أحد ملوك الجمهورية

للكاتب الروسي المتفنن مكسيم غوركي

إن ملوك الحديد والفولاذ والبترول في الولايات المتحدة كانوا دائمًا أبدًا يشغلون أفكاري؛ لأنني كنت واثقًا تمام الوثوق بأن أصحاب الملايين من الدنانير لا يمكن أن يماثلوا البشر، بل إنهم من فصيلة خاصة.

كنت أتصور أن لكل واحد منهم على الأقل ثلاث مِعَد، وفي فم كل منهم مائة وخمسون سنًّا، وكنت أعتقد أن صاحب المليون لا عمل له في كل يوم غير الأكل حيث ينهض من النوم عند الساعة السادسة صباحًا ويسرع حالًا لالتهام الطعام حتى الساعة الثانية عشرة مساء دون أن يتخلل ذلك شيء من الراحة، وأنه يستعمل في طعامه أفخر المأكولات كالأوز والديوك الرومية والخنانيص والخراف الصغيرة والدجاج وسائر أنواع الحلوى وأفخر الفواكه وأغلاها ثمنًا، وإذا جاء المساء وكَلَّ فكاه عن مضغ الطعام يأمر الزنوج فيمضغونه له ويضعونه في فمه فيزدرده ازدرادًا، وبعد حشو معده بالطعام يفقد النشاط والحركة، ويأخذ العرق يتصبب من جسمه فيحمله الزنوج إلى سريره حيث ينام نومًا ثقيلًا، حتى إذا وافت الساعة السادسة من صباح اليوم التالي ينهض ويعود إلى ما كان عليه بالأمس من التهام الطعام، وعلى هذا المثال يقضي حياته التعيسة.

وهذه النفقات الطائلة التي ينفقها على طعامه لا تبلغ نصف دخله من فائدة أمواله، ولا يخفى أن هذه العيشة ثقيلة متعبة، ولكن صاحب المليون مدفوع إليها بحكم الثروة الكبيرة، وإذا لم يعش على تلك الصورة التي ذكرناها فلا فارق بينه وبين أدنى الناس.

وكنت أظن أن قمصان وسراويل صاحب المليون منسوجة من خيوط ذهبية، وأن مسامير نعل حذائه أيضًا من خالص الذهب، ويرتدي على رأسه بدلًا من البرنيطة قبعة مصنوعة على نمط خاص به مرصعة بالجواهر والدر وسائر أنواع الحجارة الكريمة، وأن رداءه الخارجي (السترة) خيط من أفخر الحرير وأغلاه ثمنًا، ولا يقل طوله عن مائة متر مزدان بثلاثمائة زر من الذهب النقي، وأنه في أيام الأعياد يرتدي ثماني سترات واثني عشر بنطلونًا، ومع أن ذلك يبهظ جسمه ولكنه يتحمل ذلك بسرور؛ ليمتاز عن سائر الناس في كل شيء، وكنت أتصور أن جيب صاحب المليون عبارة عن هوة عميقة يستطيع أن يخفي فيه الكنيسة ودار الندوة العمومية وكل شيء أراده، وإذا تصورت جوفه فكان في نظري لا يقل اتساعه عن مخزن إحدى البواخر البحرية الكبيرة الحجم، ولكني مع كل هذه التصورات ما كنت أقدر أن أتصور طول رجليه ورجلي بنطلونه، ولكني ظننت أن اللحاف الذي ينام تحته صاحب المليون لا يقل طوله عن ميل مربع، وتصورت أيضًا أنه إذا كان من المغرمين بمضغ التبغ فإنه يلقي في فمه دفعة واحدة كمية من أجوده لا تقل عن رطلين، وإذا كان من المغرمين في استنشاقه فإنه يضع من مسحوقه المعروف بالنشوق كمية في أنفه لا يقل وزنها عن الرطل، وهو معذور فيما يفعله لأن النقود تطلب إنفاقها.

وأما أصابع يديه فإنها عجيبة مدهشة ليست كأصابع الناس المعروفة، وقد اختفت فيها قوة سحرية بحيث يمدها إلى أبعاد شاسعة إذا شاء ثم يرجعها إلى حالتها المعتادة، حتى إنه لو كان جالسًا في نيويورك وبلغه بأن دولارًا نبت في سيبيريا فإنه يمد أصابعه من فوق بوغاز بيرين ويقتلع الدولار الذي نبت في أرض سيبيريا وهو جالس على مقعده.

ومع كل ما تصورته من هذه التصورات فإني لم أستطع تصور رأس صاحب المليون الذي أتخيله بأنه لا يقل عن أحد المردة، وإنما كنت أظن أنه في غنى عن الرأس ما دام له تلك الأعضاء الضخمة والفم الواسع والطول المتناهي والأصابع السحرية التي كلها تعصر الذهب عصرًا؛ وبوجه الإجمال فإني أجهدت القريحة جهد الطاقة وحصرت كل قواي العقلية لأستطيع تمثل وتصور صاحب الملايين فذهبت أتعابي العقلية سدى.

ولكن لا أقدر أن أصف لك أيها القارئ الكريم عِظم الدهش والحيرة والاضطراب التي وقعت عليَّ عند ما أتاح لي الزمان مشاهدة صاحب الملايين وأنه لا يفرق في شيء مطلقًا عن بقية الناس.

رأيت أمامي رجلًا شيخًا نحيف الجسم حليق الذقن صغير اليدين كباقي الناس، وقد سقطت أسنانه فاستبدلها بأسنان اصطناعية من الذهب، وكذلك تساقط شعر حاجبيه ورأسه؛ وبوجه الإجمال فإن الشخص الجالس أمامي لم يكن يفرق في شيء عن طفل صغير ابن ساعته، ويصعب على كل أحد أن يحكم هل هو في بدء حياته أم في منتهاها.

وأما ملابسه فهي قريبة الشبه من ملابس ميِّت من عامة الناس، وفي يده خاتم ذهب، وعلى صدره سلسلة ذهبية، وأسنانه أيضًا من الذهب كما قدمنا، وإذا وُزن الذهب المتحلي به فلا يزيد عن مثقال، وكل إنسان يتصور خدَمة الدوقات في فرنسا ورأى رسومهم لا يشك إلا بأن هذا الرجل واحد منهم، وقد استقبلني في غرفة ليس فيها شيء من الرياش الفاخر والداخل إليها يظنها من أول وهلة أنها إصطبل أفيال لا قاعة استقبال.

ولما وقفت أمامه سألته قائلًا: هل أنت صاحب الملايين؟

فأحنى رأسه وقال: نعم أنا هو ذلك الرجل.

فتظاهرت بتصديق كلامه، ولكن أردت أن أتحقق تصوراتي السابقة بشأنه، فسألته مستفسرًا عن كمية اللحم التي يستطيع أكلها على طعام الصباح؟

فأجاب: إني لا آكل لحمًا في الصباح مطلقًا، وإنما أتناول نصف برتقالة وبيضة وكأسًا صغيرًا من الشاي، قال ذلك وأبرقت عيناه ولم أر فيهما شيئًا من الكذب.

ثم قلت له: أرجوك أن تُعْلِمني كم مرة تأكل في النهار؟

فأجاب بكل سكينة: إنِّي أتناول الطعام دفعتين في اليوم في الصباح والظهر، وأتناول على الغداء صحنًا من الحساء وصحنًا من اللحم الأبيض وشيئًا من الحلوى والفاكهة وفنجال قهوة ولفافة تبغ.

فقلت له: وإذا كان الأمر كما ذكرت فما تفعل بقناطير المال المقنطرة المحشودة في خزائنك؟

فأبرقت عيناه واختلج حاجباه وارتفع كتفاه، وقال: أصنع من نقودي نقودًا أخرى.

فقلت له بسرعة: ولماذا تصنع النقود؟

– لأزيد ثروتي اتساعًا.

فقلت: وما الفائدة في تلك الزيادة؟

فقام عن مقعده ودنا مني ووضع يده على كتفي، وسألني قائلًا: هل أنت في عقلك أم أنت معتوه؟

فأجبته من ساعتي: وأنت أيهما العاقل أم المعتوه؟

فاطرق مليًّا وقال: الجنون فنون، والحق أني أول مرة في حياتي أرى رجلًا مثلك، ثم تثاءب حتى كادت شفتاه تلتصق بأذنيه، ثم أخذ يتفرس فيَّ وينظر إليَّ من رأسي حتى قدمي، ولحظت من وجهه أنه يعد نفسه إنسانًا طبيعيًّا كسائر الناس، ولحظت أن في ربطة عنقه دبوسًا صغيرًا من الزمرد، وبعد برهة ساد فيها السكوت سألته: ما هو العمل الذي يتعاطاه؟ فأجاب: أتعاطى مهنة عمل النقود.

أما أنا فأطرقت مفكرًا ثم لاح لي جواب زعمت أنه فصل الخطاب، فقلت له: إنك إذن مزيف نقود، فلما سمع مني ذلك انتفض كعصفور بلله القطر ولاح الغضب في عينيه، ولبث برهة صامتًا جامدًا لا يُبدي حراكًا ثم أخذت السكينة تعود إليه، وكست وجهه علامات السرور، وقال: هل لك شيء آخر تسأل عنه؟

فافتكرت وبدا لي سؤال جديد سألته إياه قائلًا: كيف تصنع النقود؟

– سؤالك هذا معقول، والإجابة عليه في غاية السهولة: إني أنشأت كثيرًا من الخطوط الحديدية التي تخترق البلاد عرضًا وطولًا، ولي معامل لا تُحصى يعمل فيها ألوف العمال، فالمعامل تصنع البضائع، والسكك الحديدية تنقلها إلى البلاد وتطرحها في الأسواق، وبذلك تنهال عليَّ الأرباح انهيال السيل، ولكن لا تنسى ما أدفعه من الأجور لعمال المعامل حتى لا يقضوا جوعًا.

– وهل ترى جميع العمال مسرورين من حالتهم، راضين بالأجور التي يتقاضونها؟

– ليس كلهم بالطبع، فإن الإنسان مهما سعى في سبيل إرضاء الناس فلا يستطيع إلى ذلك سبيلًا.

ثم سألته: هل الحكومة لا تتداخل في شئونكم، ولا تعطل سير أعمالكم؟

فقال معيدًا ما قلت — الحكومة — وأطرق مليًّا ثم أبرقت أسرته كأنه توصل إلى حل معمى، أظنك تريد أولئك الرجال المقيمين في واشنطون، كلا، كلا إنهم لا يصادروننا في أعمالنا مطلقًا، ولا يتداخلون فيها أقل مداخلة، وأعرف بينهم أشخاصًا من أهالي جهتنا هذه، ولكن لا أجتمع بهم إلا نادرًا؛ ولذلك فلا تعجب إذا قلت لك: إنهم لا يخطرون على بالي أو أني أنسى ذكرهم وأسماءهم؛ وبوجه الإجمال فإن رجال حكومتنا قوم أخيار لا يصادروننا أقل مصادرة، ولكني أريد أن أسألك: هل توجد في العالم حكومة تحظر على رعاياها صنع النقود وتصادرهم في ذلك؟

فأجبته وأنا معجب بحكمته آسف على فضولي قائلًا: زعمت أنه توجد حكومات تصادر النهب العلني، وتسعى إلى منعه بالضرب على أيدي النهابين السلابين الذين يستحلون أتعاب غيرهم.

فقال مغضبًا: إن هذا لا يفرق بعرفي في شيء عن الفوضوية التي ليس لها أثر في بلادنا، وحكومتنا لا تتداخل مطلقًا في الشئون العامة، وفوق ذلك فإن قوانين البلاد لا تبيح لها ذلك مطلقًا.

فقلت له: إنك إذن تعتقد بأنه إذا ابتز رجل واحد دماء وأموال ألوف من الرجال والناس لا يعتبر عمله هذا من الشئون العامة التي يجب على الحكومة المداخلة في شأنها لإيقاف جشع ذلك الرجل وكف مطامعه، بل وعقابه على فعله، أوَما سمعت قول فيكتور هوجو الشاعر الفرنسي القائل:١
قتلُ امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتلُ شعب آمن
مسألة فيها نظر
والحق للقوة لا
يعطاه إلا من ظفر
ذي حالة الدنيا فكن
من شرها على حذر

فتغيَّرت سحنته، وقال مكررًا: قتل الشعب – سلبه – ابتزاز أمواله، كلمات وإن اختلفت في اللفظ فإنها تؤدي إلى معنى واحد ليس له ظل في بلادنا، وإنما هي تكون في بلاد ارتفعت فيها أجور الفَعَلة ارتفاعًا فاحشًا، واعتاد رجال الأشغال فيها على الإضراب عن العمل أو الجنوح إلى الاعتصاب، ولا يوجد في بلادنا شيء من ذلك؛ لأن المهاجرين ينسلون إليها من كل حدب وصوب أفواجًا أفواجًا، وكثرة عددهم تخفض أجور الفَعَلة الأميركيين الذين إذا اعتصبوا بدعوى قلة الأجور يحل محلهم عن طيبة خاطر وسرور المهاجرون الذين كلما ازداد عددهم قلت أجورهم، وهم بالطبع ينفقون ما يحصلونه في البلاد التي تجني من ورائهم فوائد جمة.

قال ذلك وأبرقت أسرته وأصبح وجهه يشبه وجه شيخ وطفل مُزجا معًا فخرج منهما صورة واضحة ممزوجة، وقد انطلق لسانه وزاد نشاطه واستطرد الكلام، فقال: سؤالك بشأن الحكومة سؤال في غاية الأهمية، ولا تحسن حال أمة إلا إذا حسنت حالة حكومتها واتصف رجالها بالأوصاف السامية، والحكومة تحل مسائل عديدة منها أنه ينبغي أن يكون عدد سكان البلاد وافرًا ليستطيعوا ابتياع البضائع التي تصدرها معاملي، وينبغي أن يكون عدد العمال في البلاد وافرًا لأستطيع أن آخذ العدد اللازم لمعاملي وأطياني، وفي مثل هذه الحالة لا يكون أثر في البلاد للاشتراكيين ولا للاعتصاب، والحكومة لا ينبغي عليها أن تبهظ كاهل الرعايا بالضرائب الفادحة حتى يتوفر لدى الأمة المال وتبتاع به من معاملي، وحكومة مثل هذه هي بعرفي حكومة عادلة جيدة. ولاحت على وجهه المضحك أمارات السخافة والحماقة وازبأرَّ كالأسد حتى خلتُ أن أمامي ملكًا من الملوك يعتز بجبروته وسلطته، ولا غرو فهو ملك وأي ملك! ثم استطرد الكلام أيضًا، وقال: وأريد من الحكومة أن تُعيِّن برواتب طفيفة عدة من الفلاسفة يُعلِّمون الشعب في أيام الآحاد كيفية اتباع القانون والسير بموجبه؛ بحيث يستمر كل فيلسوف مدة ثماني ساعات متوالية يلقي عظاته وحكمه المؤثرة، وإذا لم يكفِ عدد الفلاسفة في البلاد تعهد ذلك إلى الجنود، ومتى تيسر للحكومة القيام بهذا العمل الهام وسار الشعب على محور القانون تتوفر في البلاد أسباب السعادة والصفاء.

ولما أنهى كلامه قدمتُ له سؤالًا آخر وهو: هل أنت راضٍ عن الحكومة الأميركية الحاضرة؟

فأبطأ في الإجابة وأطرق رأسه مفكرًا ثم رفعه وقال: إن حكومتنا تعمل أقل مما هو مطلوب منها، فإنه يتحتم عليها أن تُسهِّل سبل المهاجرة للبلاد حتى يزداد عدد المهاجرين، ولكن الحكومة تدعي بأن أميركا حرة النظامات، والمهاجرون الداخلون إليها يتمتعون بالحرية السياسية؛ ولذلك ينبغي عليهم عند دخولهم البلاد أن يدفعوا لها ثمن هذه الحرية التي لم يذوقوا طعمها في بلادهم، وفرضت على كل مهاجر أن يكون معه عند دخوله البلاد ٥٠٠ دولار، وهي كما ترى محقة في صنعها هذا؛ لأن الرجل الذي يملك ٥٠٠ دولار خير من صاحب الخمسين؛ بل يفضله عشر مرات، وهو على كل حال خير من المتشردين والمرضى والبائسين الذين لا ينفعون البلاد أقل منفعة، بل هم عالة على أكتافها.

فقلت له: ولكن هذا الشرط ينقص عدد المهاجرين، فأجابني في الحال قائلًا: إنني أرى أنه ينبغي على الحكومة أن تمنع المهاجرة بعد حين من الزمن، وهي مصيبة الآن في فرضها على كل داخل بلادها أن يكون لديه شيء من المال النافع للبلاد، ثم بعد أجل ترفع القيمة التي كما أشرت آنفًا يدفعها المهاجر ثمنًا لتمتعه بالحقوق المدنية كما يتمتع بها الرعايا الأميركيون سواء بسواء، وبعد ردح من الزمن ينبغي حرمان المهاجرين من التمتع بالحقوق المدنية التي يتمتع بها أهالي البلاد؛ لأن عدد الأميركيين أصبح كافيًا ولا فائدة من زيادته، وكل أميركي يستطيع على حدة أن يعمل لزيادة عدد مواطنيه، وجميع ما ذكرت لك من الشئون من خصائص الحكومة وهي تُبدل وتُغيِّر وتُغيِّر وتُبدل في النظامات على حسب ما يتراءى لها، وهي تظن أنها تتوخى خير البلاد ونفعها، والذي أراه أن رجال الحكومة لا يستطيعون إدراك المنافع الحقيقية التي تعود على البلاد بالخير الوفير والنعم الجزيلة إلا إذا ابتاع كل واحد منهم أسهمًا كثيرة من الشركات التجارية والزراعية والصناعية. وأما الآن فإنهم لا يدركونها حق الإدراك؛ ولذلك تراني وغيري من أصحاب الأموال نضطر إلى ابتياع أعضاء مجلس البرلمان والمجالس الأخرى وندس لهم المبالغ الوافرة؛ لنستطيع الحصول على ما نتمناه من التغيير في نظام البلاد حتى يكون ذلك في غاية الموافقة لمصالحنا. وعندما لفظ هذه العبارة تنهد الصعداء وقال: إنك لترى أنه لا يحسن حال العيش إلا إذا انهال الذهب فيه كالسيل المنهمر.

أما أنا فلما وقفت منه على رأيه السياسي وجَّهت إليه سؤالًا جديدًا، فقلت له: وما رأيك في الدِّين؟

فضرب بيده على فخذه ورفع حاجبيه وقال: إن رأيي في الدين مصيب كل الإصابة، وأعتقد أنه ضروري للشعب، وبدونه لا تسير الأعمال على محور النشاط والخضوع، وأزيدك علمًا أني في أيام الآحاد أعلو منبر الوعظ وألبث واقفًا مدة طويلة أعظ الشعب؛ ولا سيما جمهور الفقراء والعمال، فسألته مستفسرًا: ماذا تقول لهم؟ وما هو موضوع عظاتك؟

فأجاب: أخاطب الشعب هكذا: إخوتي وأخواتي، لا تخضعوا لعوامل تأثير شيطان الحسد، واطردوا من رءوسكم كل فكر أرضي، ووجهوا أبصاركم وأفكاركم إلى السماء؛ لأن الحياة على هذه الأرض قصيرة تمر مر الطيف، والإنسان يعد عاملًا نافعًا إلى السنة الأربعين من عمره، فإذا جاوز ذلك السن يعجز عن العمل، ولا يُقبل في المعامل؛ بل يُطرد منها طردًا. والحياة — كما لا يخفاكم — مملوءة بالأكدار والأوزار. أنتم تشتغلون ولكنكم معرَّضون دائمًا أبدًا لأخطار الآلات البخارية التي كثيرًا ما تقطع أيديكم أو أرجلكم. أنتم معرَّضون دائمًا لضربة الشمس وتهددكم في كل أين وآونة الأمراض الفتاكة، وما مثل الفقير إلا كمثل الأعمى الواقف على سطح منزل شاهق البنيان أينما سار يسقط ويتهشم، وقد قال بهذا الشأن يعقوب الرسول أخو الرسول يهوذا ما يأتي:

يا إخوتي، لا تهتموا بالحياة الأرضية؛ لأنها من صنع الشيطان قاتل الأرواح ومضل النفوس. إن مملكتكم يا أولاد المسيح الأعزاء ليست من هذا العالم بل هي من السماء، وإذا تحملتم بصبر وتجلد دون تذمر متاعب هذه الحياة فإنكم تنهون معيشتكم بهدوء وسكينة، وإن أباكم السماوي يقبلكم في مساكن الفردوس الكثيرة، ويكافئكم على أتعابكم الأرضية بسعادة أبدية لا يفنيها الفناء.

قال أيضًا يهوذا الرسول:

إن هذه الحياة ليست إلا مطهرة للنفوس، وبمقدار ما تتحملون من المشاق على هذه الأرض الفانية بمقدار ذلك تنتظركم سعادة عظمى وغبطة أبدية في ملكوت السموات.

ثم أشار بأصبعه إلى سقف الغرفة وأطرق رأسه مفكرًا ثم استطرد الكلام فقال: أجل! إخوتي الأعزاء، إن هذه الحياة فانية فارغة لا قيمة لها، ويحتم علينا الدِّين أن نقدمها ضحية على مذبح محبة القريب أيًّا كان، فلا تُخضعوا قلوبكم لسلطة شيطان الحسد والشهوات. لا شك في أنكم تشتهون الحصول على الخيرات الأرضية، ولكنها يا إخوتي خيرات فانية باطلة تشبة الظل السريع الزوال، وما هي إلا من ألاعيب الشيطان التي يُزينها ويغرر بها الناس ويخدعهم بها. أيها الإخوة سنموت جميعًا؛ الأغنياء والفقراء والملوك والمُعَدِّنون وأصحاب الملايين والذين يكنسون الأزقة وينظفون الأحذية، كلنا أمام الموت سواء، ولكن هنالك في الأخرى سيكون الفرق جسيمًا بين الناس؛ لأن المُعَدِّنيين قضوا الحياة في قطع الفحم من مناجم الفحم الحجرية يصبحون ملوكًا في الحياة الثانية ويصبح ملوك الأرض خدمة لهم يحملون المكانس ويكنسون بها أوراق الأشجار المتساقطة من أدواح الفردوس، كما يكنسون قراطيس الحلوى الفارغة التي ستكون لكم غذاء يوميًّا في الفردوس.

أيها الإخوة! … ماذا يشتهي الإنسان على الأرض التي هي عبارة عن غابة مظلمة مملوءة بالخطايا والآثام تضل فيها النفس كطفل صغير، اذهبوا إلى الفردوس من طريق المحبة والوداعة والتواضع، تحملوا بصبر ما تسوقه إليكم صروف الزمان وطوارق الحدثان، حبوا جميع الناس حتى الذين يهينونكم ويزدرون بكم ويحقرون شأنكم. وعند هذه النقطة من كلامه أغمض عينيه وانتفض وهو جالس في كرسيه، واستطرد الكلام فقال: صموا آذانكم عن سماع كلام أولئك الناس الذين يُحرِّكون في قلوبكم حاسة الحسد بقولهم لكم: أنتم فقراء بائسون تتحملون مشاق هذه الحياة، وتعملون الأعمال التي تهدم بنيان أجسامكم، وتخدمون الأغنياء الذين يرتعون في بحابح العز والراحة ويرفلون بمطارف الخز والديباج، ومع أنكم أنتم علة ثروتهم وأساس سعادتهم فإنهم يسومونكم أنواع العذاب والهوان، ويدفعون لكم أجورًا طفيفة لا تساوي جزءًا من العمل الذي تقومون به. لا تصغوا يا إخوتي لكلام هؤلاء الناس الذي ليس له دليل يؤيد صحته، وهم في الحقيقة ونفس الواقع رسل الشيطان ونذيرو الشر والفساد، فإن الله تعالى قد حرَّم الحسد على عباده وتوعَّد الحُسَّاد بالويل والثبور وعظائم الأمور. إن الأغنياء أيها الإخوة فقراء محتاجون إلى المحبة؛ لأن الناس يبغضونهم ويحسدونهم دون سبب يدعو إلى ذلك، فحبوا الغني أيها الإخوة لأنه مصطفى من الله جل جلاله. قال الرسول يهوذا أخو الرب وأول كاهن لهيكل الله: أيها الإخوة لا تلتفتوا للمساواة بالناس على الأرض، ولا ترضخوا لتحريضات الشيطان الذي يقودكم إلى الهلاك، إن مساواة الناس لبعضهم على هذه الأرض الفانية لا قيمة لها؛ بل إن الذي يسعى إليها يضل الصراط القويم، ويقود نفسه إلى ارتكاب الشر، والأجدر بكم أن تبذلوا الوسع لتكونوا متساوين أمام الله بطهارة النفس، فاحملوا بصبر صليبكم (أتعابكم) والتواضع يخفف عليكم هذا العبء الثقيل، الله معكم يا أولادي، وأرى أنكم لستم في حاجة أخرى إلى غير ما قلته لكم، والسلام عليكم.

ثم صمت هذا العجوز وفتح فمه فأبرقت أسنانه الذهبية وتفرس فيَّ، وعلامات السرور بادية على وجهه.

فقلت له: إنك تنتفع بالدين انتفاعًا عظيمًا، وتستعمله كآلة حادة للوصول إلى أغراضك.

فقال: لا ريب في ذلك؛ لأني أُقدِّر الدِّين حق قدره، وواثق كل الوثوق بأنه ضروري للفقراء وبدونه لا تسير أعمالهم على محور النشاط والثبات، والدين يعجبني جدًّا، وأعيد لك القول مؤكدًا أنَّ الدين لا بد منه، ويتحتم علينا — معاشر الأغنياء — أن نبذل النفس والنفيس في سبيل توطيد دعائمه في قلوبهم، ورسوخ عقائده في نفوسهم حتى يعتقدوا اعتقادًا لا يتزعزع بأن كل شيء في هذه الحياة الدنيا من صنع الشيطان، وفي جنوحهم وتطلعهم إليه يُحرمون الغبطة في الحياة الأخرى الأبدية، ألا تعلم أن الدين يقول: «أيها الإنسان إذا أردت خلاص نفسك لا تشتهِ شيئًا من متاع الدنيا الفانية، ولا تتطلع إلى شأن من شئونها الزائلة وزخارفها الباطلة؛ لأنك ستكافأ في الحياة الأخرى حيث ترتع في جنان الخلد في بحبوحة العيش ورياض السعادة وكل شيء في السماء هو لك»، فإذا رسخت هذه المعتقدات في نفوس الناس سهل علينا العمل معهم وسهل انقيادهم إلينا، أجل إن الدين هو بمثابة الزيت الذي كلما زدنا في صبه ودهنَّا أداة الحياة به كلما لانت بقية أدواتها وسهل إدارتها واستعمالها كيفا نشاء.

فحكمت في نفسي أنه ملكٌ، ثم وجهت إلى هذا الرجل الذي حكمت بأنه متسلسل من فصيلة رعاة الخنازير السؤال الآتي: وهل تعد نفسك مسيحيًّا بجميع معنى الكلمة؟

– لا ريب في ذلك، ثم رفع يده وقال: ولكنني في الوقت نفسه أميركي، وكل أميركي له مبدأ خاص يتمسك به ولا يحيد عنه يمينًا أو شمالًا. ثم تغيَّرت سحنته ومد شفتيه وحرَّك أذنيه حتى كادتا تبلغان أنفه وافتكر مليًّا، ثم قال بصوت خافت يكاد لا يُسمع: أعترف لك فيما بيننا بشيء أرجو أن تبالغ في كتمانه، وهو أنه يستحيل على كل أميركي أن يعتقد بالمسيح كما يعتقد به جميع المسيحيين. فاضطربت لدى سماعي ذلك منه وقلت له: أرجوك أن تزيدني إيضاحًا.

فقال مكررًا: يستحيل على الأميركي الاعتراف بالمسيح بل واحترامه؛ لأنه لا والد له معروف، أو بعبارة أخرى: إنه ابن غير شرعي، ومثل هذا لا يمكن أن يكون في أميركا إلهًا حتى ولا موظفًا، ولا يقبله أحد في المحافل والمجتمعات، ولا ترضى أدنى الفتيات بالتزوج به، ونحن الأميركيين بهذا المعنى لا يماثلنا في الدنيا أحد، وإذا اعتقدنا بالمسيح فإننا مضطرون بالاعتراف لجميع الأولاد غير الشرعيين بأنهم أشخاص من أصل ثابت ونسب معروف حتى ولو كانوا من أبناء الزنوج الذين يتزوجون النساء البيض ويولدونهن أولادًا شرعيين؛ ولذلك فإننا معشر الأميركيين معذورون في اعتقادنا هذا وتصريحنا به. ثم اخضرَّ سواد عينيه فظهرتا لي مستديرتين كعيني البوم، ثم جذب شفته السفلى إلى فوق وضغط بها على أسنانه زاعمًا أنه بمسخ وجهه على هذا الشكل يصبح مخيفًا مرهبًا للناظر.

فقلت له سائلًا: وبناء على ما صرحت به فإنكم معاشر الأميركيين لا تعدون الزنوج من البشر بل ولا تعتبرونهم؟

فأجاب: لله ما أقل خبرتك وأضعف حكمك! وهل ترتاب في أننا نحتقر الزنوج ونعتبرهم أدنى الناس وأحطهم مقامًا؛ فهم سود الألوان، وتخرج من أجسامهم رائحة كريهة؛ ولذلك ترانا نراقب الزنوج أشد مراقبة حتى إذا علمنا بأن أحدهم تزوج امرأة بيضاء نقبض عليه ونربط عنقه بحبل ونعلقه في الحال على شجرة حيث يموت مشنوقًا.

ولما قال ذلك شعرت أنه طعن فؤادي طعنة نجلاء، ودبَّت في الحال في قلبي عوامل البغض حتى أصبحت بقربه كأني جالس بالقرب من جيفة منتنة تعافها النفوس، ولكنني تحملت بصبر وحكمتُ على نفسي بالمكوث عنده؛ ذلك لأني قصدته لعمل وينبغي عليَّ أن أتممه مهما تحملت في سبيل ذلك من المكاره والمشاق؛ توصلًا إلى إظهار كيفية نظر هؤلاء الناس أصحاب الملايين إلى الحقوق المتبادلة والصدق والحرية والمساواة المتعارفة عند أفاضل الناس وعقلائهم؛ ولذلك سألته قائلًا: ما رأيكم في الاشتراكية؟ وكيف تنظرون إلى الاشتراكيين؟

فأجاب من ساعته: إنهم أبناء الشيطان، والاشتراكيون رمل في الآلة التي تدير حركة الحياة، بل هم رمل يدخل بدون استئذان بين جميع الهيئة الاجتماعية فيعطل حركتها ويفسد سيرها؛ ولذلك يتحتم على كل حكومة طيبة منصفة أن تستأصل الاشتراكيين من بلادها، وهذه الطغمة الفاسدة تولد في أميركا مما يدل على أن رجال الحكومة في واشنطون مقصرون في أعمالهم كل التقصير، ولا يدركون المسائل الاجتماعية المطلوبة منهم، ولو كانوا كذلك لما تأخروا ساعة واحدة عن حرمان الاشتراكيين من جميع الحقوق المدنية، وبعرفي أنه يجب على الحكومة أن تكون أقرب مما هي عليه الآن من مرافق الحياة، ولا يتأتي لها ذلك إلا إذا كان الرجال الذين تتألف منهم مأخوذين من أصحاب الملايين.

فقلت له: أظن أنك أنت رجل نافع للبلاد؟

فأجاب من فوره: أجل إني نافع جدًّا، وذهبت عن وجهه العلامات الصبيانية ولاحت عليه الأسارير، وقال: واعلم أن رأس الاشتراكيين مملوء بالكفر والإلحاد كما أن معدهم مملوءة بالفوضوية، وأما نفوسهم فإنها مظللة بأجنحة الشياطين فأصبحت تنفث الجنون والشر، ولا تفوز الحكومة على الاشتراكيين وتستأصلهم من البلاد إلا بقوة الدين والجنود، فإن قوة الدين تحارب الكفر، والجنود يحاربون الفوضوية، ففي بدء الأمر نصبُّ في رأس الاشتراكي مقادير عظيمة من رصاص التعليم الكنائسي، فإن اتعظ وعاد إلى الصواب وشُفي من جنونه، وإلا فإننا نعهد إلى الجنود صب الرصاص في بطونهم حتى يمزقها إربًا إربًا، ثم قال بعد ذلك: ما أعظم قوة الشيطان! وعند ذلك علمت تمام العلم شدة تأثير السلطان الأصفر — الذهب — على هذا الإنسان الغريب الأطوار، فإنه لدى حديثه هذا رأيت أن عظام هذا الشيخ التي نخرها سوس الأمراض العصبية، وجسمه الذي أنهكته الشيخوخة فأصبح كأنه موضوع في كيس من جلد قد هزته نغمة الطرب والانشراح وأعاد إليه قوة الشباب ذكر السلطان الأصفر الذي ذكَّره بحياته الماضية حياة الكذب والنفاق والدعارة والرجس والفجور، ثم أبصرت عينيه تبرقان كدينارين جديدين، ولكنه كان أقرب الشبه إلى الخادم منه إلى الملك، ولكني كنت عالمًا من هو سيده، ثم بعد تفكير ليس بطويل سألته قائلًا: ما هو رأيكم في الفنون الجميلة؟ وكيف تنظرون إليها؟

فتفرس فيَّ ومسح عن وجهه بيده آثار الحقد والشر، وقال لي: أعد سؤالك فإني لم أتفهمه.

فكررت سؤالي وسألته رأيه بشأن الفنون الجميلة.

فأجابني بقوله: إني لا أفتكر مطلقًا بالفنون، وإنما أبتاع ما أحتاجه منها.

فقلت له: ذلك أمر معلوم لدي، ولكن يحتمل أن يكون لكم فيها رأي من الآراء، أو بعبارة أخرى أريد معرفة حاجتك منها؛ فما دمت تبتاعها فلا شك أنه يكون لك رأي في نقصانها وكمالها؟

فقال: أجل! إنني أطلب مطالب خاصة أهمها أن تكون الفنون فكاهية تجلب السرور لفؤادي وتزيل عنه ما علق به من الأكدار والأحزان، وإيضاحًا لذلك أقول: أنا أريد أضحك وأسر وأبتهج ولا يوجد في أعمالي الخاصة ما يسبب ذلك، ومما لا يخفى عليك أنه يجب على الإنسان أن يطلب الرياضة أحيانًا ويرتاح من عناء الأعمال، ويفرغ ما في دماغه من الهموم، ويعمل لما يعيد لجسمه النشاط والهمة؛ ولذلك فإن الفنون إذا رُسمت مثلًا على سقوف الغرف وجدرانها يجب أن يكون الغرض منها تهييج الشهية للطعام. وأما الإعلانات التي يعلقونها على جدران الأسواق والبيوت فيجب كتابتها بحبر شديد الاحمرار لتوجه إليها التفات الناظرين عن بعد مسافة ميل، ويجب أن تكون مكتوبة بعبارات مشوقة تجذب قارئيها وتدفعهم بقوة تأثيرها إلى المحلات المعلن عنها، ومتى كانت على هذا المثال تستحق الاعتبار ويهون على أصحاب المعامل دفع قيمة أجرة طبعها. وأما التماثيل فيجب أن تُصنع من البرونز لمتانته وصلابته، وكذلك آنية الأزهار يجب أن تُصنع من البرونز الذي هو خير من الخزف المعرض في كل آونة للثلم والكسر. وإني أنشرح كثيرًا بمصارعة الديوك وتسميم الجرذان لما في ذلك من الفكاهة، وقد رأيت ذلك في لندن وقصدت ملاهيها التي تمثل فيها هذه الأمور، وطابت نفسي برؤيتها. وأما المضاربة «بالبوكس» فإنها جميلة جدًّا تُزيل الغم عن الفؤاد، ولكن لا أريد أن تكون عاقبتها بالموت. وأما الموسيقى فإنها فن جميل ويجب أن تكون أنغامها وطنية محضة، خذ لك مثلًا النغم الوطني الأميركي؛ فإنه يؤثر على سامعه تأثيرًا شديدًا لحسن توقيعه. إن أميركا أحسن وأجمل بقعة في العالم؛ ولذلك تجد الموسيقى الأميركية أرق وأحسن موسيقى في سائر أقطار الأرض، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه حيث تكون الموسيقى الجميلة يكون هناك الناس الأفاضل الكرام، والأميركيون أغنى الناس على الإطلاق، ولا تجد أمة تضاهيها في اتساع الثروة وفي كثرة المال؛ وبناء عليه فلا تستغرب إذا صرحت لك بأنه سيأتي وقت يُهاجر إلينا فيه جميع سكان الأرض. أما أنا فكنت أسمع ترهات هذا الطفل المريض، وقد مر في مخيلتي ذكر برابرة تاسمانيا٢ الذين يأكلون لحوم البشر، ولكن الذين رأوهم يصفونهم بأن أفئدتهم تضم عواطف شريفة ليس لها أثر عند أمثال هذا الشخص من عبيد الشيطان الأصفر.

وبعد ذلك أردت أن أسأله سؤالًا أضع فيه حدًّا لإعجابه ببلاده التي دنسها بحياته الفاسدة وسيره المفسود، فقلت له: هل تذهب أحيانًا إلى مراسح التمثيل؟

فأجاب: لا ريب في ذلك، فإني أُكثر من التردد عليها؛ لأني أعتبر التمثيل من ضمن الفنون الجميلة التي تشرح صدر الإنسان.

فقلت: وما يعجبك في تلك المراسح؟

فأجاب بعد تفكير قصير: يعجبني فيها النساء وهن محسورات الصدور، عاريات الأيدي، مرتديات أفخر الحلل ومزينات بأثمن الحلي والجواهر الكريمة، ولا سيما إذا كنت جالسًا في لوج فوق ألواجهن أمتع الطرف بالنظر إلى جمالهن الفتان.

ثم تطفلت وسألته أيضًا: وماذا تحب أكثر من كل شيء في المرسح؟

فأجاب بعد أن تثاءب: أحب الممثلات كسائر الرجال الذين يتعلقون بحبهن ويغازلونهن، ولا يخفى عليك أن الممثلات إذا كن حديثات السن ذوات جمال رائع يسلبن العقول ويوقعن الرجال في شراك الهوى والغرام، ولكن من الأمور المكدرة هو صعوبة معرفة كل واحدة منهن هل هي حديثة السن أم جاوزت الأربعين؛ ذلك لمهارتهن في التأنق والاصطباغ؛ مما يجعل الإنسان يخال العجوز الدردبيس منهن في السنة الرابعة عشرة من عمرها، وهن محقات في ذلك لأن مهنتهن تتطلب منهن هذا الأمر، ويحدث في بعض الأحيان أن يقع الواحد منا في غرام ممثلة فينفق في سبيل حبها المبالغ الطائلة، وعندما يتوصل إليها ويبحث في أمرها يجد أنها تبلغ الخمسين عامًا، وأنه كان لها أكثر من مائتي خليل فيتألم الإنسان ويتأفف منها ويأسف على ما أضاعه من الأموال في سبيل حبها الكاذب، وأصرح لك أن ممثلات القهاوي وأندية الرقص التي تقام غالبًا في الحدائق الغناء أحدث سنًّا من ممثلات المراسح وأرخص جسمًا وأثقل أردافًا.

ثم سألته بعد ذلك: وما رأيك في الأشعار؟ وهل تجد لذة في مطالعتها؟

فظهرت على وجهه أمارات التفكير ونظر بعينيه إلى أسفل وقال: أجل إن الأشعار تروق لي مطالعتها وقراءتها، ولا أخفي عليك أن المعيشة تتحسن والتجارة تروج إذا جنح أصحاب المعامل إلى كتابة إعلاناتهم بالأشعار؛ لأنها تُؤثِّر في النفس أكثر من النثر.

فأسرعت وسألته قائلًا: أي شاعر أحب إليك من سائر الشعراء؟

فأجابني بعد أن استعادني السؤال: لله درك من رجل لا يدرك الأمور! إنه لا يوجد دافع يدفعني إلى محبة الشاعر، ولماذا تلزمني محبته؟

فقلت له: أرجوك المعذرة لأني أخطأت في سؤالي، وكنت أريد أن أسألك: أي كتاب أحب إليك؟

فأجاب هذا سؤال آخر مفيد: فإني أحب كتابين أحدهما التوراة، وثانيهما كتاب حساب الدوبيا (مسك الدفاتر)، وفائدة الكتابين متساوية في نظري، وعندما أمسكهما بيدي أشعر بأنهما يقدمان لي ما أحتاج إليه؛ لأن فيهما قوة عجيبة لا يستطيع غيري إدراكها.

فزعمت لأول وهلة أنه يهزأ بي، فتفرست في وجهه فلم أجد فيه أثرًا للتهكم والهزء، بل بالعكس كانت تلوح عليه علامات الجد والإخلاص، وكان جالسًا في كرسيه كلُبِّ الجوزة الذي يبس وسط قشرته، ثم أخذ يجيل نظره في أظافره، وقال: لا ريب في أنهما كتابان مفيدان جدًّا؛ فإن أولهما كتبه الأنبياء، وثانيهما وضعته أنا الجالس أمامك، ثم إن كتابي لا يحتوي على كلام كثير بل مملوء بالأرقام الكثيرة، وهو يُعلِّم الإنسان كيف يعمل إذا أراد الشغل بذمة ونشاط، وأؤكد لك أن الحكومة الأميركية بعد وفاتي ستشهر أمر هذا الكتاب وتجتهد في نشره بين الناس؛ حتى يطلع كل واحد على الطريقة التي توصله إلى أسمى درجات الرقي والشهرة.

وبعد ذلك أردت قطع الحديث لأنه من المعلوم لا يستطيع كل إنسان أن يتحمل عندما يدوسون رأسه بالأرجل، ولكن خطر لي سؤال أردت أن أسأله إياه، فقلت له: هل تستطيع أن تُعلِمني رأيك بشأن العلم؟

فأجاب بعد أن نظر في ساعته وجعل يتلاهى بسلسلتها الذهبية: نعم لا بأس، فإني أخبرك بما أعرفه عما سألت، فالعلم على رأيي هو الكتب، فإذا كان مؤلفوها يكتبون فيها شيئًا حميدًا حسنًا عن أميركا فهي كتب نافعة مفيدة، والعكس بالعكس، ولكن قلما يلتفت الكُتَّاب في هذه الأيام إلى تسطير الحقائق وتقرير الصدق، وأنا واثق من أن جماعة الكُتَّاب والشعراء قوم فقراء وإيرادهم قليل جدًّا، ولا عجب في ذلك فإن الأمة المنهمكة في الأعمال ليس لها وقت للمطالعة، وعلى ذلك تُصادف مطبوعاتها كسادًا عظيمًا يتحمل منه مؤلفوها أنواع الفاقة وصنوف الحاجة، وفوق هذا وذاك فإن الشعراء قوم أشرار وبعدل يحجم الناس عن ابتياع تآليفهم؛ ولذلك فإن من رأيي أنه يجب على الحكومة أن تدفع للكُتَّاب مبالغ متوفرة لأن الإنسان متى كان شبعان غير محتاج إلى شيء يكون لين العريكة حميد الصفات، وقلما يميل إلى الشر في مثل هذه الحالة، ولذلك أقول: إنه إذا كانت بلادنا في حاجة إلى الكتب المفيدة ينبغي على الحكومة أن تؤجر عددًا عظيمًا من الشعراء والكُتَّاب وتدفع لهم الأجور الكبيرة وتكلفهم بوضع الكتب ونظم القصائد في تعداد مآثر الأميركيين ووصفهم بأعظم الصفات المجيدة، وكذلك وصف أميركا بأنها أحسن بقعة في العالم، وأنها مهد المدنية ومبهط العمران وأرض الحرية وما شابه ذلك، وإذ ذاك فقط تتوفر لدينا الكتب النافعة المفيدة. فقلت له: إنك ضيَّقت كثيرًا في تعريف العلم!

فأجاب: وأزيد على ذلك أن المعلمين والفلاسفة يدخلون ضمن العلم، وقل مثل ذلك عن كبار الأساتذة والقابلات وأطباء الأسنان والمحامين والأطباء والمهندسين وكلهم لا غنى للناس عنهم، ويجب عليهم أن ينفعوا الناس ويرشدوهم إلى ما يفيدهم. ولكن معلم ابنتي قال لي مرة: إنه توجد علوم اشتراكية فلم يعجبني قوله؛ لأني أظن أن مثل هذه العلوم مضرة ضررًا كبيرًا؛ لأن العلم النافع لا يُخرج الاشتراكيين ويُنبتهم، كما أن العالم الاشتراكي لا يستطيع وضع كتاب نافع مفيد، ولا يستطيع إبراز العلوم النافعة إلا الرجل العاقل الذي يحب وطنه مثل أديسون مثلًا مخترع الفنوغراف والصور المتحركة (سينما توغراف) لما فيها من الفائدة الفكاهية للأهالي، وأزيدك إيضاحًا: إن كثرة الكتب لا فائدة منها، ومن رأيي أنه لا يجوز للناس مطالعة الكتب التي تثقف العقول وتهيج الأفكار وتولد الظنون والشكوك، وكل شيء في هذه الحياة يجري في مجراه الطبيعي ولا لزوم لإدخال الكتب في الأعمال وتشويش أفكار العمال.

ولما قال ذلك نهضت، فخاطبني قائلًا: أراك تريد الخروج.

فأجبته بالإيجاب، وقلت له: إنني أرجوك كثيرًا أن تُعلمني شيئًا أميل إلى معرفته، وهو ما الفائدة التي يجنيها الإنسان من إحرازه الملايين؟

فأجاب: إن ذلك عادة راسخة في الجسم، وكلما زادت ثروة الإنسان يسعى في زيادتها، كما أن العادة المستأصلة في جسم الإنسان تنمو مع نموه.

فأطرقت مليًّا ووجهت إليه آخر سؤال وهو: فإذن على رأيك أن المتشردين ومدخني الأفيون والسكيرين كأصحاب الملايين سواء بسواء، ولقد ظهر لي أن استنتاجي هذا كدَّره، فأجابني بصرامة قائلًا: إنك يا صاح عديم التربية مجرد عن الأخلاق الطيبة.

أستودعك الله يا صاح!

فسار معي مشيعًا حتى الباب الخارجي، وكانت أمام منزله ساحة كبيرة مغطاة بالعشب الأخضر الذي ينمو فيها، فسرت عليه وكان فؤادي يخفق سرورًا؛ لأنه خطر على بالي فكر: وهو أني لا أعود أرى هذا الرجل.

وفيما كنت سائرًا سمعت رجلًا يدعوني باسمي، فالتفت فإذا به واقف أمام الباب ينظر إليَّ فقلت له: ماذا تريد مني؟

فقال: هل يوجد عندكم في أوروبا ملوك زائدون عن لزوم رعاياهم؟

فأجبته: إن جميع الملوك لا لزوم لهم وجميع الشعوب في غنى عنهم.

ثم قال: أحب أن أستأجر لي زوجًا من الملوك.

فقلت له: ولماذا ذلك؟

أجاب: كنت ألزمهما أن يتصارعا كل يوم بالبوكس في هذه الساحة على سبيل الفكاهة كما يتفكه الإنسان بمنظر مصارعة الديوك.

فقلت له: عندكم هنا كثير من الزنوج والمهاجرين تستطيع استخدامهم لمثل هذه الغاية.

أجاب: كلا، كلا؛ لأني إذا تحصلت على ملكين من ملوك أوروبا أتفرد بهذا المعنى، وأكون أحرزت شيئًا لا مثيل له عند أحد من أصحاب الملايين، وفي ذلك لذة عظمى، ولكل جديد طلاوة ترتاح إليها النفوس.

فقلت له: إن الملوك لا يحسنون المصارعة؛ لأنهم يتصارعون دائمًا بأيد غريبة، أو بعبارة أخرى يدفعون رجال رعاياهم ويعرضونهم للهلاك ويتلاهون بمنظرهم كما كان يتلاهى ملوك الرومان واليونان بمصارعة الأسود والثيران.

ثم قال لي: وكم تظن أنه يكلفني استئجار ملكين في خلال ثلاثة أشهر يتصارعان كل يوم مدة ساعتين؟

فلم أرد عليه وسرت في طريقي لا ألوي على شيء.

١  (المعرب) رأيت المعنى الذي استشهد به المؤلف من قول فيكتور هوجو منقولًا إلى العربية نظمًا بقلم فقيد الأدب المرحوم أديب بك إسحاق فأخذته كما هو.
٢  واقعة إلى جنوب أميركا الجنوبية ويسمونها أيضًا أرض النار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤