هل هي مغامرة؟

أخذ القطار يُهدِّئ من سرعته تدريجيًّا، ووقف الأصدقاء الخمسة في نوافذه يُلْقون نظرة على المدينة الصغيرة التي ينتهي عندها خط السكة الحديد.

قال «عاطف» مُحدِّثًا أخته «لوزة»: إنها ليست أكثر من قريةٍ كبيرة.

ردَّت لوزة: إننا لن نشتريها على كل حال … سواء أكانت قريةً كبيرة أم مدينةً صغيرة!

عاطف: أقصد أن ملامح القرية تغلب عليها … فالبيوت أكثرها من الطين!

ومَرَّ القطار في هذه اللحظة باللافتة الحجرية التي تُوجد في محطات السكك الحديدية، وأخذت «لوزة» تقرأ الاسم «أبو كِساه».

وسمع «عاطف» أخته فقال ضاحكًا: حتى اسمها صعب!

وأطلق القطار صَفَّارته الأخيرة، وصفَّرتِ العجلات على القضبان، واهتزَّت العربات ثم توقفَت، وأسرع الأصدقاء يجمَعون حاجياتهم وينزلون مع العدد القليل الذي كان يغادر القطار في ذلك اليوم الحار من أيام شهر يوليو.

قال «تختخ» وهو يلتفت حوله: من المفروض أن يكون صديقي «سليمان» في انتظارنا.

ولم يكَد «تختخ» ينتهي من جملته حتى ظهر صديقهم «سليمان» يشير لهم بيده وهو مقبل على الرصيف … وسرعان ما كانوا يُسلِّمون جميعًا عليه.

قال «سليمان»: مرحبًا بكم في الفيوم. لقد وصلتم في الموعد تمامًا، والعربية في الانتظار لتوصيلنا إلى العزبة.

وحمَل الأصدقاء حقائبهم ونزلوا سلالم المحطَّة الصغيرة، حيث كانت في انتظارهم سيارةٌ قديمة من طراز «كاديلاك»، وقدَّم لهم «سليمان» سائقها قائلًا: ميزار!

ثم قدَّم الأصدقاء إلى «ميزار» الذي حيَّاهم في احترام، ووضع حقائبهم في السيارة، ثم سأل «سليمان»: هل هناك شيءٌ سنأخذه من «أبو كِساه»؟

قال «سليمان»: نعم سنأخذ صندوقًا من «الكوكا كولا» فقط ثم ننطلق إلى العزبة. وكَركَر موتور السيارة العتيق، ثم مضت تشُقُّ الطرقات الضيقة المتربة، وقد ارتفع من داخلها حديث الأصدقاء وهم يسألون «سليمان» عشرات الأسئلة وهو يجيب عليها مرحًا ضاحكًا.

وبعد أن أخذوا صندوق «الكوكا كولا»، انطلقَت السيارة مُغادِرةً «أبو كِساه»، وأخذَت طريقها بين حدائق الفاكهة وحقول الذرة، وأخذ «سليمان» يُعلِّق على كل ما يمُرُّون به قائلًا: إن محافظة «الفيوم» تُشتهَر كما تعرفون بزراعة الفاكهة والعنب بالذات. والناس كلها تحب العنب الفيومي لشدة حلاوته … «وأبو كساه» هي إحدى مراكز المحافظة، وهي أقرب المراكز إلى بحيرة قارون …

قالت «نوسة» مُعلِّقة: لقد جئنا إلى بحيرة «قارون» قبل الآن … وكان لنا فيها مغامراتٌ ممتعة.

محب: المغامرة الأولى هي «المهرب الدولي»، والثانية هي «القبر الملكي»!

عاد «سليمان» يقول: والعزبة التي ستقضون فيها الإجازة يملكها جَدِّي، ويعيش فيها حتى الآن، والعزبة كلها مزروعة بأشجار الفاكهة.

تختخ: أظنه يعيش وحيدًا فيها!

سليمان: نعم … فقد ماتت جدتي، ولم ينجب جدي سوى والدتي، وهي بحكم عملها كطبيبة بعيدةٌ عنه، وتحضر لزيارته في الإجازات.

نوسة: وهل هي هنا الآن؟

سليمان: لا … لقد حضرتُ وحدي، وستحضُر أمي مع أبي في الشهر القادم؛ فقد سافَرتْ إلى الخارج في مهمةٍ دراسية!

وأخذَت السيارة ترتفع وتنخفض على الأرض غير المستوية، ومضى «سليمان» يُكمِل حديثه: لقد طعن جدي في السن، وتجاوز الثمانين، وللأسف لقد أُصيب بالشلل منذ فترة؛ فهو لا يغادر فراشه مطلقًا!

محب: ومن الذي يهتم بالعزبة؟

سليمان: هناك عم «فرحات» ناظر العزبة، وبعض الفلاحين. أما حديقة المنزل …

وقبل أن يُكمِل «سليمان» حديثه انحرفَت السيارة بسرعة لتتجاوز إحدى الحُفَر التي في الأرض، وتمايل الأصدقاء داخل السيارة، وكادوا يسقُطون داخلها، ولكنها عادت إلى سيرها المعتاد.

وانقطع حبل الحديث لحظات، ثم قال «سليمان»: لم يبقَ إلا بضعُ دقائق ونصل؛ فالمسافة بين «أبو كساه» والعزبة لا تتجاوز عشرين كيلومترًا.

ومروا في هذه اللحظة بقريةٍ صغيرة فقال «سليمان»: هذه هي «سنهور» البحرية، وبها نقطة الشرطة.

وهنا صاحت «لوزة»: شرطة … هل هنا ألغاز ومغامرات؟

ضحك «سليمان» قائلًا: ككل مكان في العالم لا بد أن تُوجد جرائم، ولكن طابع الجرائم في الريف يختلف عنه في المدينة طبعًا!

تختخ: أعتقد أن الجرائم هنا خاصة بالزراعة وتوزيع المياه، وسرقة الماشية.

سليمان: تمامًا … والثأر أيضًا ما زالت له بقايا هنا!

وصمت «سليمان» قليلًا، ثم قال: والخطف أيضًا من الجرائم المنتشرة في الريف … وانحرفَت السيارة عن الطريق العام إلى طريقٍ فرعي، وأشار «سليمان» بإصبعه إلى الأمام قائلًا: هذه هي عزبة «عفيفي»، وهو اسم جدِّي، وقد وَرِثها عن أبيه الذي كان قد وَرِثها عن أبيه، وهكذا … فهي عزبةٌ قديمة ذات ماضٍ.

نوسة: وهذا الماضي فيه بالطبع حكايات «وحواديت»؟

سليمان: فعلًا … بعضها يمكن تصديقه، وأغلبها لا يمكن تصديقه فهو أشبه بالأساطير!

نوسة: لعل جدَّك يعرف الكثير من هذه الحكايات!

سليمان: طبعًا، وقد سمِعتُ أكثرها منه، وبعضُها سمعتُه من الفلاحين كبار السن بها!

لوزة: وما هي أغرب حكايةٍ سمعتها؟

سليمان: لا أذكر بالضبط، ولكن هناك حكاية الثعبان الأعمى!

والتفت الأصدقاء إلى «سليمان»، الذي ابتسم عندما رأى الدهشة التي علت وجوههم وقال: تعبير عجيب … أليس كذلك؟

كانت «لوزة» كالمعتاد أكثرهم حماسًا فقالت: طبعًا … ما هي حكاية «الثعبان الأعمى» هذه؟

وقبل أن يُجيب «سليمان» … توقفَت السيارة أمام باب العزبة الخارجي، وقال «سليمان»: يمكن أن ننزل هنا، وسيدخل «ميزار» بالعربة إلى القصر ويحمل حقائبكم.

وأسرع الأصدقاء بالنزول، ووقف «تختخ» يتأمل العزبة الضخمة … كانت مزروعة كلها بأشجار الجوافة والبرتقال واليوسفي، وقُرب السور الكبير الواسع كانت كروم العنب الضخمة تمتد إلى مسافاتٍ شاسعة، وبعد السور كانت زراعات الذرة تمتد إلى ما لا نهاية … كان كل شيء أخضَر شديد الخُضْرة، كثيفًا ومتقاربًا حتى ليشعر الإنسان بالرهبة وبالغموض.

وبدأ «سليمان» يقودهم لمشاهدة معالم العزبة … هذه حظائر الخيول، وهذه حظائر الماشية … وأبراج الحمام … وخلايا النحل. وبالقرب من القصر كان هناك كوخٌ خشبي قديم يغوص في الأرض وكأنه عجوز لا يستطيع النهوض … ووقف «سليمان» أمام الكوخ لحظاتٍ مترددًا ثم قال: هذا هو كوخ عم «عبود» الجنايني المسئول عن الحديقة، وهو أقدمُ مَن عَمِل هنا مع جدي، وتربطهما صداقةٌ عميقة، وعم «عبود» رجلٌ غريب الأطوار … أو أصبح غريب الأطوار منذ بضعة شهور؛ فهو يظهر ويختفي بدون أن يعرف أحد … ولا أحد يستطيع مناقشته فيما يفعل، فهو يتصرف كأنه يملك العزبة، ومعه حق، فقد عمل هنا منذ أكثر من سبعين عامًا … منذ كان طفلًا صغيرًا … وجدي يستأمنه تمامًا … ويسمح له بأن يفعل ما يشاء!

محب: لعله يستطيع أن يروي لنا بعض الحكايات المثيرة عن العزبة والقصر!

سليمان: للأسف … إنه لم يعُد يستطيع أن يَرْوي ذكرياته؛ فقد أصبع مخرفًا، كما أنه في الفترة الأخيرة أصبح يعتزل الناس، والسائق «ميزار» هو وحده الذي يدخل الكوخ ويحمل له الطعام؛ فهو قريبه، وعم «عبود» هو الذي رشَّح «ميزار» للعمل عندنا كسائق، بعد أن مات السائق العجوز الذي كان يقود العربة قبله.

وعاوَدوا السير بين الأشجار الكثيفة، ومدَّت «نوسة» يدها وقطفَت عنقود عنبٍ ضخمًا … كان متدليًا، وقال «سليمان» ضاحكًا: هيا خذوا ما تشاءون من العنب وما تشتهون من ثمار … إن عزبة جدي تُشتهَر بإنتاجها من الفاكهة الشهية الحلوة.

وسرعان ما كان الأصدقاء يَجْرون هنا وهناك، يقطفون ما شاءوا من ثمارٍ ناضجة، ويلتهمونها في شهيةٍ مفتوحة.

وبعد أن طافوا بأهم معالم العزبة، اتجهوا إلى القصر … ومرُّوا بالكوخ القديم حيث يقيم عم «عبود» العجوز … وقال «تختخ»: إنني مهتم جدًّا بمقابلة عم «عبود»؛ فإن الحكايات والحواديت تستهويني!

وقال «سليمان» معلقًا: سيكون من الممتع حقًّا أن يروي لك قصة الثعبان الأعمى … إنها قصةٌ مثيرة، سوف تستهويكم جميعًا لما فيها من مواقفَ مدهشة، وأحداثٍ غامضة. وبدا الاهتمام على وجوه الأصدقاء الخمسة، وقال «عاطف»: ولكن ما هو الثعبان الأعمى؟ بدا على «سليمان» نوعٌ من الاضطراب الخفيف، وقال: يقولون إنه ثعبانٌ ضخم طوله نحو ثلاثة أمتار، أعمى، ولكنه يرى في حالةٍ واحدة.

نوسة: ما هي؟

سليمان: إذا وجد الجوهرة المفقودة التي كان يحرسُها، ويقولون إن هذه الجوهرة موجودة في القصر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤