادم من بلاد فارس.

ينهض «أمير المؤمنين»، يتبادل التحية مع القادم، ثم يسأله: ماذا وراءك؟

القادم يتأمله بدهش ثم يسأله: أأنت حقًّا «أمير المؤمنين»؟

فيُجيب بتواضع: إني عبد الله وإمام المؤمنين من عباده.

فيقول الرجل في انبهار: عدلتَ فأمنتَ فنمتَ.

وعند ذاك ينتهي تصوير اللقطة، ينظر المنتج إليَّ قائلًا: أخيرًا سمحت الرقابة بإنتاج فيلم عن سيدنا عمر، فقلت مهنِّئًا: خطوة عظيمة.

فقال الرجل في مباهاة: لقد اقتضى السعيُ أن نطلب وساطة الرئيس الأمريكي «ريجان»!

وقمتُ بجولة سريعة في بعض ملاهي الهرم ثم رجعت إلى البلاتوه رقم «١» لمشاهدة تصوير لقطة جديدة … كان المشهد الذي يجري تصويرُه هو نفس المشهد السابق، الصحراء المترامية والنخلة الفارعة، غير أنه كان ثمة رجلٌ عربيٌّ في عباءة رثَّة لابسًا في رأسه طرطورًا، وهو مكبٌّ على حفر موضع غير بعيد من النخلة. إنه نفس الممثل ونفس المنظر، ولكنه لا يمكن أن يكون الفاروق عمر! يمرُّ به عربيٌّ آخر في عباءة من الخز ثم يدور بينهما الحوار الآتي:

العربي القادم : ما لكَ يا جحا؟
جحا : إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهم، ولست أهتدي إلى مكانها.
العربي : كان يجب أن تجعل عليها علامة!
جحا : قد فعلت.
العربي : ماذا؟
جحا : سحابة في السماء كانت تظلُّها، ولست أرى العلامة.

وانتهى تصوير اللقطة، فأعقبه همهمةٌ من الاستحسان، وسألت المنتج عن معنى وجود «جحا» في فيلم عن عمر، وكيف يقوم بالدورَين ممثلٌ واحد، فضحك طويلًا، وقال: إني أُنتج فلمَين في وقت واحد، أحدهما عن عمر والآخر عن جحا في بلاد العرب، ورأيت أن أستفيد من كل منظر مشترك توفيرًا للجهد والمال، وهذا منظر مشترك، فصورنا عمر للفيلم الأول، وجحا للفيلم الثاني.

– والممثل واحد في الحالين؟!

فقال بثقة: إنه نجم شباك، ومن القلة النادرة التي تُحسن تمثيل الدراما والكوميديا.

رأيتني عقب ذلك وأنا أركض بسرعة فائقة، ولكني لم أدْرِ أَأركض وراء هدف أريد أن أُدركَه أم أركض من مُطارِد يروم القبض عليَّ.

الحلم رقم ٦

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في حجرة بلا نوافذ مغلقة الباب، بها مقعد واحد وشمعة تحترق مثبَّتة فوق الأرض … ودقَّ الباب دقًّا متتابعًا ففتحتُه، فخُيِّل إليَّ أنني أنظر في مرآة، إنه صورة طبق الأصل مني إلا أنه عارٍ تمامًا إلا مما يستر العورة. سألته: مَن أنت؟

فأجاب، وهو يلهث، مما دل على أنه شقَّ طريقه ركضًا: إنك تعرف تمامًا مَن أكون.

– ولكني لا أصدِّق عيني.

فقال، وهو يتنفس بعمق ليستردَّ توازنَه: أما أنا فأصدِّق كلَّ شيء، ورائي عمر وأجيال لا تُحصى.

فقلت برثاء: كان ينبغي أن تكون راقدًا في سلام.

فقال بعتاب: لكنك لم تتركني للسلام، ما زلت تلاحقني بخواطرك حتى أخرجتني من الزمن!

فقلت بأسف: كأنك مطارد!

– كيف أفلت من القبضة دون مطاردة؟! أسرع لنهرب معًا.

فقلت محتجًّا: مجيئك إليَّ ورَّطني في جريمة لا شأن لي بها.

فجال ببصره في الحجرة، وقال: لا يبدو أن حظَّك أسعد من حظِّي، أسرع.

فقلت بقلق: ليس الأمر كما تتصور.

فقال بضيق: ولا هو كما تتصور أنت، أسرع فإنهم لن يُفرِّقوا بيننا.

– لولا مجيئك ما لحقَتْني الشبهة.

– إنها مسئوليتك، لا تُبدِّد الوقت.

فسألته بغيظ: ولكن إلى أين؟

فقال بعجلة: سنفكِّر في ذلك ونحن نعدو.

وتماسكنا باليد وأطلقنا ساقَينا في الليل كمجنونَين، وتساءلت: كيف نُحسن التفكير ونحن نركض بهذه السرعة؟

فهتف بحدَّة: اجْرِ … اجْرِ … ألم تشعر بفساد جوِّ الغرفة؟!

فقلت كالمعتذر: إني لا آوي إليها إلا في الليل.

فهتف: لا يوجد ليل ولا نهار، ولكن يوجد الهواء والركض.

وتساءلت: لماذا لا أسمع أصوات مَن يُطاردوننا؟!

ولكنه لم يُجب، وشعرتُ بأن يدي لم تَعُد تقبض على شيء، وأنه لم يَعُد له أثر، ولم تساورني أيُّ رغبة في التوقف.

الحلم رقم ٧

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في حديقة من أشجار الليمون، وأن الناس يزدحمون حول أشجارها ويتبارون في ملء مقاطفهم من ثمارها، وأن ثمة بيعًا وشراء ومساومات، وتنافسًا حاميًا يشتعل … وأن رجال الشرطة يتدخَّلون أحيانًا لفضِّ نزاعٍ بهِراواتهم فتسيل دماء، وكنت أتجول بين الجماعات بلا مقطف، حتى قال السمسار ساخرًا: رجل مجنون جاء السوق بلا مقطف!

والحق أن الشذا هو الذي دعاني لا السوق، فهِمْت على وجهي أتغزَّل برشاقة الأشجار وخضرتها الباسمة وأغصانها الثرية، وتخلَّق حبٌّ خالص في رعاية القبة الزرقاء. وفي لحظة مشرقة استحلت غصنًا، فأفلتُّ من مطاردة السمسار، ومضى الزمن وأنا أتأوَّد على دفقات النسيم، وأنهل من حرية عبقة بشذا الليمون.

الحلم رقم ٨

رأيت فيما يرى النائم.

أنني عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني ومريد أبي الفتح الإسكندراني، وأنني كنت أعبر ميدانًا في مكان وزمان غامضَين … وترامى إليَّ هتافٌ مدوٍّ بحياة الاستقلال وسقوط الحماية، ثم وجدتُني على حافة مظاهرة ضخمة تحدق بخطيب مفوَّه جهير الصوت عرفتُه رغم بُعْده عني بزيِّه الأزهري وهو يهدر داعيًا إلى الثورة والفداء. وهجم الفرسان الإنجليز، فنشبت معركة، ثم وجدتُني وجهًا لوجه مع الخطيب قريبًا من مدخل جامع، قلت: أنت أبو الفتح الإسكندري، خطيب الثورة الحر.

فقال بحزن ملتهب: نفوا الزعيم الجليل، نفاهم الله من الوجود!

ثم أنشد، يقول:

لن ينال المجد مَن ضا
قَ بما يغشاه صدرًا

وتغيَّر المكان والزمان كما أوحى إليَّ وجداني، ورأيتُني أمتطي سلحفاة معمِّرة في حجم عنزة، وشهدت اجتماعًا في قاعة عظيمة الاتساع تحرسها رماح الجنود، وظهر فوق المسرح خطيبٌ اندفع يقول بحماس: لوذوا بالمليك، صاحب العرش، هو العامل الأول والعالم الأول والوطني الأول وقد دالت دولة المهرجين.

سرعان ما عرفتُه رغم زيِّه الجديد المكون من البدلة الإفرنجية، وتبعتُه إلى الطريق وهو ينادي تاكسي، فاقتربت منه قائلًا: أهلًا بأستاذنا أبي الفتح الإسكندري.

فعرفني بدوره، وصافحني ثم سألني: ماذا فعلَت بك الأيام؟

– كعادتها خيرًا وشرًّا، ولكن ماذا غيَّرك أنت فنقلك من النقيض إلى نقيض؟!

فقال بجفاء: العزة في التنقل.

ثم أنشد، يقول:

الذنب للأيام لا لي
فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركتُ المنى
ورفلت في حلل الجمال

ومضى الزمن بي وأنا ممتطٍ هذه المرة حمارًا، ووجدتُني في ميدان لو ذررت الملح فيه لم ينفذ إلى الأرض من هول الزحام، وفوق حافة نافذة في الدور الأسفل من بناء ضخم … وقف خطيب يرتدي بنطلونًا وقميصًا نصف كم يعلوه وقارُ الكهولة، ويقول: ثورة مباركة تنسخ حياة فاسدة، وزعيم مبارك يُشهر سيفه في وجه ملك فاسد، وحلم يتحقق تنبَّأَت به كلماتي الحارة المسطورة في الصحف!

ثم وجدتني مع الخطيب عقب انفضاض الجمع الحاشد، قلت: يا أبا الفتح يبلى الزمان وتبقى لك جدتك لا تبلى.

فقال باسمًا: حمدًا لله الذي أبقاني حتى أشهد هذا الزعيم.

فقلت بعد تردُّد: ولكني لا أذكر أنك تنبأت بما حدث أو ضقت بما كان!

فأنشد قائلًا، وهو يضحك:

أنا ينبوع العجائب
في احتيالي ذو مراتب
أغتدي في الدير قسِّيـ
ـسًا وفي المسجد راهب

وجرى الزمان وقد أركبني بغلًا، وإذا بأمواج من البشر تتلاطم وتقذف بالهتافات إلى أركان المعمورة، وثمة سيارة تمضي على مهل، يقف في مقدمتها رجلٌ يخطب من خلال مكبر صوت: محق الله الزيف والضلال، اختفى مدعي الزعامة، واستوى على العرش الزعيم، الشاب المكافح، والمناضل، والمعلِّم، والرائد، ومتبنِّي ثورات العالم.

وخلوت إليه في مكان ذكَّرني بزاوية العميان بالباب الأخضر، وقلت: ما أنت إلا شيخنا أبو الفتح الإسكندري.

فقال، وهو يشدُّ على يدي: لا يحتاج الأمر إلى فراسة!

فقلت: يا لَك من وثَّاب لا يثبت على حال!

فقهقه طويلًا ثم أنشد:

بؤسًا لهذا الزمان من زمن
كل تصاريف أمره عجب
أصبح حربًا لكلِّ ذي أدب
كأنما ساء أمَّه الأدبُ

ووجدتُني أزحف مع الزمان فوق السلحفاة كرَّة أخرى، ورأيت جموعًا لم أرَ لكثافتها مثيلًا من قبل، تسفح الدمع وتمزِّق ثيابها من لوعة الحزن. هذا والمدفع يمضي بالنعش دائسًا على إرادات البشر، ثم وجدتُني في بهو مكتظ المستمعين، ورجل وقور أبيض الشعر يقول بحكمة وأسًى: دعوا البكاء للنساء، مصر باقية لا تموت، وآنَ لنا أن ننطق بالحق، ما كان عهده إلا عهد التعذيب والإفلاس والهزائم … أفيقوا من الحزن والسحر معًا، وابدءوا الحياة من جديد.

فخرقت الصفوف حتى واجهَتْه وهتفت به: إنك لمعجزة يا أبا الفتح.

فهزَّ رأسه ساخرًا وأنشد:

هذا الزمان مشوم
كما تراه غشوم
الحمق فيه مليح
والعقل عيب ولوم
والمال طيف ولكن
حول اللئام يحوم

فسألته: ألك نظير في العباد؟!

فقهقه عاليًا، وأنشد:

إسكندرية داري
لو قرَّ فيها قراري
لكن بالشام ليلي
وبالعراق نهاري

الحلم رقم ٩

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في مدينة أنيقة، أرضها أعشاب عميقة الخضرة، تنتثر في جنباتها عيونُ ماء، وتُظلِّلُها أشجار بلح وليمون وبرتقال، تجولت فيها طويلًا فلم أصادف إنسانًا ولا جانًّا ولا حيوانًا، ثم لمحت تحت صفصافة أسدًا يقرأ في كتاب، فقصدته متشجعًا بطمأنينة باطنية … رفعتُ يدي تحية، وسألته: ماذا تقرأ يا ملك الملوك؟

فرمقني بهدوء، وتمتم: كليلة ودمنة.

فسألته باهتمام: لماذا يا ملك الملوك؟

– منه تعلَّمنا كيف نعيش في سعادة.

– ولكن المدينة خالية!

فقال بسخرية: يلزمك أن تتعلم كيف تنظر، ما صناعتك؟

فقلت بإيحاء داخلي: أنا مغنٍّ!

فتهلَّل وجهه، وقال: نحن لا نستقبل إلا المغنين، أَسْمعني بعضَ ما عندك.

فغنَّيت:

ما في النهار ولا في الليل لي فرج
فما أبالي أطالَ الليلُ أم قصرا

فهزَّ رأسَه طربًا حتى تشعَّثَت لبدتُه، وقال: أرحِّب بك في مدينتنا لتُذكِّر أهلها بتعاساتهم القديمة، فيزدادوا امتنانًا لما حلَّت بهم من نعمة.

ونادى نسرًا فهبط وئيدًا في جلال وطاعة، فأمره قائلًا: اذهب بهذا الضيف الجديد إلى فندق الرضى.

الحلم رقم ١٠

رأيت فيما يرى النائم.

أنني في صحراء لا يحدُّها إلا الأفق، أُقيمُ خيمةً لأمضيَ بها عطلة نهاية الأسبوع … لا صحبة إلا الرمال في الأرض والزرقة العميقة في السماء وحدأة تدور عاليًا فوق رأسي كأنما تنتظر. وظهر أمامي فجأةً رجلٌ في عباءة حمراء ينطق وجهُه بالشباب والأسى … تبادلنا النظر ثم تبادلنا التحية، قلت له: لعلك في عطلة مثلي؟

سألني، وكأنه لم يسمعني: مَن أنت؟

فأجبته بإيجاز: اسمي نديم.

– نديم مَن؟

– إنه اسم لا صفة، كأنك تبحث عن شيء؟!

فقال بحيرة: ملابسك غريبة، أَأنت من أهل المكان؟

– إني أزوره أحيانًا التماسًا للنزهة.

– متى زرته آخر مرة؟

– منذ شهر.

فأشار إلى موضع من الرمال المترامية، وقال: كان هنا يقوم قصر الملكة.

فتساءلت بذهول: أي ملكة؟

فأشار إلى موضع آخر، وقال: وذاك موضع دار القضاء.

فداخلني شكٌّ في عقله، وسألته: متى زرت المكان آخر مرة؟

فقال دون مبالاة: منذ خمسة آلاف سنة!

فلم أتمالك من الضحك، فقال ببرود: ماذا يُضحكك يا هذا؟!

وجعلتُ أنظر إليه في حذر متحاشيًا إثارتَه، فقال وهو يشير إلى موضع جديد: وهناك كانت تصدح أرجاء البهو بالغناء.

فقلت أُجاريه متظاهرًا بتصديقه: مائة عام كافية لتغيير أيِّ مكان … فما بالك بخمسة آلاف سنة، مَن حضرتك؟

فقال بهدوء: أنا الخضر.

– سيدنا الخضر؟!

– سيدنا؟!

– لقد حظيت بالخلود، فأنت سيد البشر!

فقال بأسًى: أنا أسير الوحدة، فأنا الخلاء وأيُّ أغراب لا يعرفونني.

واندفعتُ بإلهام قوي، أقول: هلَّا سمحتَ لي بمرافقتك بعض الوقت؟

فهزَّ منكبَيه، وقال: لن تستطيع معي صبرًا.

ومضى مبتعدًا، وهو يسير بسرعة البرق.

الحلم رقم ١١

رأيت فيما يرى النائم.

أنني حزين وقلبي ثقيل، ولكنني لا أعرف سببًا معينًا لحالي … وسِرتُ في طريق مجهول حتى أرهقني السيرُ، وشعرت طوال الوقت بأنني أسعى وراء غاية، لكنها غابَت عن وَعْيي أو غاب عنها وعيي. وتبرق لحظة خاطفة في غياهب نفسي مغررة بي، فأتوهَّم إنني مستكشفها، ولكنها سرعان ما تغوص في الظلام مخلِّفة يأسًا … ودومًا لا أكفُّ عن التطلع والانخداع واليأس، ولا أكفُّ عن السير، وصحبني الحزن مع خطاي، وانثالَت عليَّ صورٌ متلاحقة سريعة هامسة بذكريات الهناء الراحل والأحبة الذاهبين. وأذهلَتني كثرتُها كما أذهلني عدمها، وقعقع الرعد حتى ارتعشَت أطرافي، ولكنه قال بصوت واضح: سوف تنقشع الأحزان وينهمر المطر.

الحلم رقم ١٢

رأيت فيما يرى النائم.

أن الأرض تتقشر، وتتشقق، وتتقلص وتموج، ومن الأعماق تبرز على مهل عُمُدٌ وأسطح وقِباب، ثم مضى يتجلَّى وجهُ مدينة غامرة … شوارعها محجوبة بالأتربة، مساكنها متهدمة، وما بها من قائم سوى المعابد وبعض التماثيل، وتحلَّقها قومٌ لا حصر لهم ينظرون ويتحاورون: مدينة أثرية جديدة.

– وثائق لتاريخ جديد.

– ألَا يوجد أثر لإنسان؟

– المقابر لم تُكتشف بعد.

ولبثت ما لبثت حتى انتبهت، فوجدتُ نفسي وحيدًا، ورحتُ أخترق شارعها الرئيسي حتى أدركني الليلُ وأظلَّتني النجوم، ومزَّقَت السكونَ صرخةٌ … صرخة أنثى فيما بدا لي، وثمة طيف هرع نحوي حتى جثَا بين يدي، وثمة صوتٌ هتف: أنقذني!

سألتُها: وماذا يتهدَّدك؟

– سيف الجلاد.

– مَن أنتِ؟

– أنا بريئة.

فسألتُها بشدة: ما تهمتك؟

– التهمة التي لا يبرأ منها أحد، حتى أنت!

فقبضتُ على يدها وأنهضتُها، ثم انطلقنا معًا كشهابَين في ظلمة الليل.

الحلم رقم ١٣

رأيت فيما يرى النائم.

امرأةً في الخمسين تذهب وتجيء بوجه جفَّفَته الوحدة، قلت إني أعرف هذا الوجه ولكن مَن، ومتى، وأين؟! وحيَّرَتني سُحُبُ النسيان … غير أنَّ المرأة لم تهجع، ولكنها ذهبَت محمومةً وهي ترمقني بعين مفكِّرة ثم رجعَت بشابٍّ رثِّ الهيئة، وهي تُربِّت خدَّه بحنان، وانقضَّ عليها الشابُّ فاعتصرها بين ذراعَيه مليًّا حتى تأفَّفَت … ورماها بنظرة نكراء ثم دفعها فتهاوَت على الأرض فانهال عليها ضربًا ثم ذهب … جعلَت تتأوَّه وتبكي، ثم قامت في إعياء شديد وقد فقدَت ذراعها اليسرى، قلت لها: ذراعك!

فأعرضَت عني ومضَت، ثم رجعَت وهي تُربِّت خدَّ شابٍّ شبه عارٍ، وجذبها إليه مثل ذئب جائع واعتصرها بين ذراعَيه … وانفصل عنها متقزِّزًا وصبَّ عليها قبضتَيه وقدمَيه حتى سقطت على وجهها، وغادرها. فاستسلمَت للنحيب ثم نهضَت طاعنةً في السن، وقد فقدَت ذراعها اليمنى.

وقلتُ لها: ذراعك!

فأعرضَت عني وولَّت، وتكرَّر الفعلُ وردَّةُ الفعل حتى لم يبقَ منها إلا اللسان، وغزاني الحزنُ والعجب … فتساءلتُ: ماذا فعلتِ بنفسك؟!

فأجابني لسانُها: الوحدة والحنان.

وتساءلت في حيرة «متى سمعت هذه العبارة من قبل؟ …»

الحلم رقم ١٤

رأيت فيما يرى النائم.

شابًّا وسيمًا يسير بسرعة، يشعُّ من عينَيه الصافيتَين نورٌ يُضيء له الطريق، يُوحي مظهرُه بالفتوة والحماس ومعرفة الهدف، فانجذبتُ إلى اتِّباعه لأحظى برؤية ما هو فاعل … منَّيتُ نفسي بمشاهدة حدثٍ أو نجاح مأثور، فكلما تحفَّز تحفَّزتُ، وكلما ضاعف من سرعته ضاعفت، وكلما أشرق وجهُه أشرقت … وقطعنا أماكن كثيرة، ورأينا مناظر عجيبة، وتعاملنا مع أناس لا يُنسى لهم خير ولا شر، وسلَّيت نفسي المتوترة بأن المشهد المرموق سيهلُّ عليَّ بطلعته الشافية المترقبة، ولم أكترث للزمن المنطوي ولا للجهد الضائع. ولكن الشاب الوسيم راح يتغير منظرُه، وتتقلص عضلات ساقَيه وتنخفض درجات سرعته رويدًا، وجعلت أسمع تردُّدَ أنفاسه وهي تغلظ وتثقل، وأنَّات شكواه المتصاعدة، وبرمه بكل شيء … وأخذ يسبُّ ويلعن ويشتعل غضبًا، وأخيرًا توقَّف عاجزًا عن الاستمرار، ثم تهاوَى على الأرض وهو يلهث … وجزعت جزعًا شديدًا، وهتفت: تشدَّد واستمر.

وخُيِّل إليَّ أن النوم يُغالبه، فصِحْت: عليك تقع مسئولية شرودي وانخداعي.

فرفع إليَّ عينَين مظلمتَين، وهمس: هَبْني رحمة الوداع.

حوَّلتُ عنه عينيَّ الحانقتَين ورفعتُهما إلى السماء فرأيت السحب تتراكم كأنها الليل، ثم استجابَت لرياح الشرق فانقشعَت، فبشَّرني هاتف الغيب بالعزاء.

الحلم رقم ١٥

رأيت فيما يرى النائم.

أنني أسير في شارع ضيق طويل، شُغلت بهدفي فلم أنتبه للمارة، وفي نهاية الشارع طالعني مبنًى يجمع في هيئته بين المعبد والجامع والمسكن … دخلتُه مطمئنًا إلى دعوة لا أدري متى ولا كيف تلقَّيتها. وقطعت دهليزًا بلغ بي بابًا مقبَّب الهامة فدفعتُه ودخلت، لم أرَ من المكان إلا الرجل الجالس في صدره … رجل بالغ الكبر، ولكنه على كبره واضح الصحة والعافية، بارز الملامح، ذو وجه عريق مجلَّل بالوقار واللحية البيضاء، ينفث عطرًا يذكِّر بالعصور الخالية، لثمتُ يده، وقلت معتذرًا: جئت تلبيةً للدعوة.

فقال بصوت عميق التأثير في النفس: تأخرت قليلًا، ولكن لا بأس …

وأشار إليَّ فتربَّعت على شلتة بين يديه، وأنا أسائل نفسي عما وراء دعوته، ولكنه لم ينبس بكلمة، وسرعان ما وجدتُ عينيَّ تنجذبان إلى عينَيه حتى خُيِّل إليَّ أنني أنظر إلى بلَّورتَين متوهجتَين. اختفى العالم والوجود، ثم عُدتُ إلى وَعْيي على لمسة من يده وسمعته، يقول: يا لَه من حديث! ويا لَها من مناجاة!

فهممتُ أن أقول إنني لا أذكر شيئًا، ولكنه بادرني بنبرة توديع حاسمة: اذهب مصحوبًا بالسلامة.

رجعت من الشارع الضيق الطويل، وأنا أشعر بأنني مشدود إليه بأسلاك غير مرئية، وأنني أسيرُه الأبدي … وأردتُ أن أُمارسَ حياتي المألوفة، فقصدت لونا بارك نزهتي المفضلة، ولكن الأسلاك الخفية صدَّتني عنها، فتحولت عنها، وأنا أقول لنفسي: إني مسيَّرٌ بإرادته!

اقتنعت تمامًا بأنني أفعل ما يريد لا ما أريد أنا، وأنه يسوقني إلى أشياء وأشياء، وأنني لم أَعُد أنتفع بعقلي أو ذوقي، وسمعت الناس يتحدثون عمَّا يقع ويتساءلون عن الفاعل المجهول. وها هم يجدُّون في أثري والحلقة تضيق، ولكنهم لا يتفقون على رأْيٍ، فمنهم مَن يطالب بعنقي ومنهم مَن يدعو لي بالسلامة! والحق أن الرجل لم يُثِرْ في نفسي الكراهية، ولكنني تُقْت للتحرُّر من سطوته الشاملة المخيفة، ولا أدري كيف ساقني الحظُّ إلى مكتب التحقيق فرأيتُني أمام المحقق، وهو يقول لي: اعترفْ فهو خير لك.

فقلت: إني بريء، وما كان بوسعي أن أفعل إلَّا ما يُمليه عليَّ …

فقال متهكِّمًا: الرجل يُنكر قصتك المختلقة معه، فأنت أمام القانون عاقلٌ حرٌّ.

فهتفتُ وكأنما أخاطب الرجل: إنك تعرف الحقيقة فأنقذني!

ومكثت في السجن أنتظر يوم الإعدام، وبلغ بي الضيق منتهاه … وإذا بشعور يهمس لي بأن ما أُعاني ما هو إلا كابوس، عند ذاك قررتُ أن أستيقظ مهما كلَّفني الأمر، ورُحْت أضرب مقدم رأسي بقوة ودون توقُّف ناشدًا بإصرار اليقظة المأمولة.

الحلم رقم ١٦

رأيت فيما يرى النائم.

أن طيفًا زارني بليل فقدَّم لي كأسًا، وقال بصوت عذب: اشرب.

فشربتها حتى الثمالة، ذاب الطيف في الظلمة … وانتشر السائل في جسدي وروحي كالشَّذا الطيب، ونهضتُ وأنا أشعر شعورًا راسخًا بأنني أملك قوةً لا حدَّ لها. وأردتُ أن أُجرِّبَ صدْقَ شعوري فأمرتُ النوافذ أن تُفتح، وفي الحال انفتحت النوافذ على مصراعَيها وتدفَّق النور، وخرجت أتجول في شوارع المدينة معتزًّا بالقوة الخارقة، وفطنَت غرائز القوم الملهمة لسرِّ القوة الكامنة في أعماقي … فخاطبَتني نظراتُهم الكسيرة بأمانيهم المكبوتة. تلقَّيت عشرات الرسائل الخفية الضارعة بمحو هذا الشر أو ذاك، وتحقيق هذه الرغبة أو تلك، وتأديب هذا الرجل أو قتل ذاك … ووجدتُني مثقلًا بالآمال والأماني والتبعات، فاستحالَت القوة إلى عبء تنوء به الجبال. وتسلَّل إليَّ خاطرٌ لا أدري من أين جاء بأن هذه القوة الخارقة لن تدوم إلا ما دام السائل في جوفي … وعلى ذلك تركَّز تفكيري في استغلالها لدعم سعادتي الشخصية، وألقيت العبء عن كاهلي وانحصرتُ في هدف محدد واضح. ولكن ما كاد يُزايلني القلق حتى ترامى إليَّ وقْعُ أقدام ثقيلة تُطاردني، وهزئت بالمطاردة والمطاردين وقلت لنفسي سيرونني في اللحظة الحرجة وأنا أُحلِّق كالنسر أو أختفي كالوهم … واقتربَت مني الأقدام والأصوات الغاضبة فأمرت جسدي بالاختفاء عن الأعين، وحدثت معجزة ولكن مضادة، لم يصدع جسدي بأمري، وتطايرَت قوَّتي في الجو، فوقعَت بين يدي المطاردين بلا حول، ولم يَعُد لي من أمل إلا في صحوة رحيمة تعقب كابوسًا مخيفًا.

الحلم رقم ١٧

رأيت فيما يرى النائم.

أنني جالس تحت مظلة سوداء، أتسلَّى بمشاهدة صندوق الدنيا. وتتابعَت المشاهد أمام عينيَّ المبهورتَين بدءًا بالإنسان البدائي، مرورًا بالحضارات القديمة والمتوسطة والحديثة حتى صعود الإنسان إلى القمر، ثم وجدتُني في مسكني فريسةً لرغبة جامحة هي أن أصعد إلى القمر، وكنت أجلس وسط متاع غزير، تراكم بعضه فوق بعض حتى غطَّى الجدران وسدَّ النوافذ، وكان جسمي نفسه مثقلًا بالأوسمة والهدايا الثمينة حتى تعذَّرَت عليَّ الحركةُ وأخذتُ أغوص في الأرض، وعلمت بطريقة ما أنني أنتظر زائرًا هامًّا، فحِرْتُ كيف أستقبله، وأين أُجلسه، وخفت سوء العاقبة … وضاق صدري بفساد الجو والزمن فتمرَّدت على حرصي وأقبلت أنزع الأوسمة والهدايا من أركان جسدي، وأركل المتاع يمنةً ويسرة حتى شققتُ لنفسي طريقًا إلى الخارج، وتنفَّست بعمق فأذهلَتني خفةُ وزني، ولاح الزائر قادمًا عند الأفق، ولكنني لم أستطع انتظاره؛ إذ مضيت أترجح وأرتفع عن الأرض على مهل وثبات. أدركت أني أُحلِّق في الفضاء وأني كلما ارتفعتُ مترًا ازددت سرعة، وغمرني الشعور بالانعتاق ووعدني بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤