الفصل الخامس

التعلُّم أو تأثير التجربة على الحيوان

عندما يقع منبِّهٌ ما على حيوان ما، فإنه يستجيب له ويتفاعل معه على حسب نوع هذا المنبِّه، وقد يقع عليه المنبه مرة ثانية وثالثة وعاشرة، وما من شك في أنه يستفيد من تجربته في هذا المنبه، فيتفاعل معه بالطريقة التي فيها خير نفسه، وهذا ما نسميه بالتعلُّم وفائدة التجربة، وقد يسهل شرح هذا إذا ما فرضنا أننا عرضنا حيوانَيْنِ من نوع واحد لمنبِّه معين تحت ظروف واحدة، وكان أحدهما قد عرض لهذا المنبه من قبل تحت ظروف مماثلة، فما من شك في أن هذا الحيوان سوف يتفاعل أو يستجيب بطريقة تختلف عن تفاعل أو استجابة الحيوان الآخر الذي لم يقع تحت تأثير المنبِّه من قبل؛ ذلك لأن الأول قد تأثر بتفاعله أو استجابته (أي بسابق تجربته) بما حدث له من قبل.

fig2
شكل ٥-١: يبين الحيوان الأولي البراميسيوم وهو يتقدم إلى الأمام فيصطدم بعائق، فيرتد إلى الخلف ثم إلى اليسار فيصطدم بالعائق مرة أخرى. (٤) ثم يرتد إلى الخلف بعيدًا عنه. (٥) ويحاول مرة ثانية فينجح في تجنب العائق. (٧) والسلوك كله فيه تنوعية، كما يبرهن على أن المنبه تغير وأن الاستجابة محاولة للتكيف نحو هذا التغير (عن سكوت).
وثمة ظاهرة تتعلق بالتعلُّم تُعرَف في بحوث السلوك باسم: التنوُّعية (أو التحوُّلية)، وهي ترى حتى أبسط الحيوانات، فإذا ما راقبنا تحت المجهر بعض البراميسيومات، وهي من الأوليات الحيوانية ذات الأهداب، فإنها كثيرًا ما تصطدم بالعوائق في أثناء سباحتها في الماء، وهي عندما تصطدم بالعوائق ثم تتجه وجهة أخرى بعيدًا عن العائق؛ أي إنها عرفت العائق وتجنَّبته بحركة الارتداد الخلفية، وهذا نوع من التنوُّعية أو التحوُّلية؛ أي إن الحيوان قد عرف عند اصطدامه بالعائق (وهي تجربة له) أن هذا العائق موجود وعليه أن يكيِّف نفسه للظروف المحيطة به، فارتدَّ إلى الخلف ثم اتجه وجهة أخرى غير الأولى، وقد يحدث عندما يتجه هذه الوجهة الأخرى أن يصطدم بنفس العائق؛ لأنه عائق عريض مثلًا وعندئذٍ نجده يكرر الارتداد إلى الخلف ثم يغيِّر اتجاهه حتى ينجح في تجنُّب العائق، على أننا نجد في أيِّ نوع من أنواع الحيوان المقدرة على أن ينوِّع في استجابته (أي ردود فعله) للمنبهات المختلفة، فقد يحشر البراميسيوم نفسه تحت العائق حتى يتخلص منه بأقصر طريق بدلًا من الحركات المُتعِبة الأخرى (شكل ٥-١)، وبطبيعة الحال تزيد المقدرة على التنوع في الحيوانات العليا. فليس ضروريًّا عندما يُجرِي أحد علماء السلوك تجربة يختبر بها سلوك حيوان ما تجاه منبِّه ما، أن يحصل كلُّ مجرِّب آخر على نفس النتيجة؛ وعلى ذلك وصل علماء السلوك إلى نتيجة هامَّة، وهي أن التنوُّعية أو التحولية جزء أساسي من التكيُّف، حتى إن أي جهد يُبذَل لوضع قوانين ثابتة تتنبأ لسلوك الحيوانات كلها إنما هو جهد لا طائل منه، غير أن هناك عوامل معينة تنحو نحو التقليل من التنوُّعية، وأحد هذه العوامل هو التعلُّم، والتعلم مصطلح ذائع مألوف يستخدم بمعانٍ كثيرة في الأدب والعلم، على أن التعلم في مجال السلوك يعبِّر عن ظاهرة معينة، وهي أننا إذا ما وضعنا حيوانًا مرارًا وتكرارًا في موضع واحد ثم أوقعنا عليه منبِّهًا من نوع معين واحد في كلِّ مرة، فإن سلوكه في المرات المتأخِّرة يكون متأثِّرًا بما حدث له من قبل (أي بما تعلمه من قبل).
ونستطيع أن نجد مثل هذه النتائج حتى في الحيوانات الدنيا، فقد أجرى العالم يننجز Jennings عديدًا من التجارب على الأوليات الحيوانية، منها تجربة أجراها على أحد الهدبيات اسمه ستنتور Stentor، وهو حيوان أولي كبير، شكله كالقمع يثبت نفسه عادة بأحد الأجسام الصلبة الموجودة في محيطه المائي، بحيث يكون طرفه الواسع متجهًا إلى أعلى، وبحيث عندما تعمل أهدابه المنتشرة عند هذا الطرف، فإنها تسحب تيارًا من الماء يصفي الحيوان منه المواد العضوية العالقة فيه، فيغتذي بها الحيوان، على أن لهذا الحيوان أيضًا أنبوبة تحيط بساقه يستطيع أن ينسحب فيها عندما تقتضي منه الظروف ذلك.

وقد أسقط يننجز فتيتات من الكارمين (وهو مادة حمراء لا تسمن ولا تغني من جوع) على الحيوان، وعندئذ غير الحيوان اتجاهه ليتجنب سيل الكارمين الساقط فوقه، وعندما كرَّر يننجز هذا عليه، فإنه غيَّر اتجاه أهدابه بحيث انزاح تيار الماء بعيدًا عنه بدلًا من الدخول في جسمه القمعي، فلما كرَّر يننجز التجربة عليه انسحب من داخل أنبوبته الواقية. وإلى هنا نستطيع أن تستخلص أن بهذا الحيوان الأوَّلي تنوُّعية؛ ذلك أنه سلك في كلِّ مرة سلوكًا مغايرًا لسلوكه الأول، على أن الجانب المُلفِت للنظر في هذه التجربة حقيقة، هو أن الحيوان، وقد تعلم شيئًا من التجربة، سوف ينسحب في أنبوبته بمجرد أن تقع عليه فتيتات الكارمين فلا يدخل في حلقة التكيُّف المتنوِّع التي مرَّ بها من قبل؛ أي إن لهذا الحيوان الأولي «ذاكرة» تستمر مع الحيوان لنصف دقيقة على الأقل!

وقد قصدنا بهذا المثال أن نكوِّن فكرة عن أثر التعلم حتى في أدنأ الحيوانات، فإذا ما دخلنا في فلك الحيوانات العليا، فسوف نجدها تتعلم بسرعة وتبقى معها ذاكرتها فترة أطول من الزمن، فسمك الجويبون، وهو سمك صغير يعيش في سيف البحر؛ أي بين حدي المد والجذر، ويستطيع أن يتحرك في الماء القليل وعلى الصخور، ونحن نعلم أن ماء البحر عندما ينحسر في أثناء الجزر فإنه يخلِّف وراءه تجمعات من الماء تُسمَّى بركًا أو بولات، لا صلة بين بعضها وبعضها الآخر، بل تتكون بين الصخور وفي منخفضات القاع. هذا السمك يحتجزه الجَزْر في مثل تلك البولات. وقد لُوحِظ أنه يتنقل بينها بسرعة عجيبة كأنه عارف بجميع مسالكها ودروبها وصخورها، وقد قِيل إن الجوبيون في فترة المدِّ يعوم حرًّا في طبقات ماء البحر، فيتعرف على قاعه القريب ويرى ما فيه من صخور، فيتعلم الطريق ويتذكر المسالك والدروب وشكل الصخور، فإذا ما انحسر الماء عنه فهو مستطيع بفضل ذاكرته وتعلُّمه أن يجد طريقه بينها بدون عناء.

والفئران التي تحلُّ لغزًا Maze معينًا أو تخلص من ورطة معينة، مستطيعة أن تسلك مسلكًا أفضل بالنسبة لهذا اللغز، أو الخلوص من تلك الورطة من الفئران التي لم تمر بمثل هذه التجربة من قبل، وقد تصل الفترة التي تتذكر فيها الفئران شيئًا معينًا إلى أربعة أشهر أو أكثر، وربما احتجنا هنا إلى أن نفهم معنى «تحل اللغز أو تخلص من الورطة»، ففي باب سلوك الحيوان، يصمم المجرِّب جهازًا بسيطًا، كأن يبني قفصًا به عدة مسالك تبدأ من مدخل واحد معين ولكنها تنتهي بأكثر من مخرج واحد، ثم يضع المجرب طعامًا عند أحد المخارج، وتبدأ التجربة بأن يضع فأرًا جائعًا عند المدخل، فالملاحظ أن الفأر في أول عهده بالتجربة يدور ويلف في المسالك جميعًا حتى يجد الطعام، على أن التجربة ذاتها إذا ما كُرِّرت معه فإنه يسلك إلى الطعام أقصر السبل ويتجه إليه بدون عناء وبسرعة كبيرة؛ أي إن الفأر قد حلَّ اللغز أو خلص من الورطة. فالتعلم إذن هو تحوُّر السلوك بسابق التجربة.

على أن مقدرة الحيوان على التعلُّم تختلف من نوع إلى آخر، حتى إنه من الصعب تعميم القواعد بالنسبة لهذه القدرة، وقد درس هذا الموضوع دراسة وافية في قليل من الفقاريات العليا وبخاصة في الفأر والكلب، ويجمل بنا قبل أن نسهب في دراسة تجارب التعلم في هذين الحيوانين أن نعرف أولًا شيئًا عن سلوكهما الأساسي (أي قبل التعلُّم).

فالكلب حيوان لاحم؛ أي يغتذي باللحم، والكلب السليم قادر على أن يظلَّ بدون طعام أو شراب أسبوعًا كاملًا بغير أن يلحق به ضرر جسيم، وعندما يجد الطعام فإنه يلتهمه بسرعة وبدون مضغ إلَّا إذا كانت به عظام فإنه يكسرها بأضراسه، وفمه في العادة يفرز كميات من اللعاب تساعده على سرط كتل الطعام الكبيرة، كما أنه سريع التقيُّؤ، وربما كان هذا جزءًا من النمط العادي لسلوكه نحو تغذية الجراء في إبان نمائها المبكر، فالجرو حديث الولادة يحصل على طعامه كلِّه من أمه، وربما يبدأ في تذوُّق المواد المختلفة التي تنبعث منها رائحة بأن يأخذها في فمه، ويحاول مضغها، كما أنه قد يحاول أن يتذوَّق أجسامًا أخرى كأجسام الجراء الأخرى أو الحصى أو قطع الخشب (سلوك الكشف)، وهو يُقبِل على اللحم وعلى قيء أمِّه، ويبدو أن هناك استجابات ابتدائية نحو الطعام الذي يُقدَّم له بدون سابق تجربة عنده عنه.

ومن بين هذه الاستجابات الابتدائية سيل اللعاب سيلًا غير إرادي، وهو فعل منعكس يثيره وجود الطعام في الفم، وهو يتأثر بتجربة الكلب اللاحقة؛ ذلك لأن الكلاب الأكبر سنًّا يسيل لعابها على رؤية الطعام قبل أن يحدث الفعل الانعكاسي بملامسة الطعام أفواهها، وقد قام العالم الروسي الكبير بافلوف Pavlov بدراسة هذه الناحية في الكلاب دراسة مستفيضة.

وكان بافلوف فسيولوجيًّا اهتم بمعرفة الجهاز العصبي وبخاصة المخ، وكان من مقتضيات بحوثه في هذا الموضوع إجراء عديد من التجارب كان لها أثرها البعيد في تقدُّم الفكر العلمي في موضوع التعلُّم، ومع أنه أجرى تجاربه على نمط واحد من الحيوانات، هو الكلب، إلَّا أنه قد توصَّل إلى تعميمات معينة وقوانين معينة؛ أي إن لهذه وتلك تطبيقًا عامًّا.

وتتلخص إحدى تجارب بافلوف على الكلب في أن تُجرَى للكلب موضع التجربة عملية جراحية يتمُّ بها توصيل مجرى اللعاب الواصل من إحدى غدده اللعابية إلى الخارج بدلًا من الفم، ويمكن قياس كمية اللعاب التي تسيل عن طريق هذا المجرى قياسًا دقيقًا، وبعد أن يشفى الحيوان من هذه العملية الجراحية البسيطة يُوضَع في غرفة تجارب خاصة فوق حامل، ثم تُربَط أرجله بسيور من الجلد تُشَدُّ بدورها إلى عارضة تمتد في سقف الغرفة، والكلب في هذا الوضع يستطيع أن يتحرك قليلًا، على أن الحركة الكبيرة ترفعه عن الحامل في الهواء. وعندما يتعود الكلب على هذا الوضع في تلك الغرفة يبدأ التدريب التجريبي، ويتكون هذا التدريب من تقديم الطعام للكلب مصحوبًا بأحد أنواع الإشارات، التي قد تكون أي شيء، من دق جرس، إلى صفير إلى إبراز لوحة من الورق الأبيض مرسوم عليها دائرة أو مثلث أو ما أشبه. ويعتمد كثير من نجاح التجربة على معاونة الكلب لصاحب التجربة، فكثيرًا ما لا يخضع بعض الكلاب للكبت فلا يصلح للتجربة، أما بعضها الآخر فإنه هادئ وديع حتى إنه لا يُلقِي بالًا للذي يدور حوله.

وقد وجد بافلوف أن مجرد إظهار الطعام للكلب، وقبل أن يدخل في فمه أو يقدم له كافٍ لإدرار اللعاب من فمه، وعندئذٍ كان يجمعه من مجرى اللعاب الذي وصله بخارج الفم، كما وجد بافلوف أن سيل اللعاب يتدفق مع التهام الكلب غذاءه أو مع وضع قليل من الحمض المُخفَّف في فمه، وهذه النتيجة جديرة بالذكر؛ لأن قيء الأم الذي أكل منه وهو صغير حمضي التفاعل، فما زال الحمض المُخفَّف منها منبهًا ابتدائيًّا له ولسَيْل لعابه.

وفكرة المنبه الابتدائي التي تحدث تفاعلًا بدون تدريب تحضيري إنما هي جزء أساسي من نظرية التعلُّم، فمن المعقول أن نفترض أنه حتى في الحيوانات القادرة على تعلم أشياء كثيرة يُوجَد مَيْل فطري نحو التفاعُل مع أنواع معينة من المنبهات، وإلا انتفى وجود سلوك قد يؤثِّر التعلم فيه، على أنه من الخطَل افتراضُ وجود نوع واحد من التنبيه دائمًا يتسبب في ظهور استجابة معينة، أو أن حيوانًا ما يستجيب بطريقة واحدة دائمًا لمنبه ابتدائي معيَّن، وإلَّا فإن هذا يتعارض مع مبدأ التنوعية الذي أُشِير إليه من قبل، فالحيوان وإن كان به مَيْل قوي نحو تفاعل خاص تجاه منبه ابتدائي خاص، فإنه قد يتفاعل (أي يستجيب) بطرق شتَّى مع هذا المنبه.

وما أن كشف بافلوف عن المنبه الابتدائي الذي يسيل له لعاب الكلب، حتى جرَّب إيقاع الكلب تحت منبه ثانوي لا يُحدِث إسالة اللعاب عادة، ثم راقب النتيجة تحت ظروف متغيرة، فمثلًا اتكأ بافلوف على زرٍّ متصل بجرس كهربي يئزُّ أزيزًا ولا يرن رنين الجرس الذي نعرفه، وذلك قبل أن يقدِّم بعض اللحم للكلب، وفي المدة التالية اتكأ على الزرِّ فسال لعاب الكلب قبل أن يرى الطعام، وبعد أن أعاد التجربة عدة مرات غدا هذا الميل نحو إفراز اللعاب أقوى من ذي قبل؛ أي إن لعاب الكلب تدفَّق بكثرة عند سماع الكلب لأزيز الجرس الكهربي، حتى لو كان الطعام لم ولن يُقدَّم إليه. وهذا يصوِّر لنا قاعدة الاقتران وهي أن أيَّ منبه ثانوي يسبق تمامًا منبهًا ابتدائيًّا يقترن بالاستجابات التي تحدث عادةً نتيجة للمنبه الابتدائي. وقد أطلق بافلوف على هذا اسم «الفعل الانعكاسي المشروط» أي الفعل الانعكاسي الذي تأثَّر بامتزاج المنبهات، أي ضمها معًا.

ولا يقر سكوت Scott هذا المصطلح، أي الفعل الانعكاسي المشروط؛ لأن السلوك في رأيه يتأثر بتغيُّر في الشروط لا بالشروط ذاتها، على أن المصطلح في رأيه يُستخدَم في الوقت الحاضر على نطاق واسع، ومن ثَمَّ هو يبقى عليه، ويقول إنه لا بد من إدراك المقصود منه.

وليس من الضروري في العادة أن تتمَّ نتيجة الاقتران إذا ما جاء المنبه الثانوي بعد المنبه الابتدائي، أو إذا ما سبقه بأيَّ فترة من الزمن، طالت أم قصرت، وتشبه هذه الظاهرة ما نسميه بقانون العلاقة بين العلة والمعلول، الذي يقول بأنه إذا ما حدث حادثان معًا وعلى الدوام، وأن أحدهما يسبق الآخر، فإن الأول هو سبب الثاني. فالكلب يمتثل في هذه الحالة التي نحن بصددها كأن الجرس كان «السبب» أو «العلة» في حصوله على اللحم، طالما أن الاثنين؛ أي أزيز الجرس وتقديم اللحم، مقترنان كلٌّ بالآخر وأن الأزيز يحدُث أولًا.

وبعد أن نجح بافلوف في إيجاد اقتران بين الأزيز وتقديم الطعام لكلب معين، فإنه حاول أن يجرِّب على نفس الكلب تأثير منبه ثانوي آخر، ففي هذه المرة قرع بافلوف جرسًا، ولكنه لم يقدم للكلب لحمًا، فلم يسِل لعاب الكلب بالطبع، وعندما كرر هذا عدة مرات اتكأ بافلوف على زر الجرس الكهربي وقرع الجرس العادي، فسال لعاب الكلب، ولكن ليس بالكمية التي يسيل بها عندما يئزُّ أزيز الجرس الكهربي وحده. ويمكن الوصول من هذا إلى أنه في الإمكان إنشاء الاقتران بين منبه ثانوي وانعدام رد الفعل، ويمكن أن يُسمَّى هذا بقانون الاقتران السلبي أو المثبِّط.

وقد وجد بافلوف أن أيَّ منبه ثانوي أو «حيادي» يظهر متكررًا في بيئة الكلب موضع التجربة قد يكون له تأثير مثبِّط، فمن الواضح أن الحيوان مستطيع أن يتعلم عدم فعل شيءٍ ما تمامًا كما يتعلم الاستجابة للمنبه، وذلك بألَّا يمتثل لفعل المنبه عندما يقع عليه. وهذا يعني أن التدريب على عدم الاستجابة بالأفعال غير المرغوب فيها قد يتم بدون توقيع عقوبة ما، وإذا ما نحن أرسينا هذه القاعدة فإننا نستطيع أن نستغلها في تنشئة الأطفال وتربية الكلاب في البيوت بدون توقيع عقوبة، فليس من الضروري أن نوقع عقوبة على الأطفال عندما نريد منهم ألَّا يفعلوا شيئًا كريهًا، أو على الكلاب إذا ما أردنا منها ألا تتبول أو تتغوط في داخل البيت، على أن هذا موضوع تختلف فيه الآراء، فقد أُجْرِيت تجارب تثبت أن العقاب إذا كان صارمًا مع الحيوان، فإنه لن يقدُم على الفعل الذي عُوقِب من أجله مرة أخرى.

مثال ذلك إذا وُضِع فأر في لغز تتشعب فيه المسالك إلى مسلكين اثنين فقط، ووُضِع طعام عند نهاية أحدهما، وعند نهاية الآخر وُضِعَ سلك مُكهرَب يصطدم الفأر به، فسرعان ما يتعلم الفأر تجنب المسلك الثاني، ولو أننا أضأنا المسلك الأول وأظلمنا الثاني، فإن الفأر سوف يتجنب الذهاب إلى المسلك المُظلِم. وقد توصَّل يركز ودودسون Yerkes & Dopson إلى أنه في أبسط الأفعال المطلوب من الفأر القيامُ بها كلما كان العقاب صارمًا كان التعلم أسرع، أما إذا كان الفعل معقَّدًا فإن العقاب الصارم لن يجعل التعلُّم سريعًا، ومع الفعل الصعب غاية الصعوبة فإن أفضل وسيلة لتعلمه هو العقاب الهيِّن، وقد يكون الحال كذلك مع البشر، فقد يتعلم الإنسان الشيء الهيِّن بالعقاب البدني الصارم، ولكن هذا العقاب لن يصلح على الاطلاق في تعليم الصبي أصول الحساب (أي الفعل الصعب غاية الصعوبة والذي يحتاج فيه العقل إلى التمييز الكثير بين الأشياء). ويبدو أن العكس صحيح بالنسبة لإغداق العطاء مع طلب حلِّ المسائل الصعبة جدًّا، فهنا يكون الحيوان متوتِّر الأعصاب مشوقًا للعطاء المجزي فيصرفه عن الحلِّ الصحيح، وقد يكون هذا صحيحًا أيضًا بالنسبة للإنسان.

وقد توصل بافلوف إلى نتيجة هامَّة في إحدى تجاربه، نتيجةٍ تتصل بالخمود أو الخبو والاسترداد أو الشفاء؛ وذلك بأنه درَّب الكلب على أزيز الجرس الكهربي وتقديم الطعام، ثم أخذ يضغط على زرِّ الجرس بدون أن يقدم الطعام للكلب، وبعد عدة محاولات انخفضت استجابة الكلب لأزيز الجرس الكهربي إلى الصفر، وقد حدث هذا تدريجًا؛ أي بعد عدة أيام.

وقد سمَّى بافلوف هذا بالخمود أو الخبو، على أن بافلوف عندما أراح الكلب فترة طويلة بعد التجربة التي استمرت عدة أسابيع، عاد فأسمع الكلب أزيز الجرس الكهربي، وعندئذ أفرز الكلب بعض اللعاب مع أنه لم يقدِّم له طعامًا، وسمَّى هذا بالشفاء من الخبو أو الاسترداد من الخمود، ومعنى هذا أن الاقتران لم يَخْبُ أبدًا بل ترك أثرًا في جهاز الكلب العصبي.

•••

ويمكن إطلاق كلمة العادة على الاقتران بين منبه معين واستجابة خاصة لهذا المنبه، وتعتمد قوة هذه العادة على المدى الذي استجاب فيه الحيوان لتأثير منبه معين أو منبهين، ومهما اشتفى الحيوان من أثر العادة إلَّا أن أثرها يظل باقيًا فيه دومًا.

على أن تجارب بافلوف حتى الآن كانت مقصورة على مثال واحد من سلوك الفعل الانعكاسي البسيط، وقد فكَّر مَن تَبِعَه من العلماء في تطبيقها على السلوك الإرادي؛ أي الذي يتم بإرادة الحيوان لا غصبًا عنه كما يحدث للكلب عندما يسيل لعابه لرؤية الطعام أو سماع الجرس أو رؤية المربع المرسوم على لوحة من الورق وهلم جرًّا. وقد أجرى هؤلاء العلماء تجاربهم على الفأر.

والفأر حيوان عاشب؛ أي يغتذي من الأعشاب، على أنه مستعدٌّ لأن يأكل اللحم أو أي طعام آخر، وله مريء ضيق، ومن ثَمَّ لا يستطيع أن يلتهم طعامه التهامًا، وإنما عليه أن يمضغه مضغًا حسنًا قبل أن يسرطه، كما أنه غير قادر على أن يقيء الطعام لضيق مرِّيئه، كما أنه لا يغذِّي صغاره بعد أن تفطمها الأم، وعلى تلك الصغار أن تسعى للحصول على غذائها بنفسها. ويجوع الفأر بعد ساعات قليلة من آخر وجبة تناولها، بخلاف الكلب الذي يصبر على الجوع أيامًا؛ وعلى ذلك فالفئران أصلح للتجارب التي نحن بصددها؛ لأنه من السهل علينا أن نثير فيها حماسة الجوع، ومن ثَمَّ نجعل الفأر يجد بحثًا عن الغذاء ليسدَّ به جوعه.

وقد بدأ السيكولوجي سكنر Skinner تجاربه على الفئران بأن حفظ عددًا منها، وقدَّم لها كميات قليلة من الغذاء فأنقص وزنها إلى ٨٥ في المائة من وزنها الطبيعي، وهذا يعني أن تلك الفئران كانت جائعة على الدوام، وصمَّم تجاربه بحيث يضع الفأر في قفص معين له تصميم خاصٌّ هو أن به عارضة من الخشب، إذا ضغط عليها الفأر ظهرت كرة من الغذاء وسقطت في القفص. فإذا ما وضع فأرًا في هذا القفص فإنه سرعان ما يدور ويلف فيه، ولا بدَّ عندئذٍ أن يقف على عارضته الخشبية التي أشرنا إليها، وعندئذٍ سوف تسقط له قطعة من الغذاء في القفص، فيكتشف الفأر هذا ولا ينفك يقف على العارضة ليحصل على كرة أو قطعة أخرى من الغذاء؛ لأن القطع أو الكرات صغيرة فلا يشبع منها ولا تشفي غليله، وقد يظل على هذا النحو عدة ساعات. ويسجل حركاتِ الفأر جهازٌ متصل بالقفص، وهو يسجله على هيئة خطٍّ بياني يعدُّ عدد المرات التي داس فيها الفأر على العارضة الخشبية (شكل ٥-٢).

وقد حصل سكنر بهذه الوسيلة على نتائج شبيهة جدًّا بتلك التي حصل عليها بافلوف، فمن الواضح أن الفأر قد كوَّن اقترانًا، وذلك عندما تعلَّم أن يضغط على العارضة الخشبية ليحصل على الطعام، حتى إن كرة الطعام إذا لم تسقط مع تحرُّك العارضة فإنه لن يحاول الضغط عليها. وفي تجربة أخرى كان الطعام يسقط له في الصندوق عندما يكون القفص مضيئًا، فإذا كان مظلمًا فلا، وهكذا تعلم الفأر ألَّا يضغط على العارضة الخشبية في الظلام، إذن فقد ميَّز الفأر بين الحالتين، وتحقق سكنر من أن قواعد بافلوف عن الاقتران والتعميم يمكن أن تنطبق على أنواع أخرى من السلوك غير الأفعال الانعكاسية، كما أن تجارب سكنر قد بيَّنت إمكان إيجاد جمع بين استجابة ما والحوادث التالية لها، وكذلك بينها وبين المنبهات السابقة، وبمعنًى آخر تعلم الحيوان أن لسلوكه نتائج.

fig3
شكل ٥-٢: طريقة سكنر في اختبار تأثير التعلُّم على السلوك الإرادي. فالفأر هنا يضغط على العارضة فتبرز له كرات صغيرة من الطعام، فإذا كان الطعام لا يبرز للفأر إلَّا في الضوء، فإنه سرعان ما يتعلم ألَّا يضغط على العارضة في الظلام (عن سكوت).

والفرق الأساسي بين تجارب بافلوف وتجارب سكنر هو أن الفعل الانعكاسي الخاص بإفراز اللعاب يتأثر في الكلب بما قد حدث قبل أن يقع مباشرة، أما في حالة الضغط على العارضة الخشبية في الفأر فيتأثر أساسًا بما يقع بعده، وهذا يعني أنه في الإمكان قيام اقتران بين حادثين يقعان قريبين كلٌّ من الآخر زمنيًّا، ومن ثَمَّ يمكن إيجاد أو بناء سلاسل طويلة من المنبِّهات والاستجابات، ففي حالة تجربة سكنر، بُنِيت السلسلة على النحو التالي؛ أولًا: هناك المنبِّه الأوَّلِي الخاص بالجوع الذي يؤدي إلى نشاط الجسم العام، وفي النهاية إلى الضغط على العارضة، وهذا يؤدي بدوره إلى ظهور كرة صغيرة من الطعام في القفص، وعندئذٍ يعمل الطعام كمنبِّه للاستجابة نحو الاغتذاء، وقد أدَّت هذه السلسلة من الحوادث في النهاية إلى ملاءمة ناجحة (أو تكيُّف ناجح) للمنبه الأصلي وهو الجوع.

ونستطيع الآن أن نتبيَّن أن هناك اتصالًا بين أسس التعليم وأسس الملاءمة أو التكيُّف، فالمنبِّه تغيُّرٌ والاستجابة أو ردُّ الفعل محاولةُ الملاءمة للتغيُّر أو التكيف له، وتنحو الاستجابات نحو التنوُّع كما تنحو قاعدة الاقتران نحو جعل الحيوان يختار استجابةً تكسبه ملاءمة ناجحة أو تكيفًا ناجحًا.

وهناك أيضًا في سيكولوجية الحيوان، كما في سيكولوجية الإنسان ما نسميه بالباعث أو الدافع، فالحيوان ما دام قد بدأ في التعلُّم فإن مقدار الدافع أو الحافز يتأثر تأثرًا مباشرًا بمقدار التكيف الناجح، وينبعث بعض الدافع أو الحافز دائمًا من المنبهات الابتدائية مثل الطعام في البيئة الخارجية، والجوع في داخل الجسم. على أن هذا الدفع أو الحفز يزيد كثيرًا جدًّا بالتدريب، فالحيوان يعمل بجدٍّ للحصول على الطعام بعد أن يحصل عليه في عدة مناسبات، يعمل بجدٍّ أكثر كثيرًا من عمله عند حصوله على ذات الطعام في محاولته الأولى أو الثانية.

وقد توصل سكنر إلى طريقة مثيرة لتجسيم الدفع أو الحفز، وذلك بأنه جعل الفأر يضغط على العارضة الخشبية للحصول على كرة من الطعام، وفي كلِّ مرة كان يضغط عليها كان يحصل على مكافأته؛ فإذا ما أوقف وضع الكرات فإن الفأر ييأس فلا يضغط على العارضة. أما في التجربة الجديدة فقد جعل سقوط الطعام في القفص غير رتيب، فتارة تسقط للفأر كرة من الطعام عندما يضغط على العارضة، وتارة يضغط عليها فلا يجد شيئًا، وعندئذٍ كان على الفأر أن يعمل بجدٍّ وبدون كَلَلٍ حتى تسقط له الكرات الغذائية، وتفسير ذلك هو أن النجاح غير الرتيب يجعل الأمر صعبًا بالنسبة للفأر في التمييز بين حالة الآلة وهي تبرز له الطعام وحالتها وهي تحجبها دونه، فالنجاح الجزئي أو غير الرتيب يُحدِث حفزًا أبقى من النجاح الرتيب المستمر، ولعل هذا يفسر الحالة النفسية عند البشر وهم أمام الماكينات «الأمريكاني» التي إن دفعت فيها قرشًا فإما أن يسقط فيها فيضيع منك القرش، وإما أن يدفع لك من الماكينة بضعة قروش. فالمقامر أمام هذه الماكينة لا يزال أمامها يدفع فيها بقروشه لعله وقد خسر مرة أن يكسب مرَّات، أو العكس خسر مرات أن يكسب ولو مرة واحدة.

وعلى جميع الحيوانات التي تتحرك بسرعة أن تواجه مشكلة اجتياز العوائق الطبيعية التي تصادفها أو أن تدور حولها؛ وعلى ذلك فقد كان اختبار العائق طريقة محببة لنفوس السيكولوجيين الذين يرغبون في اختيار القدرة على التعلُّم في مختلف أنواع الحيوان، وينبغي أن يكون طراز العائق مناسبًا لأنماط السلوك التي تميز النوع، وإلا بات من الصعب جدًّا على الحيوان أن يقوم بأية تسوية أو ضبط من أي نوع، فالفئران مثلًا تنجح في حلِّ الألغاز (الورطات) المصممة في أنفاق، أما الغنم فإن قلوبها تمتلئ رعبًا في مثل تلك الأنفاق؛ لأنها في الطبيعة تعيش في السهول المكشوفة، ويعتمد أمنها وسلامتها على بقائها بعيدة عن المآزق، تلك المآزق التي تُنصَب لها فيها الفخاخ والشراك عادة للإيقاع بها.

وقد صُمِّمت أنواع متعددة من الألغاز اتبعت مع الفئران، انتهى علماء الحيوان السيكولوجيين إلى بعضٍ منها، وهو ذلك النوع الذي تنفرج فيه المسالك إما على شكل Y أو على شكل T، وتتداخل فيه هذه المسالك ويؤدِّي بعضها إلى بعض بطريقة عشوائية، فإذا ما وضعنا فأرًا في أحدها لأول مرة، فإن سلوكه يمرُّ بالخطوات التالية: أولها أن الفأر يُظهِر كثيرًا من السلوك الكشفي، فهو يفحص جميع الممرات في عناية بما في ذلك الردوب (أي المسالك المسدودة)، على أنه في النهاية يصل إلى المخرج الذي يجد عنده الطعام فيأكله، فإذا ما أرحنا الفأر بعض الوقت لنوقعه في الورطة (أو نضعه في اللغز) من جديد، فإنه سوف يسلك ردوبًا أقلَّ من ذي قبل، وكلما أُعِيدَت معه التجربة كان سيره أجد ووصوله إلى المخرج أسرع؛ مما يشير إلى أن الدفع أو الحث أصبح أقوى فأقوى عن ذي قبل.
fig4
شكل ٥-٣: لغز بسيط على شكل T، له طرفان وثلاث نقط اختيارية تبين أن هذا الحيوان لا يستطيع أن يرى نهاية أي ردب (طريق مسدود) من عند أي من النقط الثلاث، والدوران الصحيح هنا يظهر على الترتيب التالي: يمين يسار يمين يسار للوصول إلى النهاية، ويمكن تعقيد مثل هذا اللغز تعقيدًا كثيرًا (عن سكوت).

ويُعتبَر مثل هذا السلوك مختلفًا تمامًا عن ذلك السلوك المكتسب في تجارب بافلوف أو صندوق سكنر، بل هو يذكِّرنا أكثر بتلك التجربة التي أُجرِيَت على ذلك الحيوان الهدبي ستنتور مع فتيتات الكارمين، وكيف أنه نوَّع استجاباته لها حتى تكوَّن لديه نحوها نوع من التكيُّف.

على أنه رغمًا من استجابات الفأر المتنوعة فيبدو أن مراحل التعلم البسيطة تأخذ مجراها، فالفأر ينحو نحو قرن جريه في سراديب اللغز بالمكافأة التي يتلقَّاها عند وصوله إلى المخرج على صورة طعام يأكله، هذا شبيه تمامًا بحالة الفأر في صندوق سكنر الذي قرن الضغط على العارضة بالحصول على الطعام، فالفأر مع تحوير وتنويع سلوكه في محاولاته المختلفة قادر على أن يميِّز بين أوجه النشاط التي يبذلها والتي تؤدِّي به إلى الطعام، وبين تلك التي تجعله يجري في الردوب (أو السراديب المسدودة)، فالاستجابات التي تؤدي إلى النجاح تصبح أكثر دفعًا وحثًّا، أما تلك التي تؤدي إلى الفشل فتخبو فيه وتخمد؛ وعلى ذلك فإن معظم سلوك الفأر يمكن تفسيره على أسس من الاقتران الموجب والاقتران السالب.

وثمة ناحية من نواحي حل اللغز أو الخلوص من الورطة هو التنوعية، ففي المحاولة الأولى يقوم الفأر بفعل عدد كبير من الأشياء المختلفة وما ينفك ينوِّع سلوكه في محاولاته التالية، وفي واقع الأمر أن هذه هي السبيل الوحيدة له لكي يحسن من مباشرة فعله، فلا تنقطع التنوعية إلَّا في مرحلة متأخرة من التعلُّم بعدها يصبح السلوك مجرد عادة بسيطة ويكاد يكون آليًّا، وحتى في ذلك فإن الحيوان لا يفعل الأشياء في جميع الحالات بنفس الطريقة الواحدة.

ويبدو أن هناك عمليتين أساسيتين على الأقل متضمنتان في تحسين التكيُّف نحو موقف معين: عملية تكوُّن العادة، وعملية النحو تجاه التنوعية، ويبدو أيضًا أن هاتين العمليتين تعملان في أيِّ مشكلة عملية متضادتين كل للأخرى لتحدثا توازنًا غير ثابت، فإذا ما وُضِع الفأر في الورطة عدة مرات في تتابع سريع، فإن العادات تصبح أكثر قوة، وعلى ذلك فإن الفأر يكرِّر نفس الأخطاء المرة تلو المرة ويقرن بين هذه والنجاح، أما إذا أُعطِي الفأر فترةً أطول بين المحاولات، فإن التنوعية تزيد عنده فتقل أخطاؤه بسرعة أكبر، على أن الفترة إذا ما زيدت إلى عدة أيام فإن الاقتران يغدو ضعيفًا جدًّا، ويتعلم الفأر ببطء لأنه لن يتذكر الأخطاء، وقد يطيب لنا أن نضع هذا في صورة أخرى هي أن ممارسة الأشياء كثيرًا جدًّا أو ممارستها قليلًا جدًّا يحدث سرعة في التحسن بطيئة، ونستطيع أن نطبق ذلك على البشر، فالفتاة التي تخطئ في عزفها على البيانو عند موضع معين إنما لأنها تمارس العزف دوامًا وبكثرة، بينما لو تمهَّلت في مرانها لحذقت المقطوعة كلَّها بدون أخطاء.

ولقد بذلت عدة محاولات لإيجاد مدى تعمم ظواهر التعلم المختلفة، وبخاصة ما إذا كان أي نوع من التعلم الحق موجودًا في الحيوانات الدنيا، والواقع أن الدليل على ذلك صعب المنال لعدة أسباب؛ منها أن المجربين من السيكولوجيين كثيرًا ما كانوا يحاولون قياس التعلُّم بوسائل فنية لا تتناسب مع القدرات السلوكية للحيوانات التي يُجرُون عليها التجارب، فقد جُرِّبت مع القطط صناديق الألغاز رغمًا من أنها ضعيفة في الإمساك بالأشياء إذا ما وُوزِنت بمعظم الرئيسيات وبعض اللواحم كالراكون مثلًا، كذلك استخدمت الألغاز ذات الردوب والمسالك مع عدد كبير من أنواع الحيوان، وقد نجح بعضها وفشل بعضها الآخر، حتى دودة الأرض قيست مقدرتها بلغز بسيط على شكل T الذي يتطلَّب منها أن تزحف أفقيًّا على سطح ما وتتجه يمينًا أو يسارًا، علمًا بأن ديدان الأرض تعيش أساسًا في التربة وتتحرك فيها رأسيًّا لا أفقيًّا؛ وعلى ذلك فإن ديدان الأرض تتعلم ببطء في ذلك الموضع الأفقي، وليس من الإنصاف أن نصل بها إلى هذه النتيجة.
وثمة صعوبة تتصل في ميدان تعلُّم الحيوانات الدنيا بفقر أعضائها الحسية، على أن المثال الآتي يبين لنا مدى الشرطية في أفعال بعض منها، فقد أجرى العالم هوفي Hovey تجربةً على إحدى المفلطحات الحرة (أي غير الطفيلية) واسمها لبتوبلانا Leptoplana فوجد أن أجهزة استقبالها للضوء لا تستطيع سوى أن تميز بين الضوء والظلمة، وهي تبدأ في الحركة فور تبدُّد الظلمة بالضوء، وهذا في حدِّ ذاته يمكن اعتباره منبهًا ابتدائيًّا والاستجابة له. والمسألة هي إيجاد منبه ثانوي يمكن أن يقرن بتلك الاستجابة، وهو لا يمكن أن يكون شيئًا يُرَى؛ لأن الدودة لا تميِّز بين الأشياء بالرؤية، وقد استطاع هوفي أن يجد هذا المنبه وهو لمس الدودة عند مقدمتها كلما ظهر الضوء في المكان المحفوظة فيه حيث تبدأ في الحركة، وفي النهاية بعد تكرار التجربة عزفت الدودة عن الزحف مع ظهور الضوء، ولنا أن نخلص إذن إلى أن اقترانًا جديدًا قد تمَّ بين الضوء والعزوف عن الحركة.

والفرق بين هذه النتائج وتلك التي نحصل عليها مع الحيوانات العليا، هو أن فترة التدريب المطلوبة أطول جدًّا مما في الفقاريات العليا التي تستطيع أن تكون اقترانًا من محاولة واحدة أو اثنتين، وعلى أية حال فإن في هذا البرهان على أن ظاهرة الاقتران موجودة في الحيوانات الدنيا.

والقدرة على التعلُّم أكبر في اللافقاريات المركب بنيانها، فالأخطبوط إذا ما دليت في المماهة المحفوظ فيها لوحة معدنية مثبت فيها سرطان صغير، فإنه سرعان ما يراه ويصعد ليلتهم السرطان، على أن السرطان كان يقدم للأخطبوط بدون اللوحة المعدنية في أحيان أخرى، وكان العالم المجرِّب عندما يرى الأخطبوط وهو يقترب من السرطان ويفتح فاه ليلتهمه يطلق في اللوحة تيارًا كهربيًّا، فعندئذٍ ينسحب الأخطبوط على التوِّ، على أن الأخطبوط كان يصعد إلى السرطان غير المثبت في اللوحة المعدنية؛ وعلى ذلك نقول إن السرطان قرن بين اللوحة المعدنية والكهرباء تمامًا كما فعل الكلب في بعض التجارب (شكل ٥-٤).

وعلى وجه العموم فإن التجارب التي أُجرِيت مع جميع طوائف الفقاريات تعطي نتائج شبيهة في أساسياتها بالتجارب التي أُجرِيت مع الفأر والكلب، فالأسماك مثلًا إذا ما حفظت في مماهة أو بركة وألقي إليها الطعام، فإننا نجدها تصعد إلى السطح كلما سقط في الماء شيء حتى بعض الحصى، على أننا إذا ما أعدنا إلقاء الحصى لها وحده وكرَّرنا ذلك كثيرًا، فإنها سرعان ما تعزف عن الصعود إلى السطح، ويؤيد كثير من التجارب الأخرى وجود اقتران وتمييز وتعميم في هذه الحيوانات.

وعلى أساس ما هو متوافر لدينا في الوقت الحاضر من بيانات نستطيع أن نخلص إلى أن السلوك يتأثر بسابق التجربة في أي حيوان من الحيوانات التي يظهر فيها السلوك (لا يظهر السلوك في بعض الحيوانات كالإسفنج مثلًا)، وأن عمليات التعلم المتشابهة موجودة في جميع أجهزة الحيوان العصبية، وهذا في حد ذاته نظرية يمكن الأخذ بها وإن كانت نظرية تحتاج إلى جهد كبير من التجارب في مختلف أنواع الحيوان لإرسائها وإقرارها إقرارًا مأمونًا.

fig5
شكل ٥-٤: يبين تعلُّم الأخطبوط. (١) يسقط إلى الأخطبوط سرطان على لوحة معدنية. (٢) يقترب الأخطبوط من السرطان ويقتنصه. (٣) يصعق الأخطبوط بتيار كهربي. (٤) يفر الأخطبوط بعيدًا عن مصدر الكهرباء وينصل لونه. (٥) ينفخ الأخطبوط الماء على أذرعه التي مسَّتها الكهرباء. (٦) يعزف الأخطبوط عن الإمساك بالسرطان بعد أن تبيَّن اللوحة المعدنية. (٧) الأخطبوط يقنص السرطان، وقد تبيَّن أنه غير متصل باللوحة المعدنية. تبين حجم العينين الكبير (عن سكوت).

على أنه من السهل علينا قبل أن نختم هذا الفصل، أن نرى أن الحيوان الذكي أكبر فرصة من الحيوان الغبي في البقاء وإنجاب النسل، وهذا بطبيعة الحال مشروط بتساوي ظروف الحيوانين في الحياة. وعندئذٍ ينشأ سؤال هام من ناحية نظرية النشوء والارتقاء، وهو ما إذا كانت الفوارق في الذكاء تنتقل إلى الأبناء من الآباء؟ وتأتي الإجابة على هذا السؤال من التجارب التي أُجرِيت على الفئران، فقد وجد المجرِّبون من السيكولوجيين أن ذرية الفئران التي تنجح في حلِّ الألغاز، أو الخلوص من الورطات وتتعلمها أقدر على تعلم تلك الألغاز وحلها من ذريات غيرها من الفئران، ويبدو إذن أن الحصول على سلالة من الفئران بالتزويج المختار تتعلم حل الألغاز بسرعة كبيرة، وعلى سلالة تتعلم ببطء ممكن جدًّا على حسب قوانين مندل الوراثية، وفي البشر نجد عادة أن الأبوين الذكيين ينجبان ذرية أذكى من ذرية الأبوين الأقل ذكاء؛ وعلى ذلك فإن القدرة على التعلُّم في الحيوان والذكاء في البشر مميزتان تورثان، ويعمل عليهما الانتخاب الطبيعي، ذلك الانتخاب الذي اعتمد عليه تشارلز داروين في شرح نظريته عن أصل الأنواع.

ومن حيث أننا تعرَّضنا للبشر في هذا المقام فلا بدَّ من الإشارة (للمدرسين والآباء على الأقل) إلى أن بالبشر خواص تؤثر على السلوك تأثيرًا شديدًا، فالأفراد العاديون كثيرًا ما يختلفون من حيث قدراتهم الحسية والبدنية، وهي فوارق نجمت عن الفوارق الوراثية بين الآباء، فالرَّبْعة من البشر (أي الوسيط القامة) القوي العضل أقدر على التصويب بالبندقية من السامق (أي الطويل)، على أن هذا أقدر على القفز العالي من ذاك، ولا يبدو غير محتمل أن هناك قدرًا كبيرًا من التنوعية في مثل تلك الخواص كالحساسية بالنسبة للمؤثرات العاطفية، ومعنى ذلك أن البشر يختلفون فيما بينهم اختلافًا واسعًا بالنسبة لخواصهم الموروثة عن آبائهم، فمثلًا يختلف التلميذ في المدرسة بأن يكون أحدهما ناجحًا والآخر فاشلًا لأن بالأخير صممًا طفيفًا لم يكشف عنه. وفي جملة القول ينبغي للمجتمع النامي حسن التنشئة أن يسمح لأفراده بالحرية الكافية التي تكفل لهم أن يسلكوا سلوكًا متنوعًا مختلفًا.

وقد قِيل بصدد قدرات الأفراد التي يكتسبونها من التعلُّم إنها تنتقل إلى ذرياتهم من بعدهم، ولو صدق هذا القول، فإنه يتفق مع اللاماركية (وهو مذهب ينادي بتوريث الصفات المكتسبة إلى الأبناء من الآباء)، على أنه قول يعوزه الدليل بالتجربة، ولا مناص إذن من التريُّث في القطع بإمكان انتقال الصفات المكتسبة من جيل إلى جيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤