أشباح وثعابين

في صباح اليوم التالي عقَد الأصدقاء أول اجتماعٍ لهم منذ حضورهم إلى عزبة «عفيفي»، كان عندهم ما يتحدثون عنه … حكاية «لوزة» مع الثعبان الأعمى … وحكاية «تختخ» والمطاردة الليلية التي انتهت أمام الكوخ، وتحذير «عبود» له بالابتعاد عن الكوخ والثعبان.

كان رأس «تختخ» ما زال يؤلمه، ولكن لم يكن هذا الألم يشغل باله بقَدْر ما شغل باله تأكيدُ «لوزة» بأنها رأت الثعبان … فهل الثعبان الأعمى حقيقة وليس مجرد أسطورة من أساطير الفلاحين الكثيرة عن العفاريت والجان وغيرها؟

وكانت «لوزة» تحكي قصتها العجيبة ﻟ «عاطف» و«محب» اللذَين لم يستيقظا ليلًا، ثم جاء الدور على «تختخ» فروى حكايته مع المجهول في الحديقة، وكيف عاد إلى القصر واطمأنَّ على «لوزة» ثم نام.

قال «عاطف» معلقًا: هذه أول مغامرة لنا مع الثعابين والأشباح … وأظن أنها محتاجة لأكثر من مجرد الاستنتاجات!

محب: ماذا تقصد؟

رد «عاطف» مبتسمًا: أقصد أننا محتاجون إلى كمية من البخور، والرُّقَى، والتعاويذ حتى نستطيع التعامُل مع هذه المجهولات.

لم يكن عند «لوزة» استعدادٌ للردِّ على أخيها كالمعتاد …

ولكن «محب» قال: بل إنني أجد الاستنتاجاتِ ضروريةً جدًّا؛ فمثلًا هناك سؤالٌ هام … هل عم «عبود» العجوز هو الشبح الذي طارَده «تختخ» في الظلام؟

نوسة: لا شك أنه هو؛ فقد كان يحمل عصًا في يده، وربما هي الأداة التي ضرب بها «تختخ»، وقد حذَّرنا من الثعبان الأعمى … فلا شك أن له علاقة بالثعبان الذي رأَته «لوزة».

تختخ: هل تتصوَّرون رجلًا عجوزًا مثل «عبود» يستطيع أن يجري في الظلام بسرعة؟ وهل تتصوَّرون أنه من الممكن أن يصعد فوق شجرة … ثم يضربني ويقفز جاريًا؟

محب: إننا لم نَرَه حتى الآن … سمعنا عنه فقط من «سليمان» ومن السائق «ميزار»، ولكنك رأيتَه ويمكنك أن تُجيب على السؤالَين!

تختخ: الحقيقة أنني لم أَرَه جيدًا … فقد كان الظلام كثيفًا، والرجل يقف في ظل الأشجار، فلم أَرَ سوى لحيته البيضاء، والعمامة التي يربط بها رأسه … وأجزاء من ملابسه الممزَّقة!

قالت «نوسة»: وهناك سؤالٌ آخر هام … هل الشبَح الذي رأَته «لوزة» داخل القصر يتجسَّس على الغرفة هو نفس الشبح الذي طارَدَه «تختخ» في الظلام؟

لوزة: أظن أنه ليس هو … فقد كان أخف حركة …

وهنا قفز سؤالٌ ثالث قاله «تختخ»: أي غرفة من الغرف كان يتجسَّس على من فيها؟

لوزة: إنني أعرف مكان الغرفة، ولكني لا أعرف مَن فيها.

كان الاجتماع بينهم قد تم في غرفة «لوزة» و«نوسة»، فقال «عاطف»: تعالَوا إلى قرب الغرفة التي كان يتجسَّس عليها.

تختخ: وأُفضِّل ألا يعرف أحد أننا نبحث عن شيء … وسنمشي جميعًا في الدهليز، وعندما نصل إلى باب الغرفة المقصودة، فعلى «لوزة» أن تنحني وكأنها تربط حذاءها، وسنعرف أنها الغرفة المقصودة.

عاطف: ولماذا كل هذه الحركات؟

تختخ: لأننا لا نعرف حتى الآن أصدقاءنا من أعدائنا … ويجب أن نكون على حذَر، فالمسألة تبدو لي خطيرة.

وهكذا خرج الأصدقاء يمشُون في الدهليز العلوي، حتى وصلوا أمام إحدى الغرف الكثيرة، فانحنت «لوزة» وتظاهرت أنها تربط حذاءها، فعرف الأصدقاء الغرفة المقصودة ومضَوا إلى الحديقة، وكان «سليمان» في انتظارهم ومعه عددٌ من الفلاحين يمسكون بأزمَّة عددٍ من الحمير أحضروها ليقوم الأصدقاء بنزهة إلى شاطئ بحيرة قارون على ظهورها.

كان الجو لطيفًا برغم أنهم كانوا في شهر يوليو الحار … وتسابَقَ الأصدقاء على ظهور الحمير للوصول إلى شاطئ البحيرة سريعًا، وهناك نزلوا في معسكر الشباب المقام على ربوةٍ عالية، فشَربوا المثلجات وقضَوا وقتًا ممتعًا نسُوا فيه كل شيء عن الثعبان الأعمى. وعندما عادوا صَعِد معهم «سليمان» إلى فوق، وانتهز «تختخ» الفرصة وسأل «سليمان» عن الحجرة التي توقَّفتْ أمامها «لوزة».

فقال «سليمان»: إنها غرفة جدي الأستاذ «عفيفي»، ألم أقل لكم هذا من قبلُ؟

تختخ: لا! وبالمناسبة ألن تدعونا إلى زيارته؟ … إننا نريد أن نقابله ونسلم عليه!

سليمان: سيسعد بهذا كثيرًا؛ فإنه لم يعُد يقابل أحدًا إلا نادرًا، وسوف أستأذنه أن يلقاكم هذا المساء.

بعد الغداء اجتمع الأصدقاء مرةً أخرى وأخبرهم «تختخ» بأنهم قد يقابلون الأستاذ «عفيفي» في المساء، وأنه سيُوجِّه الحديث بحيث يحاول معرفة مزيد من المعلومات عن الثعبان الأعمى.

وجاء «سليمان» في الخامسة والنصف ليُخبِرهم أن جدَّه سيراهم في السادسة، واستعد الأصدقاء للقائه.

في السادسة تمامًا، فتحَت الخادمة العجوز والتي تقوم بتمريض «عفيفي» لهم الباب ليدخلوا غرفة الرجل، ولاحظ «تختخ» أنها لم تكن سعيدةً بهذه الزيارة؛ فقد رمقَتهم بنظرةٍ حادة وهم يجتازون الباب.

شمل «تختخ» الغرفة بنظرةٍ سريعة … كانت غرفةً واسعة للغاية يغطِّي حوائطها ورقٌ جميل وإن كان قديمًا، وقد حفلَتْ باللوحات والتماثيل، وعلى فراشٍ كبير كان يرقد الأستاذ «عفيفي» وعلى جسده أغطيةٌ خفيفة … وقد سكن كل شيءٍ فيه عدا عينَيه اللتَين تألقَت فيهما نظرةُ ترحيب بالأصدقاء.

وتقدَّم الأصدقاء واحدًا بعد واحد، و«سليمان» يقدِّمهم لجده، وهو يغلق عينَيه علامة ترحيب، ويحاول أن يتحدَّث … ولكنَّ شفتَيه كانتا تتحركان بدون أن يصدُر منهما صوتٌ واضح، وأَحَس «تختخ» أنه لن يحصل على المعلومات التي كان يتمناها … وأشار إليهم «عفيفي» بالجلوس، فأحاطوا به، وقال «تختخ»: لقد جئنا نشكرك على استضافتنا في هذا القصر الجميل … ونتمنى لك الصحة والعافية.

حرَّك الرجل الراقد رأسه إلى الأمام محاولًا أن يرد بالشكر، وفي الوقت نفسه صدَرتْ من شفتَيه المضمومتَين كلمة: شكرًا! …

وعاد «تختخ» ليقول: لقد كنا نتمنى أن نسمع بعض ذكرياتك؛ فإننا نسعد كثيرًا عندما نستمع إلى حكمة الكبار، ونستفيد من تجاربهم!

وأشار الرجل إلى «تختخ» بإصبعه ليقترب منه، وتقدَّم «تختخ» بحيث استطاع الرجل أن يرفع يده غير المشلولة ثم يضعها على رأسه ويعبث بشعره في حنان، ثم قال في كلماتٍ خرجت متعثرة من فمه: إنكم أولادٌ ظرفاء وأذكياء.

ووجد «تختخ» الفرصة مناسبة فأشار إلى «لوزة» أن تقترب من الرجل العجوز الذي اغتصب ابتسامةً من شفتَيه المرتعشتَين، وأشار «تختخ» إلى «لوزة» وقال: هذه صديقتنا «لوزة»، وهي فتاةٌ ذكية … ولكنها أمسِ تعرَّضَت لحادثٍ غريب!

وبدا الاهتمام في عينَي العجوز، وهَزَّ رأسه وكأنه يقول احكِ لي ما حدث.

فقال «تختخ»: لقد شاهدَت أمسِ شبَح رجلٍ يتجول في القصر ليلًا … ثم توقَّف أمام غرفتك!

وأغمض الرجل عينَيه لحظات، وعندما فتحَهما بدت فيهما نظرةٌ تدل على الفهم، وقال بصعوبة: إني لا أنام أكثر الوقت … وقد سمعتُ صوت الخطواتِ أمس … وسمعتُ صرخة! وقد حاولتُ أن أضرب الجرس ولكنني وجدتُه معطلًا … وجدتُه لا يدق، وقد طلبتُ من «ميزار» أن يصلحه.

ومضى «تختخ» يقول: وعندما تَبعَت «لوزة» الشبح إلى باب القصر شاهدَت ثعبانًا أمام الباب!

عندما سمع العجوز كلمة «الثعبان» لمعَت في عينَيه المتعبتَين نظرةٌ خاطفة، ثم أغمضهما، وبدت على وجهه المرهق علامات الألم، ولاحظ «تختخ» أن النظرة كانت موجَّهة إلى مكان في الغرفة خلف ظهره، ولم يستطع معرفته!

ساد الغرفة صمتٌ ثقيل … وتركَّزتْ نظرات الأصدقاء الخمسة و«سليمان» على وجه «عفيفي» … ولكنه ظل صامتًا لا يَرُد … ومضت فترةٌ ثم أشار بيده ﻟ «سليمان»، وفهم «سليمان» إشارته، وكانت تعني أن المقابلة قد انتهت.

هَزَّ «عفيفي» رأسه للأصدقاء بما يعني الشكر لهم على الزيارة، وتمتم ببضع كلماتٍ أدرك الأصدقاء أنه يشكرهم بها، فغادروا الغرفة الصامتة الواسعة بعد أن كرَّروا شكرهم للعجوز المشلول.

عندما أصبح الأصدقاء في الحديقة ظلوا فترةً صامتين حتى حضر «سليمان»، الذي وجَّه حديثه إلى «تختخ» في عتابٍ قائلًا: لماذا لم تروِ لي ما حدث ليلة أمسِ؟

ردَّ «تختخ» وهو يشعر ببعض الحرج: آسف جدًّا يا «سليمان»، الحقيقة أنني كنتُ أريد التحري عن الموضوع وحدي، ولم أكُن أريد إزعاجك؛ فقد تُحس بالحرج لأنك دعوتَنا في هذا الجو العجيب!

سليمان: كيف تقول هذا الكلام؟ إننا أصدقاء وأنا أثق بكم جدًّا. ولكن الحقيقة … وسكت «سليمان»، فقال «تختخ»: الحقيقة ماذا؟

زمَّ «سليمان» شفتَيه وكأنه يحاول أن يمنع نفسه عن الكلام ثم قال: الحقيقة أني دعوتكم … وعندي أسباب، منها أن تستمتعوا بإجازة هنا … إذا لم يتحرك الثعبان الأعمى ويضايقكم … ومنها أنه إذا تحرَّك الثعبان فإنكم ستحمونني منه!

كانت الجملة مفاجئة، حتى قفزَت «نوسة» من مكانها، وقالت: نحميك منه! إنني لا أفهم، ماذا تقصد؟!

مد «سليمان» يده في جيبه وأخرج ورقةً صغيرة ثم فتحها ومدَّ يده بها إلى «تختخ» وأمسك «تختخ» بالورقة وقرأ ما فيها:

«غادر القصر فورًا … إذا كنت حريصًا على حياتك.»

أعطى «تختخ» الورقة «لمحب» الذي قرأها ثم أعطاها «لعاطف». وبينما الأصدقاء يقرءون كان «تختخ» قد اقترب من «سليمان»، وقال له: متى تسلَّمتَ هذه الورقة؟

سليمان: بعد حضوري بثلاثة أيام.

تختخ: لماذا لم تقل لنا من البداية؟

سليمان: كما أخفيتُم عني لخوفكم من إزعاجي … خِفتُ أن أقول لكم … كنتُ في انتظار تحرُّك الثعبان الأعمى لأقول لكم؛ فأنتم وحدكم الذين تستطيعون حل لغزه.

تختخ: إنني أريد أن أسمع منك القصة كاملة!

سليمان: إنها قصةٌ قديمة ممتدة من أجدادي حتى الآن، كانت تختفي وتظهر في ظروف عجيبة … وبعد أن ظلَّت فترةً طويلة لا يسمع بها أحد، بدأت تعود منذ حضَرتْ هنا في إجازة نصف السنة … فقد ظهر الثعبان في تلك الفترة … حتى إن أغلب الفلاحين الذين كانوا يعملون في القصر غادروه خوفًا منه بعد أن تعرَّضتْ حياة بعضهم للخطر الشديد …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤