الأغبياء الثلاثة

كان «حسونة» يقوم بجهد جبار، وهو ينظر إلى «تختخ» كأنه يحاول أن يقول له شيئًا، وكان يهز رأسه … وسرعان ما أدرك «تختخ» ما يُريده «حسونة». لقد كان يُحاول أن يصل بكرسيِّه خلف «تختخ» بحيث يكون ظهر كلٍّ منهما ملتصقًا بالآخر … وفي هذه الحالة قد يتمكَّن أحدهما بأصابعه أن يفك وثاق الثاني … لقد كانت خطة بارعة تدلُّ على عبقرية «حسونة» وسرعة بديهته وثقته بنفسه.

وبدأ «تختخ» يحاول ما يحاوله «حسونة» ويُحرِّك كرسيه … كان مجهودًا عنيفًا سال له عَرقه برغم البرد … وأخذ الكرسيان يقتربان شيئًا فشيئًا، ولم يَمضِ ربع ساعة حتَّى أصبح ظهرهما ملتصقين.

مدَّ «تختخ» أصابعه على آخرها، لكنه لم يستطِع الوصول إلى يدَي «حسونة»، وهكذا أخذا يحاولان الالتصاقَ أكثر حتى تمكنا في النهاية من وصول أصابع كلٍّ منهما إلى أصابع الآخر، ولكنَّ ذراعَي «تختخ» كانتا أقصر، فكانت أصابعه أقرب إلى عقدة الحبل … فأخذ يعمل بكل قوَّتِه لحلِّ العقدة … كان يتصوَّر أنها مهمة سهلة … ولكن المسألة لم تكن بهذه البساطة … لقد كانت العقدة قوية … وأصابعه مقيدة بحركة محدودة … وأحسَّ بعد فترة من المحاولة أن أطراف أصابعه تؤلمه … ولكنه استمر … وشيئًا فشيئًا بدأت العقدة تلين … وكان «حسونة» من ناحية أخرى يحاول فرد يديه … وبعد نصف ساعة تقريبًا من المحاوَلة استسلمت العقدة لأصابع «تختخ» وأصبحت يدا «حسونة» طليقتين.

أحسَّ «تختخ» بحركة «حسونة» وهو يفك بقية قيوده، وبعد لحظات سمعه يقوم ويستدير ويقف أمامه … أخذ «تختخ» ينظر إليه في انتظارِ ما يفعل … لقد فكَّ «تختخ» وثاقه … وجاء الدور عليه ليفعل مثله … ولكن «حسونة» لم يفعل، وأحسَّ «تختخ» بالقلق … هل يتركه «حسونة» في مكانه ويهرب؟! وماذا يفعل في هذه الحالة؟ لقد كان مخطئًا إذ بدأ هو يفكُّ وثاق «حسونة» وكان يجب أن يتركه يبدأ هو أولًا.

تمطَّى «حسونة» في ارتياح وابتسم، ثم قال ﻟ «تختخ»: ماذا تتصوَّر أن أفعل بك؟

لم يردَّ «تختخ» طبعًا؛ فقد كان فمه مكممًا. واستمر «حسونة» في حديثه: لقد قمتَ بإنقاذي حقًّا … لكن …

وأحسَّ «تختخ» بقلبه يكاد يسقط بين قدمَيه … لقد خدعه «حسونة»!

كانت القطط قد التفَّت حول الرجل … فأخذ يُداعبها سعيدًا … ثم اتجه إلى المطبخ، وغاب فترة وعاد يحمل لها بعض الطعام، وجلس يُشرف على غذائها في هدوء.

دهش «تختخ» كثيرًا … فقد تصوَّر أن «حسونة» سوف يُسرع خلف العصابة قبل أن تحصل على الشيء الذي تصارعُوا طويلًا من أجله، لكن «حسونة» كان يجلس يداعب قططه ويناولها الطعام، وكأنه رجل يقضي سهرة هادئة في منزله، وليس رجلًا كان قريبًا من الموت منذ ساعة.

وكأنما كان «حسونة» يقرأ أفكار «تختخ» فقال: إنك مُندهِش طبعًا لما أفعل، ولعلك تتساءل لماذا لا أسرع خلف العصابة في محاولة للاستيلاء على عِقد الملكة.

كانت هذه أول مرة يَسمَع فيها «تختخ» هذه الجملة … عِقد الملكة! … إذن فالشيء الذي يتصارعون عليه هو عِقد ملكة من المَلِكات … لكن أي مَلِكة؟ كان يودُّ أن يسأل … وكيف يسأل وهو مكمَّم؟! فأخذ يهز رأسه وينظر إلى «حسونة» في ضيق، فقال هذا: سأفكُّ لك هذه الكمامة التي على فمك إذا وعدتني بشرفك أنك لن تُحاول الصياح.

لم يكن أمام «تختخ» خيار، فأحنى رأسه بما يَعني الموافقة، فتقدَّم «حسونة» منه وفك الكمامة، وأحس «تختخ» براحةٍ لم يشعر بمثلها في حياته … وأخذ يتنفس بعمق، ثم قال: لماذا لا تفك وثاقي كما فككت وثاقك؟ … ردَّ «حسونة» في هدوء: آسفٌ جدًّا … في الواقع أنك ولد ذكيٌّ شُجاع … وقد فهمتَ إشاراتي، وقمتَ بعملك جيدًا، لكن الظروف تختلف … لقد حصلت على الشيء الذي قضيتُ السنوات أعمل من أجله، ولست على استعداد لإضاعته.

تختخ: ولكنهم سوف يعثرون على العِقد هناك!

ضحك «حسونة» لأول مرة بصوت مرتفع، ثم قال: هؤلاء الأغبياء الثلاثة! هل تُصدِّق أنني أتركهم يحصلون على عِقد المَلِكة بهذه البساطة؟!

تختخ: إن الخريطة معهم!

حسونة: الخريطة معهم … لكن العِقد ليس هناك … لقد حصلت عليه منذ مدة، وأخفيتُه في مكانٍ لا يمكن أن يصلوا إليه … مكان ليست له خريطة، ولا يعرفه سواي.

تختخ: وأين هذا المكان؟

ضحك «حسونة» مرة أخرى، وقال: وهل تظنُّ أنني أبله حتى أقول لك …؟ لقد أخفيته حيث لا يعلم أحد … ولا يتصوَّر أحد، ونظر «حسونة» في ساعته، ثم قال: سأترُكُك بعد ربع ساعة … وبعد نحو ساعة سأكون قد غادرتُ مصر كلَّها … إلى حيث لا يجدني أحد. وحيث أعيش حياتي كما تمنَّيت دائمًا أن أعيش.

تختخ: وهل تتركني مقيدًا؟

حسونة: آسفٌ جدًّا … فلا أستطيع أن أتركك مقيدًا فقط، ولكني سوف أُكمِّم فمك أيضًا، غير أني أعدك أن أجد وسيلة لإنقاذِكَ غدًا أو بعد غدٍ … بعد أن أكون وصلت إلى حيث أريد.

تختخ: ماذا ستفعل بالضبط؟

حسونة: سأرسل برقية إلى الشرطة.

تختخ: ولكنَّ العصابة ستصل بعد ساعات.

قال «حسونة» مبتسمًا: آه … لقد نسيتُ حقًّا … لكن العصابة لن تصل إلى هنا مطلقًا، فسوف أتحدث تليفونيًّا من الطريق إلى رجال الشرطة، للقبض على أفرادها، لقيامِهم بالحفر في منطقة ممنوعة، كما أنهم مجرمون مطلوبون في قضايا أخرى.

صمت «حسونة»، فعاد «تختخ» يسأل: ما دمتَ قد اطمأننتَ إلى خطتك، وإلى أنني لن أستطيع أن أفعل شيئًا، فلماذا لا تقول لي القصة كلها؟

قال «حسونة»: فعلًا … لا مانعَ أن أَرويَ لك القصة كلَّها … إذا قلت لي كيف عثرتم على الخريطة … وماذا فعلتم بالضبط؟

وروى «تختخ» ﻟ «حسونة» كيف عثرت «نوسة» على الخريطة، وكيف حلُّوا لغز اسم «بوحول»، ثم ذهابهم إلى منطقة الأهرام، وكيف كانوا سيبدءون الحفر، لولا أنه وجد ألا فائدة من الحفر بفأس صغيرة … ثم كيف استطاعت العصابة نشل الخريطة منه في الأتوبيس، ومراقبة منزله، والمكالمة التهديدية، ثم اصطحاب الرجلين له من الشارع.

شيء واحد أخفاه «تختخ» هو كلبه «زنجر»، كما أخفى عنه أيضًا أنه اتَّصلَ بالمفتش «سامي»، حتى لا يثير فزعه.

حسونة: إنكم أولاد أذكياء حقًّا وشُجعان … وأفضل عشرات المرات من هؤلاء الأغبياء الثلاثة!

سكت «حسونة» قليلًا، وأخذ يستمع … وكانت هناك نقرات على السطح … هل عاد رجال العصابة بهذه السرعة؟ … هكذا كان يُفكر «حسونة» أما «تختخ» فقد تصوَّر أن الأصدقاء قد حضروا.

لكنَّ الاثنين كانا مخطئين … لقد كانت هذه نقرات المطر … فقد هبَّت عاصفة رعدية أخذت تزمجر في السماء ثم انهمر المطر، وابتسم «حسونة» وهو يُداعب إحدى القطط، ثم قال: إنَّهم كما أتوقَّع لن يعودوا قبل الفجر … فأمامهم عمل كثير.

قال «تختخ»: والآن … هل تَروي لي القصة؟

حسونة: سأرويها لك … فقد أنقذتَني، وهي في نفس الوقت قصة شيقة نقضي معها الدقائق الباقية … وترويها لأصدقائك ولرجال الشرطة أيضًا إذا أحببت.

سكت «حسونة» لحظات ثم عاد يقول: تعود قصة هذا العِقد الملكي إلى أربعة أعوام مضت، وكنت أنا وصديقي «عبد الغفور قابيل» نعمل بالبحث عن الآثار … وقرأنا قصة الملكة «حتب-حرس» زوجة الملك «سنفرو» وأم الملك «خوفو» باني الهرم الأكبر … لقد كانت حُجرة دفنها التي عثر عليها الأثريُّون عام ١٩٢٥م من الحجرات القليلة التي وُجدت كاملة الآثار … ومع ذلك لم يجدُوا بها جثة الملكة … فقد سرقها اللصوص … ولم يعلم الملك «خوفو» بسرقة جثَّةِ أمه … بل علم أن اللصوص سرقوا حليَّها فقط … وهكذا أعاد دفن تابوتها قرب الهرم الأكبر دون الإشارة إلى مكانها، وظللتُ أنا وصديقي «عبد الغفور» نبحث عن الجثة التي لا بد أن اللصوص قد أعادوا دفنها حتى لا تحلَّ بهم اللعنة، كما كانوا يعتقدون في ذلك التاريخ البعيد … كنا نتبادل الحفر، ومعنا هؤلاء الثلاثة الذين رأيتهم الآن …

وسكت «حسونة» لحظات كأنما يتذكر كلَّ ما مضى ثم عاد يقول: وذات يوم أبلغني «عبد الغفور» أنه لن يُكملَ الحفر؛ فقد أصابه اليأس … وحاولت إقناع العمال الثلاثة بالاشتراك معي، ولكنهم رفضوا … وكان واضحًا أنهم متَّفقُون مع صديقي على شيءٍ ما … وسرعان ما عرفت من أحدهم أن «عبد الغفور» قد عثر على عِقد من عقود الملكة … وأنه أراد أن يحتفظ به لنفسه دون أن يخطرني … لقد اختلفوا معه، فاستعانوا بي. وعندما فاتحت «عبد الغفور» في هذا أنكر تمامًا … وذات يوم كنا نركب في سيارته معًا … عندما صدمتنا سيارة مُسرعة … ولا أدري أكانت الحادثة مدبَّرة أم لا، ونُقلنا معًا إلى مستشفَى أم المصريين … كانت إصابته بالغة … أما أنا فقد اضطرَّ الأطباء إلى بتر ساقي حفظًا على حياتي.

وعاود «حسونة» الصمت، ثم عاد يقول: كنَّا معًا في غرفة واحدة … وكان هو في غيبوبة أكثر الوقت … وعندما أحس بأنه سيموت أخذ يشير لي يُريد ورقة وقلمًا … كان يُريد أن يكتب شيئًا … وكانت أقرب ورقة لي هي ورقة المستشفى التي تُعلَّق على كل سرير … فانتزعتها وقدَّمتها له، فأخذ يرسم ويكتب بيدٍ مرتعشة … وأدركت أنه يريد أن يدلني على مكان العِقد.

وأظلم وجه «حسونة»، ثم قال: ومات «عبد الغفور»، وعلمَ الثلاثة بموته، وأدركوا أنه لا بد قد قال لي عن مكان العِقد أو أعطاني إياه … وهكذا حاولوا مهاجمتي في ثياب الممرضين، ولكنهم لم ينجحوا … وخرجت من المستشفى بعد أن شُفيت، واستعملت هذه الساق الخشبية … وذهبت إلى مكان العِقد، وحصلت عليه، وأخفيته في مكانٍ لا يمكنهم الوصول إليه … ولست أدري لماذا احتفظت بالخريطة … ربما كذكرى من صديق … وفي الليلة التي خطفوني فيها كنت قد خرجت أبحث عن قط من قططي كان كثير الهرب، وكنتُ قد رتَّبتُ أموري على أساس ترك مصر لأبدأ حياةً جديدة في بلد آخر …

قال «تختخ»: وهل سقطت منك الخريطة عفوًا، أو أنك ألقيت بها؟

حسونة: لقد ألقيتُ بها أنا؛ فلو عثروا عليها معي، وبحثُوا عن العِقدِ حيث تُبيِّن الخريطة ولم يجدوه، فلن يتركوني حتى يعثروا عليه … فهم على استعداد لعمل أي شيء في سبيل الوصول إلى هذا العِقد النادر.

نظر «حسونة» إلى ساعته … ثم أسرع يكمِّم «تختخ»، وهو يقول معتذرًا: أرجو ألا تظلَّ طويلًا هكذا. لكني مُضطرٌّ … وأرجو أن تهتم بالقطط؛ فهي قطط جميلة وغالية …

حاول «حسونة» أن يفتح الباب، فوجده مغلفًا من الخارج بالمِفتاح، لكن الخروج من الشقة لم يكن مشكلة … فقد كانت تتوسط السطح الواسع، ففتح إحدى النوافذ، ثم رفع ساقه الخشبية بيديه في حرص وحذر، ودلَّاها خارج النافذة ثم تبِعها بالثانية، وسرعان ما اختفى في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤