الفصل الثانى

المنظر الأول

سوق البزازين بالمدينة البيضاء

(تمثل الستارة الخلفية منظر سوق وفي جانب المسرح يظهر جزء من الدكان الذي استأجره الأمير أردشير وجانب من بضائعه مرصوصة فيه وثلاثة من غلمانه، ويراعى أن يكون ترتيب هذه الأشياء على رف مدرج يسهل رفعه بسرعة في نهاية المنظر الأول عند الاستعداد العاجل لعرض المنظر الثاني.)

أحد الغلمان (سليم) :
بالله قل لي يا (نسيمُ) وقد مضت
هذي الأسابيع الطوال علينا!
ما يرتجي المولى (الأمير)؟ فما أرى
(لوزيرنا) رأيًا يخفف بينا!
ولربما لو جاء حرًّا وحده
لأنيل من يهوى ورق إلينا!
الغلام الثاني (نسيم) :
لا يا (سليمُ) فما (الأميـ
ـرُ) بفائز دون (الوزير)
والعرف يقضي باصطحا
بهما على الأمر العسير
لولا التعاون ما ارتقى
حِلم١ على الحدَث الخطير
لا تنس أنا في بلا
د للخصومة لا النصير
الغلام الثالث (يوسف) :
عندي حديث كله
عجب من الخبر اليقين
إن شئتما فلسوف أر
ويه بإخلاص الأمين
سليم ونسيم :
قل ما لديك معجِّلًا
فلربما عاد الأمير
يوسف :
مهلًا خليليَّ مهلًا
إن الحديث شجون
هل تعلمان بحقٍّ
مَن العجوز الصديقه؟
سليم ونسيم :
كلا!
يوسف :
إذن فاسمعاني
فإن وصفي فنون!
إن قلت موضعَ سرٍّ٢
فما عدوتُ الحقيقه
سليم ونسيم :
من يا تُرى؟
يوسف :
هذي وربكما وحقـ
ـكما مربِّية الأميره!
سليم ونسيم (في تعجب) :
حقًّا مربية الأميره!
يوسف (ينشد هذه الأبيات وصاحباه في انتباه إلى معانيها وتعجب في مواضع ذلك) :
حقًّا مربية الأميره!
أعطى الأميرُ لها النَّضا
رَ وأنفسَ الحُلَل النضيره
ما بين إهداء إليـ
ـها وهدايا لفتاته
ما بين نقل للرسا
ئل وهي تقسو لشكاتِه
وإذا العجوز مُجِدَّةٌ
بتحايل تُبقي التخاطُب
لكن أبى خُلُق الأميـ
ـرةِ أن يطول بها التلاعُب
غضبتْ عليها فأذا
قتْها عذابًا ثم طَرْدَا
مرضتْ فجاءت للأميـ
ـر تبثُّه سُخطًا ووجدَا
سليم ونسيم :
مسكينة مسكينه!
يوسف :
والآن ولَّى الشهر
بعد غيابها، لكنها
عرفت مكان مبيته
وكذاك عُرِّفَ بيتها
وأرى الأمير كأنما
يزهو رضًى وتفاؤلَا
لكنني لم أستطع
— وأنا الصغير — تساؤلَا
سليم :
سمعًا إذن يا صاحبا
يَ وإن جهلتُ كثيرًا
نسيم ويوسف :
ماذا لديك؟
ماذا لديك؟
سليم :
إني علمتُ السرَّ في
بُغض الأميرة للرجال
وسمعت أقوال العجـ
ـوز كأنها حُلم الخيال
لكنني آثرت دفـ
ـعًا لأذى قيلٍ وقال
وكذاك لم أفطن إلى الـ
ـمَغْزَى ولا للاحتمال
ما كنت أدري أنها
في القصر سيدة الموالي
نسيم ويوسف :
ما سِرُّها؟
ما سِرُّها؟
سليم :
سأل الأمير لِمَ القِلَى
ولِمَ التجنب للحبيب؟
فإذا العجوز تُعلل الـ
إعراض بالحُلم العجيب
قالت: رأتْ بنتُ المليـ
ـك كما يخال النائم
الصائدَ الوسنانَ ينصـ
ـب للطيور الشَّرَكا
فأتت٣ لتلتقط الحبو
بَ وقد نجت إلا فريدَا
ذَكَرٌ من الطير اغتدَى
في الفخ منكوبًا وحيدَا
لكنَّ أنثاه أبت
إلا الرجوع إلى خلاصه
وتمكنت بعد الكفا
ح فخلَّصته وحَوَّمَا!
حتى إذا ما عاد صا
حبنا النئوم ليقظته
بذل التفنُّنَ كي يُقوِّم
من خيوط الشَّرَك
وأعاده في حالةٍ
تدعو الحريص إلى العثار!
ثم ارتضى نوم الهني
ءِ على وثوقٍ بالجزاء
فإذا الطيور تعود تلـْ
ـقط حَبَّه دون الوقوع
إلا التي قد خلَّصَت
من قبلُ طائرها الذَّكَر
فإذا به قد فاتها
ومضى مع الطير النفور
وأبى الرجوع لكي يخلِّصها
فحلَّ بها الخَطَر
فلقد أفاق الصائدُ الـ
ـوسنانُ ملتفتًا إليها
فأغاثها لكن ليذ
بحها ولم يعطف عليها!
نسيم ويوسف :
يا للقساوهْ!
يا للقساوهْ!
سليم :
فاستيقظت من حُلمها
مرعوبةً منه الأميرهْ
ورأته رمزًا للخيا
نة لا الوفاءِ من الذكور
فأبت وثوقًا بالرجا
ل كما أبت وحي الزواج
نسيم :
حاذرْ فها هو قادم!
يوسف :
وأراه يصطحب الوزير!

(يدخل الأمير بعد هنيهة قليلة ومعه الوزير وكلاهما في زي تاجر ويتنحى الغلمان إلى زاوية من الدكان.)

الأمير أردشير (مخاطبًا الوزير على انفراد في جانب المسرح البعيد عن الدكان) :
قد مر شهر طويل
على انتظار اللقاء
فليت شعري أيأتي
غد بطب لدائي؟!
قد نبأتني العجوز الـ
ـيوم عن كل آت
وطالبت بمبيتي الـ
ـليل في البستان
ففي غد سوف تمضي
إليه قرب الأميره
فقد دعتها إليها
وعادتا للتصافي
وعندها سوف أحظى
بقربها بل بخلدي!
الوزير :
تشجَّعْ واسْعَ للأمل القَصِيِّ
فما أدناه للساعي الوفيِّ
وعندك عُدَّة: عقل ومال
فنلْ بهما حظوظ الألمعيِّ
تحايل واصرف الجنَّان٤ والبث
إلى الغد في شذى الزهر النديِّ
وكن مستبشرًا فالقصر أضحى
مثال الرونق الفذِّ البهيِّ
وهذي حكمة منا وَجُودٌ
لنفع الحارس العاني الشقيِّ
وما هو عارف سرًّا لدينا
ويحسب جودنا برَّ الزكيِّ
ليرضى عنه أهلوه فيحظى
بجائزة وبالعيش الرضيِّ
وهذا القصر أضحى خيرَ وافٍ
يدافع عنك بالرسم الجليِّ
ففيه الحلم منقوش مضافًا
إليه نهاية الطير القصيِّ
كما شاهدت في إعجاز رسمٍ
يؤثِّر في هوى القلبِ العصيِّ
كأن نقوشه سحر ولكن
تجمَّل بالهداية من نَبيِّ
فهيا يا بُنَيَّ الآن هيَّا
وأَعْدِد عُدَّة الآني الهنيِّ

(يبدآن بالمسير فيسمعان غناء عن بُعد يقترب منهما فيقفان للاستماع.)

بنات السوق :
إنَّ أشهى ما يُحيِّينا الجمال
فهو روح وغذاء ودِثار
وضياءٌ يملأ الدنيا سَنَى!
يا جميل الوجه يكفيك الجلال
أمتع الألباب نورًا وازدهار
وابقَ للتجار والناس غِنَى!

(تنزل الستار ويبقى معظم النور مطفأ دقيقتين استعدادًا للمنظر الثاني بينما تعزف الأركسترا أثناء الاستعداد قطعة صغيرة.)

المنظر الثاني

بستان الأميرة والقصر المجدَّد

(إلى يسار المسرح مشهد بَهْو القصر المجدد والواضح منه الحائط الجانبي والحائط الخلفي وبعض السقف فقط، وعلى حائطه الخلفي فوق الباب المؤدي إلى البستان تمثيل حلم الأميرة مضافًا إليه ما ابتدعه الوزير من اختطاف جارح للطير الذَّكر وقتله وامتصاص دمه وأكل لحمه وهذا ما حال دون إنقاذه أُنثاه، وإلى جانب حائط البهو مشهد البستان الرائع وأماكن صالحة للاختباء فيه. ويبدأ هذا المنظر الثاني قبيل الفجر ويراعى تدرج النور أثناء تقدم هذا المنظر.)

الأمير أردشير (يغني عن بُعد مختفيًا بين الأشجار والأزهار ثم يلوح بينها ويختفي ثانيًا) :
أيهذا الفجر كُن رمز الوفاء
لفؤاد العاشق الباكي الحزين
طال ليلي وكذا طال الشقاء
فابتسم يا فجر بالنور الأمين
إنني أمشي على خيط الأمل
في اضطراب
قَطْعُه يُنهي الأماني والأجل
وشبابي
وبقائي هكذا رغم الحيل
في عذاب
حالة أقسى مرارًا من قضاء
يهدم الأحلام هدمًا للفناء
فابتسم يا فجر برًّا بالرجاء
طالما ناجاك عشق الأتقياء
ابتسم برًّا بطُهري وشبابي!

(يوشك في نهاية الإنشاد أن يتم إشراق الصباح ويختفي الأمير بين أشجار الفاكهة وتدخل بعض جواري الأميرة الحسان من الجانب الأيمن للمسرح حيث أشجار البستان وأزهاره.)

الجواري :
أهلًا بفصل الثمار
الفاتن الألباب
المزدهي بالدراري
وبالجمال المُجاب
وبالأماني السريَّه!
(حوَّاء) لو شارَكَتْنا
فيه لما أنذرَتْنا
بل أكرمت ما حَبَتْنا
هذي الجنان ففُتْنَا
ذكرى القديم الجميل!
والآن تأتي (الأميره)
ضحيانة مستنيره
تأسو القلوبَ الكسيره
تغذو الغصون النضيره
تحيي النسيم العليل!
أهلًا بفصل الثمار
الفاتن الألباب
المزدهي بالدراري
وبالجمال المجاب
وبالأماني السَّرِيَّه!

(تدخل الأميرة ومعها مربيتها من جانب المسرح الممثل للبستان فتستقبلها الجواري بمظاهر الاحترام.)

الأميرة حياة النفوس :
ما أرقَّ (الطبيعة)
ما أحب النسيم
بالحليِّ الوديعه
والجمال الوسيم
هذه وَحْدَها
لذَّتي في الحياه
ما أرى بعدها
نعمةً جنب جاه
حَظُّكُنَّ المُوالِي
يومُنا يا جَواري
سِرْنَ سيرَ اختيال
والزمانَ المجاري
ولتدعنَ انتظاري
حَظُّكُنَّ الجمال
كُلْنَ أشهى الثمار
في مَراح الدَّلال!
الجواري (قبل انصرافهن) :
يا رَبَّة الحسن شكرًا
وطاعة لمرادِكْ
هيهات يغنمُ ظَفْرًا
ذو نعمة ببعادِكْ
المربية :
إذا سمحتِ قليلًا
برقصةٍ للجواري
أعطيتهِنَّ جزيلًا
يفوق أغلى النضار
عَشِقْنَ حُسنكِ عشقًا
كالنحل والأزهار!
الأميرة :
ارقُصْنَ يا غانياتي
فالرَّقص فنٌّ جميل
كم مِن معاني الحياة
به، وشعرٌ نبيل!
الجواري (يرقصن على هذه الأغنية) :
الجمال المعتلي
للزهور * والغصون
عُدَّ أنسَ المجتلي
والشعور * والعيون
بينما * ما سما
بعد ما * زُرْتِهِ
كلُّ ما * أنعما
أنتِ قد * زِدْتِه
للعُيون * للفنون!

•••

نضرةُ البستان أنتِ
نضرةٌ مِلءَ الهواء
والمياه والثمار
مذ تجليْتِ وبِنْتِ
لأماني السعداء
من كبار وصغار
من نبات وحياه
وخريرٍ للمياه!

(تخرج الجواري بعد أداء تحايا الاحترام في نهاية الرقص بينما تكون الأميرة ومربيتها على وشك الدخول إلى بهو القصر من الباب المتصل بالبستان السالف الذكر، وفي القصر من الأثاث الشرقي الملكي الثمين ما يلفت النظر.)

الأميرة (فرحة بتجدد القصر) :
حقًّا جميل ولكن
ما يرتجي البستاني؟
المربية :
لا شك يرجو جزاءً
ونعمةَ استحسان
ما ضَنَّ بالبذل حتى
يُرضيكِ يا مولاتي
وأنتِ ربَّةُ جودٍ
ومطلعُ الخيرات
الأميرة (متعجبة وقد تفهمت الرسوم الممثلة للحلم على الحائط) :
فلْيُعْطَ من ذهبي جزاء وفائه
ألفين، معتزًّا على نظرائه
ماذا أرى؟!
المربية :
ماذا؟
الأميرة (مشيرة بيدها إلى الصور التي على الحائط) :
أدقُّ براعة
للراسم النَّقَّاش في استيحائِه
قد مثَّل الحُلْمَ الذي قد راعني
لكن أضاف إليه ما قد فاتني
لا شك أني قد ظلمت الطير إذ
قد صِيدَ، فهو مُضَرَّج بدِمائه
والجارح الباغي يمصُّ دماءَه
طورًا ويأكله عتيًّا لا يني
فمضى شهيدًا مثل أنثاه وما
خان المحبة بل قضى بوفائه
المربية (محاولة التأثير على الأميرة لتنزع منها كره الرجال) :
هذا وربي شاهد
للطائر المسكين
ما كان ينسى إلفه
لولا مماتُ غبين
وكذلك الإنسان لا
ينسى الوفاء لزوجته
ولَكَمْ يُضحِّي بالنفيـ
ـس لها لأجل محبَّته
ويرى الفَخار شهامة
في منتهى إيثارِه
الحب نور رجائِه
والحب كلُّ شعاره!
الأميرة :
ظلمتُ الطائرَ المسكيـ
ـن والإنسانَ من حُلمي
وخيرُ الحكم تجربةٌ
فليس الحُلم كالعِلم!
هلمِّي الآن كي نَحظى
بأنس الروض يا أمي!
المربية :
هلُمَّ الآن سيدتي
نسير بغير أتباع
ففي الأزهار أُلَّافٌ
ودَاعٍ بعده داع!
وفي الأثمار والأشجا
ر أنواع لإبداع

(تخرج الأميرة وخلفها المربية من الباب المؤدي إلى البستان.)

الأميرة (متأمِّلة معجَبة بالمناظر) :
لله ما هذا الجمال!
صور تُعد من المحال!
الخالق الرحمن ينـ
ـثر بينها السحر الحلال!
المربية :
يا خفيًّا بلطفه
نجِّنا من خوفنا!

(يبدو الأمير عن بعد كما اتفق مع المربية.)

الأمير :
لي غرامٌ لن يُضاهَى
وحبيبٌ لن يُوافي
يا فؤادي أيُّ ذنب
لهيامي وعفافي؟!
أنقذيني يا نعيمي
من جحيم ملء يأسي
واعطفي كالشمس تأبى
ظلمات حول نفسي!
الأميرة (وقد لمحته) :
أمي! ترى من يكون
هذا الفتى في جماله؟!
تأملي! أي حُسن
يرف ملء اعتداله!
المربية :
هذا ولا شك عندي
من قد رفضتِ سؤاله
التاجر المتخفِّي
الأميرة (متعجبة) :
التاجر المتخفي؟!
المربية :
نعم! فما هو إلا
ذاك الأمير الكبير
المستعز بملكٍ!
الأميرة :
وما اسمه؟
المربية :
(أردشير)!
الأمير (وقد التفت عند سماع اسمه فالتقى نظره بنظر الأميرة) :
يا حياتي ويا (حياة النفوس)!
الأميرة (وقد تسلط عليها الحب لأول نظرة) :
يا حبيبي برغم حظ عبوس!

(يقترب إليها الأمير ويمسك بيدها ويقبلها.)

الأمير :
ارحمي الذي عَشِقَا
كم أضعتِهِ أرَقَا!
ارحمي ولا تَدَعِي
قلبه على جَزَعِ!

(ثم ينظر إلى عينيها وتنظر إليه ماسكين بأيدي بعضهما فيقبلها وتقبله.)

الأميرة :
هكذا الحب نظرة ثم قُبله
لذة صعبة على القرب سهله!

(يقتربان من باب القصر.)

المربية :
بالله هيا وادخُلَا
في القصر أمنًا من رقيب
الأميرة :
ادخل حبيبي حتى
أبُثَّكَ الآن حبي
لقد ظلمتك لكن
الآن أحمَدُ رَبِّي!
الأمير :
أعدتِ والله رُوحي
كما ضمدتِ جروحي!

(يدخلان ويجلسان معًا في احتضان وتقبيل بينما تبقى المربية متمشية في البستان.)

الأميرة :
ثق يا فؤادي بأنَّا
لم نجتمع لفراق!
الأمير :
يا حياتي! يا حياتي!
يا منار النَّيِّرَات!
أنتِ وِجْدَانِي فصُوني
نور وِجْدَانِي لآتِ!

(تبدو الجواري ثانيًا في البستان وينشدن.)

الجواري :
يا ربَّةَ الحسن عُدنا
ظمأى إليك كأنَّا
لم ننتعش بجمال!
الكون زاهٍ ولكن
إن غِبْتِ ما فيه فاتن
حتى لأهل الخيال!
المربية :
اغنمن نوم الأميره
واقطفْنَ أحلى الثمار
بين الغصون النضيره
والورد والجُلَّنار٥
الجواري :
طوعًا! ولو أن أشهى
أنس القلوب لديها
رغم المجالي البديعه
نامي (حياة النفوس)
في قصرك المحروس
بالفاتنات (الطبيعهْ)!

(تنزل الستار سريعًا عند إتمام النشيد.)

١  حلم: عقل.
٢  أي: العجوز.
٣  أي: الطيور.
٤  الجنان: البستاني.
٥  زهر الرمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤