الفصل الرابع عشر

شرف النبي وسيادة قريش

أما كلامك في أسرة النبي ونسبه وغمزك وهمزك تحت ستار الشعر الجاهلي، فأنت فيه مفضوح! فإن محمدًا إن كان امتاز بشيء بين العرب قبل رسالته، فإنما بشرفه وشرف أسرته وسمو أخلاقه، وقد كانت قريش حقًّا صفوة العرب، وكانت قصي حقًّا صفوة العرب، أما أنَّ العرب صفوة الإنسانية فهذا ما لا أعلمه ولا أجزم به، ولكن مدنيتهم من أرقى المدنيات باعتراف عقلاء الأمم كافة. اعلم يقينًا أنَّ محمدًا أشرف العرب وأفصحهم وأعلمهم وأعقلهم وأفضلهم، ولست في حاجة إلى التدليل على ذلك لمثلك، ولست لك أكتب هذا، ولكنني أكتبه براءة لذمتي وإراحة لضميري، ومن العجيب أنك أنت نفسك قد نطقت بهذه الحقائق ثم نسيتها، فقلت في ص٥٠: «وكان شعراء قريش يهجون مع الأنصار النبي وأصحابه وهم من خلاصة قريش»، وقلت في ص٢٧: «وقد كانت قريش في أول هذا القرن (السابع للمسيح) قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية.»

ففي هاتين النبذتين قول صريح بأنَّ محمدًا خلاصة قريش وأنَّ قريشًا سيدة العرب، على أنَّ محمدًا لم يكن يستطيع أن يظهر بمظهر الرسالة إن لم يكن أشرف قومه وأمته، وقد نشأ فيهم واتصل بهم وهو من صميمهم نسبًا ووراثة يعرفونه ويحققون أمره جملة وتفصيلًا، ولم ينكروا عليه أمرًا من لدن نشأته إلى حد كهولته وإلى أن دب الشيب في رأسه، وكانوا يعرفونه من قبل بحسن الخلق وصفاء الذمة، ويعرفون أنه لا يريد مُلكًا ولا يبغي دولة، ولم يأتِ إليهم بالتمويه ولم يداخلهم بالنفاق، ولم يتألفهم على باطلهم، ولم ينزل في العقيدة على حكمهم، ولم يداهن في خطابهم، ولم يرفق بهم فيما يتخيلون وما يعبدون، فكان محمد بنسبه وخلقه أشرف قريش، وكانت قريش خلاصة العرب؛ لأن تاريخ صدر الإسلام يدل على أنَّ شدة الإيمان كانت عند شدة الفصاحة، وأنَّ خلوص الضمائر كان يتبع خلوص اللغة، وأنَّ القائمين بهذا الدين كانوا أهل الفصاحة الخالصة من قريش.

يقول المؤلف ص٨٥: «ولكنَّ في شعر أمية بن أبي الصلت أخبارًا وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصيحة، ويرى الأستاذ هوار أنَّ ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل على صحة هذا الشعر.» وهذا الذي يغيظ المؤلف ويقهره ويخرجه عن جادة الحلم والعقل، أن يتخذ الأستاذ كليمان هوار من القرآن دليلًا على صحة الشعر الجاهلي أو من الشعر الجاهلي دليلًا على صحة القرآن، أو منهما معًا دليلًا على وجود عاد وثمود وطسم وجديس.

على أنَّ أول من شك من الأدباء في صحة إسناد الشعر المروي عن شعراء القبائل البائدة وكهانها كعاد وثمود ودون ذلك وأثبته في كتاب هو ابن سلام (ص٨)، وذكر ثلاث آيات من القرآن يستدل بها على فناء هذه القبائل وانقطاع أخبارها، ونحن نوافق ابن سلام في هذا، فمن ذا الذي يثق اليوم أنَّ مهدًا الكاهنة هي القائلة يوم أنذرت قوم عاد بالهلاك:

إني أرى وسط السحاب نارًا
تنثر من ضرامها الشرارا
ونكاد نجزم أنَّ هذه الأبيات بلغة ما نطق بمثلها قوم عاد، وقد نبَّه عليها العلماء والنقاد في كتبهم والأساتذة في دروسهم قبل ابن سلام، كما نبهوا على بعض الشعر العربي المنسوب إلى قدماء الأعاجم، ثم إلى آدم أبي البشر، ثم إلى الملائكة وإبليس وأشباه هذا مما هو غير خليق بالذكر ولا يجدر بالكاتب أن يتكلف عناء الإشارة باطِّراحه، فإن جهابذة كُتَّاب العرب قد أنكروا على العامة القول بصحة إسناد هذه الروايات، ومن كلام ابن عباس: «من قال إنَّ آدم قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله.» ولا ريب في أنَّ الشعر العربي قد قيل قبل القرن الرابع للميلاد، ولكن هذا الشعر العربي القديم درس أثره وطمس خبره، ولعله يأتي زمن يتوصل فيه الباحثون في عاديات الأيام الخوالي إلى اكتشاف شيء مما قد يكون علق منه لغرض. أما عن تلك القبائل البائدة نفسها فمن الجهل أن يجزم كاتب أو مؤرخ بأنها لم ترد سجل التاريخ، أو أنَّ ذكرها من الأساطير، فإن الثموديين قد ورد ذكرهم في مؤلفات ديودور الصقلي وبطليموس، وذكر كلاهما أنَّ ثمود بقيت إلى القرن الخامس بعد المسيح، وأنَّ رهطًا من ثمود كان يعرف بفرقة فرسان ثمود Equites thamudeni ملحقًا بجيش الإمبراطرة البيزنطيين (ص٣ تاريخ الآداب لنيكلسون)، فلم يأتِ المؤلف بشيء غريب أو جديد إذ يشك في شعر عاد أو جديس، فقد سبقه الأئمة والجهابذة من مئات السنين، ولكن التحقيق والتمحيص ثم الحكم بوضع بعض الشعر الجاهلي ليس دليلًا على انتحال هذا الشعر كله، ولأن مهدًا كاهنة عاد ذات شخصية غامضة في التاريخ لا ينتج عنه أنَّ امرأ القيس والأعشى وزهيرًا وطرفة كلهم في حكم مهد كاهنة عاد!

أين الإدراك والموازنة وحسن التقدير والذوق؟

أخذ العرب في الجاهلية والإسلام نصيبهم من المؤلف، ثم عز عليه أن يفلت النصارى واليهود دون أن يتهمهم بالانتحال والتزوير، قال في ص٨٨: «فالأمر كذلك في اليهود والنصارى؛ تعصبوا لأسلافهم الجاهليين، وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد، كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضًا، فانتحلوا كما انتحل غيرهم، ونظموا شعرًا أضافوه إلى السموأل بن عادياء، وإلى عدي بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى.» ولسنا ندري إن كان مؤلف الشعر الجاهلي أراد أن يدفع عن نفسه تهمة التعصب ضد العرب والإسلام ورميهم بكل نقيصة فذكر اليهود والنصارى ليسوي بين الأديان الثلاثة في إعداد ذويها للغش والخداع والتلفيق والانتحال، أو أنه قال ما قاله مُنساقًا بدافع الفكرة المتسلطة على أعصابه idée fixe، التي تجعله يرى الانتحال في كل شيء، ولعله تنتهي به الحال فيرى الانتحال ضد نفسه في كتابه هذا، فيدعي في أحد الأسفار التي وعد بوضعها في المستقبل أنه لم يؤلفه، ولم يُملِه على أحد، وأنه حُمل عليه حملًا، وانتُحل انتحالًا لأسباب سياسية ودينية وقصصية واجتماعية ولغوية، وأنه يستطيع أن يكتب في كل باب من هذه الأبواب سفرًا ضخمًا أو كتابًا مستقلًا ليلهو به ويلهي القارئ بتاريخ انتحال كتاب «في الشعر الجاهلي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤