قصة الجوهرة

كان الأصدقاء يستمعون في انبهارٍ شديد لحديث «سليمان»، وقال «تختخ»: أظن أننا متفقون جميعًا على خرافة وجود ثعبانٍ أعمى يبحث عن جوهرته المفقودة ليستعيد بصره.

ردَّ «محب»: طبعًا، هذا كلامٌ غير معقول!

عاطف: إنه مجرد نكتة، ولكنها لا تُضحك.

لوزة: لكنني رأيتُه بنفسي!

تختخ: لقد رأيتِ ثعبانًا … ولكن هل هو أعمى؟ وهل يبحث عن جوهرةٍ مفقودة منه؟

نوسة: من المؤكد أن هناك شخصًا له مصلحة في ترويج هذه الأسطورة!

تختخ: تمامًا … هذا هو الكلام المهم … من هو صاحب المصلحة في ترويج هذه الأسطورة؟ الشخص الذي يُحاول إبعاد كل من يعمل في القصر ليخلو له الجو!

محب: ربما من الأفضل أن نقول أولًا: ما هو هدفه من ترويج الأسطورة، وإبعاد الناس عن القصر؟

تختخ: هذا معقول جدًّا … والسؤال موجه إلى «سليمان».

سليمان: الحقيقة أنني لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال … فأنا لا أعرف هدفًا لهذه الأسطورة!

نوسة: أظن أنني أستطيع الإجابة على السؤال.

التفت الأصدقاء إلى «نوسة» في دهشةٍ فقالت: إن أسطورة الثعبان الأعمى مكونة من شيئَين … الثعبان والجوهرة التي يبحث عنها، وما دام الثعبان قد ظَهر ورأته «لوزة»، فإن ما ينقص الأسطورة هو الجوهرة، فلا بد أن الهدف من ترويج الأسطورة هو العثور على الجوهرة … وقد سمعنا من «سليمان» أن الفلاحين يعتقدون أن الجوهرة موجودة في القصر … إذن فالشخص أو الأشخاص الذين يروِّجون للأسطورة، ويعملون على إبعاد الناس عن القصر، يعتقدون حقًّا أن الجوهرة في القصر، وبإبعاد الناس عنه يخلو لهم الجو للحصول على الجوهرة.

كان كلام «نوسة» منطقيًّا جدًّا ومعقولًا، حتى لقد خبط «سليمان» جبهته بيده وقال: كيف غاب عني هذا؟ إن القصة أصبحَت واضحةً الآن في ذهني.

تختخ: في هذه الحالة، أرجو أن تحكي لنا الحكاية من أولها!

استجمع «سليمان» تفكيره لحظاتٍ ثم قال: بدأَت حكاية الثعبان الأعمى منذ فترةٍ طويلة لا أستطيع تحديدها، ولكن كما سمعتُ من جدي ومن والدتي، أن أحد أجدادي كان يهوى اقتناء الجواهر النادرة، وأنه اشترى ذات مرة جوهرةً ضخمة شديدة البريق، حتى قيل إن الأعمى يستطيع رؤية بريقها … وانتشَرتْ بين الفلاحين أسطورةٌ تقول إن هذه الجوهرة كان يملكها ثعبانٌ أعمى يرى بها الطريق، فيقذفها ثم يسير على بريقها.

وابتسم «عاطف»، فقطع «سليمان» حديثه ونظر إليه ثم استأنف: وتعرَّض القصر لأكثر من محاولة لسرقة الجواهر، وبخاصة هذه الجوهرة النادرة، ومات والد جدي تاركًا خلفه ثروةً من الجواهر، ولكن أبناءه اقتسموها وباعوها، ولكن يقُال إن جوهرة الثعبان بقِيَت في القصر … وبين فترةٍ وأخرى كانت تتردَّد أسطورة الثعبان، وأنه يظهر أحيانًا ويحوم حول القصر محاولًا استعادة جوهرته المفقودة.

سكَت «سليمان» وأخذ ينظر إلى الأصدقاء لحظاتٍ ثم مضى يقول: وفي إجازة نصف السنة؛ أي في شهر فبراير الماضي، حضَرتُ لزيارة جدي، فكما تعرفون أن والدتي سافَرتْ مع أبي إلى الخارج لأنها تدرُس للدكتوراه، وعندما جئتُ إلى القصر سمعت من عم «عبود» أن الثعبان بدأ يظهر مرةً أخرى في الحديقة … وانتشَرتِ الإشاعات، وبخاصة بعد أن ظهر الثعبان فعلًا أمام بعض الفلاحين ليلًا، وبرغم شجاعة الفلاحين، فكثيرٌ منهم قتلوا ثعابينَ مماثلة … إلا أنهم أجمعوا على أنه ثعبانٌ ضخم لا يمكن لأحد قتلُه … وهكذا كان الفلاحون يرفضون دخول القصر ليلًا، ولم يبقَ عندنا سوى الخادمة العجوز «فرحانة» و«ميزار» السائق وعم «عبود» الجنايني وناظر العزبة …

وتوقَّف «سليمان» يسترد أنفاسه، فقال «تختخ»: إن القصة واضحة، ومن الممكن استنتاج أشياءَ كثيرة من هذه الوقائع، ولكن الشيء العجيب هو ظهور الثعبان فعلًا … ليلًا … كيف؟!

قال عاطف مبتسمًا: لعله عضو في العصابة!

وعاد «سليمان» إلى الحديث قائلًا: والآن ما رأيكم؟

قال «محب»: رأيي أن هناك من يحاول الحصول على جوهرة الثعبان كما تُسمُّونها، وأن الأسطورة ليست إلا محاولة لإبعاد الناس حتى يخلو له الجو!

نوسة: وعندما ظهرنا نحن حاول إبعادنا أيضًا، بتخويف «لوزة» وضرب «تختخ» … ولا ندري ماذا سيحدُث بعد ذلك!

لوزة: ولكن الثعبان … كيف يظهر ويختفي في الوقت المناسب؟

تختخ: ذلك شيء سنعرفه فيما بعدُ … ولكنْ هناك سؤالٌ هام أَودُّ أن أحصل على إجابة عليه … هل الجوهرة موجودة فعلًا؟

سليمان: حسب معلوماتي هي موجودة!

تختخ: أين؟

سليمان: هذا ما لا أستطيع معرفته مطلقًا … ربما تعرف والدتي!

عاطف: ولكن جدَّك يعرف بالطبع!

سليمان: لا شك في هذا!

عاطف: ولماذا لا تسأله؟

سليمان: لا أظن أنه سيقول لي.

وهنا وقف «تختخ» وقد برقَت عيناه وقال: أظن أنني أعرف أين تُوجد الجوهرة!

والتفت إليه الأصدقاء في اهتمامٍ وقد بدت على وجوههم علامات اللهفة، ولكن «تختخ» قال: لا تحاولوا أن تعرفوا مني مكانها … لأني لستُ متأكدًا فهو مجرَّد استنتاج … ولكني سأحاول التأكُّد في أقرب فرصةٍ ممكنة.

وساد الصمت الاجتماع فترةً من الوقت ثم قطعَت «لوزة» الصمت قائلة: المهم ما هي خطتنا القادمة؟ كيف نتصرف؟ من غير المعقول أن نبقى ساكتين وهناك عدوٌّ خفي يسعى لإيذائنا!

قال «تختخ» في هدوء: الزموا غرفكم الليلة جميعًا، ولا تغادروها لأي سبب، وفي الصباح سوف يكون بيننا حديثٌ آخر … والآن هيا نلعب ونستمتع بهذا الجو الجميل؛ فنحن قد جئنا أولًا لقضاء إجازةٍ طيبة.

وانقضى المساء في سَمرٍ لطيف، ثم صَعِد الأصدقاء إلى غرفهم … وعندما انفرد «تختخ» بنفسه في غرفته أخرج دفتر مذكراته الصغير الذي لا يفارقه، وأخذ يُدوِّن فيه المعلومات الهامة في القصة، وكان هناك عددٌ كبير من علامات الاستفهام بعد كل اسم، ثم أطفأ النور وفتح النافذة.

وقضى «تختخ» وقتًا طويلًا مستلقيًا على فراشه، وهو يحدِّق في الظلام وذهنه يعمل في سرعةٍ هائلة، كان يعرف أنه يجب عليهم أن يتحرَّكوا قبل أن يتحرَّك العدو الخفي … فقد يُوقِع ضررًا بهم لا يمكن إصلاحه … ووضع يده على رأسه مكان الخبطة التي نالته ليلًا. وكان يتابع دقات الساعة الكبيرة في الدور الأول من القصر.

وعندما دقت الساعة ١٢ دقةً معلنةً انتصاف الليل، تسلَّل بهدوء ونظَر من النافذة إلى الحديقة الكبيرة الغارقة في الظلام، ثم تسلَّل بهدوء وعَبَر النافذة إلى غصن الشجرة الكبيرة التي تصل إلى حافة النافذة، وهبط بهدوء إلى الأرض. توقَّف قليلًا مكانه وأصاخ السمع … لم يكن هناك سوى صوت بعض الطيور الليلية، وحركات بعض فئران الحقل … ولا شيء آخر. وهكذا بدأ يشق طريقه بين الأشجار الكثيفة متجهًا إلى كوخ عم «عبود»، كان في نفسه شيءٌ مبهم يؤكِّد له أن الكوخ فيه من الأسرار أكثر مما يوحي مظهره البسيط، وأن عم «عبود» هو الرجل الذي يمكن أن يوضِّح الألغاز التي تُحيط بالعدو الخفي.

كان قد حدَّد خط سيره منذ الصباح حتى لا يتوه في الظلام، وهكذا وضع القصر خلفه واتجه إلى الشرق … وكان يتوقف بين فترة وأخرى يتنصَّت … وخُيِّل إليه في إحدى المرات أنه سمع صوت أقدامٍ خلفه، ولكنه استبعد أن يكون هناك من يتبعه …

بعد فترة وجد نفسه قريبًا من الكوخ … فوقف يستجمع أنفاسه، ومرةً أخرى خُيِّل إليه أنه يسمع صوت أقدامٍ خلفه توقفَت بمجرد أن توقف … وفكر لحظاتٍ ثم اقترب من الكوخ … في هدوءٍ محاولًا عدم إحداث أي صوت … كان الكوخ مغلق النوافذ بإحكامٍ هذه المرة … ولكنْ ثَمَّةَ نورٌ كان يتسلَّل من خلالها، فأدرك أن ثَمَّةَ شخصًا أو أشخاصًا في الداخل، وزاد اقترابه، وألصق أُذنه بفتحة الباب … كان يرجو أن يسمع حوارًا أو أي شيء يهديه إلى معرفة ما يدور داخل هذا الكوخ، ولكنه لم يسمع أي صوت … ومضت لحظات، وخُيل إليه أن ثَمَّةَ صوتَ أقدامٍ تتحرك في الداخل متجهة إلى الباب، فأسرع يبتعد عنه … وربَض في الظلام يرقب ما يحدُث … انطفأ النور في الكوخ … ثم فُتح الباب … وظهر رجل كالشبح في الظلام. وبدا ﻟ «تختخ» أنه يحمل شيئًا مثل الكيس على ظهره، وخطا الرجل خارجًا ثم أغلَق الباب خلفه … وسار الرجل … وكانت مفاجأةً رهيبة أن رأى «تختخ» الرجل مقبلًا نحوه تمامًا … في المكان نفسه الذي يقف فيه … ولم يكن بينهما أكثر من مترَين، فعندما ابتعد «تختخ» عن الباب لم يكن قد ابتعَد كثيرًا …

كان يعرف أنه إذا تحرك فسوف يُحس الرجل بحركته، وإذا بقي في مكانه فسوف يصطدم به … وكان عليه أن يختار في لحظةٍ واحدة … ولكنه تردَّد … وفجأةً حدث ما لم يكن في الحسبان … فقد سمع الاثنان؛ «تختخ» والرجل، صوتَ أقدامٍ تتحرك قريبًا منهما معًا … وأسرع الرجل عائدًا إلى الكوخ وفتح الباب ثم أغلقه خلفه … وتنفَّس «تختخ» الصُّعَداء … فقد أنقذَته الأقدام المجهولة من مصيرٍ مجهول … وإن كانت في الوقت نفسه قد ضيعَت عليه فرصة معرفة الرجل … ولكنه أفاق فجأةً على صوت الأقدام تقترب منه، وأسرع يختفي خلف شجرة متحفِّزًا … وفي سكون الليل سمع صوت بومة قريبًا، وعرف صاحب الأقدام على الفور … إنه أحد الأصدقاء … فهذه هي العلامة المتفق عليها بينهم … ولم تخب ظنونه … فقد ظهر بجواره «محب».

همس «تختخ» في الظلام: ما الذي أتى بك؟

ردَّ «محب»: لقد عرفتُ من حديثك لنا أنك ستخرج الليلة، فراقبتُ نافذة غرفتك، فقد لفت نظري الشجرة العالية التي تصل إليها، وأدركتُ أنك ستنزل عن طريقها … وعندما بدأتَ تتسلق الشجرة، أسرعتُ أنا بالخروج من الباب ولحقتُ بك … واستطعتُ أن أسمع صوت أقدامك …

تختخ: لقد سمعتُ صوت أقدامك أنا أيضًا!

محب: وماذا اكتشفتَ؟

تختخ: هل رأيتَ الرجل؟

محب: نعم، ولكن على بُعدٍ فلم أعرفه.

تختخ: وأنا أيضًا لم أعرفه … فالظلام كثيف والأشجار متقاربة ومن الصعب تبيُّن شيء!

محب: وماذا ستفعل الآن؟

تختخ: ما رأيك؟ … هل نعود؟

محب: أعتقد أنها فرصة أن نعرف من هو الرجل، فدعنا ننتظر بعض الوقت.

وقبَع الصديقان في الظلام … وكلهما آذانٌ مرهفة، وعيونٌ محملقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤