قطَّة صغيرة خائفة

كانت ليلة من ليالي شهر فبراير الباردة، وقد هبط الظلام مُبكِّرًا على المعادي، وفتحت السماء أبوابها فهطل مطرٌ غزيرٌ، أجبر أكثر النَّاس على الذهاب إلى منازلهم مبكرين … وأغلقت المحالُّ أبوابها، فخلت الشوارع. وسكتت الأصوات إلَّا من صوت المطر يدقُّ الأرض في رتابة وعنف.

وتجاوَزَت الساعة العاشرة والنِّصف، و«نوسة» لم تنَمْ بعدُ؛ فقد كانت تُمسِك بكتابٍ شيِّق، شدَّتها سطوره، فمضَت تقرأ بدون أن تحسب للوقت حسابًا … أما شقيقها «محب» فكان نائمًا مستمتعًا بالدفء، وصوت تنفُّسِه المنتظم يدلُّ على أنه مستغرق في نومٍ عميقٍ.

وكان يلذُّ ﻟ «نوسة» أن تَشردَ عن الكتاب أحيانًا، وتَستمع إلى صوت المطر، وهو يدقُّ النَّافذة … وتسرح بخيالها تتصوَّر المطر ينزل في أماكنَ أخرى. وفي لحظة بدا لها أنها تسمع صوت قطَّةٍ تمُوء في مكانٍ ما، ثم ارتفع صوت المواء، وتأكَّدت «نوسة» أن هناك قطَّةً تبحث عن مأوًى يَحميها من المطر … وأخذت تُنصت، وهي تتبع الصوت في السكون الشامل حتى تأكدت أنه يصدر من حديقة منزلهم … وكان واضحًا أنها قطَّةٌ صغيرة.

وضعت «نوسة» الكتاب جانبًا، وأخذت تستمع وهي تفكِّر فيما يجب أنْ تفعله … أتترك القطة الصغيرة تحت رحمة المطر والبرد والظلام، أم تمدُّ لها يدَ المساعدة؟! ولم تتردَّد «نوسة»، فسحبت الروب ولبسته مسرعةً، ثم انسحبت تنزل بهدوء!

كان بهو المنزل مُظلمًا … إلَّا من ضوءٍ خفيفٍ يصدر من اللمبة السهَّاري الصغيرة، فأضاءت النور، ثم دخلت المطبخ، وفتحت الباب الخلفي، ثم خرجت إلى الحديقة الغارقة في الظلام … لكن «نوسة» استطاعت أنْ ترى على ضوء مصابيح الشارع الخلفيِّ بعض تفاصيلِ الحديقة … وكان صوت القطة يَصدُر من قرب السور، فاتَّجهت إليه … وأخذت تقترب منه تدريجًا، وهي تُنادي: بسبس … بسبس … بسبس! وفي تلك اللحظة سمعت صوت شيء يدقُّ على أرض الشَّارع … صوتًا مُنتظمًا كأنَّ شخصًا يمشي ويدقُّ الأرض بعصاه … ونظرت إلى حيث يأتي الصوت، فرأتْ على بُعدِ نحو عشرة أمتارٍ رجلًا يَمشي بلا عصًا، لكن إحدى قدميه كانت تصدر هذا الصوت الغريب … ثم سمعَت صوت سيارة تقترب … حتَّى وقفت بجوار الرجل الذي كان يلبس معطفًا أسودَ …

وفجأةً نزل من السَّيَّارة ثلاثة رجالٍ انقضُّوا على الرجل بسرعة، وأخذوا يدفعونه نحو السَّيَّارة … كان الرجل يُقاوم، لكنه لم يَستنجِد … لم يُطلِق صيحة واحدة … ولم تعرف «نوسة» أكَتَم الرجلُ فمَه … أم أنَّه لم يُحاول طلب النَّجدةِ؟ … ولم تَطُل مقاومته طويلًا، فقد استطاع الرِّجال الثَّلاثة أن يضعوه في السَّيَّارة عنوةً … ثم مضت السيارة تشقُّ طريقها مسرعة تحت المطر واختفت في الظَّلام!

كانت «نوسة» مُندهشة لكلِّ ما حدث … حتَّى إنِّها نسيت أنَّها واقفة تحت المطر، وأن ثيابها قد ابتلت … فقد كان هناك شيء سقط من الرجل أو ألقاه هو عمدًا … ورقة بيضاء كانت واضحةً في ظلمة الشارع … وعلى الأضواء البعيدة للفوانيس … وبإحساس المغامر … فتحت «نوسة» باب الحديقة، وانطلقت إلى الشارع حتَّى وصلت إلى مكان الورقة، فانحنَت والتقطتها … وتلفَّتت حولها … لم يكن هناك أحد مطلقًا … وهكذا استدارت وعادت مسرعة.

كانت قد نسيت في هذه اللحظات المتوتِّرة القطة الصغيرة … لكن مواء القطة نبَّهها إليها، فوضعت الورقة في جيبها، ومضت تبحث عن القطة. واستطاعت بتتبع الصوت أن تصل إليها وتحت شجرة صغيرة كانت العينان اللامعتان تبرقان في الظلام … ومدت «نوسة» يدها نحو القطة الصغيرة، فلم تُبدِ أيَّ مقاومةٍ … بل استسلمت لليد الحانية التي امتدت إليها.

عادت «نوسة» إلى المطبخ مرةً أخرى، وقد ابتلَّت ثيابها تمامًا … وعلى الفور أخذت تتأمل القطة الصغيرة … كانت قطة جميلة من النوع السيامي ذات لون بني فاتح يَميل إلى السواد عند رقبتِها وذيلها ويديها وقدميها … وكانت تَرتجِف بردًا وجوعًا …

أحضرت «نوسة» منشفة قديمة، وأخذت تُجفِّف شعر القطة جيدًا وتُدلِّك جسدها حتى جفَّفتها، ثم فتحت الثلاجة وأحضرت كمية من اللبن، وسخَّنته على موقد «البوتاجاز» ووضعت فيه بعض السكر وقطع الخبز … وبعد دقائقَ قليلة كانت تحمل القطة والطعام إلى غرفتها …

وسعدت القطة الصغيرة بالدفء … ومضَت تَلتهِم الطعام الساخن، وهي تموء مواءً خفيفًا هانئًا … في حين انصرفت «نوسة» إلى تجفيف شعرها المبتل، وتغيير ثيابها وهي ترتجف … وأفكارها منصرفة عن القطة إلى الرجل ذي المعطف الأسود الذي اختُطف عنوةً في الشارع الخالي بدون أنْ يستنجدَ … وبدون أنْ يراه أحد … وأخرجت الورقة البيضاء من جيبها وأصابعها ترتجف أهي ورقة فارغة لا أهمية لها؟ أم ورقة هامة تكشف شيئًا من هذا الحادث الغامض الذي شاءت الأقدار أنْ تراه مصادفةً عندما استدعاها مواء القطة الصغيرة لأداء واجبها الإنساني؟!

لم تكن الورقة بيضاء كما تصورت … وربما كان بياضُها يعود إلى الظلام الذي كان يسود الشارع … كانت الورقة قديمةً ولونها يَميل إلى الاصفرار … وقد ابتلت بفعل المطر وتلوَّثت بالطين … وكانت مطوية … فأخذت تفتحها في حرص وحذر حتَّى لا تتمزَّق أطرافها المتآكلة، وبخاصةٍ بعد أنْ بلَّلتها مياه المطر، ولوثها الطين … وعلى الضوء الساطع في الغرفة استطاعت أنْ ترى أول شيء كان يُهمُّها … أنَّ الورقة لم تكن فارغةً … لقد كانت بها كتابة. ولم تكن مكتوبة فقط … بل عليها رسوم بسيطة عبارة عن خطوط تبدأ من أسفل الصفحة ثم ترتفع، وترتفع، ثم تعود وتنخفض ثم ترتفع … وعليها أرقام مختلفة: ٣٩ – ٤٠ – ٣٧ – ٤١ – ٣٥ – ٢٧.

وكان هناك رسمٌ آخر يُشبه حرف «ت» الإنجليزي … خط رأسي متعامد على خط أفقي، ورقمان أحدهما ١٢٠، والثاني ١٠٠، وكلمات بعضها بلغة أجنبية هي في الأغلب إنجليزية.

أخذت «نوسة» تقول لنفسها: إنَّها ورقة غير عادية حقًّا … ورقة غريبة وبخاصةٍ هذه الخطوط … وأذكر أنني رأيت ورقة مثلها … أين؟! أين؟! أخذت تعتصر ذاكرتها …

وفي هذه اللحظة كانت القطة قد انتهت من طعامها، فقفزت إلى ركبتَي «نوسة» ملتمسة الدفء في هذا الجو البارد … فمدَّت «نوسة» يدها تربت على ظهرها، ووضعت الورقة على الكومودينو بجوارها وهي تفكر في تجفيفها على نار هادئة … أو تركها حتَّى تجفَّ.

رفعت «نوسة» طرف غطاء الفراش، ثم اندسَّت فيه، ووضعَت القطة بجوارها، واستسلمت للتفكير في أحداث هذه الليلة العجيبة … لو كانت قد نامَت مُبكِّرة مثلما فعل «محب» لما حدث شيء من هذا كلِّه … ما كانت سمعَت مواء القطة … وما خرجت إلى الحديقة … وما شاهدت الرجل المخطوف ذا المعطف الأسود … وما رأت الورقة العجيبة التي لم تفكَّ رموزها بعد!

وعندما وصلت في تفكيرها إلى هذا الحد … أمسكت الورقة مرة أخرى، وأخذت تتأمَّلُها بدقة زائدة … وتُقرِّبها من عينيها لتُحاولَ قراءة الكلمات التي شوَّهتها المياه أو طمسها الطين … إنَّ في رأس الورقة اسم إنسان … إنَّها تستطيع أن تقرأَ اسم «عبد الغفور» … أو «عبد الصبور» … إنَّ كلمة «عبد» واضحة، ولكن الكلمة الثانية أثَّرت عليها المياه فطمستْها … والكلمة الثالثة لم تكن واضحة أيضًا … إنها تبدأ بحرف «النون» أو «القاف» وتنتهي بحرف «اللام» … فهي «نبيل» أو «قابيل» أو اسم ثالث لا تعرفه … فمن هو «عبد الصبور قابيل» أو «عبد الغفور قابيل» أو «عبد الصبور نبيل» … أو «عبد الغفور نبيل»؟ … وهل هو الرجل الذي خُطف في الظلام وتحت المطر منذ ساعة؟ وهل أسقط هذه الورقة متعمدًا أو سقطت منه سهوًا! وماذا تعني هذه الخطوط! وتأملتِ الورقة مرةً أخرى … هناك أرقام أيضًا … وهناك كلمة واضحة لا معنى لها … إنها كلمة «بوحول» … ماذا تعني «بوحول» هذه؟

أسئلة كثيرة، و«نوسة» مستلقية في الفراش تُفكر … القطة الصغيرة … المطر المتساقط خارج النافذة … العربة … الرجال الثلاثة … الظلام … الورقة … إنها أشياء مثيرة حقًّا في تلك الليلة المدهشة … وفكرت «نوسة» أن توقظ «محب» لكنها رأت أنَّ من الأفضل له أن يظلَّ نائمًا … ففي الصباح سوف يرى كل شيء … ويسمع القصة منها … وكذلك سيسمع بقية المغامرين الخمسة، وسوف يشتركون معًا في حلِّ اللغز … إذا كان هناك لغز … وتسلل النوم إلى عينيها فنامت، وهي تضع يدها على القطة الصغيرة التي استسلمت هي الأخرى للرقاد بعد أن شبعت وتدفَّأت.

•••

كان الصباح على عكس الليل مُشرقًا وجميلًا … فقد انقطع المطر وأشرقت الشمس، واستيقظ «محب» مُبكرًا قبل «نوسة»، فجلس في الفراش يتأمل أخته النائمة … وكم كانت دهشة عندما شاهد عينين لامعتين تبرُقان بجوار أخته، إنهما عينا قطة! متى جاءت هذه القطة؟ وكيف تسللت إلى غرفتهما … ومن ذا الذي أتى بها؟ لقد نام وليس في منزلهم قطط على الإطلاق، فماذا حدث في الليل؟!

قفز من فراشه بنشاط، وأسرع يحمل القطة الصغيرة التي قاومت في البداية، ثم استسلمت ليده، وحملها على صدره وأخذ يربت على شعرها الناعم، وبعد لحظات تركها ليدخل الحمام.

عندما غادر «محب» الغرفة، قفزت القطة الصغيرة إلى الكومودينو حيث كانت الورقة، وأخذت تعبث بها ثم أسقطتها على الأرض وقفزت خلفها، وأخذت تلعب بها، وتشدُّها هنا وهناك حتى أدخلتها تحت الفراش … وعاد «محب» من الحمام، وأخذ يلبس ملابسه، ثم حمل القطة ونزل إلى صالة المنزل، ليتناولَ فطوره … ولم تَكد والدته ترى القطة حتى سألته عنها فقال: لا أدري من أين أتت، ولا كيف أتت! لقد استيقظت فوجدتها في فراش «نوسة»، ولا بدَّ أنها دخلت ليلًا إلى غرفتنا بدون أن ندري.

الأم: ولكن كيف دخلت إلى المنزل؟ لقد أشرفتُ بنفسي على إغلاق جميع النوافذ والأبواب.

محب: لا بد أن أحدًا منَّا قد استيقظ ليلًا وخرَج إلى الشارع وعاد بها.

الأم: غير معقول … لقد كانت السماء تُمطر أمس، ولا أظن أن هناك أحدًا يغامر بالخروج إلى الشارع في المطر والظلام.

ولم تكد الأم تنتهي من جملتها حتى شاهدت «نوسة» تنزل سلم الفيلا مُسرعة وهي بملابس النوم، وبدون أن تُلقي تحية الصباح صاحت: أين القطة؟ أين الورقة؟

رفع «محب» القطة بين يديه قائلًا: أنت إذن التي أحضرت القطة!

نوسة: نعم.

محب: كيف؟

نوسة: سأروي لك كل شيء، لكن أين الورقة؟

محب: أي ورقة؟

نوسة: الورقة التي كانت على الكومودينو بجوار فراشي!

محب: لم أرَ أوراقًا على الكومودينو!

نوسة: أرجوك يا «محب» إنَّ وراء هذه الورقة لغزًا هامًّا.

الأم: لغز … ألا تكفُّ أنتَ وأصدقاؤك عن الجري وراء الألغاز والمغامرات!

نوسة: أرجوك يا «محب» أين الورقة؟

محب: قلت لكِ إنني لم أرَ ورقًا!

وأسرعت «نوسة» إلى غرفتها، وأسرع «محب» خلفها، وأخذ الاثنان يبحثان، و«نوسة» تصف له الورقة الهامة بدون أن تقول له ماذا حدث في الليل؛ فقد كانت تريد أن تروي القصة كاملة للأصدقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤