الفصل الثالث

نتائج البحث الحديث في تاريخ عرب الجنوب

ينتسب عرب اليمن كما ذكرنا إلى قحطان، وذكر المؤرخون — ومنهم ابن خلدون وهو ثقة عند مؤلف الشعر الجاهلي (لأنه كان موضوع أطروحته Thése أمام أساتذة باريس) في ص٤٧ ج٢ — أنَّ أول ملوك هذه الدولة يعرب بن قحطان وأنه ولَّى إخوته ملوكًا على بلاد العرب العاربة؛ أي البائدة، فولَّى جرهمًا على الحجاز، وعاد بن قحطان على الشحر، وحضرموت بن قحطان على جبل الشحر، وعمان بن قحطان على عمان. ويظهر من هذا أنَّ تلك البلاد أخذت أسماءها عن ملوكها، وفي أنساب التبابعة تخليط واختلاف كثير فلا يصح منها ومن أخبارها إلا القليل، ولو راجعنا أخبار دولة حمير في سائر ما كتبه المؤرخون ما وجدنا اثنين منهما متفقين في عددهم وأسمائهم وتعاقبهم، وأخبار هذه الدولة أكثر تعقيدًا واختلاطًا من أسماء ملوكها (حمزة الأصفهاني في تاريخ سني الملوك طبع ليبزيك سنة ١٨٤٨ ص١٢٤)، ويقال على وجه التقريب إنَّ عدد هؤلاء التبابعة ستة وعشرون تبعًا حكموا نحو سبعة عشر قرنًا.

وذكر مؤرخو يونان مُدنًا وشعوبًا لم ترد في تواريخ العرب، واستطاع علماء المشرقيات تعيين أماكن المدن ومعرفة ما يقابلها من الأسماء العربية بعد استقراء الآثار بتوالي التنقيب وقراءة الخط المسند، والذي وصل إلينا علمه من أخبار دول اليمن بما لدينا من أسباب العلم في الكتب أو الآثار حتى الآن تاريخ ثلاث دول كبرى، وهي المعينية والسبئية والحميرية، وكان لدى المعينيين قصور تسمى محافد ومنها «براقش»، قال الهمداني في كتاب الإكليل «محافد اليمن» «براقش» و«معين»، وهما بأسفل «جوف الرحب» مقتبلتان، فمعين بين مدينة «نشان» وبين «درب شراقة» وفيها يقول مالك بن حريم الدلاني:

ونحمي الجوف ما دامت معين
بأسفله مقابلة عرادا

وقال فروة بن مسيك في معين وبراقش معًا:

أحل يحابر جدي عطيفًا
معين الملك من بين البنينا
وملكنا براقش دون أعلى
وأنعم إخوتي وبني أبينا

وقال فيهما علقمة:

وقد أسوا براقش حين أسوا
ببلقعة ومنبسط أنيق
وحلوا من معين حين حلوا
لعزهم لدى الفج العميق
وقد استشهد بهذه الأبيات مولر في كتابه عن بلاد جنوب العرب ج٢ ص٦٦ واسمه بالألمانية: Die Burgen sudarabiens.
وثبت للباحثين أمثال جلازر ومولر أنَّ المعينيين أصلهم من عمالقة العراق بدو الآراميين الذين كانوا في أعالي جزيرة العرب قبل ظهور حمورابي بجملة قرون، فلما ذهبت دولة العمالقة في العراق نزحوا إلى اليمن، واستقروا بها، وتوطنوا الجوف، وشادوا القصور والمحافد على مثل ما عرفوه في بابل وطنهم الأصلي. واختلف العلماء في تقدير عمر الآثار التي عثروا عليها في أطلال هذه الدولة، فذهب جماعة إلى أنها تبدأ بالقرن الرابع عشر قبل الميلاد، وانفرد العالم ديسو Dussaud بأنها ترجع إلى القرن السابع أو الثامن ص٧٤ من كتابه «العرب في سوريا قبل الإسلام» واسمه بالفرنسية Les Arabes en Syrie avant l’Islam. والدولة الثانية القحطانية هي الدولة السبئية، وهم أيضًا من العرب المتعربة، من أولاد قحطان أبي اليمن، قال رينان إنَّ قحطان هو يقطن من أبناء سام، تغير نطق اسمه لالتقافه من أفواه بعض اليهود الذين ينطقون الكاف كالحاء (حاشية عدد ٢ هامش ص٣٠٤ كتاب معارضة اللغات السامية)، بيد أنَّ بعض الألفاظ القديمة اللاصقة بتاريخ الأمم المنقرضة لا يمكن رده في الغالب إلى أصل يرتاح إليه العلم، وبعضها يمكن رده مثل «تبع» و«حمير»، فإنهما لفظان حبشيان، الأول معناه القادر، والثاني «غبش»؛ أي معتم لون البشرة، وأُطلق تبع لقبًا على الملوك، وغبش على الأمة كلها، وربما كان ذلك لسمرة لون بشرتهم، كما يقال الجنس الأبيض أو الأصفر، كذلك قال الأحباش حمير؛ أي «الجنس الأسمر».

ومما يثبت وجود السبئِيِّين إلى القرن الثامن قبل الميلاد عثور المُنقِّبين في مأرب على نقش فيه ذكر ملك أو فرد من الرعية اسمه «يثعمر»، فدقق جلازر في تحقيق الزمن الذي عاشت فيه دولة سبأ قبل أن تظهر الدولة الحميرية بمعارضة ما لديه من الآثار، فترجَّح له أنَّ سبأ الحقيقية بدأت في ٨٥٠ق.م، وانتهت حوالي سنة ١١٥ق.م.

أما دولة حمير أو العصر الحميري فيبدأ سنة ١١٥ق.م، وينتهي في الربع الأول من القرن السادس بعد سيدنا يسوع المسيح، فحكموا ستة قرون ونصف قرن، وعدد ملوكهم ثلاثون ملكًا، ونسبوا إليهم فتوحات معظمها من الخرافات أو الأساطير، وقد يكون منها صحيحًا أنَّ أبا كرب أسعد بن ملكيكرب ٣٨٥–٤٢٠ قد غزا يثرب (المدينة المنورة) وكسا الكعبة في مكة، وأنه أول من تهود من العرب، ولا غرابة في هذا الخبر؛ لأنه من قبيل المألوف.

ثم إن الأحباش فتحوا اليمن في عهد الملك الحميري ذي نواس (٥١٥–٥٢٥ ب.م)، الذي يسميه اليونان دميانوس ص٣٥٢ ج٢ من كتاب المؤرخ الإنجليزي شارب تاريخ مصر History of Egypt، وقد حمل أحد ملوك الحبشة على شواطئ اليمن في أوائل القرن الثاني للميلاد كما هو منقوش على أثر في مدينة أدوليس (زيلع) وعقبه نجاشي ثانٍ في أواخر القرن الثالث، ففتح بعض اليمن وبعض تهامة، وفي أواسط القرن الرابع عاد الأحباش، فاكتسحوا اليمن كلها، وذكروا خبر ذلك الفتح على آثارهم ونقشوا أسماءهم على أبنية أكسوم عاصمة الملك باليونانية، ولقب ملكهم نفسه «ملك أكسوم وحمير وريدان وأثيوبيا وسبأ وزيلع وغيرها» (ص٣٣ ج٢ من كتاب مولر في تاريخ جنوب العرب وص٢٣ من كتاب Grimme: Weltgeschiete in karakterbilden, Mohammed، طبع مونيخ سنة ١٩٠٤). وقد زار هذا العالم جرمه مصر في شتاء سنة ١٩٠٧ والتقينا به، وكتب لنا أسماء مؤلفاته بخطه في ثبت لا يزال لدينا محفوظًا، وكان جرمه يحدثنا باللغة العربية الفصحى التي يجيدها.

ويظهر من كتب العرب أنَّ ذا نواس أو دميانوس كان يهوديًّا شديد التعصب لدينه، فغزا أهل نجران وهم نصارى، ثم عذبهم وهدم بيعتهم وأحرق الكتاب المقدس فاستنصروا عليه قيصر الروم جوستنيان فاعتذر ببعد الشقة، وكتب إلى نجاشي الحبشة يكلفه فتح اليمن، ولم يكن الأحباش في حاجة إلى هذا التحريض؛ لأنهم بدءوا من أوائل النصرانية يستخفون بالحميريين ويطمعون في بلادهم على أثر تضعضع السبئيين وتفرُّق كلمتهم، وكان الأحباش في أعلى درجات سطوتهم، فلما وافاهم رسول قيصر يحثهم بادروا إلى تحقيق أمنيتهم، وأرسلوا جيشهم بقيادة الفريق أرياط، وكان معه الفيلة وأبرهة بن الصباح الملقب بالأشرم، ولكن مؤرخي اليونان يعللون فتح الأحباش لليمن بأن الحميريين تعدَّوْا على تجار الروم في أثناء اجتيازهم اليمن بتجارتهم الهندية، فوقفت حركة التجارة فشق ذلك على الأحباش، فتجندوا لفتح الطريق تحت راية النجاشي هداد، فحاربوا الحميريين، وقتلوا ملكهم ذا نواس وجددوا المعاهدة مع القيصر جوستنيان على شرط أن ينتصر أهل أكسوم، وأرسلوا إلى الإسكندرية وفدًا يطلبون قسيسًا يُعمِّدهم ويعلمهم، فأرسل إليهم يوحنا الذي صار بعد ذلك أسقف أكسوم، وذلك ما فعله أحفاد أحفادهم بعد ذلك بثمانية عشر قرنًا، إذ طلبوا من بطريرك الأقباط قسيسًا فأرسل إليهم الأنبا متاوس منذ أربعين عامًا تقريبًا، وهو لا يزال أسقف الحبشة إلى يومنا هذا. ويميل المؤرخ شارب الإنجليزي إلى هذا الرأي ص٣٥٢ من كتابه المتقدم ذكره، وأنَّ هذه الحرب تلتها حرب أخرى في عهد النجاشي اليسباس، ففتحت اليمن فتحًا نهائيًّا، وولَّى عليها أميرًا حبشيًّا مسيحيًّا اسمه أسيمافيوس، ثم انتهت الحرب الثانية بالصلح بين الحبشة واليمن.

وهاتان الروايتان (العربية والإفرنجية) عن فتح اليمن إن اختلفتا في التفصيل متفقتان في النتيجة، ويؤيدهما ما عثر به الضابط الإنجليزي ولستد على شواطئ اليمن على مرتفع اسمه حصن غراب فيه نقوش حميرية، قرأها علماء المشرقيات فإذا فيها: «إنَّ سميفع أشوى وأولاده … نقشوا هذا التذكار في حصن مويجت «غراب» لما رمموا أسوارهم ومهدوا دروبهم في الجبال، وتحصنوا فيه بعد أن فتحوا اليمن، وغلبوا أهلها، وفتحوا طريق التجارة في أرض حمير، وقتلوا ملكها وأفياله الحميريين في شهر حجتين سنة ٦٤٠»، نقلًا عن ص٢٤٩ من كتاب مدينة الأحباش المقدسة تأليف بنيت Bennett طبع لندن سنة ١٨٩٣. ولعل المراد بالسميفع سيمافيوس المتقدم ذكره، وهو وأولاده قواد حملة الحبشة على قول مؤرخي اليونان، وهذا أقرب إلى الحقيقة، وقرأ العلماء أيضًا في آثار اليمن اسم القائد الحبشي كما ذكره العرب «أبرهة» مكتوبًا في خرطوش بالخط المسند وبجانبه اسم أراحميس زبيمان النجاشي الذي أرسله، ولم يقم على الحميريين ملك حتى كان الإسلام، ودخلوا في حوزة المسلمين، ومدة حكم الحبش في اليمن على قول العرب ٧٤ سنة، وصارت عاصمة اليمن منذ فتح الأحباش «صنعاء».

وفي رواية تاريخية في الجزء السادس عشر من الأغاني أنَّ أميرًا حميريًّا اسمه سيف بن ذي يزن استنجده قومه، فنهض لتحريرهم من سلطة الأحباش الأجانب، فاستنصر كسرى فنصره بجند من الفرس تحت قيادة «وهزر»، فقهر الأحباش وأخرجهم واحتل اليمن، فأمره كسرى بتمليك سيف فملَّكه، وما زال أميرًا على اليمن حتى قتله أفراد من الحرس الحبشي الذي اتخذه لنفسه (ص٧٥ ج١٦ الأغاني وص٥٣ ج٢ الأغاني طبع بيروت)، وقال أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدحه:

لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن
في البحر خيم للأعداء أحوالا

ومنها في وصف جند الفرس الذين أرسلهم كسرى لنجدة سيف:

حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم
تخالهم فوق متن الأرض أجيالا

وقد علق صاحب الأغاني على كلمة بني الأحرار بقوله: «بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره هم الفرس الذي قدموا مع سيف بن ذي يزن، وهم الآن (العهد الأصبهاني) يُسمَّون بني الأحرار بصنعاء ويُسمَّون باليمن الأبناء.» وكل ما رويناه في هذه النبذة مؤيد بأقوال الثقات من مؤرخي الإفرنج والعرب والآثار المنقوشة على الأحجار والنقود المسكوكة، فقد ضرب اليمنيون نقودًا نقشوا عليها صور ملوكهم وأسماءهم وأسماء المدن التي ضربت فيها بالحرف المسند وزينوها برموز كصورة البومة أو الصقر أو رأس الثور، وهي في اعتقادنا رموز دينية لمعبوداتهم، فقد وجدوا بينها أيضًا صورة الهلال وبجانب تلك الرموز كتابة بالقلم المسند (كخراطيش المصريين القدماء بالخط الهيروغليفي)، ومن هذه النقود مجموعة حسنة في المتحف الأدبي في فينا، وصورها في ص٦٧ من كتاب مولر عن جنوب بلاد العرب، وهذه النقود سبئية وحميرية وليس بينها نقود معينية.

وممن شاهد الآثار اليمنية بنفسه من المؤرخين الهمداني صاحب كتاب صفة جزيرة العرب وكتاب الإكليل، وهو أجمع كتاب في وصف محافد اليمن ومساندها ودفائنها، ولم يعثر العلماء إلا على جزء صغير منه عُنِيَ المستشرق مولر بنشره والتعليق عليه Muller Die Burgen und Sehlosser sudarabiens nach dem Iklil طبع فينا سنة ١٨٨١ وفيه وصف كثير من الآثار الحميرية وفي جملتها سد مأرب، وكان الناس يحسبون في كلامه مبالغة حتى ذهب أرنو وهاليفي وغلازر، وشاهدوا آثار ذلك السد وبعض أنقاض تلك القصور، فوجدوا الهمداني صاحب الإكليل صادقًا فيما ذكره عنها فاعتقدوا صدقه في سائر ما قاله (ص١٢ كتاب نيكلسون). وفي قصر غمدان شعر قاله اليشرح أحد الأقيال بقي منه بيت واحد ذكره مولر في ص٥٦ ج١ من كتابه، والكاف في حصنك تاء:
وإني أنا القيل اليشرح
حصنك غمدان بمبهمت

وقد بُني غمدان في القرن الأول للميلاد وظل باقيًا إلى أيام عثمان بن عفان. وقصر ريدة وجد فيه حجر مكتوب عليه «بناه يريم»، ويريم بن علهان حكم في أواسط القرن الأول قبل ميلاد سيدنا يسوع المسيح، وأصبح هذا القصر بعد الإسلام دارًا للعلويين. وصرواح قصر عظيم ما بين صنعاء ومأرب، قال علقمة:

من يأمن الحدثان بعـْ
ـد ملوك صرواح ومأرب
وذكر أيضًا في القصيدة الحميرية التي نقلها كريمر في كتاب Sudarabische sage قال صاحب القصيدة الحميرية:
ذو ثعلبان وذو خليل ثم ذو
شجر وذو جدن وذو صراح

وقوله ذو ثعلبان كقول الإفرنج دوق أوف وستمنستر أوبرنس دي غال.

فيظهر مما تقدم أنَّ اليمنيين كانوا أهل مدن وقصور ومحافد وهياكل وأثاث ورياش، لبسوا الخز والديباج وافترشوا الحرير والدمقس، واقتنوا آنية الذهب والفضة وسكوا النقود واغترسوا الحدائق والبساتين، روى لنورمان المؤرخ الفرنسوي في كتابه «تاريخ الشرق القديم» ص٢٩٨ ج٣ أنَّ السبئيين — وهم الدولة الوسطى بين المعينيين والحميريين — كانت قصورهم قائمة على الأساطين المموهة بالذهب أو المنزلة بالفضة، وكانوا يبذلون في تزيينها أموالًا طائلة، قال علقمة:

واسأل بينون وحيطانها
قد نطقت بالدر والجوهر

ومن حوادث التاريخ التي حصل عليها خلاف بين رجال العلم والدين سيل العرم وسد مأرب، وظل الناس في شك من أمر سد مأرب حتى تمكن المستشرق الفرنسوي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة ١٨٤٣ وشاهد آثار السد، ورسم له خريطة نشرت في المجلة الآسيوية الفرنسوية سنة ١٨٧٤، وزار مأرب بعده هاليفي وجلازر ووافقاه على وصفه، وهو يطابق ما دونه الهمداني في كتاب الإكليل، وعثروا في أثناء التنقيب على نقوش محفورة في خرائب السد وغيره تحققوا بها خبره، وأنه كان لسباء وبناه في القرن الثامن قبل المسيح «سمهعلي ينوف بن ذمر على مكرب سبأ، ويثعمربيين بن سمهعلي ينوف مكرب سبأ» وأتمه خلفاؤهما، وحدث تهدمه حوالي تاريخ الميلاد قبيل ظهور دولة حمير وانتقال عاصمة السبئِيِّين إلى ظفار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤