الفصل الرابع

الأدلة المؤيِّدة للتطور: أنماط في الزمان والمكان

ما تاريخ الإنسان، إذن، سوى تموُّجٍ قصيرِ الأمد في محيط الزمن؟

من كتاب «عن تفاعُل القوى الطبيعية»، هيرمان فون هلمهولتز، ١٨٥٤

عُمْر كوكب الأرض

كان سيغدو ضربًا من المحال أن ندرك أن الكائنات الحية نشأت من خلال عملية التطور، لولا نجاح الجيولوجيين في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين في إثبات أن البنية الحالية للأرض هي نفسها نتاجُ عمليات فيزيائية دامتْ لفترة طويلة. إن العمليات ذات الصلة مشابِهةٌ من حيث المبدأ لتلك التي يستخدمها المؤرخون والأثريون، وقد كتب عالِم الطبيعة الفرنسي العظيم جورج دي بوفون عام ١٧٧٤ يقول:

تمامًا مثلما نقوم في التاريخ المدني بالرجوع إلى المسوغات، ودراسة الميداليات، وفك طلاسم الكتابات القديمة، من أجْل تحديد حِقَب الثورات البشرية وإصلاح تاريخ الأحداث الأخلاقية، فإن علينا أيضًا في التاريخ الطبيعي أن ننقِّب في سِجِلَّات العالم، وأن نستخلص البقايا العتيقة من باطن الأرض، وأن نقوم بجمع شظاياها، وأن نضمَّ معًا في جسد واحد من الأدلة كلَّ تلك الإشارات الدالة على تغيرات فيزيائية، التي يمكن أن تَحمِلنا إلى الماضي نحو عصور مختلفة للطبيعة. هذا هو السبيل الوحيد لإصلاح نقاط معينة في رحابة المكان، والسبيل الوحيد لوضع علامات مميزة على المسار الأبدي للزمن.

دون أن نخاطر بالمبالغة في التبسيط نقول إنه كانت هناك فكرتان أساسيتان هما اللتان أدَّتا إلى نجاحات على مستوى الجيولوجيا المبكرة، وهما: مبدأ «الوتيرة الواحدة»، وابتكار «علم وصف طبقات الأرض» بوصفه وسيلةً للتأريخ. يرتبط مبدأُ الوتيرة الواحدة خصوصًا بالجيولوجي جيمس هاتون الذي عاش في إدنبرة في أواخر القرن الثامن عشر، وجمَعَه وصنَّفَه لاحقًا عالِمٌ اسكتلندي آخَر هو تشارلز لايل في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» (١٨٣٠). والمبدأ ببساطة يتمثَّل في أننا نطبِّق على تاريخ بنية الأرض المبادئَ نفسَها التي استخدمها الفلكيون في فهم منظومة الكواكب والنجوم البعيدة؛ إذ يُفترَض أن العمليات الفيزيائية الأساسية ذات الصلة تكون واحدةً في كل مكان وكل زمان؛ فالتغيُّرُ الجيولوجي على مرِّ الزمن إنما يعكس عملَ قوانين الفيزياء، التي هي نفسها لا تتغيَّر. على سبيل المثال: تقضي النظريةُ الطبيعية بأن سرعة دوران الأرض من المؤكَّد أنها قد قلَّتْ على مدار ملايين الأعوام بسبب قوى الاحتكاك التي يسبِّبها المدُّ والجزْرُ، اللذان يحدثان بسبب قوى الجاذبية الخاصة بالشمس والقمر؛ فطولُ اليوم الآنَ أطولُ بكثير ممَّا كان عليه حين كانت الأرض في بداياتها، لكنَّ مقدارَ شدة قوة الجاذبية لم يتغيَّر.

بطبيعة الحال لا يوجد تبرير مستقلٌّ لهذا الافتراض الخاص بالوتيرة الواحدة، وذلك مثلما لا يوجد أي مبرِّر منطقي لافتراض انتظام الطبيعة، ذلك الافتراض الذي تقوم عليه أهم جوانب حياتنا اليومية. في الواقع، لا يوجد فارق بين هذين الافتراضين، فيما عدا النطاقين المكاني والزماني اللذين ينطبقان عليهما. ومبرِّر هذين الافتراضين هو أنه؛ أولًا: تمثِّل الوتيرةُ الواحدة أكثرَ الأسس الممكنة بساطةً التي يمكننا الانطلاق منها لتفسير الأحداث البعيدة زمنيًّا ومكانيًّا. ثانيًا: حقَّقَ هذا المبدأ نجاحًا لا غبارَ عليه.

يقضي افتراض الوتيرة الواحدة في علم الجيولوجيا بأن التنظيم الحالي لسطح الأرض إنما يعكس الفعْلَ التراكمي لعمليات تكوين الصخور الجديدة بواسطة النشاط البركاني وطرح الرواسب في الأنهار والبحيرات والبحار، وتآكُل الصخور القديمة بفعل الرياح والمياه والجليد. إن عملية تكوُّن الصخور الرسوبية، مثل الحجر الرملي والحجر الجيري، تعتمد على تآكُل صخور أخرى؛ وعلى النقيض من ذلك، لا بد أنَّ تكوُّنَ الجبال بفعل النشاط البركاني وارتفاعُ الأرض بفعل الزلازل، يسبقان تفتُّتَها بفعل عملية التآكُل. هذه العمليات يمكن رؤيتها وهي تجري بالفعل في وقتنا الحالي، فأي شخص زار منطقة جبلية — خاصةً في وقتِ تكوُّن الجليد وذوبانه من العام — سيرى تآكُلَ الصخور وانتقالَ الفتات الناتج للأسفل مع جريان الجداول والأنهار، أيضًا من السهل ملاحَظةُ تجمُّعِ الرواسب عند مصبَّات الأنهار. إن النشاط البركاني والزلزالي مقتصر على مناطق معينة في الكوكب، خاصةً عند أطراف القارات وأواسط المحيطات، وذلك لأسباب معروفة الآن جيدًا، لكن هناك العديد من الحالات المسجَّلة تكوَّنَتْ فيها جُزُرٌ محيطية بفعل النشاط البركاني، وارتفعت فيها الأرضُ بفعل الزلازل. في كتابه «رحلة السفينة بيجل»، وصف داروين تأثيرات الزلزال الذي وقع في شيلي في فبراير ١٨٣٥ بالكلمات التالية:

التأثير الأبرز لهذا الزلزال كان الارتفاعَ الدائم للأرض، وسيكون من الأصوب أن نتحدَّث عن الزلزال بوصفه المسبِّبَ الرئيس لذلك الارتفاع. لا يمكن أن يوجد شكٌّ في أن الأرض حول خليج كونسيبسيون ارتفعَتْ بمقدار قدَمَيْن أو ثلاثة أقدام … وفي جزيرة سانتا ماريا (البعيدة بنحو ثلاثين ميلًا) كان الارتفاعُ أكبرَ، وفي أحد الأجزاء وجَدَ القبطان فيتزروي تجمعاتٍ من أصداف المحار المتحلِّل «لا تزال ملتصقةً بالصخور»، فوق مستوى الماء بعشرة أقدام … وارتفاعُ هذه المنطقة مُثيرٌ للاهتمام بشكل خاص؛ لأنها كانت مسرحًا للعديد من الزلازل العنيفة الأخرى، وأيضًا بسبب تناثُر عدد كبير من أصداف المحار على مساحة شاسعة من الأرض، حتى ارتفاعٍ لا يقلُّ بالتأكيد عن ٦٠٠ قدم، وإن كنتُ أعتقد أنه يصل إلى ١٠٠٠ قدم.

حقَّقَ علم الجيولوجيا نجاحًا كبيرًا في تفسير بنية الأرض على مستوى السطح، أو بقربه، في ضوء هذه العمليات، وفي إعادة بناء الأحداث التي أدَّت إلى المَظهَر الحالي للعديد من أجزاء الأرض، ومن الممكن تحديد ترتيب هذه الأحداث من خلال علم وَصْف طبقات الأرض. إن المعلومات الخاصة بالتركيب المعدني ونَسَق الحفريات المعثور عليها في طبقات الصخور المختلفة، تُستخدَم في وصف الطبقات المنفردة. وقد كان إدراكُ أن الحفريات تمثِّل البقايا المحفوظة للنباتات والحيوانات التي ماتت منذ أمد بعيد، وليس كونها محضَ تكوينات معدنية؛ عاملًا أساسيًّا في نجاح علم وَصْف طبقات الأرض. وتُوفِّر نوعياتُ الحفريات الموجودة في أي طبقة صخرية رسوبية أدلَّةً بشأن البيئة التي سادت عند تكوُّن هذه الطبقة، فمثلًا من الممكن عادةً أن نعرف هل كان الحيوان يعيش في المياه المالِحة أم العذبة أم على الأرض. وبطبيعة الحال لا توجد حفريات في صخورٍ مثل الجرانيت أو البازلت، التي تتكوَّن عن طريق تجمُّد المواد المنصهرة من أسفل القشرة الأرضية.

خلال سفرياته في عموم بريطانيا بهدف تشييد القنوات في أوائل القرن التاسع عشر، أدرَكَ مهندس القنوات الإنجليزي ويليام سميث أن سلاسلَ متتاليةً متشابِهةً من الطبقات الصخرية موجودةٌ في أجزاء مختلفة من بريطانيا (التي بها تنوُّعٌ غيرُ معتاد من الصخور المتكوِّنة في عصورٍ مختلفة لا يتناسب مع مثل هذه المساحة الصغيرة من الأرض). وباستخدام المبدأ القائل إن الصخور القديمة يجب في الطبيعي أن تقع أسفلَ الصخور الحديثة، مكَّنت مقارَنةُ السلاسل المتتالية في المناطق المختلفة الجيولوجيين من إعادة بناء تتابُعات الطبقات الصخرية، التي تكوَّنت على مدار فترات زمنية هائلة؛ فإذا وُجِدت صخورٌ من النوع (أ) أسفلَ صخورٍ من النوع (ب) في أحد المواقع، ووُجِد النوعُ (ب) أسفلَ النوع (ﺟ) في موقع آخَر، فلنا أن نستنتج إذن التتابُعَ أ – ب – ﺟ، حتى لو لم نعثر مطلقًا على النوعين (أ) و(ﺟ) في مكان واحد.

حقبة العصر الفترة منذ
العصر الرباعي فترة الهولوسين ١٠ آلاف عام
فترة البليستوسين ٢ مليون عام
حقبة الحياة الحديثة العصر الثلثي فترة البليوسين ٧ ملايين عام
فترة الميوسين ٢٦ مليون عام
فترة الأوليجوسين ٣٨ مليون عام
فترة الأيوسين ٥٤ مليون عام
فترة الباليوسين ٦٤ مليون عام
حقبة الحياة الوسطى العصر الطباشيري ١٣٦ مليون عام
العصر الجوراسي ١٩٠ مليون عام
العصر الترياسي ٢٢٥ مليون عام
حقبة الحياة القديمة العصر البرمي ٢٨٠ مليون عام
العصر الفحمي ٣٤٥ مليون عام
العصر الديفوني ٤١٠ ملايين عام
العصر السيلوري ٤٤٠ مليون عام
العصر الأوردوفيشي ٥٣٠ مليون عام
العصر الكمبري ٥٧٠ مليون عام
fig9
شكل ٤-١: الأقسام الكبرى للزمن الجيولوجي. الجزء العلوي يُظهِر الأقسامَ بدايةً من العصر الكمبري وصاعدًا، وفيها تمَّ العثورُ على معظم الحفريات (هذا يبلغ أقلَّ من ثُمْن الزمن المنقضي منذ تكوُّنِ الأرض). الجزء السفلي يُظهِر الأحداثَ الكبرى التي وقعت عبر تاريخ الأرض.
هذا الاستخدام المنهجي لهذه الطريقة مكَّنَ جيولوجيي القرن التاسع عشر من تحديد الأقسام الكبرى للزمن الجيولوجي (شكل ٤-١)، وهذه الأقسامُ توفِّر سِجِلًّا زمنيًّا نسبيًّا، وليس مطلقًا؛ إذ تتطلَّب التواريخُ المطلقة طُرُقًا من أجْل المُعايَرَة الدقيقة لمعدل حدوث العمليات ذات الصلة، وهو أمر يصعب للغاية عملُه بأي مستوًى من الدقة. إن العمليات الداخلة في تكوين المشهد الطبيعي بطيئة للغاية، وبالتبعية تكون عمليةُ تراكُمِ الرواسب بطيئةً بالمِثْل؛ وعلى نحوٍ مشابه، تحدث عمليةُ ارتفاع الأرض — حتى في أكثر مناطق تكوُّن الجبال نشاطًا، كالإنديز — بمعدلٍ يبلغ كسرًا بسيطًا من المتر كلَّ عام في المتوسط. وفي ضوء وجودِ الصخور الرسوبية ذات التكوين نفسه، الواقعة على عمق كيلومترات عديدة في أجزاء كثيرة من العالم، والأدلةِ على أن تراكماتٍ مماثِلةً تعرَّضَتْ للتآكل؛ سريعًا ما أُدرِكتْ ضرورةُ وضْعِ نطاقٍ زمني لا يقلُّ عن عشرات الملايين من الأعوام لعُمْر الأرض، وهو ما يتعارض مع التأريخ الزمني الوارد في الإنجيل. وقد اقترح لايل على هذا الأساس أن العصر الثلثي استمر لنحو ٨٠ مليون عام، وأن العصر الكمبري وقع منذ ٢٤٠ مليون عام.

عارَضَ الفيزيائي البارز لورد كلفن مثل هذا النطاق الزمني الطويل، على أساس أن معدل برودة الأرض التي كانت منصهرةً في بدايتها، من شأنه أن يجعل لُبَّ الأرض أبردَ كثيرًا ممَّا هو عليه بالفعل، لو أن الأرض قد تكوَّنَتْ منذ أكثر من نحو ١٠٠ مليون عام مضَتْ. كانت حسابات كلفن صائبةً وفْقَ فيزياء عصره، إلا أنه بنهاية القرن التاسع عشر اكتُشِف التحلُّل الإشعاعي للعناصر غير المستقرة، كاليورانيوم، إلى مشتقات أكثر استقرارًا. وعملية التحلل هذه تكون مصحوبةً بإطلاق طاقةٍ تكفي لإبطاء معدل برودة الأرض إلى القيمة التي تتفق مع التقديرات الحالية لعُمْر الأرض.

أيضًا قدَّم التحلُّلُ الإشعاعي طرقًا جديدة موثوقًا بها لتحديد أعمار العينات الصخرية؛ فذرات العناصر المُشعَّة لها احتماليةٌ ثابتة للتحلُّل كلَّ عام إلى عناصر وليدة أكثر استقرارًا، ويصاحب ذلك انطلاقَ إشعاع. عند تكوُّن إحدى الصخور، يمكن افتراض أن العنصر المعنيَّ خالص؛ ومِن ثَمَّ لو قِيسَتْ نسبةُ العنصر الوليد في العينة، لَكان من الممكن تقدير الزمن المنقضي منذ تكوُّن الصخرة، وذلك بمعرفة معدل عملية التحلُّل كما تحدَّد من واقع التجارب. ثمة عناصر مختلفة مفيدة في عملية تحديد تاريخ صخور العصور المختلفة، وقد أمدَّتْنا عملياتُ تحديد عُمْر الصخور المنتمية إلى عصورٍ جيولوجيةٍ مختلفة بواسطة هذا الأسلوب؛ بالتواريخ المقبولة اليومَ. وبينما يتمُّ تنقيح الطرق وتعديل التواريخ على نحوٍ مستمر، فإن النطاق الزمني العام الذي تُشِير إليه واضح للغاية (الشكل ٤-٢)، وهو يحدِّد مقدارًا كبيرًا للغاية من الزمن — يمكن استيعابُه بالكاد — كي يحدث فيه التطوُّرُ البيولوجي.

السجل الحفري

السجل الحفري هو مصدرنا الوحيد للمعلومات بشأن تاريخ الحياة، ومن أجل تفسير هذا السجل بشكل صحيح، يجب فهْمُ الكيفيةِ التي تكوَّنت بها الحفريات، والكيفيةِ التي يدرس العلماءُ بها تلك الحفريات. حين يموت نبات أو حيوان أو ميكروب، تتحلَّل الأجزاء الرخوة من جسده بسرعة. فقط في البيئات غير المعتادة، مثل المناخ الصحراوي الجاف أو المواد الحافظة الموجودة في قطعة من الكهرمان، تكون الميكروباتُ المسئولةُ عن عملية التحلل عاجزةً عن تفتيت الأجزاء الرخوة؛ لقد تمَّ العثورُ بالفعل على حالات استثنائية حُفِظت فيها أجزاءٌ رخوة، في بعض الأحيان لعشرات الملايين من السنوات في حالة الحشرات المحبوسة داخل مادة الكهرمان، لكنها تمثِّل الاستثناءَ لا القاعدة. وحتى البنى العظمية، مثل مادة الكيتين الصلبة التي تُغطِّي أجسادَ الحشرات والعناكب، أو عظام الفقاريات وأسنانها، تتحلَّلُ في نهاية المطاف، إلا أن معدل تحلُّلِها البطيء يقدِّم فرصةً كي تتخلَّلها المعادنُ، وفي النهاية تُستبدَل بالمادة الأصلية نسخةٌ معدنية طبق الأصل (أحيانًا يحدث هذا للأجزاء الرخوة أيضًا)؛ ومن الممكن أيضًا أن تصنع قالبًا لأشكالها بينما تترسب المعادن حولها.

أكثر الأماكن التي يُرجَّح فيها حدوثُ التحفير هي البيئات المائية؛ حيث يحدث تراكُمٌ للرواسب الصخرية والمعدنية في قيعان البحار والبحيرات ومصبَّات الأنهار، حِينَها يُمكِن للبقايا التي تَغرَق للقاع أن تتحوَّل إلى حفريات، بالرغم من أن فُرَص حدوث ذلك لأي كائن بعينه ضئيلةٌ للغاية. ولهذا السبب يتَّسِم السجلُ الحفري بالانحياز؛ فالكائنات البحرية التي تعيش في البحار الضحلة؛ حيث تتكوَّن الرواسبُ باستمرار، لها أفضل سِجِلٍّ حفري، بينما الكائنات الطائرة لها أسوأ سِجِلٍّ. علاوةً على ذلك، قد تتعرَّض عمليةُ تراكُمِ الرواسب للمقاطعة، مثلًا بسبب تغيُّرٍ في المناخ أو بسبب ارتفاع قاع البحر. ليس لدينا أيُّ سجل حفري للعديد من الكائنات، وبالنسبة إلى كائنات أخرى يتعرَّض السجل للمقاطعة مراتٍ عدةً.

ثمة مثال معبِّر عن المشكلات التي يُسبِّبها عدمُ اكتمال السجل الحفري، وهو خاص بشوكيات الجوف؛ وشوكياتُ الجوف نوع من الأسماك العظمية لها زعانف لحمية، وهي مرتبطة بأسلاف أول الفقاريات الأرضية. كانت شوكيات الجوف موجودة بوفرة في العصر الديفوني (منذ حوالي ٤٠٠ مليون عام)، لكن مع الوقت قلَّ عددها؛ وتعود آخِرُ حفريات شوكيات الجوف إلى ٦٥ مليون عام مضت، وكان يُظَنُّ أن هذه الرتبة قد انقرضَتْ تمامًا، لكن عام ١٩٣٩ أمسَكَ صيادو أسماكٍ في جزر كومورو قبالةَ السواحل الجنوبية الغربية لقارة أفريقيا، بسمكة غريبة الشكل، واتضح أنها من شوكيات الجوف؛ ومِن ثَمَّ تمكَّن العلماء من دراسة عادات شوكيات الجوف الحية، واكتُشِف تجمُّعٌ جديد لها في إندونيسيا. من المؤكد أن شوكيات الجوف قد ظلَّتْ باقيةً على نحو متصل عبر فترات طويلة من الزمن، لكنها لم تخلِّف سجلًّا حفريًّا بسبب قلة أعدادها وعيشها على أعماق كبيرة.

تعني الفجواتُ الموجودة في السجل الحفري أنه من النادر أن نمتلك سلسلةً طويلة متواصلة من البقايا التي تبيِّن التغيُّراتِ المتواصلةَ المتوقَّعة بموجب فرضية التطور. وفي أغلب الحالات، تَظهَر مجموعاتٌ جديدة من الحيوانات أو النباتات للمرة الأولى في السجل الحفري دون أن تربطها أيُّ رابطة بالأشكال القديمة؛ وأشهر مثال لذلك هو «الانفجار الكمبري»، وهو المصطلح الذي يشير إلى حقيقة أن أغلب المجموعات الكبيرة من الحيوانات ظهرَتْ للمرة الأولى على صورة حفريات تعود للعصر الكمبري، ما بين ٥٥٠ و٥٠٠ مليون عام مضت (سنناقش هذا الأمر ثانيةً في الفصل السابع).

ومع هذا فقد ذهب داروين، بلغة بليغة، في كتابه «أصل الأنواع»، إلى أن الملامح العامة للسجل الحفري تقدِّم أدلةً قوية تؤيِّد التطوُّرَ، وقد عزَّزَتْ الاكتشافاتُ التي تحقَّقت على يد علماء الحفريات منذ أيامه ذلك الرأيَ؛ ففي المقام الأول، اكتُشِفت أمثلة عديدة لأشكال وسيطة، تربط بين مجموعات كان يُظَنُّ سابقًا أن فجواتٍ لا يمكن رأْبُها تَفصِل بينها. وربما تُعَدُّ حفريةُ الطائر-الزاحف «أركيوبتركس»، المكتَشَفة بُعَيْدَ نشْرِ كتاب «أصل الأنواع»، هي أشهر تلك الأمثلة. إن حفريات الأركيوبتركس نادرةٌ (فلا يوجد منها سوى ستِّ عينات)، وهي تأتي من الحجر الجيري الجوراسي البالغ عمره نحو ١٢٠ مليون عام، الذي ترسَّبَ في بحيرةٍ كبيرةٍ في ألمانيا. هذه الكائنات لها سمات متباينة، بعضها يشبه تلك السمات الخاصة بالطيور الحديثة، مثل الأجنحة والريش، والبعض الآخَر يشبه تلك الخاصة بالزواحف، مثل الفم ذي الأسنان (بدلًا من المناقير) والذيل الطويل. ثمة تفاصيل عديدة بشأن هياكلها العظمية لا يمكن تمييزها عن تلك الخاصة بمجموعة الديناصورات المعاصرة لها، لكن الأركيوبتركس يختلف عنها؛ إذ من الواضح أن بمقدوره الطيران. اكتُشِفت حفريات أخرى تربط الطيورَ بالديناصورات، وقد ثبت مؤخَّرًا أن الديناصورات ذات الريش كانت موجودةً قبل الأركيوبتركس. وتتضمَّن الحفرياتُ الوسيطة الأخرى حفرياتِ ثديياتٍ من فترة الأيوسين (نحو ٦٠ مليون عام مضَتْ)، لها أطراف أمامية وأطراف خلفية مختزلة مكيَّفة مع السباحة؛ وهذه الأنواعُ الوسيطة تربط الحيتان المعاصرة بحيوانات تنتمي إلى مجموعة العواشب المشقوقة الحافر التي تتضمَّن البقر والأغنام.

البشر مثال رائع للفجوات الموجودة في السجل الحفري، التي تُملَأ مع إجراء المزيد من الأبحاث. وقتَ أن نشر داروين كتابَه عن التطور البشري بعنوان «أصل الإنسان» عام ١٨٧١، لم تكن توجد أيُّ حفريات تربط القِرَدة بالبشر، وقد ذهب داروين على أساس التشابُهات في الشكل إلى أن البشر على صلةِ قرابةٍ وثيقة بالغوريلا والشمبانزي، وأنهم من ثَمَّ نشئوا في أفريقيا من سلفٍ هو أيضًا سلفُ هذه القِرَدة. ومنذ ذلك الوقت اكتُشِفت سلسلةٌ كاملة من البقايا وأُرِّخَتْ بدقةٍ بواسطة الطرق المذكورة من قبلُ، ولا يزال يَجرِي العثور على حفريات جديدة. وكلما كانت هذه الحفريات قريبةً من وقتنا الحالي، كانت أكثرَ شبهًا بالإنسان الحديث (الشكل ٤-٢)؛ وأبعدُ الحفريات التي يمكن نسبتها بوضوح إلى الإنسان العاقل «هومو سابينز»، يعود تاريخها إلى بضع مئات الآلاف من الأعوام فحسب. وبما يتفق واستدلالات داروين، ربما وقع التطورُ البشري المبكر في أفريقيا، ويبدو مرجَّحًا أن أقرباءنا قد دخلوا قارة أوراسيا للمرة الأولى منذ نحو مليون ونصف المليون عام.
fig10
شكل ٤-٢: جماجم بعض أسلاف البشر وأقربائهم. (أ) أنثى غوريلا. (ب) و(ﺟ) حفريتان لنوعين مختلفين من أحد أوائل أقرباء البشر؛ «أسترالوبيثكس»، منذ نحو ٣ ملايين عام مضت. (د) حفرية نوع وسيط بين الأسترالوبيثكس والإنسان الحديث يُسمَّى الإنسان المنتصب؛ «هومو إريكتوس»، منذ نحو مليون ونصف مليون عام مضت. (ﻫ) حفرية إنسان نياندرتال؛ «هومو نياندرتالينسيس»، منذ نحو ٧٠ ألف عام مضت. (و) الإنسان الحديث؛ «هومو سابينز».
fig11
شكل ٤-٣: التغيُّر التطوري التدريجي في سلسلة من الحفريات. يُظهِر الشكلُ متوسطاتِ ونطاقاتِ أحجام الجسم في عينات لحفريات أحد المنخربات (جلوبوروتاليا توميدا)، وهو حيوان بحري صدفي وحيد الخلية. يتغيَّر الحجم تدريجيًّا في هذه السلالة، باستثناء فجوتين كبيرتين. عند الحد الفاصل بين أواخر فترة الميوسين وفترة البليوسين، تُظهِر مجموعةٌ أكثرُ تفصيلًا من الحفريات (الصورة الجانبية المكبرة) أن الفجوة المرصودة مع المجموعة التقريبية للحفريات، تعكس بالكامل تقريبًا وجودَ حِقْبة من التغيُّر السريع للغاية؛ نظرًا لأن نطاقات أغلب العينات المتعاقِبة يتداخل بعضها مع بعض. وبالنسبة إلى الفجوة الموجودة منذ نحو ٤ ملايين عام مضت، لا توجد حاليًّا بياناتٌ حفريةٌ.
هناك أيضًا حالات فيها تتابعاتٌ زمنية متصلة بالكامل تقريبًا من الحفريات، وفيها يبدو مؤكَّدًا أن لدينا سجلًّا للتغيُّر في سلالة فردية آخِذة في التطور. أفضلُ الأمثلة تأتينا من الدراسات التي أُجرِيت على نتائج عمليات الحفر في الرواسب الموجودة في قاع البحر، والتي يمكن من خلالها استخراج أعمدة صخرية طويلة؛ يسمح هذا بفصلٍ زمني على نطاق دقيق للغاية بين العينات المتعاقِبة للكائنات التي تُكوِّن هياكلُها المتحجِّرة التي لا تُحصَى جسمَ الصخرة. وتمكِّنُنا القياساتُ الدقيقة لأشكال هياكل الكائنات، مثل المنخربات التي هي حيوانات بحرية وحيدة الخلية، من توصيف كلٍّ من متوسطات ومستويات التجمعات المتعاقبة على امتداد فترة طويلة من الزمن (الشكل ٤-٣).

وحتى لو لم توجد كائنات وسيطة متدرِّجة في السجل الحفري، فإن الملامح العامة للسجل لا تكاد تُفهَم إلا في ضوء التطور. وبالرغم ممَّا يتَّسِم به السجل الحفري قبل العصر الكمبري من تشظٍّ، فإنه توجد أدلة على وجود بقايا بكتيريا وكائنات وحيدة الخلية مرتبطة بها تعود إلى أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون عام. وبعد ذلك بزمن كبير، توجد بقايا لخلايا (حقيقية النوى) أكثر تقدُّمًا، لكن لا يوجد دليل حتى الآن على وجود كائنات عديدة الخلايا. والكائنات المؤلَّفة من تجمعات بسيطة من الخلايا تَظهَر فقط منذ حوالي ٨٠٠ مليون عام، في زمن الأزمة البيئية التي كانت خلالها الأرضُ مغطَّاةً بالكامل تقريبًا بالجليد. وفيما بين ٧٠٠ و٥٥٠ مليون عام مضت، توجد أدلة على وجود حياة لحيوانات عديدة الخلايا رخوة الجسم.

وكما ذكرنا من قبلُ، تصير بقايا الحيوانات المرتبطة بالهياكل الصلبة وفيرةً فقط في الصخور التي تعود إلى العصر الكمبري، منذ حوالي ٥٥٠ مليون عام مضت. وفي نهاية العصر الكمبري، منذ حوالي ٥٠٠ مليون عام مضت، توجد أدلة على وجود كل مجموعات الحيوانات الكبرى تقريبًا، بما فيها الفقاريات الشبيهة بالأسماك التي تفتقر للفكوك، وتشبه الجلكيات الحديثة.

حتى ذلك العصر كانت صور الحياة كافة مرتبطةً بالترسيبات البحرية، وكانت بقايا النباتات الوحيدة هي الطحالب، التي تفتقر للأوعية التي تستخدمها النباتاتُ البرية العديدة الخلايا لنقل السوائل. توجد أدلة على وجود حياة في المياه العذبة منذ ٤٤٠ مليون عام، تتبعها حفريات أبواغ تعني ضمنًا وجودَ أوائل النباتات البرية، كما تظهر أسماك شبيهة بالقرش في البحار. في العصر الديفوني (٤٠٠–٣٦٠ مليون عام مضت)، تصير بقايا كائنات المياه العذبة والكائنات البرية أكثر شيوعًا وتنوعًا بكثير. وتوجد أدلة على وجود حشرات وعناكب وعُث ومئويات أرجل بدائية، علاوة على نباتات وعائية وفطريات بسيطة. تصير الأسماك الفكية ذات الهياكل العظمية أكثر شيوعًا، بما فيها الأسماك اللَّحْمِيَّة الزعانف الشبيهة في بنيتها بأول البرمائيات الشبيهة بالسمندل التي تَظهَر عند نهاية العصر الديفوني؛ وهذه هي أول الفقاريات الأرضية.

خلال القسم التالي من السجل الجيولوجي — العصر الفحمي (٣٦٠–٢٨٠ مليون عام مضت) — تصير أشكال الحياة البرية وفيرةً ومتنوعةً. إن ترسيبات الفحم — التي منها جاء اسم هذا العصر — هي البقايا المتحجرة للنباتات الشبيهة بالأشجار التي كانت تنمو في المستنقعات الاستوائية، لكن هذه النباتات مشابِهةٌ للسراخس ونباتات ذيل الحصان المعاصرة، ولا تربطها علاقةٌ بالأشجار المتساقطة الأوراق أو الدائمة الخضرة الحالية. توجد بقايا الزواحف البدائية — أول الفقاريات التي تستقل تمامًا في معيشتها عن الماء — عند نهاية العصر الفحمي. وفي العصر البرمي (٢٨٠–٢٥٠ مليون سنة مضت)، يوجد تنوُّع عظيم للزواحف، وبعض هذه الزواحف له ملامح تشريحية شبيهة بدرجة كبيرة بملامح الثدييات (الزواحف الشبيهة بالثدييات)، ويَظهَر في هذا الوقت بعض مجموعات الحشرات الحديثة، كالبق والخنافس.

ينتهي العصر البرمي بأكبر مجموعة من الانقراضات يمكن رؤيتها في السجل الحفري، فقد اختفى فيها بالكامل بعضُ المجموعات التي كانت مهيمنةً فيما سبق، كثلاثيات الفصوص، ومُحِيت فيها مجموعات أخرى بشكل شبه تام. وخلال التعافي الذي تلا ذلك، تَظهَر مجموعة متنوعة جديدة من الأشكال، سواء أكانت على الأرض أم في البحر؛ ففي العصر الترياسي (٢٥٠–٢٠٠ مليون سنة مضت) تظهر نباتات شبيهة بشجر الصنوبر والسيكاد الحديث، وتظهر أيضًا الديناصورات والسلاحف والتماسيح البدائية، وعند نهاية ذلك العصر تمامًا نجد أول ظهور للثدييات الحقيقية؛ وهذه الثدييات يميِّزها عن سابقاتها أنها تمتلك فكًّا سفليًّا مكوَّنًا من عظمة واحدة متصلة بالجمجمة مباشَرةً (العظام الثلاث التي تشكِّل هذه الصلة في جماجم الزواحف تطوَّرَتْ إلى العظام الداخلية الصغيرة الموجودة في آذان الثدييات، انظر الفصل الثالث). كما تظهر أسماك عظمية شبيهة بالأشكال الحديثة في البحر. وفي العصر الجوراسي (٢٠٠–١٤٠ مليون عام مضت)، تتنوع الثدييات بدرجةٍ ما، لكن لا تزال الزواحف — خاصةً الديناصورات — هي المهيمنة على الحياة الأرضية. تظهر كذلك الزواحف الطائرة والأركيوبتركس، وللمرة الأولى يظهر الذباب والأرضات، والأمر عينه ينطبق على السرطانات وجراد البحر. فقط في العصر الكريتاسي (١٤٠–٦٥ مليون عام مضت) تطوَّرَتِ النباتات المزهرة، وهي آخِر مجموعات الكائنات الكبرى تطورًا من الناحية الزمنية، وأيضًا يمكن العثور على كل مجموعات الحشرات الحديثة الكبرى بحلول ذلك الوقت. تظهر الثدييات الجرابية (الجرابيات) في منتصف العصر الكريتاسي، ويمكن العثور على أشكال شبيهة بالثدييات المشيمية الحديثة قرب نهاية ذلك العصر. لا تزال الديناصورات وفيرةَ العدد، لكنَّ عددَها يتناقص في نهاية ذلك العصر.

ينتهي العصر الكريتاسي بأشهر أحداث الانقراض الكبرى؛ ذلك الحدث المرتبط باصطدام كويكب بمنطقةِ شبهِ جزيرة يوكاتان بالمكسيك؛ اختفت كلُّ الديناصورات (عدا الطيور)، إلى جانب العديد من أنواع الكائنات التي كانت شائعةَ الوجود على الأرض أو في البحار. يلي ذلك العصرُ الثلثي، الذي يمتدُّ حتى بداية العصر الجليدي الكبير، منذ نحو مليونَيْ عام مضت. خلال القسم الأول من العصر الثلثي، بين ٦٥ و٣٨ مليون عام مضت، تظهر المجموعات الرئيسية من الثدييات المشيمية؛ في البداية، تكون هذه الثدييات شبيهةً بآكِلات الحشرات الحديثة كالذباب، لكن بعضها يصير متمايِزًا على نحو كبير بنهاية تلك الفترة (الحيتان والخفافيش على سبيل المثال). أغلب المجموعات الرئيسية للطيور موجودة، علاوة على الأنواع الحديثة من اللافقاريات، وكل مجموعات النباتات المزهرة عدا الكلأ، وتوجد أيضًا بوفرة أسماكٌ عظمية من النوع الحديث تقريبًا. وبين ٣٨ و٢٦ مليون عام مضت، تظهر المراعي، ويرتبط بها ظهورُ حيوانات رعي شبيهة بالخيول حوافرُها ذات ثلاثة أصابع (بدلًا من إصبع واحد كما في الحصان الحديث)، وتَظهَر أيضًا القِرَدة البدائية في هذه الفترة. وبين ٢٦ و٧ ملايين عام مضت، تنتشر مروج المراعي في أمريكا الشمالية، ونجد الخيول ذات الأصابعِ القصيرة الجانبية والأسنانِ ذات التيجان العالية المتكيفة من أجْل الرعي. يظهر العديد من ذوات الحوافر، كالخنازير والغزلان، كما تَظهَر الجِمَال والأفيال، وتصير القِرَدةُ والسعادين أكثر تنوُّعًا، خاصةً في أفريقيا. وبين ٧ ملايين ومليونَيْ عام مضت، تتسم الحياةُ البحرية بملمَحٍ حديث في الأساس، بالرغم من أن العديد من الأنواع التي كانت تعيش وقتَها صارت الآن منقرضةً. تَظهَر أولى البقايا الخاصة بكائنات ذات ملامح بشرية مميزة في هذه الفترة. وتشهد نهايةُ العصر الثلثي، بين مليونَيْ عام مضت و١٠ آلاف عام مضت، سلسلةً من العصور الجليدية، وأغلب الحيوانات والنباتات اتخذت وقتَها شكلَها الحديث. وبين نهاية العصر الجليدي منذ ١٠ آلاف عام والوقت الحاضر، صار البشرُ الحيوانَ الأرضي المهيمن، وانقرضت أنواعٌ عديدة من الثدييات الضخمة. هناك بعضُ الأدلة الأحفورية المؤيِّدة للتغيُّر التطوري على مدار هذه الفترة، مثل تطور نُسَخ قِزْمة من العديد من أنواع الثدييات الضخمة على الجُزُر.

يوحي إذن السجل الحفري بأن الحياة نشأت في البحار منذ ما يزيد عن ثلاثة مليارات عام، وأنه لأكثر من مليار عام كانت الكائناتُ الوحيدةُ الخلية القريبة بالبكتيريا هي وحدها الموجودة على الكوكب، وهذا تحديدًا ما نتوقَّعه وفقَ نموذج تطوري؛ فتطوُّرُ الآلية المطلوبة لترجمة الشفرة الوراثية إلى تتابعات بروتينية، بل التنظيم المعقَّد أيضًا حتى لأبسط خلية، من المؤكَّد أنه تطلَّبَ العديدَ من الخطوات، وتفاصيلُ هذه الخطوات تستعصي على خيالنا بشكل شبه تام، كما أن الظهور المتأخر في السجل الحفري لأي أدلة واضحة على الخلايا الحقيقية النوى، بما هي عليه من تنظيم أكثر تعقيدًا مقارَنةً ببدائيات النوى، يتفق هو أيضًا مع التطور. والأمر عينه ينطبق على الكائنات العديدة الخلايا، التي يتطلَّب تطورُها من خليةٍ وحيدةٍ آلياتِ نقلِ إشارةٍ معقَّدةً من أجل التحكم في النمو والتمايز؛ وهذه الآليات يستحيل أن تكون قد تطوَّرَتْ قبل أن توجد أشكال الحياة الوحيدة الخلية. وما إنْ تطوَّرَتِ الأشكال البسيطة العديدة الخلايا، يكون مفهومًا كيف أنها تنوَّعَتْ بسرعة إلى أشكال عديدة، متكيِّفة مع الأنماط المختلفة للحياة، كما حدث في العصر الكمبري. وفي الفصل التالي سنناقش موضوعَيِ التكيُّف والتنوُّع.

إن حقيقة كوْنِ الحياة بحريةً بشكل حصري لفترة هائلة من الوقت تصير مفهومةً هي أيضًا من منظور تطوري؛ ففي أوائل تاريخ الأرض، تُظهِر الأدلةُ الجيولوجية أنه كان هناك القليلُ من الأكسجين في الغلاف الجوي؛ ومن ثَمَّ أدَّى غيابُ الحماية من الإشعاع فوق البنفسجي بواسطة طبقة الأوزون — التي تتكوَّن من الأكسجين — إلى منع ظهور الحياة على البر أو حتى في المياه العذبة، وما إنْ تراكَمَ مقدارٌ كافٍ من الأكسجين نتيجةً لأنشطة التمثيل الضوئي التي قامَتْ بها أشكالُ البكتيريا والطحالب المبكرة، حتى أُزِيل هذا العائقُ، وانفتَحَ الباب أمام غزو البر. وهناك أدلة على وجود زيادة في مستويات الأكسجين في الغلاف الجوي خلال الفترة السابقة على العصر الكمبري، وهو الأمر الذي ربما سمح بتطوُّر حيواناتٍ أكبر وأكثر تعقيدًا. وعلى نحو مشابه، يصير ظهورُ حفريات الحشرات الطائرة والفقاريات بعد بزوغ الحياة على البر أمرًا منطقيًّا؛ لأنه من غير المرجح أن تستطيع حيواناتٌ طائرةٌ حقيقيةٌ التطوُّرَ من أشكال حياة مائية خالصة.

إن الظاهرة المتكررة المتمثِّلة في ظهور أشكال حياة متنوعة ووفيرة، متبوعة بانقراضها الكلي (كما في حالة ثلاثيات الفصوص والديناصورات)، أو اختزالها إلى شكل واحد أو بضعة أشكال قليلة العدد باقية (كشوكيات الجوف)؛ تصير منطقيةً أيضًا في ضوء التطوُّر، الذي لا تملك آلياتُه قدرةً على الاستبصار، وتعجز عن ضمان قدرةِ الكائنات الناتجة على البقاء على قيد الحياة في وجه تغيُّرات بيئية كبرى. وعلى نحو مشابه، التنوعُ السريع للمجموعات بعد استعمار موئلٍ جديدٍ (كما في حالة غزو البر)، أو بعد انقراض مجموعة منافِسة مهيمِنة (كما في حالة الثدييات بعد اختفاء الديناصورات)، هو أمر متوقَّع وفقَ مبادئ التطور.

إن تفسير السجل الحفري في ضوء المعرفة البيولوجية يتبع إذن مبدأَ الوتيرة الواحدة الذي يطبِّقه الجيولوجيون على تاريخ بنية كوكب الأرض، وربما تكون الأدلةُ الحفرية قد أظهرَتْ أنماطًا تُكذِّب نظريةَ التطور، لكنْ يُروَى عن عالِم الوراثة والمناصِر الكبير لنظرية التطوُّر جيه بي إس هالدان، أنه أجاب عن سؤالٍ بشأن الاكتشاف الذي يمكن أن يجعله يتخلَّى عن إيمانه بنظرية التطوُّر، بقوله: «أرنب من وقت يسبق العصر الكمبري.» وإلى الآن لم يتمَّ اكتشافُ حفريةٍ مثل هذه.

أنماط مكانية

ثمة مجموعة أخرى من الحقائق تصير منطقيةً فقط في ضوء التطور، وهي تأتي من توزيع الكائنات الحية عبر المكان، وليس الزمان، على النحو الذي وصفه داروين في فصلين من الفصول الخمسة عشر التي تؤلِّف كتاب «أصل الأنواع». من أكثر الأمثلة بروزًا على هذا الحياةُ النباتية والحيوانية للجزر المحيطية، مثل جزر جالاباجوس وهاواي، التي تُبيِّن الأدلةُ الجيولوجية أنها تكوَّنَتْ بفعل النشاط البركاني ولم تكن متصلةً قطُّ بأية قارة. وفقَ نظريةِ التطور، الكائناتُ التي تقطن مثل هذه الجزر اليومَ لا بد أنها منحدرةٌ من أفرادٍ كانوا قادرين على عبور المسافات الشاسعة، التي تفصل الجزر المتكوِّنة حديثًا عن أقرب أراضٍ مسكونة. وهذا يضع قيودًا عدة على ما قد نجده؛ أولًا: صعوبة استعمار منطقة نائية متكوِّنة حديثًا تعني أن عددًا قليلًا فقط من الأنواع سيكون قادرًا على تثبيت نفسه. ثانيًا: وحدها أنواع الكائنات التي لها سماتٌ تمكِّنُها من عبور مئات أو آلاف الأميال عبر المحيط، ستتمكَّن من تثبيت نفسها. ثالثًا: حتى في المجموعات الممثَّلة، ستكون الأنواعُ الموجودة معرَّضةً لعنصرِ عشوائيةٍ مرتفعٍ، وذلك بسبب عدد الأنواع الصغير الذي يصل إلى تلك الجزر. وأخيرًا: سيُنتِج التطورُ على مثل هذه الجزر النائية أشكالًا عديدةً لا يمكن أن نجدها في مكان آخَر.

تؤكِّد الأدلة، بشكل مُبهِر، صحةَ هذه التوقعات؛ فالجزر المحيطية تميل بالفعل إلى أن تكون بها أنواعٌ قليلة من أي مجموعة رئيسية، وذلك مقارَنةً بالقارات أو الجزر القريبة من السواحل والتي لها مناخ مشابه. تختلف أنواعُ الكائنات الموجودة في الجزر المحيطية، قبل وصول البشر إليها، اختلافًا تامًّا عن الأنواع الموجودة في أي مكانٍ آخَر؛ على سبيل المثال: الزواحف والطيور تكون في المعتاد موجودة، بينما تكون الثدييات والبرمائيات غائبة؛ ففي نيوزيلندا، لم تكن هناك أي ثدييات برية قبل أن يقطنها البشر، وإن كان هناك نوعان من الخفافيش بها. هذا يعكس قدرةَ الخفافيش على عبور مساحات شاسعة من المياه المالحة. كما أن الانتشار الواسع لأنواع عديدة بعد استيطان البشر يبيِّن بوضوحٍ أن الظروفَ المحلية لم تكن هي ما يمنع هذه الأنواعَ من ترسيخ نفسها في هذه المناطق، لكن حتى بين الأنواع الرئيسية من الحيوانات والنباتات الموجودة، عادةً ما نجد مجموعاتٍ غائبةً بالكامل، بينما تُمثَّل مجموعاتٌ أخرى بما لا يتناسب وحجمَها. وهكذا يوجد على جزر جالاباجوس ما يربو فقط على العشرين نوعًا من الطيور البرية، منها ١٤ نوعًا من الشرشوريات؛ تلك الشرشوريات الشهيرة التي وصفها داروين في ملخص سفرياته حول العالم على متن سفينة بيجل. هذا مخالف تمامًا للوضع في المناطق الأخرى، التي تشكِّل فيها الشرشورياتُ نسبةً بسيطة للغاية من الطيور الأرضية، وهذا الوضع تحديدًا هو ما يتوقَّعه المرءُ لو كان هناك عددٌ صغير من أنواع الطيور التي استوطنَتِ المنطقةَ في الأساس، وكان أحدها نوعًا من الشرشوريات صار سلفَ تلك الأنواع الموجودة حاليًّا.

مثلما تتنبَّأ هذه النظرة، تُقدِّم الجُزُرُ المحيطية أمثلةً عديدة للأشكال التي تتفرَّدُ هذه الجزرُ بها، لكنها كذلك تملك أوجهَ شبهٍ مع الأنواع الموجودة على البر الرئيسي؛ على سبيل المثال: ٣٤ بالمائة من أنواع النباتات الموجودة في جزر جالاباجوس غير موجودة في أي مكان آخَر في العالم. وتُظهِر شرشوريات داروين مقدارًا من التنوُّع، من حيث أحجام المناقير وأشكالها، أكبرَ كثيرًا ممَّا هو موجود في المعتاد بين الشرشوريات (وهي في المعتاد عصافيرُ آكِلةٌ للبذور لها مناقير كبيرة عميقة)، وهذه المناقير من الواضح أنها متكيِّفة بحيث تُلائِم أنماطًا مختلفة من عمليات جمع الغذاء (الشكل ٤-٤). بعض هذه الأنماط غير معتادٍ بدرجة كبيرة، مثل قيام الشرشور الأرضي الحادِّ المنقار من النوع «جيوسبيزا ديفيسيليس» بنقْرِ مؤخرةِ الطيور البحرية المعشِّشة وشُرب دمائها، بينما يستخدم الشرشورُ نقَّارُ الخشب من النوع «كاكتوسبيزا باليدا» الأغصانَ أو أشواكَ الصبار في استخراج الحشرات من الخشب الميت. بل يمكننا العثور أيضًا على أمثلة أكثر غرابةً على التطور الجامح في مجموعات أخرى من الجزر المحيطية؛ على سبيل المثال: عددُ أنواع ذبابة الفاكهة في هاواي يتجاوزُ العددَ الموجود في باقي أنحاء العالم، وهي متنوعة بدرجة مذهلة من حيث حجم الجسم وشكل الأجنحة وعادات الغذاء.
fig12
شكل ٤-٤: رسم توضيحي لمناقير الشرشوريات التي وصفها داروين، يُظهِر الاختلافاتِ في الحجم والشكل بين الأنواع المعتمِدة على نُظُمٍ غذائية مختلفة.
fig13
شكل ٤-٥: شجرة تطوُّر الشرشوريات التي وصفها داروين وأقربائها. الشجرة مبنية على الاختلافات الموجودة بين الأنواع المختلفة في تتابعات الدي إن إيه لجين موجود في الميتوكندريات الخاصة بها. طول الأفرع الأفقية في الشجرة يشير إلى مقادير الاختلافات بين الأنواع (تتراوح بين ٠٫٢٪ في حالة الأنواع الأقرب بعضها إلى بعض، و١٦٫٥٪ في حالة الأنواع الأبعد بعضها عن بعض). تبيِّن الشجرةُ أن أنواع جزر جالاباجوس تشكِّل عنقودًا من الواضح أنه منحدر من سلف واحد مشترك، وأن لديها جميعًا تتابعاتٍ متشابهةً لهذا الجين، وهو ما يتفق وكون هذا السلف حديثًا إلى حدٍّ كبير. وعلى النقيض، أنواعُ الشرشوريات الأخرى يتباين بعضُها عن بعض كثيرًا.
هذه الملاحظات تصير قابلةً للتفسير لو أن أسلاف هذه الأنواع المُستعمِرة للجزر وجدَتْ نفسها في بيئة خالية من أي منافِس متوطِّن، ومن شأن هذا الموقف أنه سمح بتطوُّر سمات كيَّفَتِ الأنواعَ المُستعمِرة مع طرق الحياة الجديدة، وسمح بتنوُّع النوع السَّلَف إلى عدة أنواع منحدرة. وبالرغم من التعديلات غير المعتادة في البنية والسلوك التي نراها في الشرشوريات التي درسها داروين، فإن دراسات الدي إن إيه الخاص بها، التي أُجرِيت بالطرق المذكورة في الفصلين الثالث والسادس، تُبيِّن أن هذه الأنواع لها أصل حديث نسبيًّا يعود إلى نحو ٢٫٣ مليون عام مضت، وهي مرتبطة على نحو وثيق بالأنواع الموجودة على البر الرئيسي (شكل ٤-٥).
وقد كتب داروين في مؤلَّفِه «أصل الأنواع» واصفًا الكائنات التي تقطن جزر جالاباجوس يقول:

هنا، كلُّ نتاجٍ تقريبًا للأرض وللماء يحمل طابعًا جليًّا للقارة الأمريكية؛ فهناك ستة وعشرون نوعًا من الطيور الأرضية، خمسةٌ وعشرون منها صنَّفَها السيد جولد بوصفها أنواعًا منقرِضة، من المفترض أنها خُلِقَت هنا، ومع ذلك فالتشابُه اللصيق لأغلب هذه الطيور مع الأنواع الأمريكية في كل سمة، في عاداتها وحركاتها ونغمات صوتها، كان جليًّا. والحال كذلك بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى، وكلِّ النباتات الأخرى تقريبًا، كما بيَّنَ د. هوكر في مذكراته الجديرة بالإعجاب عن الحياة النباتية في هذا الأرخبيل. إن عالِم الطبيعة، إذ ينظر للكائنات التي تقطن هذه الجزرَ البركانية في المحيط الهادي بعيدًا بمئات كثيرة من الأميال عن القارة؛ يشعر أنه يقف على أرض أمريكية. لِمَ ينبغي أن يكون الحال كذلك؟ لِمَ ينبغي لنوع من المفترض أنه خُلِق في أرخبيل جالاباجوس، وليس في أي مكان آخَر، أن يحمل بهذا الجلاء طابعًا للتشابه مع تلك الأنواع التي خُلِقت في أمريكا؟ لا يوجد شيء في ظروف الحياة، أو في الطبيعة الجيولوجية للجزر، أو في ارتفاعها أو مناخها، أو في النِّسَب التي ترتبط بها الأصنافُ المختلفة معًا، يشبه عن كثبٍ الظروفَ الموجودة في ساحل أمريكا الجنوبية، في الواقع، هناك قدْرٌ كبير من الاختلاف في كل هذه الجوانب.

ونظرية التطور، بالطبع، تقدِّم الجوابَ على هذه الأسئلة، وقد أكَّدَتِ الدراساتُ التي أُجرِيتْ على أشكال الحياة على الجزيرة عبر المائة والخمسين عامًا الماضية، الأفكارَ الثاقبة التي تَوصَّل إليها داروين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤