الفصل الأول

(ميدان في «أثينا» … قد غمره ظلام الليل، ولكن خيطًا فِضيًّا من خيوط الفجر قد لمع في الأفق البعيد.)

(«براكسا جورا» تخرج من أحد المنازل، تحمل مصباحًا مضيئًا في يد، وعصًا غليظة في الأخرى … وهي مرتدية ثياب الرجال.)

براكسا جورا (تحرِّك في يدها المصباح) : أيها المصباح! … أيها الأمين على سِرِّنا، المطَّلع بعينك المضيئة على ما ندبِّر في الخفاء! … نحن النساء! … أرسل الإشارة المصطلح عليها بلسان لهبك الفصيح!

(تلتفت يَمنةً ويَسرة.)

عجبًا! … لست أرى طيفَ امرأة ممَّن ينبغي لهنَّ أن يجتمعن الساعة في هذا المكان … لقد أوشك الفجر أن يبزغ، وآن للمجلس أن يُعقد.

(تنظر حولها قليلًا.)

لماذا أبطأن؟ … أتُراهن لم يعثرن على اللِّحَى المستعارة التي يجب أن تخفي وُجوهَهنَّ الملساء؟ … أم تُراهنَّ قد عجزن عن سرقة ثياب أزواجهن.

(تنظر أمامها)

لكن مهلًا! … ها أنا ذي ألمح ضوءًا يقترب … فلأختبئ لئلا يكون القادم رجلًا.

(تختفي في طريق صغير، وتظهر امرأة تتبعها نساء كثيرات، وكلُّهنَّ يحملن العِصِيَّ الغليظة، ويرتدين عباءات الرجال وأحذيتهم.)

المرأة (لرفيقاتها همسًا) : أين «براكسا جورا»؟ … لقد حان وقت السَّيْر … إنَّ المنادي قد أعلن منذ قليل عن قرب انعقاد المجلس.
براكسا جورا (تخرج لهنَّ) : ها أنا ذي! … لقد انتظرتكنَّ ساهرةً طول الليل … فلنذهب توًّا! … بل انتظرن حتى أنادي جارتي … اطرُقْنَ بابها في رفق؛ خشية أن ينتبه زوجها.

(يطرق بعض النساء منزلًا مواجهًا لمنزل «براكسا جورا».)

الجارة (تخرج من منزلها في ملابس زوجها، وفي يدها عصا، وتقول هامسة) : لقد سمعت نقركنَّ على الباب! … إني لم أَنَمْ هذه الليلةَ لحظة؛ فلقد جعل زوجي يتقلب على فراشه طول الليل من السُّعال.
براكسا جورا (تنظر إلى الجميع) : أرى بعضنا قد تخلَّف!
امرأة (من المجتمِعات تلتفت) : ها هي ذي زوجة الخباز قد أقبلت تحمل مِشْعَلًا في يدها!
الجارة (تلتفت كذلك) : وها هي ذي امرأة صاحب الحان قد جاءت.
امرأة (تنظر) : ها هي ذي امرأةُ النُّوتيِّ أيضًا.

(يأتي بعض النساء، وينضممن إلى المجتمِعات.)

براكسا جورا : والآن، اجلسن قليلًا حتى أستوثق من أنَّ كلَّ شيء قد تَمَّ وَفقًا لِلخُطَّة المرسومة.
الجميع : كلُّ شيء قد تَمَّ.
براكسا جورا : هل معكنَّ جميعكن اللحى المستعارة؟
الجميع : نعم! … نعم!
براكسا جورا : ارفعنها في أيديكنَّ حتى أرى.
الجميع : ها هي ذي! … ها هي ذي!
امرأة : ها هي ذي … انظري يا «براكسا جورا»! … إنَّ لحيتي وقورة!
الجارة : وأنا أيضًا … انظري لحيتي! … إنها أعظم وقارًا من لحية الفيلسوف «أبقراط»!
براكسا جورا (تلتفت إلى بقية النساء) : والباقيات؟
امرأة : كلهنَّ مثلنا … وكل شيء على ما تَرُومين.
براكسا جورا (في رضًا) : نعم! … أرى أنكنَّ قد قمتنَّ بما ينبغي … فمعكنَّ أرديةُ أزواجكن وعِصيُّهم وأحذيتُهم.
الجارة : وعقولهم!
براكسا جورا : لا … لسنا في حاجة إلى عقولهم! … تكفينا أحذيتُهم وعِصيُّهم!
امرأة : لقد سرقت عصا زوجي أثناء نومه!
الجارة : وأنا أيضًا قد تغفَّلت زوجي، و…
براكسا جورا (لكل النساء) : قد أديتنَّ الواجب! … وإن كل ما رسمناه قد نفذناه! … فلنقرر الآن ما بقي أن نصنع بعدئذٍ، والنجوم ما تزال تسطع في السماء … إنَّ المجلس الذي نتأهَّب لحضوره يُعقد عند الفجر!
الجارة : نعم! … ينبغي بحقِّ الإله «زيوس» أن نتمكَّن من الحصول على مقاعد قُرب مكان الخطباء!
امرأة : أوَسنبقى حتى نسمع جميعَ الخطب؟!
الجارة (تبرز مغزلًا وخيطًا من تحت ثيابها) : هذا لا مفرَّ منه! … وكان ينبغي لكِ أن تتوقَّعي هذا الأمر وأن تفعلي ما فعلتُ! … انظري! … انظري! … إني أحمل معي خيطي ومغزلي، وسأرفِّه عن نفسي بالغزْل أثناء انعقاد المجلس!
براكسا جورا (صائحة) : الغزل؟ … أيتها الشقية!
الجارة : نعم! … وحق الإلَهة «أرتميس»! … وهل الغزْل يمنعني من الإصغاء إلى كلام الخطباء؟!
براكسا جورا : إنك لا تُدركين ما تصنعين!
الجارة : إني أصنع ثيابًا لأطفالي! … إنهم عرايا! … فمن ذا يغزل لهم؟
براكسا جورا : أنسيتِ أيتها البلهاء أنكِ رجل ذو لحية وقور؟ … وأنَّ اللحيةَ والمغزل لا يتَّفقان؟!
الجارة (في صيحة) : آه! … هذا صحيح! … لقد نسيت أني رجل!
براكسا جورا (تلتفت إلى الجميع) : أصْغِينَ إليَّ أيتها النساء! … إن غايتنا التي من أجلها نجتمع منذ زمن، وهدفنا الذي نرمي إليه منذ أمد، وحُلمنا الذي نسعى لتحقيقه، ونرجو أن يتحقق اليوم، هو كما تعلمن: أن نتسلم نحن في أيدينا شئون الدولة؛ فالدولة — كما تعرفن — تسير الآن كأنها سفينة ضالة في بحار عميقة القاع، وهي عاطلة من المجاذيف والشراع.
الجارة : نعم! … لو تسلَّمنا هذه السفينة لغزلنا لها في الحال بمغازلنا ألف شراع!
براكسا جورا (تلتفت إليها منتهرة) : ألن تكفِّي عن ذِكر الغزْل والمغزل؟!
امرأة : كلامك جميل يا «براكسا جورا»! … ولكن كيف نستطيع — نحن النساء — أن نحكم الدولة؟! … وكيف نجرؤ بقلوبنا الضعيفة على مخاطبة الشعب؟!
براكسا جورا : من قال إنَّ قلوبنا ضعيفة؟! … ينبغي أن نقوم في شجاعة بهذا العمل العظيم! … فإن لم نسارع نحن إلى إنقاذ الدولة، فلن ينجيها أحد من الهلاك!
الجارة : إن الخبرة مع ذلك تنقصنا يا «براكسا جورا»! … ولم يسبق لنا أنْ خاطبْنا الشعب!
براكسا جورا : أعلم ذلك … ومن أجل ذلك قد اجتمعنا الآن ها هنا؛ كي نهيئ ما ينبغي لنا أن نقول! … هيا! … ضَعْنَ لِحاكُنَّ، وأَصْغِينَ إلى الخُطَب!
الجميع (يضعن اللحى) : أما اللحى، فها هي ذي!
امرأة : نعم! … ما أيسر وَضْعَ اللحى!
الجارة (تلتفت إلى النساء حولها) : عجبًا! … انظري يا «براكسا جورا» بحق الآلهة! … إن منظرنا قد أصبح مضحكًا!
براكسا جورا (في تَجهُّمٍ) : مُضحكًا! … لماذا؟!
الجارة (تكتم ضحكة) : إنا نكاد نشبه قطيعًا من القردة يرتدي ثياب الفلاسفة!
براكسا جورا (في غضب) : اخرسي!

(ثم تتركها، وتلتفت إلى النساء المتهامسات المتضاحكات.)

فليكفَّ الجميع عن الثرثرة! … من تريد منكنَّ الكلام؟!
امرأة (تنهض) : أنا!
براكسا جورا : تكلم! … الكلمة لك أيها الخطيب الفصيح!
المرأة : الكلمة لي يا «براكسا جورا»؟!
براكسا جورا : نعم! … تكلَّم!
المرأة : و … أين هي هذه الكلمة؟!
براكسا جورا : اجلسي! … إنكِ لا تصلحين لشيء!
المرأة : هل أنزع اللحية؟!
براكسا جورا (تلتفت إلى غيرها) : مَنْ غيرُ هذا الأحمق يريد أن يُمنَح الكلمة؟!
الجارة (تنهض) : أنا!
براكسا جورا (تنظر إليها) : قبل كلِّ شيء اعتدلي هكذا! … وحاولي أن تنطقي كما يفعل الرجل، واعتمدي بجسمك على عصاك!
الجارة (تعتدل وتفعل كما أَمَرَتْها وتخطب) : «أيتها النساء المنعقدات في هذا المجلس …»
براكسا جورا (صائحة) : نساء؟! … أيتها الشقية الحمقاء! … أهكذا تنادين الرجال أعضاء المجلس؟!
الجارة (في ضجة خفيفة) : آه! … قد نسيت أنهم رجال!
براكسا جورا : اذهبي أنتِ أيضًا واجلسي في مكانكِ! … أنا نفسي سأتولى عنكن الكلام! … أَصْغِينَ!

(تقف موقف الخطابة وتقول):

أوجِّه توسلاتي إلى الآلهة، وأسألها أن تُوفِّقنا إلى إصلاح الأمر … إنه لَيُدمي قلبي أن أرى الفساد قد دَبَّ في جسم الدولة كما يدبُّ الموت البطيء، وأن أرى الدولة قد أَلْقَتْ بشئونها في أيدي رؤساء لا يَعنيهم من أمر الدولة غير أنفسهم ومن يحيط بهم من الأخِصاء … كلهم يرى الدولة دائرة ضيِّقة هم مركزها، ومحيطها الأنصار والأصدقاء، أما ما خرج عن هذا المحيط فإن أبصارهم لا تستطيع أن تمتدَّ إليه! … لم يأتِ بعدُ رجلٌ استطاع أن ينظر إلى البعيد قبل القريب، ولم يظهر رجل جعل الدولة كلها دائرة واحدة، مركزها النفع العام، وأخرج نفسه منها ليسهر عليها من عَلٍ؛ كأنه إله! … إنَّا كلَّما عقدنا الأمل على رجل، وحسبناه المصلح المنشود، خاب الظن، وطفا على لُجَج السخط العام حكمُه العفِن، كما تطفو الجيف، وانتشرت في الجوِّ رائحة الفساد المعهود … إنها لحال كادت تدعو إلى اليأس المميت، لو لم أجد لكم أيها الناس دواءً له فعل السحر!
الجارة : يا له من خطيب قادر!
براكسا جورا (تلتفت إليها) : نعم! … قد أحسنت القول هذه المرة!
الجارة : امضِ في كلامِكَ البليغِ أيها الرجل!
براكسا جورا (تمضي في خَطَابتها) : أيها الناس! … أتدرون ما هو هذا الدواء العجيب؟ … أتعلمون ما هو السبيل الوحيد الآن إلى إنقاذ «أثينا»؟!
الجميع : ما هو؟
براكسا جورا : أن نضع زمام الدولة في يد المرأة … ولا تظنوا الرأي غريبًا … أَفَلَسْتُم جميعكم تضعون زمام البيت في يد المرأة؟
الجميع : مرحى! … مرحى! … بحق الإله «زيوس» امضِ في هذا الكلام الصائب أيها الرجل العاقل!
براكسا جورا (تستمر) : نعم … إن أخلاق النساء لخير ألف مرة من أخلاقنا نحن الرجال، وإنهنَّ لأقدر ألف مرة على القيام بما فيه المنفعة للناس، وتوفير أسباب الراحة للجميع، وإرضاء الطوائف والأفراد، وتدبير وسائل الرخاء والثراء … فمَن أكثر من المرأة اقتصادًا؟! … ومن غير المرأة يستطيع الحصول عند الحاجة على النقود؟ … ومن غير المرأة طُبِعَ على التنظيم، وخُلِقَتْ فيه عبقرية الترتيب والتنسيق؟ … إنها إذا تسلمت السلطة فإنها تُحسن حكمَ الدولة؟ وهي التي اعتادت أن تُحسن حكمَ زوجها! … وإنها إذا حملت التبعات نهضت بأعبائها في حرص … دون أن يخدعها أحد؛ فهي التي اعتادت أن تخدع الآخرين!
امرأة : مرحى! … مرحى! … أيتها البارعة «براكسا جورا»! … أين تعلمت كلَّ هذه الأشياء؟
براكسا جورا (تلتفت إليها باسمة) : عندما كنا نقطن — أنا وزوجي — قرب المجلس؛ فلقد كنت أطيل الإصغاء إلى خطب الخطباء!
الجارة : «براكسا جورا»! … لم يبقَ رَيْبٌ في أنكِ أنتِ وحدك من بيننا، نحن النساءَ، الجديرة بقيادة زمامنا، المهيأة للنهوض بتنفيذ مشروعاتنا!
براكسا جورا : سوف أقول أكثر من ذلك في المجلس!
الجارة : ونحن سوف نؤازرك، ونهتف لك بملء أصواتنا!
براكسا جورا (للجميع) : حسنًا! … قد آنَ الآن أوان السَّير … انهضنَ! … بل انهضوا أيها الرجال، واعتمدوا على عِصيِّكم، وامشُوا وأنتم تُنشدون أغنية من أغاني الريف؛ كما يفعل القرويون!
الجميع (ينهضن ويمشين) : هلمُّوا أيها الرجال! … إلى المجلس! … إلى المجلس!

(ثم ينصرفن وهنَّ يُنشدن):

إلهنا «زيوس»!
ساكن السماء!
أعطنا الرخاء،
واغرسِ الرجاء؛
في كل النفوس!

(يخلو المكان، ويخيم عليه السكون.)

(فاصل موسيقي)

(تبرز أشعة الشمس الأولى في الأفق؛ كأنها أطراف حلية من ذهب على صدر عذراء! … ثم يُفتَح باب منزل «براكسا جورا» ويخرج منه زوجها «بلبروس» مرتديًا ثياب امرأته.)

بلبروس (يلتفت يمينًا ويسارًا) : عجبًا من العجب! … أين ذهبت امرأتي، وتركتني وحدي في فراشي؟ … لقد أردت النهوض فلم أجد نعلي ولا ردائي! … أين ذهبت ملابسي أيضًا؟ … يا لي من زوج تَعِس! … لكن الذنب ذنبي أنا؛ إذ تزوجت من هذه المرأة الشابة! … إنها من غير شك لم تخرج هكذا قبل طلوع الشمس، من أجل غرض شريف! … آه! … ويلي! … ويلي!

(يجلس القرفصاء أمام عتبة داره ويضع كفه على خده، فيطل عليه جاره من النافذة.)

الجار : من هذا؟ … إنه فيما يُخَيَّل إليَّ «بلبروس» جاري.
بلبروس (يرفع رأسه إليه) : هو بعينه، وحق «زيوس»!
الجار : عجبًا! … ما هذا الشيء الأحمر الذي ترتديه؟
بلبروس : هو ثوب لزوجتي تدثرتُ به حتى أستطيع الخروج.
الجار : ورداؤك، أين ذهب؟
بلبروس : لست أدري! … لقد بحثت عنه كثيرًا فلم أجده في البيت!
الجار : ألم تسأل زوجتَك عنه؟
بلبروس : زوجتي؟ … هي أيضًا، وحق «زيوس»، بحثت عنها كثيرًا، فلم أجدها في البيت! … لقد انسلَّت خارجةً في الظلام بغير علمي، وأرجو ألا تكون قد ذهبت لارتكاب عمل طائش!
الجار : يا للعجب! … إن ما حدث لك يشابه بالضبط ما حدث لي! … إن زوجتي هي أيضًا قد اختفت بردائي! … وليس هذا ما يحزنني! … إن الطامة الكبرى هي أنها ذهبت كذلك بالنعل الوحيد الذي عندي؛ فكيف أستطيع اللَّحاق بها؟
بلبروس : وأنا أيضًا! … يا للمصيبة النازلة! … لن أستطيع الجري وراءها؛ فلقد دسستُ قدمي في خفٍّ لها صادفته في البيت، وهو لا يسعفني إذا ركضت به في الطرقات!
الجار : آه … لقد تأخرنا عن موعد المجلس! … ومع ذلك، كيف السبيل إليه الآن؟ … وأين لي برداء، وأنا لا أملك غير ذلك الذي ذهبت به امرأتي؟ … يا له من موقف لا مخرج لنا منه! … لقد حبستنا نساؤنا، وقيدننا من أرجلنا! … إنا لا نستطيع الآن حراكًا، ولا نصلح الساعة لشيء غير النوم، فلأرجعنَّ إلى فراشي!

(يختفي من النافذة، وعندئذٍ يظهر «كريميس» آتيًا من جهة المجلس.)

كريميس (يلمح «بلبروس» جالسًا على عتبة داره ووجهه في كفيه) : من هذا؟ … «بلبروس»؟ … ماذا تصنع هنا؟ … إنك لست نائمًا فيما أظن!
بلبروس (يرفع رأسه) : لقد استيقظت منذ زمن!
كريميس : عجبًا! … ماذا أرى؟ … أأنت مرتدٍ ثياب امرأتك؟
بلبروس : من قبيل السهو والغلط! … لقد ارتديت ما وقعت عليه يدي في الظلام! … وأنت؟! … من أين أنت قادم يا «كريميس»؟
كريميس : من المجلس!
بلبروس : أهو منعقد؟!
كريميس : وأي انعقاد! … إنك لن تستطيع أن تجد موضعًا لقدم من الزحام!
بلبروس : وما سبب هذا الزحام اليوم؟!
كريميس : لست أدري! … إن الجموع هائلة اليوم، مما لم يقع مثله من قبل، ولقد اجتمع في المجلس أناس من كل الطوائف! … ويُخَيَّل إليَّ أني لمحت هناك كثيرًا من الوجوه البيضاء! … وجوه كأنها مطلية بالدقيق! … ولعلَّ أصحابها من الخبازين!
بلبروس : لكن … لماذا اجتمع كلُّ هؤلاء في مثل هذه الساعة؟
كريميس : أوَيمكن أن يكون هناك غرض آخر غير المداولة في أمر إنقاذ الدولة؟!
بلبروس (هازئًا) : نعم! … بالخطب والكلام! … لا شك أن الخطباء قد انبروا من كل مكان بألسنة كالسيوف المسلولة، يحسبون أنهم بها يصلحون أمور الدولة.
كريميس : آه … وحق «زيوس»، لقد حدث الآن بالمجلس حدث لا يمكن أن يخطر لك على بال!
بلبروس : ماذا حدث؟!
كريميس : لقد نهض من وسط الجمع شاب أبيض البشرة، وسيم الطلعة، وجعل يخطب في الناس ويقول: «ينبغي أن نعهد بشئون الدولة إلى النساء، وأن نضع في أيديهن زمام الحكومة!»
بلبروس (في عجب) : ماذا تقول يا «كريميس»؟!
كريميس : هذا ما حدث، وحق الإله «زيوس»!
بلبروس : وهل وافق هذا الخطيبَ أحدٌ من الحاضرين!
كريميس : نعم! … جميع طائفة الخبازين! … أعني أصحاب الوجوه البيضاء، هؤلاء الذين حدثتك عنهم؛ فلقد ارتفعت أصواتهم وعلا هتافهم حتى بلغ مسرى السحب ومدار النجوم! … وتبعهم آخرون مهللين مرحبين مصادقين على ما اقترح الخطيب!
بلبروس : عجبًا … السلطة توضع في أيدي النساء؟!
كريميس : ولقد مضى الخطيب، بصوته الحار الممتلئ شبابًا، يمدح المرأة ويثني عليها ويرفعها إلى السماء، وينتقص من قدرك ويرميك بكل شائبة وشائنة!
بلبروس : ماذا قال؟
كريميس : قال أولًا: إنك وغد!
بلبروس : وأنت؟ …
كريميس : مهلًا حتى أُتِمَّ … ثم قال: إنك لص!
بلبروس : أنا وحدي؟
كريميس : ثم قال بعد ذلك، وحق «زيوس»: إنك أناني … ميت الضمير … فاقد الشرف!
بلبروس : أنا بمفردي؟!
كريميس : أنت ومن على غرارك من بقية الرجال!
بلبروس : وأنت منهم طبعًا!
كريميس : طبعًا!
بلبروس : وماذا قال أيضًا هذا الخطيب؟!
كريميس : قال: إن المرأة مخلوق ممتلئ بالفطنة والحكمة، وإنها هي التي تدبر الثروة، وتنظر دائمًا إلى الغد، وتبذل راحتها من أجل سعادة بيتها … بينما أنت …
بلبروس : وأنت أيضًا؟!
كريميس : نعم! … أنا وأنت وبقية الرجال لا نفكر إلا في أنفسنا، ولا نعرف غير بعثرة المال فيما لا يفيد، وإحداث الفوضى في هذا البيت الكبير!
بلبروس : نعم! … وحق الآلهة! … إن الخطيب لم يخطئ كثيرًا في هذا!
كريميس : ثم قال بعد ذلك: إن النساء أمينات صادقات، فهن يتقارضن فيما بينهن الحلي والثياب والأواني والنقود، من دون أن تقوم على هذه القروض شهود، ومع ذلك يوفين بالعهد في غير إبطاء … أما الرجال فإنهم لا يتقارضون إلا علنًا، ولا يتعاملون إلا بعقود مكتوبة وصكوك مختومة؛ فلا يرعون — على الرغم من ذلك — ذمة في أكثر الأحيان، ولا يُرَى منهم غير الخَتْل والمَطْل والخداع!
بلبروس : إي وحق الآلهة … هذا أيضًا صحيح!
كريميس : وقال كذلك: إن المرأة محبَّة بطبعها للحرية، وإنها من أجل ذلك لا تتآمر على قلب الديمقراطية. ومضى الخطيب على هذا النحو ينسب إلى النساء كل فضيلة أنزلتها السماء!
بلبروس : وبعدُ؟!
كريميس : وبعدُ فمن يدري؟! … ليس ببعيد أن يتقرر وضع الحكم في أيدي النساء!
بلبروس : يا للعجب!
كريميس : ما وجه العجب؟! … إن الشعب — فيما أرى — مغتبط لذلك؛ إذ لم يسبق ﻟ «أثينا» أن وقع فيها هذا الحدث!
بلبروس (مفكرًا) : سيُعهَد إذن إلى النساء بما كنا نقوم به نحن الرجال؟!
كريميس : هو ذاك!
بلبروس : فأنا القاضي لن أذهب بعدَ اليوم إلى المحكمة؛ بل امرأتي تذهب بدلًا مني!
كريميس : ولن تَعُولَ كذلك، بعد الآن، أهلَك وذويك؛ بل امرأتك تتولى ذلك عنك!
بلبروس : ولن أكدَّ إذن، ولن أشقى طول النهار!
كريميس : لا، وحق «زيوس»؛ فالنساء سوف يتحملن عنك كل شيء … أما أنت فسوف تقبع في دارك مستريحًا ناعمًا، لا تعرف الكد ولا العناء!
بلبروس : هنالك مع ذلك شيء يدعو إلى الخوف والقلق! … أتدري ما هو؟!
كريميس : ما هو؟!
بلبروس : إن النساء إذا تسلمن قياد الحكم، فإنهن سوف يُرغِمنَنا نحن الرجال الضعفاء بالقوة.
كريميس : يرغمننا على ماذا؟
بلبروس : على مغازلتهن!
كريميس : وإذا لم نفعل؟!
بلبروس : قد يمنعن عنا الطعام والشراب!
كريميس : إذن فلنغازلهنَّ، فنضمن على الأقل ألا نموت جوعًا!
بلبروس : ولكن الإرغام على كل حال، والالتجاء إلى القوة في مثل هذه الأمور، والمغازلة بأمر القانون والدستور؛ شيء مخيف!
كريميس : فيما يتعلق بي وبهذا الأمر بالذات؛ فإني أطيع نصوص القانون وأنفذ قرار الحكومة، وأحترم روح الدستور!

(صياح يرتفع بعيدًا .)

بلبروس (يصيخ السمع) : اسمع! … اسمع! … ما هذا الصياح؟
كريميس : نعم! … ما هذا الصياح؟!

(رجل يأتي ركضًا، وخلفه كثيرون يصيحون.)

الرجل (مناديًا) : يا أهل «أثينا»! … قرر المجلس إعطاء السلطة للنساء!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤