الفصل الثالث

الأدلة المؤيِّدة للتطور: أوجه الشبه والاختلاف بين الكائنات

تفسِّر نظريةُ التطور تنوُّعَ الحياة، بكل الاختلافات المعروفة جيدًا بين أنواع الحيوانات والنباتات والميكروبات المختلفة، كما أنها تفسِّر أيضًا أوجُه الشَّبَه الأساسية بين هذه الكائنات؛ وأوجه الشبه هذه تكون في المعتاد جَلِيَّة عند المستوى السطحي للسمات المرئية من الخارج، ولكنها أيضًا تمتدُّ إلى أدقِّ تفاصيل البِنْية الميكروسكوبية والوظائف البيوكيميائية. سوف نناقش تنوع الحياة في موضع لاحِق (في الفصل السادس)، ونَصِف الكيفية التي تفسِّر بها نظريةُ التطور ظهورَ الأشكال الجديدة من أسلافها القديمة، لكننا سنركِّز هنا على وَحْدة الأنواع الحية. علاوةً على ذلك، سنستعرض العديدَ من الحقائق البيولوجية الأساسية التي ستُبنَى عليها الفصول اللاحقة.

أوجه الشَّبَه بين مجموعات الأنواع المختلفة

fig1
شكل ٣-١: (أ) رسم توضيحي لأيدي (ي) وأقدامِ (ق) عددٍ من أنواع الرئيسيات، يبيِّن أوجهَ الشبه بين الأنواع المختلفة، مع ارتباط الاختلافات بطريقة معيشة الحيوان، مثل الأصابع المتعاكسة للأنواع المتسلِّقة (مثال: جنس هايلوبيتيز هو قرد جيبون، والمكاك هو المكاك الريصي، أما جنسا نيكتثيبس وتارسيوس فهما رئيسيات شجرية بدائية). (ب) رسم توضيحي لهيكلين عظميين لخفاش وطائر، يُبيِّن أوجهَ الشَّبَه والاختلاف بينهما.
توجد أوجه شبه — حتى بين الأنواع المتبايِنة تبايُنًا واسعًا — على كل مستوًى، بدايةً من التشابهات المرئية من الخارج، ووصولًا إلى التشابهات العميقة في دورات الحياة وتركيب المادة الوراثية. وهذه التشابهات قابلة للرَّصْد، لا شك، حتى بين أنواع يختلف بعضها عن بعض اختلافَ البشر عن البكتيريا. وهذه التشابهات لها تفسير طبيعي مُباشِر يتمثَّل في فكرة أن الكائنات مرتبطٌ بعضُها ببعض عن طريق عمليةِ انحدارٍ تطورية من أسلاف مشتركين. والبشر أنفسهم تجمعهم أوجه شبه بالقِرَدة العُلْيا، كما هو موضَّح في الشكل ٣-١أ، بما فيها أوجه شبه في السمات الداخلية مثل بنية أدمغتنا وتنظيمها. تجمعنا أوجه شبه أقل مع السعادين، وأوجه أقل — وإن كانت واضحة للغاية — مع الثدييات الأخرى، بالرغم من كل ما يوجد بيننا وبينها من اختلافات. تجمع أوجهُ شبهٍ عدة بين الثدييات وبين الفقاريات الأخرى، بما في ذلك الملامح الأساسية لأعمدتها الفقرية، وأجهزتها الهضمية والدورية والعصبية؛ بل إنَّ الأكثرَ إدهاشًا من ذلك التشابهاتُ الموجودة بين الثدييات وكائنات مثل الحشرات، مثل بنية أجسامها المقسَّمة والحاجة المشتركة للنوم، والتحكم في إيقاعات النوم والاستيقاظ اليومية، والتشابهات الأساسية في الكيفية التي تعمل بها الأعصاب في أنواع الحيوانات المختلفة، خلاف ملامح أخرى.

لطالما بُنِيت أنظمةُ التصنيف البيولوجي على الخصائص البنيوية المرئية بسهولة؛ فعلى سبيل المثال، وحتى قبل الدراسة العلمية للأحياء: كانت الحشراتُ تُعامَل بوَصْفها مجموعةً من الكائنات المتشابهة، وكانت قابلة للتميز على نحو واضح عن المجموعات الأخرى من اللافقاريات، مثل الرخويات، من خلال امتلاكها جسمًا مقسمًا، وستة أزواج من الأرجل المفصلية، وغطاءً واقيًا خارجيًّا صلبًا، وغيرها من الخصائص. تتقاسم الحشراتُ العديدَ من هذه السمات مع أنواع أخرى من الحيوانات مثل الكابوريا والعناكب، إلَّا أن عدد الأرجل قد يتبايَن (ثماني أرجل في حالة العناكب). هذه الأنواع المختلفة كلها مُجمَّعة في شعبة واحدة كبيرة، هي شعبة المفصليات. تتضمن المفصلياتُ الحشراتِ، وضمن الحشرات يشكِّل الذباب مجموعة منفصلة تتميز بحقيقة أنها تملك زوجًا واحدًا من الأجنحة، علاوة على العديد من السمات الأخرى المشتركة. تشكل الفراشات والعُثَث مجموعةً أخرى من مجموعات الحشرات، يملك أفرادُها جميعًا حراشفَ دقيقةً على زوجَيِ الأجنحة اللذين تملكهما. ومن بين الذباب نميِّز الذبابة المنزلية وقريباتها من المجموعات الأخرى عن طريق سمات مشتركة، ومن بين هذه نُسمِّي «الأنواع» الفردية، مثل الذبابة المنزلية الشائعة «موسكا دومستيكا». الأنواع بالأساس هي مجموعات من أفراد متشابهين قادرين على التناسل فيما بينهم، وتُجمَّع الأنواعُ المتشابهة في «الجنس» ذاته، وهي مجموعة يربط بين أفرادها سماتٌ لا تشاركها معها الأجناسُ الأخرى. يعرِّف علماء الأحياء كل نوع قابل للتمييز بِاسْمَيْن؛ اسم الجنس متبوعًا باسم النوع نفسه، مثل الإنسان العاقل أو «هومو سابينز»؛ فكلمة هومو هي اسم الجنس، وسابينز هو النوع.

مثلت الملاحظة التي تقضي بأنه يمكننا تصنيف الكائنات هرميًّا إلى مجموعات — تتشارك على نحو متزايد في المزيد والمزيد من السمات التي تفتقر إليها مجموعات أخرى — تقدُّمًا مُهمًّا في علم الأحياء. وقد تطورت عملية تصنيف الكائنات إلى أنواع، ومنظومة التسمية الخاصة بالأسماء، قبل داروين بوقت طويل؛ فقبْلَ أن يَبدَأ علماء الأحياء التفكير في تطور الأنواع، كان من المهم على نحو واضح أن يكون لديهم مفهوم الأنواع بوصفها كيانات متمايزة. والسبيل الأبسط والأكثر طبيعيةً لتفسير النمط الهرمي للتشابهات هو أن الكائنات الحية تطورت على مرِّ الزمن، بدايةً من أشكال قديمة تمايزت كي تنتج المجموعات الموجودة على قيد الحياة اليومَ، علاوةً على عدد لا يُحصى من الكائنات المنقرضة (انظر الفصل الرابع). وكما سنناقش في الفصل السادس، من الممكن الآن تبيُّن هذا النمط المستدلِّ عليه لعلاقات النَّسَب بين مجموعات الكائنات، عن طريق الدراسة المباشرة للمعلومات الموجودة في مادتها الوراثية.

ثمة مجموعة أخرى من الحقائق تدعم بقوة نظرية التطور، وهي تأتينا من التعديلات التي نجدها في البنية ذاتها داخل الأنواع المختلفة؛ على سبيل المثال: تُشير عظام أجنحة الخفافيش والطيور بوضوح إلى أنها أطراف أمامية معدَّلة، بالرغم من أنها تبدو مختلفة للغاية عن الأطراف الأمامية للفقاريات الأخرى (الشكل ٣-١ب). وبالمِثْل، بالرغم من أن زعانف الحيتان تبدو مشابهة للغاية لزعانف الأسماك، ومن الواضح أنها مكيَّفة بحيث تلائم السباحة، فإن بِنْيَتها الداخلية تُشبِه أقدام الثدييات الأخرى، باستثناء وجود عدد أكبر من الأصابع. هذا أمر منطقي، في ضوء الأدِلَّة الأُخرى التي تُشِير إلى أن الحيتان ثدييات معدَّلة (على سبيل المثال: تتنفس الحيتان باستخدام الرئة وتُرضِع صغارَها). تُبيِّن الأدلة المأخوذة من الحفريات أن زوجَيِ الأطراف للفقاريات الأرضية منحدران من زوجَيِ الزعانف الخاصة بالأسماك اللَّحْمِيَّات الزعانف (التي تُعدُّ شوكياتُ الجوف أشهرَ أمثلتها الحية، انظر الفصل الرابع). في الواقع، كان لدى أقدم أنواع الفقاريات الأرضية أكثر من خمسة أصابع في كل طرف من أطرافها، تمامًا كالأسماك والحيتان. مثال آخَر: العظامُ الصغيرة الثلاث الموجودة في آذان الثدييات، التي تنقل الصوتَ من الخارج إلى العضو المسئول عن تحويل الصوت إلى إشارات عصبية؛ هذه العظام الصغيرة تتطوَّر من أعضاء بدائية في فك وجمجمة الجنين، وفي الزواحف تتضخَّم هذه العظام خلال مرحلة النمو كي تؤلِّف أجزاءً من هيكل الرأس والفك، وتُظهِر الحفرياتُ الوسيطة التي تربط الزواحفَ بالثدييات وجودَ تعديلات متتالية لهذه العظام لدى البالغين، والتي تتطوَّر في النهاية إلى عظام أُذُن. هذه أمثلة قليلة فحسب للعديد من الحالات المعروفة التي خضعتْ فيها البنيةُ الأساسية ذاتها لتعديل بالِغ على مدار تطوُّرها، مدفوعةً بالمطالب التي تفرضها الوظائفُ المختلفة.

النمو الجنيني والأعضاء اللاوظيفية

fig2
شكل ٣-٢: (الشكل العلوي لجنين بشري، مأخوذ من «إيكر». الشكل السفلي لجنين كلب، مأخوذ من «بيشهوف».) رسم توضيحي لجنين بشري وجنين كلب، يُبيِّن التشابُه الكبير بينهما في هذه المرحلة من النمو. الشقوق الخيشومية المسمَّاة الأقواس الحشوية (و، ز) في الشكل واضحة للغاية. الرسم مأخوذ من كتاب داروين «أصل الإنسان والانتخاب الجنسي» (١٨٧١).
يقدِّم النمو الجنيني العديدَ من الأمثلة البارزة الأخرى على التشابهات بين مجموعات الكائنات المختلفة، التي تُشِير بوضوح إلى الانحدار من سلف مشترك. إن الأشكال الجنينية للأنواع المختلفة تكون في المعتاد متشابهة بدرجة كبيرة، حتى حين تكون الأنواع البالغة مختلفة للغاية؛ على سبيل المثال: في إحدى مراحل نمو الثدييات، تَظهَر شقوق خيشومية تشبه تلك الموجودة في أجنة الأسماك (الشكل ٣-٢)، وهذا أمر منطقي للغاية لو أننا ننحدر من أسلاف تشبه الأسماك، بَيْدَ أنه يصير أمرًا مستحيلَ التفسير لو كان الحال غير ذلك. وبما أن البِنَى البالِغة هي التي تكيِّف الكائن مع بيئته، فمن المرجَّح بدرجة كبيرة أن تخضع للتعديل بواسطة الانتخاب. من المرجَّح أن تتطلب الأوعية الدموية النامية وجود شقوق خيشومية كي ترشدها للتكوُّن في المواضع الصحيحة، بحيث يتم الاحتفاظ بهذه البِنَى، حتى في الحيوانات التي لا تملك خياشيمَ عامِلةً؛ ومع ذلك، يمكن لعملية النمو أن تتطور. وفي العديد من التفاصيل الأخرى، تنمو الثدييات على نحو مختلف للغاية عن الأسماك، وهو ما جعل بِنًى جنينية أخرى — تحمل أهميةً أقلَّ في عملية النمو — تختفي، وسبَّبَ اكتسابَ بنًى أخرى جديدةٍ محلَّها.

ليست أوجه الشبه مقصورة على المراحل الجنينية فحسب، فلقد تنبَّهنا منذ زمن إلى أن «الأعضاء اللاوظيفية» ما هي إلا بقايا لبِنًى كانت عامِلة في أسلاف الكائنات الموجودة حاليًّا. إن تطوُّرها مُثِير للاهتمام كثيرًا، لأن هذه الحالات يُمكِنها أن تُخبِرنا بأن التطور لا يَخلق دومًا بنًى جديدة أو يُحسِّنها، وإنما في بعض الأحيان يختزلها. ومن الأمثلة المعروفة لذلك الأمرِ الزائدةُ الدودية لدى الإنسان، التي هي نسخة مختزلة من جزء كبير الحجم من القناة الهضمية لدى قِرَدة الأورانج أوتان. أيضًا الأطراف اللاوظيفية لدى الكائنات عديمة الأرجل معروفة بدرجة كبيرة، وقد عُثِر على حفريات لثعابين بدائية لها أطراف خلفية كاملة تقريبًا، وهو ما يُشِير إلى أن الثعابين تطورت من أسلاف أشبه بالسحالي تملك أرجلًا. يتكون جسد الثعبان في وقتنا الحالي من صدر مستطيل، به عدد كبير من الفقرات (أكثر من ٣٠٠ لدى ثعبان البايثون). في البايثون، الانتقال من الجسم إلى الذيل يميِّزه فقرات ليس بها أضلاع، وفي هذا الموضع يمكن العثور على بقايا الأطراف الخلفية. يوجد حزام حوضي وزوج من عظام الفخذ الضامرة التي يتبع نموها المسار الطبيعي في الفقاريات الأخرى، مع ظهور لنفس الجينات التي تتحكم في المعتاد في نمو الأطراف. ويمكن تطعيم جناح فرخ طائر بنسيج الطرف الخلفي للبايثون من أجْل حثِّه على تكوين إصبع إضافي، وهو ما يُبيِّن أن تلك الأجزاء من منظومة الأطراف الخلفية النمائية لا تزال موجودة في البايثون. أما أنواع الثعابين الأكثر تقدمًا فهي عديمة الأطراف بالكامل.

التشابه في الخلايا وفي الوظائف الخلوية

ليست أوجه الشبه بين الكائنات مقصورة فقط على الخصائص المرئية؛ فتلك الأوجه عميقة وتمتد حتى أصغر مستوًى ميكروسكوبي، وحتى أكثر جوانب الحياة جوهريةً. من السمات الأساسية لكل الحيوانات والنباتات والفطريات هي أن أنسجة تلك الكائنات تتألَّف بالأساس من الوحدات عينها؛ «الخلايا». إن الخلايا هي العنصر الأساسي في أجسام كل الكائنات خَلَا الفيروسات، بدايةً من الخميرة والبكتيريا الوحيدة الخلية، وانتهاءً بالأجسام العديدة الخلايا ذات الأنسجة المتمايزة كتلك الموجودة في الثدييات. في جميع حقيقيات النوى (ونعني بهذا كل صور الحياة الخلوية غير البكتيرية) تتألَّف الخلايا من «سيتوبلازم» و«نواة» موجودة داخله تحتوي على المادة الوراثية (الشكل ٣-٣)؛ والسيتوبلازم ليس فقط سائلًا موجودًا داخل غشاء الخلية تطفو فيه النواة، بل هو يحتوي على مجموعة معقَّدة من الآلات الدقيقة التي تتضمَّن بنًى دون خلوية، من أهم تلك «العُضيات» الخلوية كلٌّ مِن الميتوكندريات التي تولد طاقة الخلية، وصانعات الكلوروفيل التي تحدث داخلها عملية التمثيل الضوئي في النباتات الخضراء. ومن المعروف الآن أن الاثنين كِلَيهما منحدران من بكتيريا كانت تستعمر الخلايا واندمجت بها لتصير من مكوناتها الأساسية. البكتيريا أيضًا خلايا (الشكل ٣-٣)، لكنها خلايا أبسط ليس بها نواة أو عضيات، ويُطلَق عليها وعلى الكائنات المشابهة اسم «بدائيات النوى». أما الصورة غير الخلوية الوحيدة من صور الحياة — الفيروسات — فهي كائنات طفيلية تتكاثَر داخل خلايا الكائنات الأخرى، وتتكون ببساطة من غلاف بروتيني يُحيط بمادتها الوراثية.
fig3
شكل ٣-٣: خلايا الكائنات البدائية النوى والكائنات الحقيقية النوى. (أ) صورة بالميكروسكوب الإلكتروني ورسم يدوي لجزء من خلية مأخوذة من بنكرياس حيوان ثديي، يُبيِّنان النواة المحتوية على الكروموسومات داخل الغشاء النووي، والمنطقة الموجودة خارج النواة والمحتوية على العديد من الميتوكندريات (هذه العضيات أيضًا لها أغشية تحيط بها)، وبنًى شبيهة بالأغشية تشترك في عملية تصنيع البروتينات وتصديرها، علاوة على اشتراكها في استيراد المواد إلى داخل الخلية. الميتوكندريون أصغر بقدر ما من الخلية البكتيرية. (ب) صورة بالميكروسكوب الإلكتروني ورسم يدوي لخلية بكتيرية يبينان بنيتها البسيطة؛ إذ إن لها جدارًا خلويًّا والحمض النووي (دي إن إيه) غير محصور داخل نواة.

الخلايا مصانع بالغة التعقيد فائقة الصغر تصنِّع المواد الكيميائية التي تحتاجها الكائنات، وتولد الطاقة من مصادر الغذاء، وتنتج بنًى جسمانية مثل عظام الحيوانات. أغلب «الآلات» والعديد من البنى الموجودة داخل تلك المصانع هي «بروتينات». بعض البروتينات عبارة عن «إنزيمات» تأخذ مادة كيميائية وتقوم بأداء مهمة معينة عليها، مثل قص مركَّب كيميائي إلى مكونين منفصلين، وكأنها مقص كيميائي. والإنزيمات المستخدمة في المنظفات البيولوجية تقص البروتينات (كبروتينات الدم والعَرَق) إلى قِطَع أصغر يمكن إزالتها عند غسيل الملابس المتسخة، وتقوم إنزيمات مشابهة في أحشائنا بتكسير الجزيئات الموجودة في الغذاء إلى قِطَع أصغر يمكن للخلايا الاستفادة منها. البروتينات الأخرى في الكائنات الحية تؤدِّي وظائف تتعلَّق بالتخزين أو النقل؛ فالهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء يحمل الأكسجين، ويقوم بروتين موجود في الكبد يُدعَى الفيريتين بتثبيت الحديد وتخزينه، وهناك أيضًا بروتينات بِنَوية، كالكيراتين الذي يكوِّن الجِلْد والشعر والأظافر. علاوةً على ذلك، تصنع الخلايا البروتينات التي توصل المعلومات إلى الخلايا الأخرى وإلى الأعضاء الأخرى. الهرمونات بروتيناتُ تواصُلٍ مألوفةٌ تدور في مجرى الدم وتتحكم في العديد من الوظائف الجسمانية، وتوجد بروتينات أخرى على سطح الخلية وتشترك في عملية التواصل مع الخلايا الأخرى. هذه التفاعلات تتضمن إرسالَ إشاراتٍ للتحكُّم في سلوك الخلية خلال النمو، والتواصل بين البويضة والحيوان المنوي في عملية الإخصاب، والتعرف على الطفيليات من جانب الجهاز المناعي.

وكما هو الحال في أي مصنع، تخضع الخلايا لضوابط حاكِمة معقَّدة؛ فهي تستجيب للمعلومات الآتية من الخارج (عن طريق البروتينات التي تفتح غشاء الخلية، كثقوب المفاتيح التي تلائم الجزيئات الآتية من العالم الخارجي. انظر الشكل ٣-٤). تُستخدم بروتينات المستقبلات الحسية، مثل مستقبلات الضوء والمستقبلات الشمِّية، في التواصل بين الخلايا وبيئتها، وتُحوَّل الإشارات الكيميائية وإشارات الضوء الآتية من العالم الخارجي إلى نبضات كهربائية تنتقل على امتداد الأعصاب إلى المخ؛ وجميع الحيوانات التي خضعت للدراسة تستخدم بروتينات متشابهة بدرجة كبيرة في عملية استقبال الضوء والمواد الكيميائية. وكمثال على أوجه الشبه التي اكتُشفت في خلايا الكائنات المختلفة، نجد أن بروتين الميوسين (الحركي)، الشبيه بالبروتينات الموجودة في الخلايا العضلية، يشترك في عملية نقل الإشارات في أعين الذباب وفي آذان البشر، وتتسبَّب الطفراتُ التي تحدث للجين المسئول عن هذا البروتين في إحداث أحد أشكال الصمم.
fig4
شكل ٣-٤: مسارات تخليقية حيوية يُصنَع من خلالها الميلانين وصبغة صفراء داخل الخلايا الميلانية للثدييات، من طليعة الحمض الأميني الخاص بها؛ التيروسين. كل خطوة في المسار يحفزها إنزيم مختلف، ويؤدِّي غيابُ إنزيم التيروسيناز النَّشِط إلى ولادة حيوان أمهق. يحدِّد مستقبِل الهرمون المنشِّط للخلية الميلانية المقدارَ النسبي من الصبغات السوداء والصفراء، ويؤدِّي غيابُ مضاد الهرمون إلى تصنيع الصبغة السوداء، بينما يجعل وجودُه المستقبِلَ في وضعية «الإغلاق»، وهو ما يؤدي إلى تكوُّن الصبغة الصفراء. هذه هي الكيفية التي تتشكَّل بها الأجزاءُ الصفراء والسوداء من شعر القطط المنزلية والفئران البنية. الطفرات التي تجعل المضاد غيرَ عاملٍ تتسبَّب في لونٍ أكثرَ دكانةً، لكن في المعتاد لا تكون الحيوانات سوداءَ نتيجةَ هذا، وإنما نتيجة ضبْطِ المستقبِل على وضعية «التشغيل» بغضِّ النظر عن مستوى الهرمون.

صنَّف مختصو الكيمياء الحيوية الإنزيماتِ الموجودةَ في الكائنات الحية إلى أنواع متعددة، وكلُّ إنزيم معروف (ويبلغ عددها آلافًا مؤلَّفة في أي كائن معقَّد كالبشر) له رقمٌ في نظامِ ترقيمٍ دولي. ونظرًا لوجود عدد كبير للغاية من الإنزيمات في خلايا نطاقٍ واسعٍ من الكائنات، يصنِّف هذا النظامُ الإنزيماتِ بحسب الوظيفة التي تؤدِّيها، وليس بحسب الكائن الذي أَتَتْ منه. بعض الإنزيمات، كالإنزيمات الهضمية، تقطع الجزيئات إربًا، والبعض الآخر يربطها معًا، فيما تقوم إنزيمات أخرى بأكسدة المواد الكيميائية (أي ربطها بالأكسجين)، وهكذا دواليك.

والطريقة التي تولَّد بها الطاقة بواسطة الخلايا من مصادر الغذاء واحدةٌ تقريبًا في كل أنواع الخلايا. في هذه العملية يوجد مصدر طاقة (سكريات أو دهون في حالة خلايانا، ومركبات أخرى ككبريتيد الهيدروجين في بعض أنواع البكتيريا). وتأخذ الخلية المركب الأوَّلي عبر سلسلة من الخطوات الكيميائية، بعضها يحرِّر طاقة، وهذه «المسارات الأيضية» منظَّمة على نحو أشبه بخط التجميع؛ إذ تحوي تسلسُلًا من العمليات الفرعية، وكل عملية فرعية تقوم بها «الآلة» البروتينية الخاصة بها. تعمل المسارات نفسُها في نطاق عريض من الكائنات، وتبيِّن الكتبُ الدراسية الحديثة في البيولوجيا المساراتِ الأيضيةَ المُهمَّة دون الحاجة إلى تحديد الكائن الموجودة فيه؛ على سبيل المثال: حين تُرهَق السحالي بعد الجري، فإن هذا الإرهاق يكون ناجمًا عن تراكم حمض اللاكتيك في عضلاتها، مثلما يحدث تمامًا في عضلاتنا. تملك الخلايا مسارات لتصنيعِ مختلفِ أنواع المواد الكيميائية، إضافةً إلى توليد الطاقة من الغذاء؛ على سبيل المثال: بعضٌ من خلايانا يصنع الشعر، وبعضها يصنع العظام، وبعضها يصنع الصبغات، بينما يُنتِج بعضها الآخر الهرمونات … إلخ. والمسارات الأيضية التي تُصنَع بواسطتها الصبغة الجلدية المعروفة باسم الميلانين (الشكل ٣-٤) هي ذاتها في البشر، والثدييات الأخرى، وفي الفراشات ذات صبغات الأجنحة السوداء، بل حتى في الفطريات أيضًا (كما في الأبواغ السوداء مثلًا)، والعديد من الإنزيمات المشتركة في هذا المسار تُستخدم كذلك بواسطة النباتات في صنع اللجنين، وهو المكوِّن الكيميائي الأساسي للخشب. إن التشابه الجوهري للملامح الأساسية للمسارات الأيضية، من البكتيريا إلى الثدييات، يَصير مفهومًا على الفور في ضوء التطور.
كل بروتين من هذه البروتينات المختلفة المرتبطة بالوظائف الجسمانية والخلوية يتحدد بواسطة أحد جينات الكائن، وهو ما سنشرحه بتفصيل أكبر في موضع لاحق من هذا الفصل. يعتمد عمل كل مسار كيميائي حيوي على الإنزيمات الخاصة به، وإذا فشل أي إنزيم داخل أي مسار في العمل، فلن يخرج المنتج النهائي إلى النور، تمامًا مثلما يؤدي الفشل في إحدى العمليات على خط التجميع إلى توقُّف المنتج النهائي؛ على سبيل المثال: تنتج الطفرات الخاصة بالمَهَق بسبب غياب إنزيم ضروري لإنتاج صبغة الميلانين (الشكل ٣-٤). ويُعَدُّ وقفُ خطوةٍ ما في أحد المسارات وسيلةً مفيدة للسيطرة على ناتج الخلية؛ ولهذا تملك الخلايا مثبِّطات تؤدِّي هذه الوظيفة، كما في حالة التحكم في إنتاج الميلانين. في مثال آخَر، البروتين الذي يكوِّن الجلطات الدموية يوجد في الأنسجة، ولكن في صورة قابلة للذوبان، وتتكون الجلطة فقط عند قَطْع جزء من هذا الجزيء السابق. الإنزيم الذي يقطع هذا البروتين موجود أيضًا، لكنه يكون خاملًا عادةً، وحين تتعرَّض الأوعية الدموية لتَلَف، تُطلَق عواملُ تغيِّرُ من إنزيم التجلُّط، بحيث يصير نَشِطًا على الفور، وهو ما يؤدي إلى تجلُّط البروتين.
fig5
شكل ٣-٥: (أ) بنية ثلاثية الأبعاد لبروتين الميوجلوبين (بروتين عضلي شبيه ببروتين خلايا الدم الحمراء الهيموجلوبين)، تظهر الأحماضُ الأمينية المنفردة في سلسلةِ البروتين، مرقَّمة من ١ إلى ١٥٠، وجزيءِ الهيم المحتوي على الحديد الذي يحمله البروتين. يربط الهيمُ الأكسجينَ أو ثاني أكسيد الكربون، ووظيفة البروتين هي حمل هذه الجزيئات الغازية. (ب) بنية الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، ذلك الجزيء الذي يحمل المادة الوراثية في أغلب الكائنات. يتكوَّن الدي إن إيه من شريطين متكاملين، ملتفٍّ أحدهما حول الآخر على شكل لولب. العمود الفقري لكل شريط يتكون من جزيئات السكر الريبوزي المنقوص الأكسجين (S)، مرتبط بعضها ببعض بواسطة جزيئات فوسفات (P). كل جزيء سكر مرتبط بنوع من الجزيئات يُسمَّى النوكليوتيدات، وهذه النوكليوتيدات تؤلِّف «حروف» الأبجدية الوراثية. هناك أربعة أنواع من النوكليوتيدات، وهي: الأدنين (A)، والجوانين (G)، والسايتوسين (C)، والثايمين (T). ترتبط كل نوكليوتيدة بنوكليوتيدة مكمِّلة لها من الشريط الآخَر، وهي الرابطة المُشار إليها بالخطوط المزدوجة، وقاعدة هذا الارتباط هي أن الأدنين يرتبط بالثايمين، والجوانين يرتبط بالسايتوسين. حين يتضاعف الحمض النووي أثناء عملية الانقسام الخلوي، ينفصم الشريطان، ويتم تكوين شريط وليد مكمل من كل شريط أصلي وفق قاعدة الارتباط هذه؛ وبهذه الطريقة، المكان الذي يرتبط فيه الأدنين بالثايمين في الشريط الأب ينتج مكانًا يرتبط فيه الأدنين بالثايمين في كل جزيء شريط وليد.
البروتينات جزيئات كبيرة للغاية تتألَّف من خيوط تتراوح بين بضعة آلاف وبضع مئات من وحدات «الحمض الأميني» الفرعية، كلٌّ منها يرتبط بحمض أميني مجاوِر، مكوِّنًا سلسلة (الشكل ٣-٥أ). وكلُّ حمض أميني جزيءٌ معقَّد بدرجة كبيرة، وله خصائص كيميائية متفردة وحجم متفرد. يُستخدم عشرون حمضًا أمينيًّا في بروتينات الكائنات الحية، وكلُّ بروتين بعينه — على سبيل المثال: الهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء الخاصة بنا — يحتوي على مجموعةٍ مميَّزة من الأحماض الأمينية موضوعةٍ في ترتيب محدَّد، وعند وجود الأحماض الأمينية في تتابعها الصحيح، تلْتفُّ سلسلة البروتين على نفسها في شكل بروتين عامل. والبنية المعقدة الثلاثية الأبعاد للبروتين تتحدد بالكامل بواسطة تتابع الأحماض الأمينية في السلسلة أو السلاسل المكوِّنة له، وبدوره يتحدد هذا التتابع بالكامل بواسطة تتابع الوحدات الكيميائية للدي إن إيه (الشكل ٣-٥ب) الخاص بالجين الذي ينتج البروتين، كما سنشرح بعد قليل.

إن الدراسات التي تناولت البنى الثلاثية الأبعاد للإنزيمات أو البروتينات نفسها، في أنواع مختلفة اختلافًا عريضًا؛ تُظهِر أن هذه الإنزيمات أو البروتينات عادةً ما تكون متشابهةً للغاية عبر مسافات تطورية هائلة، كتلك الموجودة بين البكتيريا والثدييات، حتى لو كان تتابع الأحماض الأمينية قد تغيَّر كثيرًا. مثال على ذلك: بروتين الميوسين الذي تحدَّثنا عنه من قبلُ، المشترك في عملية نقل الإشارات في أعيُن الذباب وآذان البشر. هذه التشابهات الجوهرية إنما تعني، على نحوٍ مُثِير للذهول، أنه من الممكن عادةً تصحيحُ عيبٍ أيضي في خلايا الخميرة عن طريق إدخال جين حيواني أو نباتي فيها تكون له الوظيفة عينها؛ فخلايا الخميرة التي بها طفرة تتسبب في عجْزها عن امتصاص النشادر «عُولِجت» عن طريق إدخال جين بشري في خلاياها (الجين المسئول عن بروتين مجموعة الدم الريصي، آر إتش جي إيه، الذي اشتُبِه في أن له وظيفة ذات صلة). إن النسخة الطبيعية (غير المتحوِّرة) لهذا البروتين لدى الخميرة، بها العديد من الاختلافات المتعلقة بالأحماض النووية مقارَنةً بنسخة البشر، ومع ذلك يستطيع الجينُ البشري في هذه التجربة أداءَ وظيفته في خلايا الخميرة التي تفتقر إلى نسخة طبيعية خاصة بها. تخبرنا نتيجة هذه التجربة أيضًا أن أي بروتين به تغيير في تتابع الأحماض الأمينية الخاصة به يستطيع العملَ أحيانًا بشكل طيب.

الأساس الوراثي واحد لدى الكائنات كافة

إن الأساس المادي للوراثة متشابه على نحو جوهري في جميع الكائنات الحقيقية النوى (الحيوانات والنباتات والفطريات). وفهمنا لآلية الوراثة — ونعني بهذا تحكُّمَ الكيانات المادية، التي نسمِّيها الآن «الجينات»، في الخصائص العديدة المختلفة للأفراد — جاءنا أول ما جاء من دراسة جريجور مندل لنبات البازلاء في حديقته، لكن قواعد الوراثة عينها تنطبق على النباتات الأخرى والحيوانات، بما فيها البشر. إن الجينات التي تتحكم في إنتاج الإنزيمات الأيضية وغيرها من البروتينات (ومِن ثَمَّ تحدد سمات الفرد) هي تتابعات من الدي إن إيه محمولة داخل «الكروموسومات» الموجودة في كل خلية (الشكلان ٣-٦ و٣-٧). وقد اكتشفنا للمرة الأولى أن الكروموسومات تحمل جينات الكائن في تنظيم خطي في ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، لكن الأمر ينطبق على حد سواء على جينوم البشر أيضًا. من الممكن أن يتغير ترتيب الجينات على الكروموسوم خلال عملية التطور، بَيْدَ أن هذه التغيرات نادرة الحدوث، بحيث إنه يمكن العثور على مجموعات من الجينات نفسها بالترتيب نفسه في الجينوم البشري وفي كروموسومات ثدييات أخرى كذلك كالقطط والكلاب. الكروموسوم بالأساس عبارة عن جزيء دي إن إيه طويل للغاية يشفِّر مئات أو آلاف الجينات. والدي إن إيه الخاص بالكروموسوم يتَّحِد مع جزيئات بروتينية تساعد على حَزْم الدي إن إيه في لفائف منتظمة داخل نواة الخلية (وهذه الجزيئات البروتينية تشبه الربطات التي تعمل على تجميع أسلاك الكمبيوتر على نحو منظَّم).
fig6
شكل ٣-٦: مخطط لزوج من الكروموسومات، مع رسم توضيحي لمنطقة صغيرة مكبَّرة لتوضيح ثلاثة جينات موجودة في هذه المنطقة من الكروموسوم، مع وجود دي إن إيه غير مشفِّر بين هذه الجينات. الجينات الثلاثة المختلفة مرسومة بدرجات مختلفة من اللون الرمادي كي تشير إلى أن كل جين يشفِّر بروتينًا مختلفًا. في الخلية الحقيقية، بعض البروتينات فقط ستُنتَج، بينما ستُكبَح جينات أخرى بحيث لا تتكون البروتينات الخاصة بها.
fig7
شكل ٣-٧: رسم توضيحي لخلية منقسمة من خلايا الدودة الخيطية، يبيِّن الكروموسوماتِ وهي لم تَعُدْ محصورةً داخل غشاء النواة (أ)، ومراحلَ متعدِّدةً في عملية الانقسام (ب، ﺟ)، وأخيرًا الخليتين الوليدتين، كلٌّ منهما بها نواة محاطة داخل غشاء (د).
في حقيقيات النوى الأعلى، كالبشر، تحتوي كل خلية على مجموعةٍ واحدة من الكروموسومات مأخوذةٍ من الأم عن طريق نواة البويضة، ومجموعةٍ أخرى مأخوذةٍ من الأب عن طريق الحيوان المنوي (الشكل ٣-٦). في البشر، يوجد ثلاثة وعشرون كروموسومًا في أي مجموعة خاصة بالأب أو بالأم، بينما في ذبابة «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، المستخدمة في الكثير من الأبحاث الوراثية، يكون عدد الكروموسومات خمسة (منها واحد صغير للغاية). وتحمل الكروموسوماتُ المعلوماتِ المطلوبةَ لتحديد تتابعات الأحماض الأمينية التي تُحدِّد أي البروتينات ستُنتَج بواسطة خلية الكائن.
ما هو الجين؟ وكيف يحدد بنية البروتين؟ الجين تتابع من أربعة «أحرُف» كيميائية (الشكل ٣-٥) من «الشفرة الوراثية»، فيه تتوافق مجموعات من ثلاثة أحرُف متجاوِرة (ثلاثيات) مع كل حمض أميني في البروتين الذي يكون الجين مسئولًا عن تصنيعه (الشكل ٣-٨). بعد ذلك «يُترجَم» التتابع الجيني إلى التتابع الخاص بسلسلة بروتينية، وهناك ثلاثيات تميز نهاية سلسلة الحمض الأميني. يسبب تغير التتابع الجيني حدوث طفرة، وأغلب التغيرات من هذا النوع ستؤدي إلى وضع حمض أميني مختلف داخل بروتين عند تصنيعه (لكنْ نظرًا لوجود ٦٤ تجميعة ثلاثية ممكنة من حروف الدي إن إيه، واستخدام ٢٠ حمضًا أمينيًّا فقط في البروتينات، بعض الطفرات لا تُغيِّر التتابع البروتيني). وعلى امتداد النطاق الكامل للكائنات الحية، تختلف الشفرة الوراثية بقدْرٍ طفيف للغاية، وهو ما يوحي بقوة بأن كل أشكال الحياة على الأرض قدِ انحدرت من سلف مشترك. خضعت الشفرة الوراثية للدراسة للمرة الأولى في البكتيريا والفيروسات، لكن سريعًا ما فُحِصت ووُجِد أنها هي نفسها الموجودة في البشر، وقد رُصِدت كل طفرة ممكنة يمكن لهذه الشفرة توليدها في تتابع بروتين خلايا الدم الحمراء البشرية؛ الهيموجلوبين، وفي المقابل لم تحدث أية طفرة يستحيل حدوثُها باستخدام هذه الشفرة المحددة.
fig8
شكل ٣-٨
شكل ٣-٨: تتابعات الدي إن إيه والتتابعات البروتينية الخاصة بجزء من الجين المسئول عن مستقبِل الهرمون المنشِّط للخلية الميلانية الموضَّح في الشكل رقم ٣-٤، في الإنسان وفي عدد من الثدييات الأخرى. يبيِّن الشكل ٤٠ حمضًا أمينيًّا فقط من إجمالي ٩٥١ حمضًا أمينيًّا داخل البروتين. تتابعات الدي إن إيه البشرية معروضة بالأعلى، مع مسافات بين مجموعات حروف الدي إن إيه الثلاثية، أمَّا التتابعات البروتينية فمعروضة في الصفَّيْن المظلَّلَيْن بالرمادي الفاتح أسفلها (باستخدام شفرة ثلاثية الحروف للأحماض الأمينية المختلفة). الأنواع الأخرى موضَّحة أسفلهما. في الموضع الذي تختلف فيه تتابعات الدي إن إيه عن التتابعات البشرية، طُبع الحرف بحرف كبير. الثلاثيات التي تتضمن اختلافًا عن التتابعات البشرية، لكنها تشفِّر الأحماض الأمينية نفسها كما في الإنسان، موضوعة تحتَها نجمةٌ صغيرة، أمَّا الثلاثيات التي تشفِّر اختلافات عن التتابعات البروتينية البشرية، فمميَّزة بلون رمادي غامق. العديد من الأشخاص ذوي الشعر الأحمر لديهم نسخة مختلفة من الحمض الأميني في الثلاثي ١٥١.

من أجل تصنيع المنتج البروتيني الخاص بتتابع الدي إن إيه الخاص بالجين، يُنسَخ أولًا هذا التتابع إلى «رسالة» مصنوعة من جزيء مشابِه، هو الحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه)، الذي يُنسَخ تتابُعُ «الحروف» الخاص به من ذلك التتابُعِ الخاص بالجين بواسطة إنزيم نسخ. تتفاعل رسالة الآر إن إيه مع آلة خلوية معقدة، مؤلَّفة من تجمُّع للبروتينات وجزيئات الآر إن إيه الأخرى، من أجْل ترجمة الرسالة وإنتاج البروتين المحدد بواسطة الجين. هذه العملية واحدة في جوهرها في كل الخلايا، بالرغم من أنها تحدث في حقيقيات النوى داخل السيتوبلازم، ويجب أن تنتقل الرسالة أولًا من النواة إلى مناطق الخلية التي تحدث بها عملية الترجمة. بين الجينات الموجودة على الكروموسومات توجد خيوط من الدي إن إيه لا تشفِّر أي بروتينات، وبعضٌ من هذا الدي إن إيه غير المشفِّر له وظيفة مهمة؛ إذ يكون بمنزلة مواقع لربط البروتينات التي تنشِّط عملية إنتاج رسائل الآر إن إيه الخاصة بالجينات أو تثبِّطها بحسب الحاجة؛ على سبيل المثال: تُنشَّط الجينات الخاصة بالهيموجلوبين في الخلايا التي تنمو لتكون خلايا دم حمراء، لكنها تُثبَّط في خلايا المخ.

على الرغم من الاختلافات الهائلة في أساليب حياة الكائنات المختلفة، التي تتراوح بين الكائنات الوحيدة الخلية والكائنات التي تتألَّف أجسامها من مليارات الخلايا وبها أنسجة عالية التخصص، فإن خلايا حقيقيات النوى تمرُّ بعمليات انقسام خلوي متشابهة. الكائنات الوحيدة الخلايا، مثل الأميبا أو فطر الخميرة، يمكنها التكاثر ببساطة عن طريق الانقسام إلى خليتين وليدتين؛ وعلى نحوٍ مُشابِه، تمر البويضة المخصَّبة للكائن العديد الخلايا، التي نتجتْ عن اتِّحاد بويضة وحيوان منوي، بعملية انقسام مشابهة إلى خليتين وليدتين (الشكل ٣-٧). تحدث دورات عديدة أخرى من الانقسام الخلوي من أجل إنتاج أنواع الخلايا والأنسجة العديدة التي تكوِّن جسم الكائن البالغ. في الثدييات، يوجد أكثر من ٣٠٠ نوع مختلف من الخلايا في جسد الكائن البالغ، وكل نوع له بنية مميزة ويُنتِج نطاقًا محددًا من البروتينات. وعملية تنظيم هذه الخلايا على صورة أنسجة وأعضاء خلال عملية النمو تتطلَّب شبكةً من التفاعلات الخاضعة لمستوًى معقَّد من السيطرة بين خلايا الجنين النامي. تُنشَّط الجينات أو تُثبَّط من أجل ضمان إنتاج النوع المناسب من الخلايا في الموضع المناسب وفي التوقيت المناسب. وبالحديث عن بعض الكائنات التي خضعت لدراسة مستفيضة، مثل ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، نعلم الآن قدرًا كبيرًا من المعلومات بشأن الكيفية التي تؤدي بها هذه التفاعلات إلى ظهور التصميم الجسماني المعقد للذبابة، انطلاقًا من خلية بويضة لا تحمل سمات شكلية مميزة. وقد وجدنا أن العديد من عمليات نقل الإشارات المستخدمة في مرحلة نمو أنسجة معينة وتخصُّصها، مثل الأعصاب، تتقاسمها كلُّ الحيوانات العديدة الخلايا، بينما تستخدم النباتات الأرضية مجموعة مختلفة نوعًا ما، وهو ما يمكن توقُّعُه من حقيقةِ أن السجل الأحفوري يبيِّن أن الحيوانات العديدة الخلايا والنباتات لها أصولٌ تطوُّرية مختلفة (انظر الفصل الرابع).
حين تنقسم الخلية، فأول ما يحدث هو تضاعُف الدي إن إيه الخاص بالكروموسومات، بحيث تصير هناك نسختان من كلِّ كروموسوم. تخضع عملية الانقسام الخلوي لضوابط صارمة من أجل ضمان مرور تتابع الدي إن إيه المنسوخ حديثًا بعملية «تصحيح لغوي» بحثًا عن الأخطاء. تملك الخلايا إنزيمات يمكنها — باستخدام خصائص معيَّنة للطريقة التي يتمُّ بها تضاعُفُ الدي إن إيه — أنْ تميِّزَ الدي إن إيه الجديد عن «قالب» الدي إن إيه القديم؛ وهذا يُمكِّن من رصد أغلب الأخطاء التي تتم أثناء عملية النسخ وتصحيحها، وهو ما يضمن نسْخَ القالب بأمانةٍ قبل أن يُسمَح للخلية بالمضيِّ قُدمًا في الخطوة التالية؛ انقسام الخلية نفسها. تضمن آليةُ الانقسام الخلوي أن تتلقَّى كلُّ خلية وليدة نسخةً كاملة من مجموعة الكروموسومات التي كانت موجودة في الخلية الأم (الشكل ٣-٧).

أغلب جينات بدائيات النوى (بما فيها العديد من الفيروسات) هي أيضًا تتابعات من الدي إن إيه مُنظَّمة على نحو مختلف بدرجة طفيفة عن تلك الموجودة في كروموسومات حقيقيات النوى. أنواع كثيرة من البكتيريا تتألَّف مادتُها الوراثية فقط من جزيء دي إن إيه دائري، لكن بعض الفيروسات — كفيروسات الأنفلونزا والإيدز — لديها جينات مصنوعة من الآر إن إيه. إن عملية التصحيح التي تحدث عند نسْخِ الدي إن إيه لا تحدث عند نسْخِ الآر إن إيه؛ ولهذا تملك تلك الفيروسات معدلاتِ تطافُرٍ عاليةً للغاية، ويمكنها التطوُّرُ بسرعةٍ كبيرة داخل جسد العائل. وكما سنصف في الفصل الخامس، يعني هذا أنه من الصعب تطوير لقاحات مضادة لهذه الفيروسات.

تتباين حقيقيات النوى وبدائيات النوى تباينًا شاسعًا من حيث مقادير الدي إن إيه غير المشفِّر الموجودة بها؛ ففي البكتيريا الإشريكية القولونية (وهي في المعتاد نوع غير ضار من البكتيريا يعيش في أمعائنا) يوجد حوالي ٤٣٠٠ جين، وتشكِّل التسلسلاتُ المشفِّرة تتابعاتٍ بروتينيةً نحو ٨٦ بالمائة من الدي إن إيه الخاص بهذا النوع. على النقيض من ذلك، أقل من ٢ بالمائة من الدي إن إيه الموجود في جينوم الإنسان يشفِّر تتابعات بروتينية. وتقع الكائنات الأخرى بين طرفي النقيض هذين؛ فمثلًا ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر» بها نحو ١٤ ألف جين مؤلَّفة من نحو ١٢٠ مليون «حرف» من الدي إن إيه، ونحو ٢٠ بالمائة من الدي إن إيه الخاص بها مخصَّص لتشفير التتابعات. لا يزال عدد الجينات المختلفة في الجينوم البشري غير معروف بدقة، وأفضل تعداد حالي يأتي من عملية تحديد تتابعات الجينوم الكامل، وهذا يمكِّن علماء الوراثة من التعرف على التتابعات المحتمل أنها تؤلِّف جيناتٍ، بناءً على ما نَعرِفه من الجينات التي خضعت للدراسة من قبلُ. من الصعب العثور على هذه التتابعات في خضم المقدار الهائل للدي إن إيه الذي يؤلف جينوم أي نوع، خاصة الجينوم البشري ذا المحتوى الضخم للغاية من الدي إن إيه (أكبر بخمس وعشرين مرة من ذبابة الفاكهة). يبلغ عدد الجينات في الإنسان نحو ٣٥ ألف جين، وهو عدد أقل بكثير مما كان يُظَن في ضوء عدد أنواع الخلايا والأنسجة التي تؤدي وظائف مختلفة، وعدد البروتينات التي يستطيع الإنسان تصنيعها من المرجح أن يكون أكبر بكثير من هذا العدد؛ لأن طريقة العَدِّ هذه تَعجِز عن رصد الجينات الصغيرة للغاية، أو غير التقليدية (على سبيل المثال: الجينات الواقعة داخل جينات أخرى، وهو الأمر الموجود في كائنات عِدَّة). ليس معروفًا بعدُ مقدار الدي إن إيه غير المشفِّر الضروري لحياة الكائن، بالرغم من أن معظمه يتكون من فيروسات وغيرها من الكيانات المتطفلة التي تعيش في الكروموسومات، وبعضها له وظائف مهمة. وكما ذكرنا بالفعل، هناك تتابعات من الدي إن إيه تقع خارج الجينات يمكنها الارتباط بالبروتينات التي تتحكم في عملية تحديد الجينات التي يتم «تنشيطها» داخل الخلية، ومن المؤكد أن عملية التحكم في نشاط الجينات أكثر أهميةً بكثير في الكائنات العديدة الخلايا منها في البكتيريا.

إضافةً إلى اكتشاف أن كائنات متبايِنة تباينًا شاسعًا لها المادة الوراثية ذاتها من الدي إن إيه، كشف علم الأحياء الحديث أيضًا النقاب عن أوجه شبه عميقة في دورات حياةِ حقيقياتِ النوى، على الرغم من تنوُّعها، بدايةً من الفطريات الوحيدة الخلية كفطر الخميرة، ومرورًا بالنباتات والحيوانات الحولية، ووصولًا إلى الكائنات الطويلة العمر (وإن كانت ليست خالدة) كالبشر والأشجار. العديد من حقيقيات النوى، وإن لم يكن كلها، يمر بمراحل جنسية في كل جيل، يتحد فيها جينوما الأب والأم الخاصان بالحيوان المنوي والبويضة (وكلٌّ منهما مؤلَّف من العدد (ن) من الكروموسومات المختلفة، بحسب النوع محل الحديث) من أجل تكوين فردٍ يحمل العددَ (٢ن) من الكروموسومات؛ وحين يقوم الكائن بتصنيع بويضات أو حيوانات منوية جديدة (بحسب جنسه)، فإن الحالة (ن) تُستعاد عن طريق نوع خاص من الانقسام الخلوي. في هذا النوع، يصطفُّ كل زوج من كروموسومات الأب والأم، وبعد ذلك (بعد تبادل المادة لتكوين كروموسومات هي مزيج في جزء منها من دي إن إيه الأب ودي إن إيه الأم) تنفصل أزواج الكروموسومات بعضها عن بعض، بصورة مشابهة للطريقة التي تنفصل بها الكروموسومات المتضاعفة حديثًا في عمليات الانقسام الخلوي الأخرى؛ وفي نهاية العملية يكون عدد الكروموسومات في كل بويضة أو حيوان منوي قد قلَّ إلى النصف، لكن كل بويضة أو حيوان منوي يملك مجموعةً كاملة من جينات الكائن؛ وستُستعاد المجموعةُ المزدوجة عند اتحاد البويضة بنواة الحيوان المنوي عند الإخصاب.

من المؤكد أن الملامح الأساسية للتكاثر الجنسي قد تطورت قبل تطور الحيوانات والنباتات العديدة الخلايا — التي حلَّت متأخِّرة على المشهد التطوري — بزمن طويل، ويتضح هذا جليًّا من الملامح المشتركة الظاهرة في تكاثر الكائنات الوحيدة الخلية والعديدة الخلايا الجنسي، ومن الجينات والبروتينات المتشابهة، التي اكتُشِف أنها منخرطة في عملية التحكم في الانقسام الخلوي وسلوك الكروموسومات في مجموعاتٍ متباعدٍ بعضها عن بعض تباعُدَ فطرِ الخميرة عن الثدييات. في أغلب حقيقيات النوى الوحيدة الخلية، نجد أن الخلية (٢ن) المنتجة بواسطة اندماج زوج من الخلايا، كلٌّ منها له العدد (ن) من الكروموسومات؛ تنقسم على الفور كي تنتج خليتين لهما العدد (ن) من الكروموسومات، على النحو المبيَّن أعلاه في حالة إنتاج الخلايا الجنسية في الحيوانات العديدة الخلايا. وفي النباتات، يحدث اختزال عدد الكروموسومات من (٢ن) إلى (ن) قبل تكوُّن الأمشاج الأنثوية وحبوب اللقاح، لكن نفس النوع من عملية الانقسام الخلوي الخاصة يحدث مجددًا؛ ففي الأشنات — على سبيل المثال — توجد مرحلة ممتدة من دورة الحياة تشكل فيها كروموسومات عددها (ن) نبات الأشنة، وفوقها تتطور المرحلة الطفيلية ذات العدد (٢ن) من الكروموسومات، بعد أن تكون الأمشاج الأنثوية وحبوب اللقاح قد تكوَّنت ويكون الإخصاب قد حدث.

هذه التعقيدات التي تتميز بها مثل هذه العمليات الجنسية غير موجودة في بعض الكائنات العديدة الخلايا. في مثل هذه الأنواع «اللاجنسية» تُنتِج الكائناتُ الأمُّ الكائناتِ الوليدة دون اختزال عدد الكروموسومات من (٢ن) خلال عملية إنتاج البويضة. ومع هذا، كل الكائنات اللاجنسية العديدة الخلايا تُظهِر علامات واضحة تكشف أنها منحدرة من أسلاف كانت تتكاثر جنسيًّا؛ على سبيل المثال: الهندباء الشائعة لا جنسية، وبذورها تتكون دون الحاجة إلى جلب حبوب اللقاح إلى أزهارها، كما هو ضروري في حالة أغلب النباتات كي تتكاثر. تمثل هذه مزية لعشب ضار كالهندباء الشائعة، التي تُنتِج بسرعة أعدادًا كبيرة من البذور، وهو ما يمكن أن يراه كلُّ مَن يملك رقعة عشب أمام منزله. إلا أن أنواع الهندباء الأخرى تتكاثر بالتزاوج الطبيعي بين الأفراد، والهندباء الشائعة مرتبطة على نحو وثيق بهذه الأنواع؛ ومِن ثَمَّ فهي لا تزال تصنع حبوب لقاح تستطيع إخصاب أزهار الأنواع الجنسية.

الطفرات وآثارها

على الرغم من وجود آلية التصحيح التي تصوِّب الأخطاء عند نسْخ الدي إن إيه خلال عملية الانقسام الخلوي، فإن الأخطاء تحدث لا محالة، وهذه الأخطاء هي مصدر الطفرات. إذا نتج عن الطفرة تغيُّرٌ في تتابع الأحماض الأمينية لأحد البروتينات، فقد يصير البروتين معطوبًا؛ فمثلًا: قد لا يلتفُّ حولَ نفسه على النحو الصحيح؛ ومِن ثَمَّ يعجز عن القيام بوظيفته على النحو الملائم. وإذا أصاب التغيُّر أحد الإنزيمات، فقد يتسبَّب هذا في جعل المسار الأيضي الذي ينتمي الإنزيم إليه يسير بصورة بطيئة، أو يتوقَّف تمامًا، كما في حالة طفرات المَهَق التي ذكرناها سلفًا. قد تتسبَّب الطفرات التي تصيب البروتينات البنوية أو تلك الخاصة بعمليات التواصل، في إعاقة وظائف الخلايا أو إعاقة نمو الكائن؛ فالعديد من الأمراض التي تصيب البشرَ تسبِّبها طفراتٌ؛ على سبيل المثال: الطفرات التي تصيب الجينات المشتركة في التحكُّم في عملية الانقسام الخلوي تزيد مخاطِرَ ظهور السرطان. وكما ذكرنا من قبلُ، فإن الخلايا تملك نُظُمَ تحكُّمٍ دقيقة من أجل ضمان أنها تنقسم فقط حين يكون كلُّ شيء على ما يرام (فلا بد أن تكتمل عملية البحث عن طفرات، ويجب ألَّا تُظهِر الخلية أيَّ علامات على العدوى أو أيَّ تلفٍ آخَر، وهكذا دواليك). يمكن أن تتسبَّب الطفرات التي تصيب نُظُمَ التحكُّم هذه في عمليات انقسام خلوي غير خاضعة للسيطرة، وفي نمو خبيث للسلالة الخلوية. ولحُسْن الحظِّ أن من المستبعَد أن تُصيب الطفرات كِلتَا نسخَتَيِ الجينات الموجودة في الخلية، وعادةً ما تكون نسخةٌ واحدة غيرُ طافرة من زوج الجينات كافيةً كي تعمل الخليةُ بشكل صحيح. أيضًا تتطلب السلالة الخلوية في المعتاد تعديلات أخرى كي تصير سرطانًا، ولهذا تكون الأورام الخبيثة غيرَ شائعة. (يحتاج الورم إلى إمداد من الدم، ويجب أن تتفادى السماتُ غير الطبيعية للخلايا الرصدَ من جانب الجسد.) ومع ذلك، يُعَدُّ فهْمُ الانقسام الخلوي والتحكم فيه جزءًا مهمًّا من الأبحاث المعنية بالسرطان. إن العملية متشابهة في خلايا الكائنات الحقيقية النوى لدرجة أن جائزة نوبل في الطب لعام ٢٠٠١ مُنِحت للأبحاث المُجراة على الانقسام الخلوي في فطر الخميرة، التي بيَّنتْ تعرُّضَ أحد الجينات المشاركة في نظام التحكم الخاص بخلايا فطر الخميرة للطفرة في بعض أنواع السرطان الوراثية لدى البشر.

الطفراتُ التي تجعل الجسم أكثر قابليةً لتكوين أورام سرطانية نادرة الوجود، مثلُها مثل جميع الطفرات المسبِّبة للأمراض. أكثرُ الأمراض الجينية شيوعًا في التجمعات السكانية التي تقطن شماليَّ أوروبا هو التليُّفُ الكيسي، لكنْ حتى في هذه الحالة، فإن التتابع غير الطافر للجين المتصل بالمرض يمثِّل أكثر من ٩٨ بالمائة من نُسَخ الجين في ذلك التجمع. إن الطفرات التي تسبِّب فشلَ أحد الإنزيمات أو البروتينات المهمة قد تخفض القدْرةَ على البقاء أو الإخصاب لدى الأفراد المصابين بها؛ ومن ثَمَّ فإن التتابع الجيني الذي يؤدِّي إلى وجود إنزيم غير عامل سيكون حاضرًا بنسبةٍ أقلَّ في الجيل التالي، وفي النهاية سيُمحَى من التجمُّع تمامًا؛ فأحدُ الأدوار الأساسية للانتخاب الطبيعي هو أن تظلَّ البروتينات والإنزيمات الأخرى لمعظم الأفراد تعمل جيدًا. وسنعاود الحديث عن هذه الفكرة في الفصل الخامس.

يؤدِّي أحد الأنواع المهمة من الطفرات إلى عدم إنتاج كمية كافية من بروتين معين بواسطة الجين الخاص به، ويمكن أن يحدث هذا بسبب مشكلة في نظام التحكم الطبيعي الخاص بذلك الجين، تتسبَّب إمَّا في تنشيط الجين حين ينبغي عدم فعل ذلك، وإمَّا في عدم إنتاج البروتين بالكميات الكافية، وإمَّا في وقف إنتاج البروتين قبل اكتماله. وتوجد طفرات أخرى لا تتسبَّب في وقف عملية إنتاج الإنزيم، لكن قد يكون الإنزيم معيبًا، تمامًا مثلما يمكن أن يُعاق خطُّ الإنتاج أو يتوقَّف إذا تضرَّرَتْ إحدى الأدوات أو الماكينات الضرورية بصورةٍ ما. إذا غاب واحد أو أكثر من الأحماض الأمينية المكوِّنة للبروتين، فقد لا يعمل البروتين بصورة سليمة، ويمكن أن يحدث الأمر عينُه لو ظهر حمض أميني مختلف في موضع معيَّن على السلسلة، حتى لو كانت بقية الأحماض الأمينية صحيحة. إن الطفرات المسبِّبة لفقدان الوظيفة يمكن أن تُسهِم في عملية التطور حين يتوقف الانتخاب الطبيعي عن التخلص منها (انظر الفصل الثاني والسادس لمعرفة الكيفية التي يمكن بها لطفرات محايدة من المنظور الانتخابي أن تنتشر). نحو ٦٥ بالمائة من جينات المستقبِلات الشمِّيَّة لدى البشر هي «جينات لا وظيفية» لا تُنتِج مستقبلاتٍ بروتينيةً عامِلة؛ ولهذا السبب نملك وظائفَ شمِّية أقلَّ من الفئران أو الكلاب (وهو أمر ليس مُثِيرًا للدهشة في ضوء أهمية حاسة الشم لدى هذه الحيوانات في الحياة اليومية والتفاعلات الاجتماعية، مقارَنةً بدورها الثانوي لدينا).

هناك أيضًا اختلافات بين الأفراد الطبيعيين في النوع ذاته؛ على سبيل المثال: يتباين الأفراد داخل التجمعات البشرية من حيث قدرتهم على تذوق أو شم مواد كيميائية معينة، أو على تكسير بعض المواد الكيميائية المستخدمة كمواد تخدير؛ فالأشخاص الذين يفتقرون إلى إنزيم يقوم بتكسير المادة المخدِّرة قد يُعانون من ردِّ فعلٍ سيِّئ لها، لكن نقصان هذا الإنزيم لن يكون له أيُّ تأثير آخَر خلاف ذلك. تُعَدُّ الاختلافات المشابهة في القدرة على التعامل مع العقاقير، وأحيانًا الأطعمة، جانبًا مهمًّا للتنوع لدى البشر، ومعرفةُ هذه الاختلافات ضروريةٌ للطب الحديث، الذي تُستخدَم فيه عادةً عقاقيرُ قويةٌ.

تُظهِر الطفراتُ التي تصيب إنزيم نازعة هيدروجين الجلوكوز ٦ فوسفات (وهو إنزيم يوجد في خطوة مبكرة في المسار الذي بواسطته تولِّد الخلايا الطاقةَ من الجلوكوز) بعضَ أنواع هذه الاختلافات بوضوح؛ فالأفراد الذين يفتقدون هذا الجين بالكامل لا يستطيعون البقاء أحياءً (لأن المسار الذي يعمل فيه هذا الإنزيم له أهمية حيوية في التحكم في مستويات المواد السامة المُنتجة بوصفها منتجًا جانبيًّا لعملية توليد الطاقة بالخلية). في التجمعات البشرية، يوجد ما لا يقل عن ٣٤ صورة متنوعة طبيعية للبروتين، وكلها غير متوافقة مع الحياة الصحية، لكنها في واقع الأمر تحمي من طفيليات الملاريا. كل صورة تختلف في واحد أو أكثر من الأحماض الأمينية عن أكثر تتابعات البروتين الطبيعية شيوعًا. ينتشر العديد من هذه الصور المختلفة في أفريقيا ومنطقة البحر المتوسط، ويكثر في بعض التجمعات التي تصيبها الملاريا وجودُ الأفراد الحاملين لهذه الصور المختلفة؛ ومع ذلك، بعض الصور المختلفة تسبِّب نوعًا من فقر الدم عند تناوُل نوع معين من الفول، أو عند تلقِّي الشخص نوعًا معيَّنًا من العقاقير المضادة للملاريا. تُعَدُّ فصائل الدم المعروفة، A وB وO وغيرها من الفصائل، مثالًا آخَر على التنوع الطبيعي داخل التجمع البشري، وهي تنتج عن تباين التتابعات البروتينية المتحكِّمة في تفاصيل الأسطح الخاصة بخلايا الدم الحمراء. كذلك يمكن أن يسبِّب التبايُنُ في بروتينِ مستقبِلِ الهرمون المنشِّطِ للخلية الميلانية — الذي له دور مهم في إنتاج صبغة الميلانين الجلدية (انظر الشكل ٣-٤) — اختلافاتٍ في لون الشعر، وفي العديد من الأشخاص ذوي الشعر الأحمر يكون لهذا البروتين تتابُعٌ مختلفٌ من الأحماض الأمينية. وكما سنناقش في الفصل الخامس، فإن التنوع الجيني هو المادة الخام الأساسية التي يعمل عليها الانتخاب الطبيعي من أجل إنتاج التغيرات التطورية.

التصنيف البيولوجي وتتابعات الدي إن إيه والتتابعات البروتينية

تأتي مجموعة جديدة مهمة من البيانات التي تقدم دليلًا واضحًا على أن الكائناتِ مرتبطٌ بعضها ببعض، عن طريق عملية التطور من الحروف التي يتألَّف منها الدي إن إيه الخاص بها، والتي يمكن الآن «قراءتها» بواسطة العملية الكيميائية الخاصة بتحديد تتابُع الدي إن إيه. إن أنظمة التصنيف البيولوجي المبنية على الخصائص المرئية، التي طُوِّرت على مدار ثلاثة قرون ماضية من دراسة النباتات والحيوانات؛ باتتِ الآن مدعومة من جانب الدراسات الحديثة التي تقارن تتابعات الدي إن إيه والتتابعات البروتينية بين الأنواع المختلفة؛ فقياس مقدار تشابه تتابعات الدي إن إيه يمكِّنُنا من امتلاك مفهوم موضوعي عن العلاقة بين الأنواع، وهو ما سنناقشه بمزيد من التفصيل في الفصل السادس. لكن في الوقت الحالي نحن فقط بحاجة إلى أن نفهم أن تتابعات الدي إن إيه الخاصة بأي جين ستكون أكثرَ شبهًا في حالة الأنواع الوثيقة الصلة، أما في حالة الأنواع الأبعد بعضها عن بعض فستكون التتابعاتُ أكثرَ اختلافًا (الشكل ٣-٨). ويزداد حجم الاختلاف بالتناسُب تقريبًا مع مقدار الوقت الذي يفصل بين النوعين محل المقارَنة، وهذه السمةُ من سمات علم الأحياء الجزيئي تمكِّنُ علماءَ الأحياء التطوريين من تقدير أزمنة الأحداث التي لا يمكن دراستها من خلال الحفريات، وذلك باستخدام «ساعة جزيئية»؛ على سبيل المثال: ما ذكرناه بالفعل من التغيرات الموجودة في ترتيب جينات الكائن على كروموسوماته. من الممكن أن تُستخدَم ساعةٌ جزيئية من أجل تقدير المعدل الذي تحدث به عمليات إعادة الترتيب هذه بالكروموسومات، وقد وجدنا — بما يتوافق مع وجهة النظر التطورية — أن الأنواع التي نؤمن أنها متقارِبةٌ، كالبشر والقِرَدة الريصية، لها كروموسومات تتباين من حيث عدد عمليات إعادة الترتيب بدرجة أقل ممَّا عليه الحال عند المقارنة بين البشر ورئيسيات العالَم الجديد مثل السعدان الصوفي.

في الفصل التالي سنشرح الأدلة المؤيِّدة للتطور بناءً على السِّجِلِّ الحفري، ومن واقع المعطيات المبنية على التوزيع الجغرافي للأنواع الحية؛ وهذه الملاحظات تكمل تلك المذكورة في هذا الفصل، من حيث إنها تبيِّن أن نظرية التطور تقدِّم تفسيرًا طبيعيًّا لنطاق واسع من الظواهر البيولوجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤