سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

وبعدُ فقد باعدت الأسفار بيني وبين خزانة كتبي والخزائن التي كنت أستعين بها على التأليف في القاهرة، فلم يتيسرِ التأليف والنشر اللذان تعودتهما؛ فرأيت أن أُثبت ما يخطر من خاطرات، وما يسنح من سانحات، وأن أُسجل سلائل الفكر والوجدان، وأجمع حصائد العلم والتجارب، أصيد منها الشوارد، وأقيد الأوابد. وقلت: رُبَّ خطرة فتحت أبوابًا، ورُبَّ فكرة سيَّرت الأقلام أحقابًا.

وهذه الخطرات والفكر خلاصة أحداث الزمان، وتجارب الإنسان.

واقترحت على نفسي أن أقيد كلَّ يوم فكرة عابرة، أو خطرة طائرة، وأن أمضي على هذا النحو حولًا كاملًا.

شرعت يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين خلت من جمادى الآخرة سنة ١٣٦٩ من الهجرة/الحادي عشر من نيسان ١٩٥٠م في مدينة جدة من الحجاز. ودمت على هذا في تنقلي إلى مكة المشرفة والمدينة المنورة، وبلدان أخرى في الحجاز ونجد ثم في مصر والباكستان حتى انتهى العام الشمسي.

فالسانحات من أول يوم إلى يوم الأحد ٢٢ شوال/٦ آب كتبت في الجزيرة العربية، ومن اليوم التالي — يوم سفري إلى مصر — إلى أن ركبت الباخرة إلى الإسكندرية قاصدًا باكستان يوم الجمعة ١٥ المحرم سنة ١٣٧٠ كتبت في مصر.

ومخرت الباخرة عشرة أيام كتبت فيها سانحاتها بين البحر الأبيض وقناة السويس والبحر الأحمر وبحر العرب.

وبلغت كراچي يوم الإثنين ٢٥ المحرم/٦ تشرين الثاني، فما كتبت من هذا اليوم إلى العاشر من نيسان آخر العام فهو من خاطرات كراچي.

وقدَّرت لكل خاطرة صفحة من دفتر اتخذته، ولكن اختلفت السطور طولًا وعددًا باختلاف الخطرات فلم تتساوَ الصفحات.

وكتبت كل يوم صفحة، إلا أيامًا صُرفت فيها عن الكتابة فقيَّدت الفكرة في رأس الصفحة حتى يتيسر بيانها.

وأيامًا قليلة فاتتني كتابة الصفحة وتسجيل الفكرة فتداركت ما فات بعد قليل.

•••

اجتمع لي عدد أيام السنة الشمسية خاطرات سميتها «الشوارد» وحرصت على المسارعة إلى نشرها، ولكن عدا الزمان، وكرت الأيام، فإذا عام يمضي قبل الطبع، ولو قيَّدت سانحاته لائتلف كتابٌ آخر.

فأخذت للنشر أُهبته وسارعت إلى طبع الشوارد في مطبعة العرب من مدينة كراچي تعجيلًا لإخراج الكتاب وإيثارًا لإشرافي على طبعه تحرُّزًا مما يلحق بالكتب حين تُطبع في غيبة أصحابها.

وها أنذا أزفُّ إلى قراء العربية بنات الأفكار، وربائب الليل والنهار، أجلو هذه السانحات، وأعرض هذه الخاطرات؛ آملًا أن تجد من العناية كفاء الصدق الذي أملاها والإخلاص الذي ألحمها وأسداها.

وحسبي الله وكفى.

عبد الوهاب عزام
كراچي رابع رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة
٢٩ أيار ١٩٥٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤