عِقد الملكة

ظلَّ «تختخ» ساهمًا لحظات ينظر خلال النافذة … كانت السماء تمطر بغزارة، والبرق والرعد يشقان السماء بالضوء والصوت … وكانت قصة «حسونة» الغريبة تُسيطِر على تفكيره تمامًا … عِقد الملكة أُم «خوفو»! لا بد أنه شيء عظيم القيمة، سواء من الناحية الأثرية أو المادية … سيخرج من مصر إلى الأبد … وهو الوحيد الذي يعلم، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا! حتى لو لم يكن مكممًا، فإن صوت الرعد والمطر سيغطي على صوته … وأحس بالتعب والضيق … وأخذ يتصور عودة العصابة وكيف تتصرف معه وهو عاجز أمامها!

ومرَّت الدقائق بطيئة … ولم يكن في إمكانه أن يعرف الساعة، لكن من المؤكد أن «حسونة» الآن في طريقه إلى مغادرة مصر؛ فقد مضى نحو ساعة منذ غادر الشقة … هل يظل هكذا جالسًا مقيدًا يومًا ويومين، كما قال «حسونة»؟! أو يجد وسيلة للخلاص سواء بنفسِه أو بوساطة العصابة!

أخذ «تختخ» يكدح ذهنه في محاولةٍ للبحث عن حلٍّ … وقد بدأ البرد يشتدُّ والتعب يهد جسمه … والجوع يُذكِّره بأنه لم يَتعشَّ بعدُ … ولكن كل فكرة خطرت بباله لم تكن مُمكنة التنفيذ … وتذكَّر المآزق التي وقع فيها خلالَ مغامراته الكثيرة وأحس بالثقة … فقد خرج من مآزق أشد، ومواقف أخطر …

ومضى الوقت … وبعد أكثر من ساعتين أدرك «تختخ»، وهو شديد الأسف، أن عِقد الملكة قد ضاع إلى الأبد؛ فلا بد أن «حسونة» الآن في طريقه إلى خارج البلاد … ولا بد أنه استقلَّ الطائرة ما دام قد قال إنه رتَّب أموره ليُغادِر البلاد بهذه السرعة … إن الطائرة الآن قرب الإسكندرية … وبعد دقائق قليلة تكون على البحر، ولن يستطيع أحد إيقافها … فهل من الممكن — لو استطاع الاتصال بالمفتش سامي قبل مضي ثلاث ساعات — أن يتصل المفتش بالشرطة في الدولة التي سينزل فيها «حسونة»، ويُمكن القبض عليه في المطار! هذا إذا استطاع الخروج من هذا المأزق.

وفجأةً سمع «تختخ» وسط أصوات سقوط المطر على السطح صوت خطوات … مَن القادم؟!

وأطل رأس أسود من النافذة المفتوحة … ولمعت عينان ذكيَّتان وبدأ لسانٌ أحمر يتحرَّك … إنه «زنجر»! لقد نسيَه «تختخ» تمامًا … ونسيَ أن «زنجر» لعب أدوارًا كثيرة في مغامرات سابقة، وأثبت شجاعته وذكاءه. وخلفَ «زنجر» أطلَّ وجهٌ آخر … وجه صديق كبير … إنه المفتِّش «سامي» …

شيء غير معقول …

ما الذي جمع بين «زنجر» و«المفتش»؟

كيف استطاع «زنجر» أن يصل إلى المفتِّش؟! ثم كيف استطاع أن يصل إلى شقة السطح؟!

قفز «زنجر» وأسرع إلى صديقه يلحس وجهه … ثم قفز المفتش «سامي» خلفه، وهو يقول: ماذا حدث؟!

ردَّ «تختخ» بعد أن فكَّ المفتش الكمامة عن فمه، وأخذ يفكُّ يدَيه: لقد حدثت أشياء كثيرة … ولكن أهمها أن عِقد الملكة قد طار من يدينا!

قال المفتش بدهشة: عِقد الملكة … أي ملكة؟

تختخ: الملكة «حتب-حرس» أم الملك «خوفو»!

المفتش: ما هذا الكلام الذي تقوله؟!

وروى «تختخ» للمُفتِّش في اختصار حكايةَ اللغز … وحوادث الليلة، وسأل المفتش: هل يمكن إخطار الدولة التي ينزل بها «حسونة» لتَقبض عليه!

ظلَّ المفتش صامتًا فترة، ثم قال: إنها مشكلة سوف تستدعي بعض الوقت … وقد يتمكن «حسونة» من الفرار قبل أن نتحرَّك … فيجب أولًا أن نعرف على أيِّ طائرة سيطير والدولة التي ينزل فيها. ثم نعرف هل بيننا وبين هذه الدولة اتفاقية تسليم مجرمين أو لا … ثم قد لا يكون مع «حسونة» شيء يُحاسَب عليه، فربما قد باع العقد قبل سفره … ربما يكون قد هرَّبه منذ فترة … وهكذا يمكن أن نتعطَّل فترة طويلة ثم لا نصل إلى شيء.

تختخ: إذن ماذا نفعل الآن؟

فكَّر المفتش لحظات، ثم قال: تعالَ نَنزل بسرعة؛ فعندي فكرة!

وأسرع الاثنان ينزلان ومعهما «زنجر» … كانت عربة المفتش «سامي» واقفة، فركباها بسرعة، وبعد أن بدأت السير قال «تختخ»: لكنك لم تقُل لي كيف حضرت إلى المعادي، وكيف وصلت إلى مكاني؟!

المفتش: لقد اتَّصل بي شخص مجهول … فهمتُ من كلامكَ الآن أنه «حسونة» … وأخطر عن ثلاثة أشخاص يقومون بالحفر في منطقة الآثار، وهي منطقة ممنوع الحفر فيها إلا بإذن خاص … ونظرًا لغرابة هذا الحادث … فقد أخطروني في المنزل … ولستُ أدري كيف ربطت بينهم وبين حكاية الكنز الذي حدثتني عنه تليفونيًّا، وقرَّرت أن أتصل بك في المنزل … وفعلًا اتصلتُ فعلمتُ من الشغَّالة أنك خرجت مع بقية الأصدقاء ولم تَعُد بعدُ. وكررت الاتصال بضع مرات، ووجدت الشغالة منزعجة جدًّا … فطمأنتها، ولكنني شخصيًّا لم أطمئن، وقررتُ الحضور … ذهبت إلى «نوسة» و«محب»، فلم أجدك هناك، وطلبا منِّي أن يحضرا معي … ولكني رفضت خوفًا عليهما من البرد … وكررت المحاولة مع «عاطف» و«لوزة»، وحدث نفس ما حدث مع «محب» و«نوسة»، فعدت إلى منزلكم، وفهمت من الشغَّالة أن والديك مسافران، وأن «زنجر» كان معكم عندما خرجتم … فذهبت إليه في بيته في الحديقة ولدهشتي وجدته هناك وهو الذي يلازمك كظلِّك، وأخذتُ أتفاهم معه بقدرِ ما استطعت، وفهِم الكلب الذكي ما أريده من مكمنه، وقادني إلى الشقة.

تختخ: لا بدَّ أنه تبِعنا بعد أن طلبت منه العودة إلى البيت، وعرف مكاني … يا له من كلب ذكي!

واستدار «تختخ» إلى حيث كان «زنجر» يقبع في المقعد الخلفي، وربَّت على رأسه قائلًا: لك عندي أكلة شهية ونزهة طويلة.

كانت السيارة تشق طريقها بسرعة تحت المطر الغزير برغم أن الأرض كانت موحلة، ووجد «تختخ» السيارة قد وصلت إلى القاهرة ثم اتخذت طريقها إلى مصر الجديدة، فعاد يسأل المفتش: إلى أين نحن ذاهبان؟

المفتش: إلى المطار!

تختخ: وما الفائدة؟

المفتش: إنني أتوقَّع أن تكون الطائرات قد مُنعت من مغادرة المطار لسوء الأحوال الجوية … فلا يمكن أن تغامر الشركات بالسماح لطائراتها بالطيران في هذا الجو السيئ.

انتعشت الآمال في صدر «تختخ»، وأحسَّ بالتقدير والإعجاب بالمفتش الذكي، ومضت السيارة مسرعة حتى وصلا إلى المطار.

نزلا مُسرعَين، واتَّجها إلى ضباط الشرطة في المطار الذين حيوا المفتش باحترام، وسألهم المفتش عن رجلٍ يُدعى «سيد حسونة» ووصف لهم شكله، وكيف يعرج في مشيته بساقِه الخشبية، فتذكَّروه جميعًا … وقالوا إنه في صالة المُسافرين في انتظار إقلاع الطائرة المسافرة إلى «لندن»، والتي تأخَّرَت لسوء الأحوال الجوية.

التفت المفتش إلى «تختخ» وهو يَبتسِم، فقال «تختخ»: كما توقعت تمامًا!

دخل المفتش ومعه بعض الضباط صالة المسافرين … كان «سيد حسونة» يجلس وحيدًا، وقد أمسك بكتاب يقرؤه … وكم كانت مُفاجأةً له عندما أحس بيدٍ تُوضع على كتفه، وعندما التفت رأى «تختخ» فكاد يسقط على الأرض.

قال المفتش: تعالَ معنا!

استعاد «حسونة» ثباتَه وقال: لماذا؟

المفتش: بتُهمة تهريب آثار!

حسونة: آثار … إني لا أحمل معي أية آثار!

المفتش: سنُفتِّشك!

وقام «حسونة»، واتجهوا جميعًا إلى غرفة التفتيش … وبدأ أحد ضباط المطار المُدرَّبين يُفتِّش «حسونة»، ففتش ثيابه قطعة قطعة، ولكنَّه لم يجد شيئًا … وطالت مدة البحث حتى أحس «تختخ» كأنه يسقط في بئر عميقة، وبخاصة أن الضباط والمفتِّش جميعًا كانوا ينظرون إليه بعد أن روى لهم موجزًا سريعًا للقصة.

وكان المطر قد توقف … وبدأت ميكرفونات المطار تستدعي الركاب لركوب الطائرات، وارتدى «حسونة» ثيابه وهو ينظر إلى «تختخ» باستخفاف. في حين كان رأس «تختخ» يكاد يَنفجِر من فرط التفكير … أين ذهب العِقد إذن؟ إنه كما قال له «حسونة» في مكانٍ لا يُمكن أن يصل إليه أحد بخريطة … وهو في الوقت نفسه لا بد أن يكون مع «حسونة» فليس من المعقول أن يكون مسافرًا بدونه.

وفجأة برقت في ذهن «تختخ» فكرة هائلة … الساق الخشبية! إنها آخر مكانٍ يتصور إنسان أن العِقد بها. إنها مكان بلا خريطة!

ومال «تختخ» على المفتِّش وسرَّ له هامسًا بفكرته، فقام المفتش واقفًا وقال ﻟ «حسونة»: انتظر لحظة! اجلس على هذا الكرسي.

حسونة: ماذا هناك؟ ألم يَنتهِ التفتيش؟ أريد أن ألحق بطائرتي!

المفتش: لا بأس، ما زال أمامَكَ بعض الوقت …

وطلب المفتش من ضابط المطار أن يُفتِّش الساق … وبرغم أن المنظر كان مؤلمًا وهم يَفكُّون الساق الخشبية، فلم يكن هناك بُدٌّ منه … وهكذا أمسك ضابط المطار بالساق وأخذ يَفحصها … ثم عبث بأصابعه داخلها … ولم تستمر ملاحظته سوى لحظات ثم أخرج لفافة من القماش … وتركزت الأنظار على أصابعه وهو يَفتحها … وارتمى «تختخ» على أقرب مقعد … عندما خرجت أصابع المفتش وبينها عِقد الملكةِ «حتب-حرس» زوجةِ الملك «سنفرو» وأُم «خوفو» والذي ظلَّ مدفونًا آلاف السنين!

أحنى «حسونة» رأسه في حسرة وندم، ثم نظر إلى «تختخ» وكأنه لا يُصدِّق أن هذا الولد هو الذي أوقع به، وأضاع جهوده وانتصاره على العصابة برغم أنه تركه مقيدًا في شقة على السطح لا يعرف مكانه أحد سوى العصابة التي كان من المؤكَّد أنها ستفتك به.

كانت رحلة العودة من أمتع الرحلات في حياة «تختخ». لقد انتهى كل شيء بسرعة … بل كانت هذه أقصر مغامرة مرَّ بها … وكان «زنجر» يجلس خلفه وقد مدَّ رأسه إلى الأمام في زهو.

•••

وعندما اجتمع الأصدقاء في صباح اليوم التالي في حديقة «عاطف» كالمعتاد كان «زنجر» يجلس في الشمس يَلتهِم وجبة شهية … في حين أخذ «تختخ» يروي لهم ما حدث في الليل، وكيف استطاع «زنجر» أن يُبقيَ لمصرَ عِقد مَلِكتها القديمة «حتب-حرس» زوجة الملك «سنفرو» وأُم الملك «خوفو» باني الهرم الأكبر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤