مائدة في الشمس

حول مائدة شاي في الشمس جلس المغامرون الخمسة … كانت «نوسة» قد عثرت على الورقة ممزَّقة تحت فراشها … لكنها استطاعت — اعتمادًا على ذاكرتها — أن تجمع الأجزاء الممزقة بمساعدة الأصدقاء … وهم جميعًا مندهشون لاهتمامها بالورقة … فلم تكن قد قالت لهم حكايتها بعد.

وبعد أن أصبحت الورقة كاملةً تقريبًا … اعتدلت «نوسة» في جلستها، ثم بدأت تروي ما جرى في الليل … القطة الخائفة الصغيرة … الرجل الذي خُطفَ في صمتٍ بدون أن يستنجدَ … الطَّرقات التي سمعتْها على الأرض، برغم أن الرجل لم يكن يحمل عصًا، وإن كان يعرج في مشيته … والورقة التي أسقطها أو سقطت منه بدون أن يَدري …

روت «نوسة» كل شيء كما شاهدته بدقة … وبقية الأصدقاء يستمعون إليها، وقد أرهفوا آذانهم في اهتمام شديد … فقد كانت قصة مُشوِّقة. ولم تكد «نوسة» تنتهي من قصتها حتَّى أصبحت الورقة موضع اهتمامهم الشديد … وأحاطوا بها جميعًا ينظرون إليها ويتفحَّصونها بدقة.

كان «تختخ» يمسك بالورقة بين يديه يتأملها، وذهنه يعمل بسرعة خارقة ثم قال: إنَّ هذه ورقة من ورق المُستشفيات … فلكلِّ مريض ورقة تُعلَّق على فراشه تُرصَد فيها درجة حرارته كل فترة … ويكتب عليها الطبيب ملاحظاته والأدوية ومواعيد تناولها … وهذه الكلمات الإنجليزية ليست إلا أسماء أدوية، وهذا الخط المتعرِّج الذي يصعد أحيانًا وينخفض أحيانًا هو خط درجة الحرارة.

قال «عاطف» ساخرًا: إنني أرشحك كمُمرِّض في القصر العيني!

قالت «لوزة»: تقصد طبيبًا!

عاطف: إنني أخشى إذا كان طبيبًا أن يقوم بمغامرات مع المرضى، ويحلَّ لغز المرض بدلًا من تشخيصه وعلاجه في الوقت المناسب.

محب: على كلِّ حالٍ عملُ الطبيب يُشبه المغامرة؛ فهناك أمراض مستعصية يقف أمامها الطبيب كما يقف المغامر أمام لغز من الألغاز.

قال تختخ: إنني مُتأكِّد مما أقول!

عاطف: وماذا يعني هذا الخط المرسوم بالقلم الرصاص على شكل حرف «ت» الإنجليزية يا حضرة الدكتور؟

تختخ: لا أدري … ولكن من الواضح ألا علاقة له بالطب … إنه خط رُسم على عَجَل، وهذا واضح من اضطرابه … وفي الغالب إنه رسم هندسي لمكانٍ ما لا أعرفه … وهذا الرقم يدلُّ على مسافة!

نوسة: لقد تقدمنا خطوة في طريقة فهم الورقة، ولكن كيف نُفسِّر لغز الرجل الذي خُطف ولم يستنجد؟

محب: إنَّ الخطف جريمة كبيرة … وعندما يُخطَف شخص بدون أن يستنجد فهذا يعني أنه لا يريد أن يتدخل أحد.

لوزة: تقصد الشرطة؟

محب: بالضبط … إنه شخص يُفضِّل أن يُخطف على أن يتدخل رجال الشرطة بينه وبين خاطفيه.

تختخ: وهذا يعني أن هذا الرجل يُهمُّه أن يبتعد عن رجال الشرطة … أو بمعنًى آخر إنه قد يكون مختفيًا عن رجال الشرطة لسببٍ لا نعلمه.

عاطف: وهذا الرجل كان في مُستشفًى … فهذه ورقة من ورق المستشفى … وهذا الشخص كما وصفته «نوسة» يمشي بساقٍ خشبية … فهل دخل المستشفى ليبترَ ساقه إثر حادث أو مرض؟

تختخ: هذا ممكن جدًّا … ولعلَّ اسمه كما هو مُدوَّن في الورقة «عبد الغفور قابيل» أو «عبد الصبور» … بحسب ما سنتَّفق عليه أو نرجِّحه.

نوسة: إننا نتقدم بسرعة حقًّا!

تختخ: إلى حدٍّ معقول … يُمكن أن يُقال إنَّ هذا الشخص — ولنُسمِّه «قابيل» — دخل المستشفى يحمل سرًّا يُريد ألَّا يعرفه أحد … وعندما أحس بأنه قد يموت حاول أن يكتب معلوماته على أقرب ورقة إليه … فكتبَها على ورقة المستشفى … وهذه المعلومات تتعلق بمكانٍ ما … فيه شيء هام.

لوزة: لكن لماذا احتفظ الرجل بالورقة بعدما شُفي وخرج من المستشفى، ما دامت المعلومات التي أراد تسجيلها على الورقة ما زالت في ذهنه؟

نوسة: إنَّه سؤال هام حقًّا … ومن الصعب الإجابة عنه.

قال «تختخ»: فعلًا!

محب: والآن بعد كل هذه الاستنتاجات … ماذا نفعل، أو بالتحديد هل تَعُدُّون هذا لغزًا يستحق أن نُحاول حلَّه؟

عاطف: إذا لم يكن هذا لغزًا فماذا تُسميه … حكاية خرافية مثلًا؟

محب: ما دام هذا لغزًا، وسنحاول حلَّه … فلا تضيعوا وقتًا أطول في الحديث وهيا نتحرك، فإجازة نصف السنة لن تتحمَّل حديثًا طويلًا!

تختخ: ماذا تقترح؟

محب: أقترح أن نبدأ البحث في المُستشفيات عن هذا الاسم … لنَعرِف الظروف التي أدَّت إلى بتر ساق «قابيل» هذا، لعلَّ هذه الخطوة تنير سبيلنا.

تختخ: إنني أقترح أنْ نُقسم العمل كالمعتاد … وعلى كلٍّ منَّا أن يتحملَ مسئولية جمع المعلومات عن جزء من اللغز … مثلًا على «عاطف» أنْ يسأل قريبه الدكتور «مختار» الذي الْتقينا به في لغز «الشيء المجهول» عن هذه الورقة، ومن أيِّ مُستشفًى هي … فإذا عرفنا المُستشفى كان من السهل معرفة الرجل … فليس من المعقول أن نسأل في كل مُستشفيات القاهرة … بل مستشفيات مصر كلها!

نوسة: ودوري أنا؟

تختخ: سنَبحث جميعًا عن معنى كلمة «بوحول» … إنها كلمة واضحة لم تَطمسْها المياه أو الطين … وأحسُّ أنها مفتاح هامٌّ من مفاتيح حلِّ هذا اللغز.

لوزة: إنها كلمة عجيبة … «بوحول» … كأنها اسم إله قديم … أو مكانٍ أثري.

تختخ: فعلًا … إنها تُعطي الإحساس بهذا المعنى … ومَن يدري لعلَّها تكون كذلك، وعلينا أن نسأل كلَّ من نَعرف من أقاربنا.

نوسة: ما رأيكم لو بحثْنا في دائرة المعارف العربية؟! لعلَّ «بوحول» اسم شيء أو مكان أو إنسان مُهمٍّ كتبت عنه دائرة المعارف هذه … أو أي دائرة معارف أخرى.

تختخ: إن قراءاتك في الفترة الأخيرة أصبحت مُفيدة حقًّا يا «نوسة» فأرجو أنْ تبحثي عنه في أي مرجع من المراجع التي لديك.

لوزة: لقد نسينا الرقمين … الرقم ١٢٠، والرقم ١٠٠ إنهما بالتأكيد ليسا درجات حرارة … فالإنسان لا يُمكن أن تصل حرارته إلى هذا الرقم، وإنما يموت قبله بكثير.

تختخ: سنترك الرقمين الآن … وإن كنتُ أظنُّ أنهما كما هو واضح من الخطين المتعامدَين اللذَين يشبهان حرف «ت» باللغة الإنجليزية — يُمثِّلان مسافة أو مسافتين … سنعرف هذا في الوقت المناسب.

عاطف: هناك بطل في هذا اللغز نسيناه تمامًا!

التفت الأصدقاء جميعًا إلى «عاطف» في اهتمامٍ، فقال ببساطة: القطَّة الصغيرة … أليست هي السبب في كل ما حدث؟! ولولاها ما نزلت «نوسة» في المطر والظلام لتشهدَ قصة الاختطاف العجيبة.

نوسة: معك حق … لقد نسيتُها تمامًا … لا بد أن أعيدها إلى أصحابها؛ فهي من نوع ثمين، ولعلهم الآن يبحثون عنها في كل مكان.

تختخ: في الأغلب أنهم من جيرانكم، ولعلهم سيسألون عنها عندكم … والآن سأملي عليكم الأسماء التي في الورقة للسؤال عنها بقدر استطاعتكم.

وبعد أن انتهى الاجتماع، أسرع «تختخ» إلى منزله؛ فقد كان عندهم ضيوف يجب أن يَحضرَ معهم الغداء … وانصرفت «نوسة» مع شقيقها «محب» يتحدثان في الطريق.

قال «محب»: هل تدورين على الجيران تسألين عن أصحاب القطة الضائعة؟

نوسة: سأتصل بصديقاتي تليفونيًّا أولًا … وأسألهن عن هذه القطة، فإذا لم تكن قطة إحداهن؛ فقد تكون قطة أحد جيرانهن.

محب: أما أنا فسوف أتمشَّى قليلًا على الكورنيش … فالشمس جميلة، وأحس برغبة في التنزه.

عادت «نوسة» وحدها إلى البيت، وأمسكت بسماعة التليفون، وأخذت تسأل صديقاتها بدون أن تروي لهنَّ القصة كاملة … فقط اكتفت بأن تقول إنها عثرت على القطة في حديقة منزلهم ليلًا … بعض الصديقات قلْن إنهن لا يعرفن القطة ولا أصحابها أو صاحبتها … وبعضهن لم يكن موجودات في منازلهنَّ، وهكذا قررت «نوسة» أنْ تُوجِّه اهتمامها مؤقتًا إلى البحث عن معنى كلمة «بوحول» في القواميس ودائرة المعارف العربية التي يملكها والدها … وهكذا نزلت إلى غرفة المكتب في الدور الأرضي … وغرقت بين المجلَّدات الضخمة … وأخذت تبحث عن «بوحول» في المراجع المختلفة الموجودة في المكتبة.

ظلت «نوسة» فترة غارقة في قراءتها بدون أن تعثر ﻟ «بوحول» هذا على أثر. ولكنها لم تترك الكتب، فقد كانت تحب القراءة … وأغرتها المعلومات الكثيرة التي وجدتها في دائرة المعارف، فأخذت تقرأ بدون أن تبحث عن شيء معيَّن حتى كان وقت الغداء … فتذكرت أنها لم تتصل بكل صديقاتها؛ ومن ثم تركت الكتب جانبًا وأمسكت التليفون وعاودت الاتصال … ولم تكد تحدِّث صديقتها «أمينة» عن القطة حتى قالت «أمينة»: إنني أتذكر هذه القطة … فقد دخلت شقتنا يومًا ما … إنها قطة لونها كلون الرمال … وطرف ذيلها أسود … وحول عينيها هالتان سوداوان … أليس كذلك؟

ردَّت «نوسة» بلهفة: نعم … نعم تمامًا.

أمينة: لكنَّ هناك شيئًا هامًّا، فكل القطط السيامي تتشابه في هذه الصفات … غير أن هذه القطة لون عينها بنفسجي تقريبًا … أليس كذلك؟

نوسة: تمامًا.

أمينة: إنها قطة جارٍ لنا … رجل عجيب … يحب القطط، وعنده عدد كبير منها … وهو لا يتحدَّث مع أحد … ولكنِّي عندما أعدتُ إليه هذه القطة كان لطيفًا معي جدًّا.

نوسة: وهل تعرفين اسمه ورقم تليفونه … فإنني أريد التحدث معه.

أمينة: إن اسمه الأستاذ «رياض»، ولكني لا أعرف رقم تليفونه … وأقترح عليك زيارتي، وسنذهب معًا إليه، ونردُّ القطة … وستُتاح لك فرصة مشاهدة أكبر وأجمل مجموعة من القطط شاهدتها في حياتك.

نوسة: اتفقنا … وسأَحضُر في الرابعة بعد الظهر.

في الرابعة بالضبط، كانت «نوسة» تحمل القطة الصغيرة وتطرق باب شقة صديقتها «أمينة» في العمارة الضخمة التي تَسكُن بها. وفتحت «أمينة» الباب بنفسها ورحَّبت بصديقتها، ولم تكدْ ترى القطة حتى قالت: إنها هي القطة نفسها التي جاءت إلى شقَّتنا يومًا ثم رددناها إلى صاحبها … إنها قطة كثيرة الهرب … ويبدو أنها تحبُّ التجوُّل خارج الشقة حيث يسكن صاحبها.

نوسة: إنني في الحقيقة أحببت هذه القطة جدًّا، وأود الاحتفاظ بها، لكن من الواجب طبعًا أن أردَّها إلى أصحابها.

أمينة: إنَّ صاحبها رجل غريب الأطوار … نادرًا ما يراه أحد، ويعيش في الدور الأخير من العمارة مع مجموعة من القطط، وليسَت له زوجة ولا أولاد … ولا خدم ولا يزوره أحد مطلقًا.

نوسة: شيء غريب.

أمينة: فعلًا، وأنا لا أعرف من اسمه إلَّا «رياض»، وسنَسأل البواب أموجود هو في شقته أم متغيب في الخارج.

وجلست الصديقتان تتحدَّثان، في حين ذهبت الشغَّالة إلى البوَّاب لتسأله … وبعد فترة عادت قائلة: إن البواب يقول إنه لا يَعرف هل الأستاذ «رياض» في شقته أو لا … فهو لم يرَه منذ صباح أمس.

أمينة: في هذه الحالة ليس أمامنا إلا أن نَصعد إلى شقته وندق جرس الباب، ثم نرى.

وهكذا صعدت الصديقتان، وتقدمتا من الشقة المنفردة على السطح، ودقت «أمينة» جرس الباب ثم وقفتا معًا في الانتظار … مرَّت فترة والصديقتان تنتظران بدون أن يفتح أحد … فدقت «أمينة» جرس الباب مرةً أخرى … ومرةً أخرى لم يفتح أحد … وفي هذه اللحظات كانت «نوسة» ترهف أذنيها وهي تستمع إلى أصوات كثيرة تصدُر من داخل الشقة … ولما لم يرُدَّ أحد تقدمت بدون تردُّد، ووضعت أذنها على الباب، وسرعان ما اتضح لها أن الأصوات التي تسمعها هي أصوات قطط كثيرة تموء وتصرخ، وتقفز هنا وهناك داخل الشقة المُغلَقة.

قالت نوسة: إن القطط في حالة ثورة في الداخل، ويبدو أنها جائعة.

أمينة: معنى هذا أن الأستاذ «رياض» خرج من فترة طويلة، ولم يضع لها الطعام الكافي.

نوسة: نسيتُ أن أسألك عن شكل الأستاذ «رياض».

أمينة: إنه رجل ضخم الجسم، في الخمسين من عمره تقريبًا … صارم التقاطيع … ولكن أبرز ما يُميِّزه أن له ساقًا خشبية.

لم تكد «نوسة» تسمع هذا الكلام حتى سقطت القطة من يدها، ووقفت تُحملِق في «أمينة» وهي مذهولة، ولاحظت «أمينة» ما طرأ على صديقتها؛ فقالت ﻟ «نوسة»: ماذا حدث؟! إن وجهَكِ شاحب!

لم تردَّ «نوسة»؛ فقد كانت خواطرها تجري … وتتذكَّر الرجل المخطوف ليلًا، وساقه الخشبية التي كان يدقُّ بها الأرض، وهو يسير في المطر والظلام.

عادت «أمينة» تقول: «نوسة» ماذا حدث؟

ردت «نوسة» في بطء: تقولين إنَّ له ساقًا خشبية؟

أمينة: نعم … هل في هذا ما يُدهش؟

نوسة: إنَّ ذلك شيء هامٌّ جدًّا!

أمينة: ما وجه أهميته؟

عادت «نوسة» إلى هدوئها وقالت: إنها حكاية طويلة، قد أَقصُّها عليك يومًا ما، المهم الآن هو إنقاذ هذه القطط.

أمينة: إنقاذ القطط …! إني لا أفهم ماذا تَقصدين … ومن أيِّ شيء نُنقذها؟

نوسة: من الموت جوعًا … فصاحب هذه القطط لن يعود إليها.

أمينة (مندهشة): لن يعود؟ لماذا وكيف عرفتِ؟

نوسة: سأقول لك فيما بعد … المُهم الآن ماذا نفعل؟

أمينة: إذا كنتِ مُتأكِّدة من أنه لن يعود، فليس أمامنا إلا الاتِّصال بشرطة النجدة لإنقاذ القطط.

نوسة: سآخُذ القطة الصغيرة، وأنزل فورًا، وسأتَّصل بك بعد ساعة أو أقل لأقول لك ماذا فعلت، أو نتفق على ما نفعل، وأرجوك الآن أن تُحضري بعض اللبن وتسكبيه من تحت الباب حتى تتغذَّى به القطط الجائعة مؤقتًا.

انحنت «نوسة» وأمسكت بالقطة الصغيرة التي كانت تتمسَّح بباب الشقة المُغلَق وتموء بشدة، كأنها تتحدَّث إلى شقيقاتها داخل الشقة … ونزلت الصديقتان، وغادرت «نوسة» العمارة مسرعةً إلى منزل «تختخ» … فهو الوحيد الذي يمكن أن يتصرفَ في هذا الموقف … وفي الوقت نفسه تروي له أنها عثرت على مكان ذي الساق الخشبية.

لحسن الحظ كان «تختخ» في الحديقة غارقًا في بعض كتب التاريخ؛ مُحاولًا البحث عن معنى كلمة «بوحول» التي كانت مكتوبة في الورقة التي عثرت عليها «نوسة».

قال: «تختخ» عندما رآها: ماذا هناك؟ إن وجْهكِ يدلُّ على أنك تحملين أنباء جديدة!

نوسة: نعم … لقد عرفت مَن هو الرجل ذو الساق الخشبية … إن اسمه ليس «عبد الغفور» أو «عبد الصبور قابيل» كما تصوَّرنا … إنَّ اسمه «رياض» … وهو يسكن في المعادي في عمارة تسكُن بها إحدى صديقاتي.

تختخ: اجلسي أولًا واحكي لي القصة كلها.

وجلست «نوسة»، وأخذت تَروي ﻟ «تختخ» ما جرى منذ اتصلت بصديقتها «أمينة» حتَّى وصلت إليه.

ظلَّ «تختخ» يُفكِّر لحظات ثم قال: إنها معلومات على أكبر جانب من الأهمية … وإذا استطعنا أن ندخل الشقة فقد نعثر على معلومات جديدة تكشف شيئًا من الغموض المحيط بهذا الرجل.

نوسة: لقد أدركت الآن لماذا خرج في البرد والظلام … لقد كان يبحث عن قطتِه الهاربة.

تختخ: ربما لهذا السبب أو لسببٍ آخر … المهم الآن أن ننقذ القطط السجينة حتى لا تهلك جوعًا.

نوسة: الحل كما أرى أن تتصل بشرطة النجدة.

تختخ: علينا في هذه الحالة أن نرويَ قصة خطف الرجل والورقة التي عثُرتِ عليها … وقد لا يصدقون كلامنا، وبخاصةٍ أنَّ فتْح منزل في غياب صاحبه ليس مسألة سهلة من وجهة نظر القانون.

نوسة: لنتَّصل بالمفتش «سامي».

تختخ: فعلًا … فهو سيُصدِّقنا، ويُساعدنا … وفي الوقت نفسه يمكن أن يفتح الشقة وينقذ القطط … سأذهب للاتصال به تليفونيًّا، وعليكِ بالانتظار هنا، فسوف يحضر «عاطف» و«محب» و«لوزة» بعد قليل.

عندما عاد «تختخ» بعد المكالمة التليفونية، لم يكن راضيًا؛ فالمفتش لم يبدِ اهتمامًا بموضوع القطط والرجل المخطوف والورقة التي سقطت منه … لقد عدَّ كل هذا من قبيل المبالَغات، ونصَح «تختخ» بأن يتصل بالشاويش «فرقع»، ويتعاون معه لإخراج القطط إذا لم يَعُد صاحبها بعد يوم آخر.

وجلس «تختخ» ساكتًا، ينظر إلى «نوسة» وقد استغرق في تفكير عميق، فقالت «نوسة»: لماذا لم يهتمَّ المفتِّش بهذا اللغز … إنَّه لغز هام.

تختخ: إن المفتش مشغول جدًّا في قضية هامة تتعلَّق بمجموعة من الآثار الفرعونية سُرقت منذ فترة، ولم يتمكَّن حتى الآن من الوصول إلى الفاعل أو الفاعلين … وعلينا أن نعتمد على أنفسنا في حلِّ اللغز … وأول خطوة في رأيي أن نعرف حقيقة «رياض» هذا … وإذا لم يكن هو المريض الذي كانت ورقة المُستشفى باسمه … فمَن هو إذن «قابيل» هذا؟ … وما سرُّ هذه الورقة والكتابة التي عليها؟ ولماذا كان يحملها؟

نوسة: إنَّ كل وقت يمضي ليس في مصلحتنا … فمن المهم أن نتحرك سريعًا … لكن كيف؟ وإلى أين؟

تختخ: إنني أتصور «رياض» هذا عضوًا في عصابةٍ ما قامت بسرقة، وأنه احتفظ لنفسِه بالمسروقات، وأراد أن يختفيَ عن أنظار العصابة، ولكنها استطاعت أن تصلَ إليه وأن تخطفه.

نوسة: وكيف وصلتَ إلى هذه الاستنتاجات؟

تختخ: لسببٍ واحد بسيط … هو أن «رياض» لم يَستغِثْ عندما خطفوه، ورجلٌ يُفضِّل أن يُختطَف على أن يتدخلَ رجال الشرطة في أمره لا بد أن يكون مجرمًا … فهذا الرجل الغامض … ذو الساق الخشبية … المحب للقطط، والذي سقطَت منه الورقة أو أسقطها … رجل خارج على القانون … فأي رجل شريف لا يُمكن أن يترك المجرمين يختطفونه من قارعة الطريق بدون أن يستغيث.

نوسة: هذا كلام معقول جدًّا.

تختخ: وأنا أتخيل أيضًا أن العصابة قد تعود لتفتيش مسكنِه، للبحث عن المسروقات التي أخفاها، إذا لم يَعترف لهم بمكانها …

وقبل أن يتمَّ «تختخ» حديثه وصل الأصدقاء الثلاثة … «محب» و«عاطف» و«لوزة» إلى باب الحديقة وهم يُلوِّحون بأيديهم، فقال «تختخ»: لقد عادوا بأخبار هامة هم أيضًا … فواضح على وجوههم أنهم قد عثروا على شيء هام.

واندفع الأصدقاء الثلاثة إلى حيث يجلس «تختخ» و«نوسة» وقال «عاطف»: لقد وصلنا إلى معلومات هامة!

تختخ: هذا ما استنتجته … فهو واضح على وجوهكم جدًّا.

عاطف: فقد أخبرني قريبي الدكتور «مختار» أن الورقة من أوراق مُستشفَى أم المصريين من قسم الجراحة، قال إنه يُرجِّح أنَّ المريض الذي كانت تخصُّه هذه الورقة قد تُوفِّي … وذلك واضح من انخفاض درجة حرارته المفاجئ.

تختخ: إنَّ قريبك الدكتور «مختار» يستحق أن يعمل في البحث الجنائي؛ فهذا استنتاج ممتاز، ولكن كيف عرف أن الورقة من ورق مُستشفَى أم المصريين؟

عاطف: لقد أخبرني أنه سأل في عدة مستشفيات حكومية، وتأكَّد أنها من أوراق مستشفى أم المصريين. ولا سيما أنه كان يعمل هناك، وكان يظن من البداية أنها من أوراق هذا المستشفى الكبير.

محب: وهذا يعني أن ذا الساق الخشبية ليس هو صاحب الورقة … فهو حي يُرزق.

لوزة: تمامًا؛ فالمُتوفَّى إذن هو «عبد الغفور قابيل» أو «عبد الصبور قابيل» … وقد وعدَنا الدكتور «مختار» أن يسأل عن هذا الاسم في المُستشفى … فهو لم ينسَ مساعدتنا له في مغامرة «الشيء المجهول»، ويُريد أن يردَّ إلينا بعض جميلنا.

محب: هناك شيء أهم من هذا كله … لقد اتَّصلتُ بعمي الدكتور «حمزة» — وهو كما تعرفون أستاذ في التاريخ القديم بالجامعة — وسألته عن معنى كلمة «بوحول».

وانتبه الأصدقاء جميعًا … وقال «تختخ» مُنفعلًا: وماذا تعني هذه الكلمة العجيبة؟

أخذ «محب» ينظر إليهم في استعلاء، وكأنه عثَر على كنز، ثم قال بصوت واضح رنَّان: إن معناها «أبو الهول» … لقد أطلق «الكنعانيون» — وهم من الشعوب التي استوطنت مصر قديمًا — اسم «بوحول» على هذا التمثال الضخم، ثم حُرِّف الاسم بعد ذلك إلى «أبو الهول» …

تبادل الأصدقاء النظرات في انبهار وقال «تختخ»: إننا نتقدَّم بسرعة … وأمامنا الآن مجموعة هامة من المعلومات يمكن أن تفتح بابًا واسعًا لحل اللغز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤