نتائج البحث الحديث في تاريخ عرب الجنوب
وذكر مؤرخو يونان مُدنًا وشعوبًا لم ترد في تواريخ العرب، واستطاع علماء المشرقيات تعيين أماكن المدن ومعرفة ما يقابلها من الأسماء العربية بعد استقراء الآثار بتوالي التنقيب وقراءة الخط المسند، والذي وصل إلينا علمه من أخبار دول اليمن بما لدينا من أسباب العلم في الكتب أو الآثار حتى الآن تاريخ ثلاث دول كبرى، وهي المعينية والسبئية والحميرية، وكان لدى المعينيين قصور تسمى محافد ومنها «براقش»، قال الهمداني في كتاب الإكليل «محافد اليمن» «براقش» و«معين»، وهما بأسفل «جوف الرحب» مقتبلتان، فمعين بين مدينة «نشان» وبين «درب شراقة» وفيها يقول مالك بن حريم الدلاني:
وقال فروة بن مسيك في معين وبراقش معًا:
وقال فيهما علقمة:
ومما يثبت وجود السبئِيِّين إلى القرن الثامن قبل الميلاد عثور المُنقِّبين في مأرب على نقش فيه ذكر ملك أو فرد من الرعية اسمه «يثعمر»، فدقق جلازر في تحقيق الزمن الذي عاشت فيه دولة سبأ قبل أن تظهر الدولة الحميرية بمعارضة ما لديه من الآثار، فترجَّح له أنَّ سبأ الحقيقية بدأت في ٨٥٠ق.م، وانتهت حوالي سنة ١١٥ق.م.
أما دولة حمير أو العصر الحميري فيبدأ سنة ١١٥ق.م، وينتهي في الربع الأول من القرن السادس بعد سيدنا يسوع المسيح، فحكموا ستة قرون ونصف قرن، وعدد ملوكهم ثلاثون ملكًا، ونسبوا إليهم فتوحات معظمها من الخرافات أو الأساطير، وقد يكون منها صحيحًا أنَّ أبا كرب أسعد بن ملكيكرب ٣٨٥–٤٢٠ قد غزا يثرب (المدينة المنورة) وكسا الكعبة في مكة، وأنه أول من تهود من العرب، ولا غرابة في هذا الخبر؛ لأنه من قبيل المألوف.
ويظهر من كتب العرب أنَّ ذا نواس أو دميانوس كان يهوديًّا شديد التعصب لدينه، فغزا أهل نجران وهم نصارى، ثم عذبهم وهدم بيعتهم وأحرق الكتاب المقدس فاستنصروا عليه قيصر الروم جوستنيان فاعتذر ببعد الشقة، وكتب إلى نجاشي الحبشة يكلفه فتح اليمن، ولم يكن الأحباش في حاجة إلى هذا التحريض؛ لأنهم بدءوا من أوائل النصرانية يستخفون بالحميريين ويطمعون في بلادهم على أثر تضعضع السبئيين وتفرُّق كلمتهم، وكان الأحباش في أعلى درجات سطوتهم، فلما وافاهم رسول قيصر يحثهم بادروا إلى تحقيق أمنيتهم، وأرسلوا جيشهم بقيادة الفريق أرياط، وكان معه الفيلة وأبرهة بن الصباح الملقب بالأشرم، ولكن مؤرخي اليونان يعللون فتح الأحباش لليمن بأن الحميريين تعدَّوْا على تجار الروم في أثناء اجتيازهم اليمن بتجارتهم الهندية، فوقفت حركة التجارة فشق ذلك على الأحباش، فتجندوا لفتح الطريق تحت راية النجاشي هداد، فحاربوا الحميريين، وقتلوا ملكهم ذا نواس وجددوا المعاهدة مع القيصر جوستنيان على شرط أن ينتصر أهل أكسوم، وأرسلوا إلى الإسكندرية وفدًا يطلبون قسيسًا يُعمِّدهم ويعلمهم، فأرسل إليهم يوحنا الذي صار بعد ذلك أسقف أكسوم، وذلك ما فعله أحفاد أحفادهم بعد ذلك بثمانية عشر قرنًا، إذ طلبوا من بطريرك الأقباط قسيسًا فأرسل إليهم الأنبا متاوس منذ أربعين عامًا تقريبًا، وهو لا يزال أسقف الحبشة إلى يومنا هذا. ويميل المؤرخ شارب الإنجليزي إلى هذا الرأي ص٣٥٢ من كتابه المتقدم ذكره، وأنَّ هذه الحرب تلتها حرب أخرى في عهد النجاشي اليسباس، ففتحت اليمن فتحًا نهائيًّا، وولَّى عليها أميرًا حبشيًّا مسيحيًّا اسمه أسيمافيوس، ثم انتهت الحرب الثانية بالصلح بين الحبشة واليمن.
وفي رواية تاريخية في الجزء السادس عشر من الأغاني أنَّ أميرًا حميريًّا اسمه سيف بن ذي يزن استنجده قومه، فنهض لتحريرهم من سلطة الأحباش الأجانب، فاستنصر كسرى فنصره بجند من الفرس تحت قيادة «وهزر»، فقهر الأحباش وأخرجهم واحتل اليمن، فأمره كسرى بتمليك سيف فملَّكه، وما زال أميرًا على اليمن حتى قتله أفراد من الحرس الحبشي الذي اتخذه لنفسه (ص٧٥ ج١٦ الأغاني وص٥٣ ج٢ الأغاني طبع بيروت)، وقال أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدحه:
ومنها في وصف جند الفرس الذين أرسلهم كسرى لنجدة سيف:
وقد علق صاحب الأغاني على كلمة بني الأحرار بقوله: «بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره هم الفرس الذي قدموا مع سيف بن ذي يزن، وهم الآن (العهد الأصبهاني) يُسمَّون بني الأحرار بصنعاء ويُسمَّون باليمن الأبناء.» وكل ما رويناه في هذه النبذة مؤيد بأقوال الثقات من مؤرخي الإفرنج والعرب والآثار المنقوشة على الأحجار والنقود المسكوكة، فقد ضرب اليمنيون نقودًا نقشوا عليها صور ملوكهم وأسماءهم وأسماء المدن التي ضربت فيها بالحرف المسند وزينوها برموز كصورة البومة أو الصقر أو رأس الثور، وهي في اعتقادنا رموز دينية لمعبوداتهم، فقد وجدوا بينها أيضًا صورة الهلال وبجانب تلك الرموز كتابة بالقلم المسند (كخراطيش المصريين القدماء بالخط الهيروغليفي)، ومن هذه النقود مجموعة حسنة في المتحف الأدبي في فينا، وصورها في ص٦٧ من كتاب مولر عن جنوب بلاد العرب، وهذه النقود سبئية وحميرية وليس بينها نقود معينية.
وقد بُني غمدان في القرن الأول للميلاد وظل باقيًا إلى أيام عثمان بن عفان. وقصر ريدة وجد فيه حجر مكتوب عليه «بناه يريم»، ويريم بن علهان حكم في أواسط القرن الأول قبل ميلاد سيدنا يسوع المسيح، وأصبح هذا القصر بعد الإسلام دارًا للعلويين. وصرواح قصر عظيم ما بين صنعاء ومأرب، قال علقمة:
وقوله ذو ثعلبان كقول الإفرنج دوق أوف وستمنستر أوبرنس دي غال.
فيظهر مما تقدم أنَّ اليمنيين كانوا أهل مدن وقصور ومحافد وهياكل وأثاث ورياش، لبسوا الخز والديباج وافترشوا الحرير والدمقس، واقتنوا آنية الذهب والفضة وسكوا النقود واغترسوا الحدائق والبساتين، روى لنورمان المؤرخ الفرنسوي في كتابه «تاريخ الشرق القديم» ص٢٩٨ ج٣ أنَّ السبئيين — وهم الدولة الوسطى بين المعينيين والحميريين — كانت قصورهم قائمة على الأساطين المموهة بالذهب أو المنزلة بالفضة، وكانوا يبذلون في تزيينها أموالًا طائلة، قال علقمة:
ومن حوادث التاريخ التي حصل عليها خلاف بين رجال العلم والدين سيل العرم وسد مأرب، وظل الناس في شك من أمر سد مأرب حتى تمكن المستشرق الفرنسوي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة ١٨٤٣ وشاهد آثار السد، ورسم له خريطة نشرت في المجلة الآسيوية الفرنسوية سنة ١٨٧٤، وزار مأرب بعده هاليفي وجلازر ووافقاه على وصفه، وهو يطابق ما دونه الهمداني في كتاب الإكليل، وعثروا في أثناء التنقيب على نقوش محفورة في خرائب السد وغيره تحققوا بها خبره، وأنه كان لسباء وبناه في القرن الثامن قبل المسيح «سمهعلي ينوف بن ذمر على مكرب سبأ، ويثعمربيين بن سمهعلي ينوف مكرب سبأ» وأتمه خلفاؤهما، وحدث تهدمه حوالي تاريخ الميلاد قبيل ظهور دولة حمير وانتقال عاصمة السبئِيِّين إلى ظفار.