الفصل السادس

الذكاء

كيف يتأتَّى لحيوان أن ينظم سلوكه ليجابه به مشكلة جديدة من مشاكل التكيُّف أو الملاءمة؟ ومما لا شك فيه أن جزءًا من سلوكه قد نظمته صفاته التي ورثها عن أبويه؛ أي إن الحيوان يصل إلى الدنيا ومعه وسيلة قياسية يجابه بها صعوبات معينة، على أن الحيوانات كثيرًا ما تنظِّم سلوكها بطرق فريدة وتبدو وكأنها ذكية حقيقة، وتنقلنا هذه الحقيقة إلى قصة الحصان الشاطر هانز وخيول إلبرفلد التي أجملناها في صدر هذا الكتيب، فما من شك في أن الشاطر هانز وخيول إلبرفلد، على الرغم من الكشف عن طريقتها في الإجابة على الأسئلة المطروحة عليها، خيول حسنة الملاحظة جدًّا، بل وتفوق كثيرًا من البشر من هذه الناحية.

وقد سبق لنا أن عرفنا أن ناحية كبيرة من السلوك التكيفي يمكن شرحها على أساس تنوُّعية السلوك، وحل المشكلة حلًّا عارضًا وما يلي ذلك من تكوين العادة، فنحن إذا ما قدمنا لجرو طعامًا في صحن وغطينا هذا الصحن، فإنه سوف يقوم بمحاولات شتى للحصول على الطعام من الصحن؛ منها أنه سوف يشم الغطاء ويقف فوقه ويعضُّه ويدفعه ببراثنه ويحاول أن يرفعه بأنفه، وفي النهاية يجرب الجرو شيئًا ينجح به في كشف الغطاء، وفي التجارب التالية مع نفس الجرو بنفس التجربة نراه يتجه وجهتين؛ أولاهما: أن يحاول جميع محاولاته الأولى، وثانيتهما: أنه يحوِّر سلوكه بحيث يجرب أشياء في تتابع مختلف، وعلى هذا النحو سوف يعزف عن الأشياء التي لم تحقِّق له نجاحًا مؤكدًا، وعلى هذا فقد استطاع الجرو التمييز بين الأفعال التي قام بها وأدَّت إلى نجاحه في الحصول على الطعام والأفعال التي لم تؤدِّ إليه.

وهناك بعض ضروب الحيوان التي تستطيع أن تحلَّ المسائل بدون الدخول في مجال التجربة والخطأ، فقد أُتِيحت لأحد العلماء الألمان الشبان واسمه كوهلر Kohler فرصة السفر إلى جزيرة تنريف، وهي إحدى جزر كناريا؛ حيث درس فيها سلوك جماعة من القردة العليا، وقد وجد أن القرد البالغ منها مستطيع في كثير من الأحيان أن يحلَّ مشكلةً ما من المرة الأولى التي يجابهها فيها، وقد صمَّم كوهلر نوعًا من الصنعة التجريبية أطلق عليها: «مسألة الدوران»، فكان يُرِي البعام (الشمبانزي) موزًا ويضع بعض الحواجز بينها وبين الموز، فلاحظ أن البعامة كانت تدور وتلف حول الحواجز لتصل إلى الموز من أقرب طريق وبدون أن تجرِّب مسالك متعددة كما يحدث لكثير من الحيوانات غيرها. فسلوك البعامة إذن قد نُظِّم قبل أن تفعل شيئًا، وقد أطلق كوهلر على هذا مصطلحًا هو «التناسق».

ولكي نقرب المصطلح من أذهاننا فيحسن أن نشير إلى بعض التجارب التي أجراها سكوت، فقد ربَّى بعض الجراء من عمر ستة أسابيع في غرفة مستطيلة لا حواجز فيها على الإطلاق، ثم أخذها إلى غرفة مختلفة وأخذ يطعمها يومين متتاليين من صحن، وفي اليوم الثالث وضع حاجزًا عاليًا طوله ست أقدام أمام الصحن، وكان الجرو مستطيعًا أن يرى الصحن من خلال فتحة صغيرة فيه إذا ما كان قريبًا من الحاجز، وقد لاحظ أن الجراء سلكت سلوكًا مختلفًا، فأنجحها هي التي حاولت أن تخترق الحاجز، ثم دارت إلى أحد طرفيه وجالت ببصرها حوله ثم عادت إلى الطرف الآخر، ثم عرفت طريقها إلى الصحن، ويوحي سلوكها بأنها كانت تفحص الموقف ثم تصل في النهاية إلى حلٍّ بعد الفحص، على أن من الجراء ما كان نصيبها من النجاح أقل؛ فقد قامت بمحاولات شتى وهي تجري بعيدة عن الفتحة، أي إن سلوكها كان فيه تنوُّع، على أنها في النهاية كانت تقف عن النباح وتجول ببصرها وهي هادئة، ثم تقوم برحلة كشفية تؤدي بها إلى الهدف. وبعد أن تنجح الجراء في الاختبار، كان هذا يُعاد عليها مرتين حتى تتعود الموقف، وكانت تتحسن كثيرًا في المرتين الأخيرتين، ثم إن الاختبار صُعِّب عليها بإضافة حاجزين آخرين عند طرفي الحاجز العريض بحيث أصبح طول الحاجز ثماني عشرة قدمًا، فكان بعض الجراء يتجه إلى الهدف مباشرة بينما لم يستطع بعضها الآخر سوى الجري حتى طرف الحاجز الأول؛ ومن هذا نخلص إلى أن المجموعة الأولى من الجراء قد فعلت ما فعله البعام؛ لأنها قد قرنت بين النجاح والجري حتى نهاية الحاجز، أي إنها قد نظمت من سلوكها الحركي بحيث لم تدخل في محاولة التجربة والخطأ، أما المجموعة الثانية فقد قرنت بينه وبين الجري مسافة قصيرة.

والبعام التي أجرى عليها كوهلر تجاربه حيوانات كما نعرف ذات قدرة عالية على الإمساك بالأشياء نظرًا لأن إبهام يدها أو إبهام قدمها تستطيع أن تتقلب على الأصابع الأخرى كما في يد الإنسان. وفي إحدى هذه التجارب علق كوهلر موزًا في سقف الحجرة ونثر بعض الصناديق على أرضها، فوجد البعامة تضع الصناديق صندوقًا فوق صندوق، حتى توصَّلت إلى الموز، وفي تجربة أخرى وضع موزًا خارج قفصها وأعطاها عصًا، فكانت تجذب الموز إليها بالعصا، وتارة كانت مستطيعة أن تركِّب عصًا في داخل عصًا أخرى مجوفة لتصل بهما إلى الموز.

من هذا يتضح أن الحيوانات قادرة على تنظيم سلوكها إلى درجة عالية، وذلك بخلاف ذلك السلوك الذي ولد معها بالوراثة والذي يُشار إليه عادة بالغرائز، ومن أبسط أنواع التنظيم وأحبها لمعظم الحيوانات ذلك الذي نسمِّيه السلوك الحركي أو التنظيم على أساس الحركة، فالفأر الذي فحص حظيرة ذات ممرات معقدة متشعبة سوف ينطلق بكلِّ قوة أُوتِيها وبسرعة فائقة إذا ما طارده فأر آخر، بل إنه سوف يجتاز عقبات لم تكن موجودة من قبل طالما أنه يراها في أثناء المطاردة، فالفأر حينئذٍ قد نظَّم سلوكه على هيئة سلسلة من التحركات يتذكرها.

غير أن تجارب كوهلر توحي باحتمال وجود بعض من تنظيم السلوك لا يرتكز على القاعدة التي أشرنا إليها توًّا، فالبعامة التي أُعطِيت عصًا لتصل بها إلى الموز قد تخيَّلت المشكلة كلها وربما أحسَّت بها، وبدون تجربة أو خطأ أمسكت بالعصا ووصلت بها إلى الموز أو ركبت إحدى العصوَيْنِ في الأخرى لتصل بهما معًا إلى الموز (شكل ٦-١)، وبطبيعة الحال يصل هذا التخيُّل أو تصور المشكلة إلى منتهاه في البشر.
fig6
شكل ٦-١: يبيِّن قدرة البعامة على وضع عصًا في داخل عصًا للوصول إلى ثمرة بعيدة عن متناول يديها (عن سكوت).

وثمة طرق مختلفة يمكن أن يُنظَّم السلوك بها، فمن الممكن أن تنظِّم الحيوانات دنياها على أساس السمع والشم بالإضافة إلى المنبهات المرئية والحركية، على أن هذا كلَّه في حاجة إلى توكيد بالتجارب بطريقة غير مباشرة، ولا بدَّ من رسم الاحتياطات الكاملة لتجنُّب أخطاء التشبيهية الإنسانية ومساعدة الإنسان للحيوان مساعدة غير مقصودة (كما حدث مع الحصان الشاطر هانز)، وعلى أيَّة حال فإننا مستطيعون أن نصل إلى نتيجة هامَّة، وهي أن الحيوانات وبخاصة الثدييات قادرة على تنظيم سلوكها إلى درجة كبيرة بدون استخدام الرموز الكلامية الشفوية كما يحدث في التعقل الإنساني والسببية، وفي واقع الأمر إن كثيرًا من النتائج توحي بأن استخدام التعقل والسببية، أو التفكير الشفوي في البشر ليس شائعًا كما هو مفروض، وأن الناس في كثير من مواقفهم العملية قد يستخدمون أنواعًا من التنظيم السلوكي البدائية الموجودة في الحيوانات، والتعقل الشفوي غالبًا ما يكون بطيئًا معطلًا ولا يلائم الطوارئ العملية، وتكمن فائدة اللغة أساسًا في الإعلام بالكلام أو النطق، وأهمية هذه تتضح جليًّا في أن كثيرًا من المسائل يمكن نقلها بسرعة من فرد إلى آخر.

ويمكن الانتهاء إلى أن للسلوك أسبابًا معينة وأن هذه الأسباب موجودة عند مستويات التعضي كلها؛ أي عند الأوليات الحيوانية التي تتركب أجسامها مما يشبه الخلية الواحدة، إلى الثدييات التي وصلت إلى مرحلة عالية من البناء التشريحي والحسي، كما أنها موجودة أيضًا عند مستويات مختلفة أخرى؛ منها المستوى البيئي والمستوى الاجتماعي والمستوى السيكولوجي؛ أي مستوى الفرد، والمستوى الفسيولوجي والمستوى الوراثي. فعند مستوى الفرد نجد السلوك أساسًا تكيفيًّا، ففي جميع الحيوانات يُوجَد عدد من النماذج الأساسية للتكيُّف، كسلوك الاغتذاء والسلوك الجنسي وغيرهما، وأن كلَّ نوع من أنواع هذا السلوك ذو مسبِّبات أو منبِّهات، وأهم النظريات العامة في السلوك هي نظرية المنبه والاستجابة له، وهي في معناها العام تعني أن المنبه تغيير وأن الاستجابة له محاولة للتكيُّف لهذا التغيير، فكأن أهم سبب من أسباب السلوك إذن هو تغيُّر بيئي، فإذا ما تدرَّجنا إلى أسباب السلوك عند مستوى الأعضاء وأجهزة الجسم نجد أن للمقدرات الحسية والحركية تأثيرًا عظيمًا على السلوك، ومن أجدر هذه بالذكر القدرة على القبض على الأشياء والإمساك بها، فالحيوان القادر على فعل هذا مستطيع أن يكيِّف نفسه لبيئته أكثر من غيره، فهو مستطيع أن يتغير وأن يكيِّف البيئة لصالح نفسه، وينبع من هذا أن للحيوانات ذات القدرات العالية على الإمساك بالأشياء مدًى واسعًا من التكيف وشهرة حسنة بذكائها، ونستطيع أن ننسج على نفس المنوال ونفس المستوى لنجد أن خلف كلِّ طراز كبير من السلوك سلسلة طويلة من الأسباب الفسيولوجية، ففي سلوك الاغتذاء تُجرَى تغييرات داخلية تنبعث من العمليات الحيوية التي تُجرَى في الجسم، فمنبِّه الجوع وغيره مستقل عن التغيرات الخارجية، كما أنها تحدث تأثيرات هامة على السلوك، على أن بعض طُرُز التكيُّف الأخرى كسلوك العراك والاقتتال، تكون فيها التغييرات الداخلية مضبوطة تمامًا بالتنبيه الخارجي وهلم جرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤