مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه

(١) بيان السر مردوخ مكدونالد مستشار الأشغال

كتب السر مردوخ مكدونالد مستشار وزارة الأشغال مذكرة عن الإيراد المائي اللازم لري الأراضي المصرية، وتكلَّم فيها بالتفصيل عن تقدم الزراعة وطرق الري، وهي المذكرة التي انبرى المهندسون لتفنيدها، وهي مع ذلك تدلُّنا على أن سَدَّ مكوار لا يفيد مصر بل يضر بها، وإليك نص المذكرة:

إن كيفية جعل المقدار الطبيعي لمياه النيل وافيًا في جميع موسم السنة ممَّا يتطلبه تقدم الزراعة التي كانت ولا تزال نصب أعين القائمين بشئون الري في القطر المصري، وقد تقدَّمَتِ الزراعة تقدمًا عجيبًا خلال القرن الماضي الذي شَهِدَ تحويل الوجه البحري من نظام الري القديم نظام ري الحياض بمحصوله السنوي الوحيد، إلى النظام الحديث الري الصيفي الذي معه تستطيع الأرض أن تنتج في المتوسط محصولين في السنة أحدهما محصول القطن الثمين، وشهد القرن الماضي أيضًا تحقيق تلك الفكرة الباهرة فكرة قناطر الدلتا واستخدامها فيما بعدُ للري.

أما في القرن الحالي فالتقدم في توسيع أراضي مصر الزراعية ازداد ازديادًا عظيمًا؛ إذ في غضون الفترة القصيرة التي انقضت منه تَمَّ إنشاء خزان أسوان الأول وقناطر أسيوط وزفتى وإسنا والسدود الغاطسة التي عند قناطر الدلتا وخزان أسوان الثاني أو بعبارة أخرى تعلية الخزان الأول.

ولما كانت مصر بلدًا زراعيًّا محضًا كان ازدياد السكان العظيم الذي بدأ في العقود الأخيرة من القرن الماضي ولا يزال مستمرًّا إلى الآن — عاملًا سريعًا جعل التسهيلات المتزايدة لإنتاج الحاصلات لا تكاد تفي بحاجاته.

وبناء عليه ما كاد يتم آخر الأعمال العظيمة المذكورة آنفًا حتى قضت الحاجة بالشروع حالًا في طائفة جديدة؛ لكي تزيد حاصلات البلاد نماء بمعونة إيراد من المياه أكثر وفاء بالمطلوب.

وقد جاء في تقرير وزارة الأشغال لسنة ١٩١٤ بيان إجمالي لطائفة أعمال من هذا القبيل، والغرض من هذه المذكرة أن تكون بمثابة شرح أوفى لهذه المشروعات. ا.ﻫ.

(١-١) رأي سري باشا

وقد كتب حضرة صاحب المعالي تحت هذه المقدمة ما يأتي:

إن المشروعات الوارد وصفها في الصفحات التالية هي المشروعات التي درستها مصلحة الري بمباشرة السر مردوخ مكدونالد وتناقشت فيها معه مرارًا، وقد وافقنا معًا على تلك المشروعات بالشكل المقدمة فيه الآن، ولي الأمل أن الحكومة ستوافق عليها، وتضعها موضع التنفيذ في الوقت اللازم.

في ٢٣ فبراير سنة ١٩٢٠.

الإمضاء: إسماعيل سري

(٢) العودة إلى مذكرة مستشار الأشغال

(٢-١) الباب الأول

الحاجة إلى الماء في المستقبل وشدة هذه الحاجة، ضرورة التوسع في أرض الزراعة

«ليس إيراد المياه الصيفي في النيل في جميع السنين تقريبًا بكافٍ لتمام القيام بري الأراضي المتوقفة زراعتها عليه في الوقت الحاضر، وهناك في الوقت ذاته حاجة ماسة إلى التوسع في الزراعة بإدخالها في مناطق جديدة لا تزال إلى الآن في حالة البوار لعدم توفر المياه.

وهذه الحاجة ناشئة عن ضغط تزايد السكان السريع؛ إذ بلغ عددهم في الأربعين سنة الأخيرة نحو مِثْلَيْ ما كان عليه من قبل، مع أن الزيادة في مساحة الأراضي المنتجة لم تجار هذا النماء بحال من الأحوال.

ويقدر هذا التزايد الآن بنحو ٢٠٠٠٠٠ نسمة كل عام، ولمَّا لم تكن مصر إلا بلدًا زراعيًّا وجب أن يسير التوسُّع في الزراعة بسرعة معادلة لسرعة نماء السكان إلى أن يبلغ هذا التوسع منتهاه.

إذن فالحاجة شديدة الآن إلى زيادة الضبط في التصرف بمياه النيل لغرضين؛ أولهما: منع الخسارة الفادحة التي تكاد تحدث كل عام بسبب قهري وهو ضيق نطاق الزراعة، والثاني: تدبير كمية المياه الإضافية اللازمة للنماء.

وقبل البت فيما هي أعمال الضبط هذه وما موقعها وما مقدارها يجب بادئ بدء التأكُّد من مساحات الأراضي التي ستستمد المياه من النيل في كل عقد من السنوات حتى تبلغ مساحة الزراعة غايتها القصوى.

مساحات الزراعة في مصر

تتضمن حدود مصر السياسية متسعًا عظيمًا من الأراضي، إلا أن معظمها صحراء رملية واقعة بوجه عام على منسوب أعلى من النيل بكثير.

أما مصر الحقيقية والصغيرة في ذاتها فيجوز في وصفها بأن يقال بالحرف الواحد: «النهر الذي هو مصر» أي الأرض المتكونة من راسب الفيضان السنوي المتشبع بالطمي، ومعظم هذه الأراضي هي الدلتا أو مصر السفلى، وهي على شكل مثلث رأسه عند القاهرة وقاعدته على البحر، ومساحتها ٤٨٠٠٠٠٠ فدان منها ٣٠٠٠٠٠٠ من الأفدنة مزروعة.

وفي امتداد النيل من القاهرة جنوبًا إلى أسوان وهي الحد الجغرافي لمصر العليا يجري الماء في منشق واسع في هضبة أفريقيا الشمالية؛ حيث تخلفت منه مساطيح متسعة من التربة تبلغ مساحتها نحو مليونين وخمسمائة ألف فدان يزرع منها الآن ٢٢٠٠٠٠٠٠ فدان، وبذا يكون إجمالي مساحة جميع الأراضي النيلية المتكونة في مصر نحو ٧٣٠٠٠٠٠ فدان، منها نحو ٥٢٠٠٠٠٠ فدان مزروعة فعلًا الآن، ومن هذا الإجمالي ١٢٠٠٠٠٠ فدان «في الوجه القبلي.»

يسري عليها نظام ري الحياض ذي المحصول السنوي الواحد، والباقي يروى ريًّا صيفيًّا وينتج بوجه عام محصولين في السنة.

فيتبين ممَّا تقدم أن مساحة الأراضي النيلية التكوين المتيسرة للزراعة هي ٧٣٠٠٠٠٠ فدان إلا أنه لا ينتظر أن يخصص منها للزراعة سوى ٧١٠٠٠٠٠٠ فدان؛ لأن مساحات معينة (نحو ٢٠٠٠٠٠ فدان) في منطقة البحيرات بالوجه البحري يجب أن تخصص لتربية الأسماك، وبذا تقدر النهاية العظمى لما يمكن زيادته من المساحة للزراعة بمصر بنحو ١٩٠٠٠٠٠ فدان في حين أنه فضلًا عمَّا ذكر توجد في الوقت ذاته ١٢٠٠٠٠٠ فدان يجب اعتبارها محوَّلة من نظام ري الحياض إلى نظام الري الصيفي.

مقادير المياه اللازمة لمصر

والخطوة الثانية في حل المسألة هي حساب كمية المياه التي تستنفدها المساحات الحالية كل سنة، وبذا يمكن تقدير حاجات المستقبل.

ففي جميع العصور الخالية حتى عهد ليس ببعيد كان عدم الانتظام في جريان فيضان النيل سببًا لتعاقُبِ السنوات السمان والسنوات العجاف في مصر، فعندما كان الفيضان شحيحًا كان يحدث نقص في المحصول، ولكن هذا النقص لم يكن ناشئًا عن قلة مقدار المياه اللازم في النهر؛ بل عن أن منسوب المياه لم يكُن من الارتفاع بالدرجة الكافية لأن تجعلها تفيض على جانبي النهر، أو بعبارة أدق تسيل في الترع المغذية لمناطق الحياض.

أول طريقة اتُّخِذَتْ للتغلب على هذه العقبة: هي إطالة هذه الترع، ونقل أفمامها إلى نقاط مواقعها على النهر أعلى ممَّا كانت عليه من قبل.

وحدث تغيير كبير في السنوات الأولى من القرن الماضي حين أدخل محمد علي باشا النظام الحالي بتحويل الوجه البحري من ري الحياض إلى الري الصيفي، وبه كاد يكون من الممكن في المساحات التي سرى عليها هذا النظام أن ينتج حاصلان اثنان كل سنة بدلًا من الواحد الذي هو نتيجة النظام القديم.

وبسبب هذا التغيير صارت الضرورة أدعى ما تكون إلى الحصول على تحكُّمٍ تام في ضبط جريان النيل، وإلى إنشاء أعمال موازنة يمكن بها في أي وقت من أوقات السنة الوصول بالدقة إلى منسوب المياه اللازم لملء الترع.

وينبغي أن نلاحظ أن كثافة الزراعة ليس على وتيرة واحدة في جميع أنحاء القطر المصري، وأن المساحات المزروعة لا تتطلب في كل مكان قدرًا واحدًا من الماء لكل فدان، وأسباب هذا هي في الغالب اختلافات المُناخ، وأن المناطق التي هي أقرب إلى الجنوب تكاد تكون بأكملها إلى الآن قاصرًا ريُّها على نظام الحياض.

ففي المستقبل حتى لو لم يحصل توسُّع في الزراعة بإدخالها في مناطق جديدة وهو أمر لا يمكن تصوُّره في حد ذاته ستكون كميات المياه المطلوبة وتوزيعها طول مدة السنة على المساحات المزروعة الآن عُرْضَةً للتغير حسب التدرج في تحويل المساحات الباقية من أراضي الحياض في الوجه القبلي من نظامها إلى نظام الري الصيفي، وسيكون تحويل معظمها بالطريقة المألوفة في الوجه القبلي، وسيكون ريُّها بالراحة إما بمرور كل المياه اللازمة لها من قناطر إسنا الحالية وإمَّا بمرور بعضها من هذه القناطر والبعض الآخر من قناطر تنشأ عند نجع حمادي، وتبقى بعدئذٍ مساحات صغيرة معينة ستستمد المياه الصيفية اللازمة لريِّها بالراحة من آلات رافعة تنشأ لهذا الغرض.

وتدل التجارب على أن البلاد يلزمها في الوقت الحاضر نحو ٣٣٠٠٠ مليون متر مكعب سنويًّا لري أرضها ريًّا كافيًا لفلاح حاصلاتها؛ إذ في سنة ١٩١٣–١٩١٤ التي كان فيها انخفاض الفيضان خارقًا للعادة مر بأسوان بين يوليو سنة ١٩١٣ ويونية سنة ١٩١٤ نحو ٤١٠٠٠ مليون متر مكعب من المياه، وسيتضح أن هذا المقدار من المياه وهو أقل ما دُوِّنَ حتى الآن كان أكثر ممَّا يكفي للقيام بجميع المطالب الحقيقية لو أنه وُزِّعَ طول السنة حسب حاجات الزراعة، ولكن التوزيع كان بطريقة غير متساوية بحيث مَرَّتِ المياه بلا حساب إلى البحر في فترة معينة في حين أنه في فترة أخرى حصل عجز حقيقي، أما الزيادة في فترة معينة فيمكن تعديلها كثيرًا في سنة رديئة كالسنة المذكورة، ولكن لا يمكن منعها بتاتًا نظرًا إلى عنف قدوم فيضان النيل الأزرق المتشبِّع بالطمي.

وبمجرد الاطلاع على الجدول الآتي يتبين الحال:
جدول ١
سنة ١٩١٣–١٩١٤ حقيقة المقادير المنصبة في النهر عند أسوان المقادير اللازمة للزراعة الحالية بدون تقييد الزيادة العجز
من يولية إلى ديسمبر ٣٢٠٠٠ مليون متر مكعب ٢٢٠٠٠ مليون متر مكعب ١٠٠٠٠ مليون متر مكعب
من يناير إلى يولية ٩٠٠٠ مليون متر مكعب ١١٠٠٠ مليون متر مكعب ٢٠٠٠ مليون متر مكعب
الإجمالي في السنة ٤١٠٠٠ مليون متر مكعب ٣٣٠٠٠ مليون متر مكعب ٨٠٠٠ مليون متر مكعب

لولا خزان أسوان لكانت مكعبات المياه الحقيقية أكثر مما هو مبيَّن بنحو ٢٠٠٠ مليون متر مكعب في الفترة بين يولية وديسمبر، وأقل منه بنحو هذا المقدار في المدة من يناير إلى يونية.

وفضلًا عن تدبير الماء اللازم لسد العجز المبين بعاليه بواسطة الخزن وأعمال الموازنة يقتضي الحال أيضًا القيام بالمطالب التي سيستلزمها التوسُّع الذي سيحصل لا محالة في المساحات الحالية من حيث كمية المياه وأوقات السماح بها.

وبالنظر إلى قلة الضبط لم يتيسر لمصلحة الري فيما مضى الترخيصُ بتوسيع الزراعة على الوجه الذي كان يرغبه الجمهور، ومع هذا فمنذ سنة ١٨٨٢ تقريبًا زادت المساحة المزروعة في مصر نحو ١٠٠٠٠٠٠ من الأفدنة تقريبًا.

وفي هذه الفترة عينها تم تحويل معظم الأراضي التي تُرْوَى الآن ريًّا صيفيًّا بالوجه القبلي أي نحو ١٠٠٠٠٠٠ من الأفدنة بعد أن كانت تروى من قبل بطريقة الحياض.

وبفضل الأعمال الآتي بيانها يسهل في المستقبل الحصول على المياه اللازمة لتوسيع نطاق الزراعة والتدرج المعقول في تنفيذ مطلب الجمهور من حيث استصلاح البور يقدر ﺑ ٦٠ ألف فدان سنويًّا في المتوسط، ومن حيث تحويل ري الأراضي في الوقت ذاته من نظام الحياض إلى نظام الري الصيفي ﺑ ٤٠٠٠٠ من الأفدنة في العام الواحد.

فإذا أمكن الاحتفاظ بهذين التقديرين في التوسُّع تيسر لمصر الوصول إلى غاية نموها الزراعي في ظرف ٣٠ عامًا من الآن.

المساحات الزراعية بالسودان وما تتطلبه من المياه

إن المنشق الذي يجري فيه النيل هو في السودان من حدود مصر إلى الخرطوم أضيق منه في الوجه القبلي والمساحات التي يرسب فيها الطمي في تلك المنطقة أقل منها في الوجه القبلي.

ومن المشكوك فيه ما إذا كان السكان في الأيام الغابرة وصلوا إلى درجة في التضامن تمكنهم من الزراعة بنظام ري الحياض، والأرجح أن كل ما كانوا يفعلونه هو الاستفادة بالجريان الطبيعي لمياه النيل، والاستعانة معه بالمجهود الفردي باستعمال كل مزارع ما تيسر له من الآلات الرافعة العتيقة.

أما في الأزمان الأقرب عهدًا بنا فقد زُرعت بضع مساحات صغيرة بطريقة ري الحياض، ولكن لم يقر الرأي على التوسع في الزراعة إلا في أوائل القرن الحالي حيث أدخل نظام الري الصيفي لأول مرة إلا إذا استثنينا بضعة أفدنة متفرقة هنا وهناك.

وجنوبي الخرطوم حيث يبتدئ التفرع الرئيسي للنيل يخترق النيل الأزرق سهلًا مترامي الأطراف أرضه كثيرة التعرض لهبوب الرياح.

وربما كانت الأرض الواقعة عند مجتمع النهرين أثمن بقعة في ذلك السهل؛ لأن زراعتها خصبة إلى حدٍّ ما منذ أجيال بعيدة بفضل قليل المطر الذي يصيبها كل سنة.

وفي سنة ١٩٠٣ شرعت حكومة السودان في القيام بتجارب لمعرفة ما إذا كان من الممكن بواسطة الري إنتاج حاصلات قابلة للتصدير كالقمح والقطن والسكر … إلخ. فرؤي أنه لأجل الحصول على نتيجة مرضية قد تدعو الحاجة إلى استعمال مياه الصيف، ولكن لما كان الإيراد المتيسر منها محدودًا بحد لا يمكن تخطيه فقد أبرم اتفاق بين الحكومتين المصرية والسودانية على تعيين مقدار أراضي السودان التي يجوز ريها بالمياه الصيفية بجعله ١٠٠٠٠ فدان، ومما ساعد على جعل هذا الاتفاق ممكنًا هو إنشاء خزان أسوان الذي أصبح به مركز مصر أكثر ضمانًا في نيل الفيضانات المنخفضة مع حفظ الحق في تعديل هذا الاتفاق عندما تضبط مياه النيل أكثر مما هي عليه، ويصبح إيراد المياه للقطرين أوفر كما حصل فعلًا في سنة ١٩١٢ حين عُلِّيَ خزان أسوان وزيدت مساحة الصيفي في السودان إلى ٢٠٠٠٠ فدان وإلى الآن (سنة ١٩١٩) لم ينتفع تمامًا بهذا الحق الذي يخول زرع ٢٠٠٠٠ فدان زراعة صيفية، ومع هذا فحكومة السودان تهيئ الآن مشروعًا يرمي إلى استثمار ٣٠٠٠٠٠ فدان في القريب العاجل يتطلب نحو الثلث من المياه في ربيع كل سنة، وهذا المشروع ممكن لأن كِلَا القطرين يدبر أمر الحصول على إيراد أوفر من المياه.

هذا هو البرنامج العاجل، ولكن هناك مشروعات كبرى مؤجلة للمستقبل؛ لأن مساحة اﻟ ٣٠٠٠٠٠ فدان ما هي إلا وحدة مساحات يبلغ إجمالها ثلاثة ملايين من الأفدنة تقريبًا. قد يكون من المستطاع إنماؤها تحت نظام الري الصيفي حوالي نهاية القرن الحالي.

ولكن قبل ذلك الحين بكثير أي بعد ٣٠ سنة من الآن ستكون مصر قد بلغت غاية شأوها الزراعي، ويكون السودان قد أصلح فيه نحو مليون من الأفدنة فقط، وليس من الضروري النظر في أي إصلاح زراعي آخر في السودان إلا بعد الوصول إلي ذلك الحد حوالي سنة ١٩٥٥.

الخلاصة

يلخص البيان التالي برقم ٢ الاعتبارات السالفة بوجه الإجمال، ويدل على المساحات التي ينتظر تيسرها للزراعة في كل عقد من السنين:
جدول ٢: بيان النمو الزراعي المنتظر حصوله في القطرين المصري والسوداني مقدرًا بالفدادين
المساحة المزروعة في مصر المساحة المزروعة في السودان
نظام الري الصيفي نظام ري الحياض نظام الري الصيفي نظام ري الحياض المجموع
في الوقت الحاضر ٤ ملايين مليون و٢٠٠ ألف ٢٠ ألف ٨٠ ألف ٥ ملايين و٣٠٠ ألف
في سنة ١٩٣٠ أي بعد إتمام خزان النيل الأبيض بعشرين سنة ٥٠ مليون ٨٠٠ ألف ٣٢٠ ألف ٨٠ ألف
في سنة ١٩٤٠ أي بعده بعشرين سنة ٦ مليون ٤٠٠ ألف ٦٠٠ ألف ٧ ملايين
في سنة ١٩٥٥ أي بعده بثلاثين سنة ٧ ملايين و١٠٠ ألف مليون ٨ ملايين و١٠٠ ألف

لا تدخل في هذه الخانة الأراضي التي تغطيها المياه وتنحسر عنها بمجرد ارتفاع وانخفاض النهر حتى ولو كانت فيها زراعة.

مقادير المياه اللازمة

حصلت مصلحة الري من المجلس الزراعي الاستشاري للحكومة على إحصائيات، وعنيت مصلحة الطبيعيات بمقارنتها وتحويلها، وتدل نتيجة هذه المباحث على أن ٥٠٠٠٠ مليون متر مكعب في السنة تكفي أقصى مطالب القطر المصري في المستقبل، وهي عبارة عن زراعة ٧١٠٠٠٠٠ فدان بنظام الري الصيفي، وفي الوقت الذي فيه تكون مصر قد وصلت إلى تلك الحالة النهائية يكون قد استصلح في السودان نحو ١٠٠٠٠٠٠ فدان باستعمال نحو ٦٠٠٠ مليون متر مكعب في السنة، وبذا يكون مجموع ما تتطلبه أراضي القطرين من الماء في تلك الآونة نحو ٥٦٠٠٠ مليون متر مكعب.

وبمساعدة الأعمال اللازمة لضمان مركز مصر في جميع الظروف مضافة إلى الأعمال اللازمة للسودان ذاته يتيسر للنيل سد المطالب التي تقتضيها زيادة التوسع في السودان.

ولا يغيبن عن الذهن عند احتساب كميات المياه اللازمة للسودان أنه نظرًا إلى الاعتبارات الجوية قد يستنفد كل فدان على حِدَتِه حال كونه مزروعًا زراعة معينة قدرًا من المياه أكثر ممَّا يلزم لفدان مزروع في مصر بالزراعة عينها، ولكن نظام الزراعة في السودان مع هذا تُرَاعَى فيه بنسبة عظيمة من البوار.

وهذان العاملان (أكثرية الحاجة إلى الماء في كل زراعة وأقلية كثافة الزراعة في ذاتها) غير متكافئين تمامًا؛ ولذا يكون ما تتطلبه زراعة الفدان في الجملة أكثر في مصر منه في السودان.

ومن المقننات المائية والنتائج الملخصة في الجدول ٢ يتكون الجدول ٣ الآتي:
جدول ٣: بيان تقريبي لمطالب الزراعة الحالية والمستقبلة مقدرة بملايين الأمتار المكعبة
في الحالة الحاضرة عند تمام نمو مصر الزراعي
الإجمالي ٣٣٠٠٠ ٥٦٠٠٠
من يولية) مصر ٢٢٠٠٠ ٣٠٠٠٠
إلى ديسمبر) السودان ٤٠٠٠
المجموع ٢٢٠٠٠ ٣٤٠٠٠
من يناير) مصر ١١٠٠٠ ٢٠٠٠٠
إلى يونية) السودان ٢٠٠٠
المجموع ١١٠٠٠ ٢٢٠٠٠

تنبيه:

أرقام هذا الجدول مجبورة إلى قرب ٥٠٠ مليون، وهي تبين مقادير المياه المطلوب وجودها في النهر بعد خزان أسوان، وقد اعتبرت حاجات السودان في الوقت الحاضر كمية مهملة.

إيراد النهر المتيسر في الوقت الحاضر

إن كميات الماء المتيسرة في سني انخفاض النيل هي التي ينبغي بالطبع أن يعول عليها في القيام بالمطالب المبينة في الجدول ٣.
ولدينا من مناسيب النهر مدونة يومًا يومًا في الخمسين سنة الأخيرة ما يلزم لتعيين دورية الفيضانات المنخفضة وكمية مياهها، ويظهر الجدول ٤ نتائج فحص المعلومات المتيسرة، وبيان التصرف التقريبي عند أسوان في كل من السبع السنوات التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده مع مقارنتها بكمية مياه فيضان عام ١٩١٤–١٩١٥ الذي يوازي تقريبًا متوسط فيضان العشرين سنة الأخيرة.
جدول ٤: التصرف التقريبي عند أسوان خلف الخزان في كل من السبع السنوات التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده أثناء الخمسين سنة الأخيرة.
السنة الفيضان الصيف التصرف
يولية–ديسمبر يناير–يونية مليون متر مكعب في السنة
٩١٣–٩١٤ ٣٢٠٠٠ ٩٠٠٠ ٤١٠٠٠ سنة فيضانها أشد الفيضانات انخفاضًا فيما يعلم
٨٩٩–٩٠٠ ٤٩٠٠٠ ٩٠٠٠ ٥٨٠٠٠
٩٠٧–٩٠٨ ٤٩٠٠٠ ١٤٠٠٠ ٦٣٠٠٠ سنوات شديدة انخفاض الفيضان
٩١٥–٩١٦ ٥٢٠٠٠ ١٣٠٠٠ ٦٥٠٠٠
٩٠٢–٩٠٣ ٥٣٠٠٠ ١٤٠٠٠ ٦٧٠٠٠ سنوات معتادة
٨٨٨–٨٨٩ ٥٦٠٠٠ ١٢٠٠٠ ٦٨٠٠٠ انخفاض الفيضان
٨٧٧–٨٧٨ ٥٨٠٠٠ ١٣٠٠٠ ٧١٠٠٠٠
٩١٤–٩١٥ ٧٠٠٠٠ ١٤٠٠٠ ٨٤٠٠٠ وهي سنة فيضانها منخفض قليلًا عن المتوسط

تنبيه:

إن شدة انخفاض فيضان سنة ١٩١٣ كانت خارقة للعادة، عرف أن أقرب فيضان إليه في الانخفاض زاد عنه في كمية الماء بنحو ٥٠٪ في الوقت الذي كان اختزان الماء فيه مطلوبًا أي من يولية إلى ديسمبر (والغاية داخله).

ولما كان مثل هذا الفيضان لا يقع إلا نادرًا جدًّا أمكن بلا احتراز اعتباره النهاية الصغرى.

ولفيضان عام سنة ١٩١٣ أثر في حاصلات مصر الزراعية يختلف اختلافًا عظيمًا عمَّا كان يُحدثه فيضان مثله قبل تاريخه بعشرين سنة أو أكثر؛ إذ كان من المحقَّق حينذاك أن يعقبه القحط، ولكن بفضل القناطر المنشأة على النيل في مواقع مختلفة أمكن رفع منسوب المياه الجارية في الترع، وبذا مدت الأراضي المقتضي ريها بكميات الماء المعتادة مهما بلغت شدة انخفاض الفيضان.

غير أنه يوجد في الوجه القبلي منطقة واحدة لا تصل المياه إلى ترعها الكبرى بهذه الكيفية، وهذه لحقتها خسارة في سنة ١٩١٣، ولو كانت الأعمال المنوي إنشاؤها في السودان موجودة حينذاك لكانت الخسارة أعظم، ولكن كل خطر على مزروعات هذه المنطقة في الشتاء والخريف في المستقبل يزول بإنشاء قنطرة أخرى عند نجع حمادي وتحديد الترع الآن الآخذة من أمام قناطر إسنا، وفي الوقت ذاته يتيسر بهذه الوسيلة تحويل المنطقة المنتفعة بهذا المشروع إلى نظام الري الصيفي، وبذلك يكون في المستقبل لعودة ظروف سنة ١٩١٣ ضرر في مناطق الحياض إبان الفيضان حتى إذا كانت جميع الأعمال المقترحة الآن تسحب ماء من الفيضان في السودان ولا يراد فصلي الصيف والربيع علاقة كبيرة بما يسبقه من مياه الفيضان، ولم يشذ فيضان سنة ١٩١٣ عن هذه القاعدة فقد أعقبه ربيع كان انخفاض الماء فيه بالغًا غايته، ونجم عن هذا كما قيل شيء من النقص في محصول القطن المعتاد، ولا ريب أن النقص الناتج في تلك السنة لا يمكن أن يعزى كله إلى قلة الماء وحدها، بل هناك عوامل أخرى كعامل الآفات أعاقت إنتاج المحصول المعتاد، ويصح أن تعزى الخسارة كلها إلى هذا العامل غير أن زراعة الأرز في مساحة اﻟ ٢٠٠ ألف فدان المعتادة كادت تنعدم كلية؛ إذ لم يزرع الأرز إلا في ٢٥ ألف فدان.

وإذن لو فرض بقاء المساحة المنزرعة كما هي عليه الآن وجب التدبر للمستقبل فيما إذا وقعت سنة كسنة ١٩١٣ بزيادة كمية الماء اللازمة لري القطن بمقدار ١٠٪ لأجل إمداد ١٨٠٠٠٠ فدان بالماء الكافي لزراعة الأرز فيها.

وللوصول إلى هذه النتيجة يكفي خزن ما لا يزيد عن ٢٠٠٠ مليون متر مكعب من الماء، ولكن بسبب توسيع مساحات الزراعة وتحويل نظام الري ستدعو الحاجة إلى كميات أخرى من الماء لسد مطالب المستقبل في فصل الصيف كما هو مبين في الجدول ٣، وسيبحث الآن في الأعمال اللازمة لهذا الغرض:

الأعمال اللازمة لسد الحاجة إلى المياه

الآن وقد عرفنا مطالب كل عقد من السنين، ومقدار الماء الذي أمكن الحصول عليه في السنين التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده صار من الممكن أن نرسم برنامج الأعمال اللازمة لضبط النهر بحيث يسهل في جميع الأوقات تدبير الماء الكافي للري، ولكن أثناء البحث في أعمال الموازنة على النهر لصالح الإيراد الصيفي ينبغي أن لا نتناسى الضرورة القصوى ضرورة إنقاذ القطر المصري من غوائل الفيضان العالي، ولمَّا لم يكن لمصر من وسائل الوقاية سوى الجسور ما كان لها مناص من الاعتماد عليها، ولكن هذه الجسور طالما خانتها في الماضي، ومع ما بذل من عظيم الجهود في سبيل تقويتها في السنوات الأخيرة فإنها ليست مأمونة، وإذا أمكن تخفيف وطأة الفيضانات العالية بواسطة الموازنة كان هذا أدعى إلى الاطمئنان، وإذا كان عمل واحد كفيلًا بالقيام بجميع هذه الحاجات وجب بداهة الشروع فيه حالًا، ولكنه لسوء الحظ ليس مثل هذا الحل البسيط متيسرًا، ومن جهة أخرى فهناك أعمال يجب إنشاء كل منها في حينه لضمان أحكام ضبط النهر، وبعد البحث الدقيق في كثير من المشاريع ومختلف الوجوه من حيث ترتيب تواريخ البدء فيما إذا اختير منها اقترحت الأعمال الآتية على ترتيب سردها:
  • (١)

    خزان على النيل الأبيض، وسد بالبناء عند جبل الأوليا؛ لزيادة إيراد مصر الصيفي، وليكون بمثابة وسيلة مؤدية إلى درء غوائل الفيضانات العالية.

  • (٢)

    خزان صغير على النيل الأزرق يسد عند سنار لري سهل الجزيرة.

  • (٣)

    قناطر عند نجع حمادي لوقاية المزروعات النيلية في ذلك الجزء من الوجه القبلي الذي لم يحول بعد إلى الري الصيفي، ولإمداه بالمياه الصيفية عندما يتم تحويله.

  • (٤)

    خزان في أعالي النيل الأزرق؛ ليزيد إيراد السودان، وليساعد على ضبط الفيضان.

  • (٥)

    خزان على بحيرة ألبرت؛ لتكملة خزين الماء اللازم لسد أقصى حاجات مصر.

  • (٦)

    قناة في منطقة السدود؛ لضمان وصول ماء خزان بحيرة ألبرت إلى النيل الرئيسي.

ومن المعلومات المتيسرة يتضح أن إنجاز هذه الأعمال على الترتيب المذكور تكون نتيجة التدرج خطوة خطوة حسب ازدياد الزراعة في ضمان الحصول على الماء اللازم لسد حاجاتها حتى في أشح السنوات.

ويقتضي الحال الوقوف على معلومات أخرى قبل عمل مقايسة مضبوطة ضبطًا كافيًا للبت فيما إذا كان يصح من الوجهة الاقتصادية العمل أثناء ظروف أشح ما علم من السنوات، أم يكون الأرجح ماليًّا تحمل بعض النقص في زراعة الأرز وبعض التأخير في ري الشراقي فيما إذا وقعت هذه الظروف.

وعلة ترتيبها هكذا بأن يكون كل منها بمثابة حلقة جوهرية في سلسلة كفيلة بسعادة وادي النيل، وكل حلقة تمس الحاجة إليها لا عند نجازها فقط، بل تعد كمال السلسلة.

(٢-٢) الباب الثاني

أعمال ضبط النيل

سنصف الآن طائفة الأعمال التي أُجْمِلَ ذكرها بالفصل الثالث وصفًا يتناول كلًّا منها على حدة فيما يختص بالغرض المقصود منه، أما وصف التصميم الفني لها فلا يدخل في نطاق هذه المذكرة.

إن مقايسات النيل الأبيض عند جبل الأولياء وخزان النيل الأزرق عند مكوار عملت حسب التصميمات الفعلية التي هيئت لهذين العملين، وأما المقايسات التي ذكرت بخصوص الأعمال الأخرى فإنما هي تخمينات تقريبية نتجت من مقارنة الأعمال المقترحة بالأعمال التي تم إنشاؤها بمصر من قبل، ولا يمكن عمل مقايسات مضبوطة لهذه المشاريع إلا بعد الإقرار على فحصها فحصًا تفصيليًّا.

خزان النيل الأبيض (عند جبل الأولياء)

تمت الموافقة على هذا العمل، وقد شرع فيه فعلًا، وسيشمل سدًّا من البناء المقابل على النيل الأبيض على مسافة ٤٥ كيلو مترًا جنوبي مدينة الخرطوم عند جبل الأولياء، وسيكون خزانًا كبيرًا يبلغ طوله نحو خمسمائة كيلو متر في مديرية النيل الأبيض، وسعته الفعلية حينما يستعمل حوضًا للخزن أي كمية الماء التي تخرج منه فلا يعد احتساب النقص من التبخر … إلخ، مقدرة بأربعة آلاف مليون من الأمتار المكعبة، ولكن لو فرض أن فيضانًا خارقًا للعادة في الانخفاض كفيضان سنة ١٩١٣ عاد قبل تمام التدابير للحصول على خزين من سنة لأخرى في بحيرة ألبرت فقد يكون من الجائز سحب مقدار من مياه النهر كافٍ لتمام استخدام خزان جبل الأوليا.

فترتيب الأعمال المقترحة مقصود به القيام بما تقتضيه هذه الظروف المفروضة حتى في مثل العام الاستثنائي المذكور يمكن أن تحفظ في هذا الخزان كمية من الماء كفيلة لإيراد مصر فدانًا فدانًا بإيراد لا يكون على كل تقدير أدنى ممَّا حصلت عليه فعلًا في سنة ١٩١٣–١٩١٤.

وسيأتي هذا الخزان أيضًا بفائدة محققة جدًّا في ضبط الفيضانات العالية؛ إذ سعته أكثر ممَّا يلزم لإضافة ٤٠٠٠ مليون متر مكعب إلى مياه النهر؛ لأنه في الواقع يستطيع حجز ١٠ آلاف مليون متر مكعب.

وسيتم ضبط المياه بإقفال بوابات الخزان بمجرد وصول مياه النيل الرئيسي عند الخرطوم إلى منسوب يكون تجاوزه مضرًّا بصالح القطر المصري، وبإبقائه مقفلًا حتى تهبط المياه فتعود إلى منسوب يُطْمَأَنُّ إليه، وتكون نتيجة هذا أن يوقف الوارد من النيل الأبيض بالمرة، وأن تنقص دورة الفيضان إلى هذا الحد. على أن دورة الفيضان في ذاتها معظمها إن لم نقل كلها مكوَّن من مياه النيل الأزرق المتشبعة بالطمي التي إن لم يمكن ضبطها ضبطًا كاملًا سيكون في الإمكان نقصها كثيرًا؛ بل سيحصل ذلك فعلًا بتأثير خزان أعالي النيل الأزرق وترع الجزيرة، ولكن شدة ارتفاع الفيضان ليست وحدها مصدر الخطر على مصر؛ بل هو على الأرجح ناشئ عن طول استمرار المناسيب العالية التي تدعو إلى انزلاق جسور النيل وانقطاعها من الضغط المستمر، وسبب استطالة مدة الفيضان في مصر هو أن كمية المياه التي في النيل الرئيسي عند الخرطوم لا تهبط بسرعة هبوط النيل الأزرق، ولا يعيقها عن هذا الهبوط إلا ما ينصرف إليها من المياه المحبوسة في ذلك الخزان الطبيعي الواسع وهو وادي النيل الأبيض، فخزان النيل الأبيض يؤخِّر هذا التصرف وكذا يؤخر الجريان الطبيعي لمياه النيل الأبيض ذاته حتى يزول كل الخطر فيعين على حد كبير على إزالة ما يقع على الجسور من الضغط المستمر الذي هو الآن الداعي الأكبر إلى القلق، وبذا تكون نتيجة الأعمال المُزْمَع إنشاؤها على النيلين الأبيض والأزرق جميعًا هي إنقاذ مصر إلى درجة كبيرة من خطر الغرق، ولدى استعمال الخزان بمثابة جهاز صرف للفيضان فيكون النقص الناجم عن التبخُّر مفيدًا بلا ريب، في حين أنه متى استعمل حوضًا للتخزين فلا موجب لحصول نقص في الكمية الميسرة ما دام الماء مارًّا في الخزان والتسرب إلى البحر مستمرًّا.

وبعد نجاز خزان أعالي النيل الأزرق ولا سيما عند إمكان خزن المياه الكافية في بحيرة ألبرت يبطل استعمال خزان جبل الأوليا لخزن مياه الفيضان؛ بل يكون استعماله أيضًا بمثابة حوض موازنة لتعديل التصرُّف في النيل الرئيسي.

وهذه الوظيفة جوهرية؛ لأن الماء يستغرق نحو ستة أسابيع في سيره من بحيرة ألبرت إلى الخرطوم، ومن المستحيل التنبؤ بحالة النيل الأزرق عند هذه النقطة الأخيرة إلا قبل الميعاد بأيام قلائل في حين أن الماء الذي يصلها من النيل الأبيض في أي تاريخ لا بُدَّ من خروجه من بحيرة ألبرت قبل هذا التاريخ بستة أسابيع، فإذا أُرِيدَ التأكد من الحصول على مقدار الماء اللازم مرورُه من النيل الرئيسي خلف الخرطوم وجب اتخاذ وسيلة من وسائل الموازنة على أحد النهرين (النيل الأبيض والنيل الأزرق) على مقربة من ملتقاهما، وفضلًا عن هذا فإن جريان نهر سوباط الذي يلتقي بالنيل الأبيض عند ملكاي يمكن ضبطه بواسطة خزان جبل الأوليا الذي بدونه تختل بل تضيع في الغالب مياه هذا النهر ومياه سائر الفروع التي تكون جزءًا مهمًّا من فيضان النيل الأبيض.

ولما كانت وسيلة الموازنة هذه تستعمل في أيام الفيضان فلا يمكن بناؤها على النيل الأزرق؛ لأن مياهه تكون مستقلة بالطمي في ذلك الأوان، وإذن يجب أن يكون إنشاؤها على النيل الأبيض.

وفي الواقع يوجد على هذا النهر عند جبل الأولياء موقع صخري صالح لأن يكون أساسًا يُبنى عليه يقوم بهذه الوظيفة الجوهرية وظيفة موازنة الإيراد المنحدر في النهر حسب حاجات زراعة القطر المصري.

والخلاصة: إن لخزان النيل الأبيض أربع وظائف يؤديها، وهي أن يكون بمثابة:
  • (أ)

    خزان لإيراد المياه يطلق منه أربعة آلاف مليون متر مكعب لاستخدامها في القطر المصري.

  • (ب)

    خزان لتصفية الفيضان يسع نحو عشرة آلاف مليون متر مكعب.

  • (جـ)

    حوض موازنة يتسنى بواسطته إحكام ضبط إيراد مصر للماء المستقبل.

  • (د)

    وسيلة لخزن مياه نهر سوباط وسائر الفروع.

والنفقات المقدرة لهذا العمل ٢٢٠٠٠٠٠ جنيه مصري يدخل فيها ٣٠٠٠٠٠ جنيه مصري قيمة التعويض اللازم صرفه إلى من تنزع ملكيتهم من الأهلين، وينبغي أن يتم العمل قبل شهر يونيو سنة ١٩٢٥.

خزان سنار على النيل الأزرق

وهذا العمل جار إنشاؤه الآن على نفقة حكومة السودان، والغرض منه أن يمد بمياه الري بالراحة بقعة مساحتها ٣٠٠٠٠٠ فدان من أراضي الجزيرة بالسودان على مقربة من وادمدني، وهذا العمل يجمع بين وظيفتي قنطرة موازنة وسد؛ فمن حيث كونه قنطرة موازنة يؤدي ذات الوظيفة التي تقوم بها القناطر بمصر، ومن حيث كونه سدًّا فهو يكون خزانًا يسع نحو ٥٠٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب، مع ملاحظة أن سعة خزان أسوان يبلغ نحو ألفين وأربعمائة مليون متر مكعب.

وظروف الجزيرة بالسودان من حيث التربة والمناخ وإيراد الماء لا تسمح إلا بالزراعة الشتوية، وفوق هذا يجب بقاء الأرض بورًا مدة سنة على الأقل في كل ثلاث سنين، وبناءً عليه لا تمكن الزراعة إلا مئتي ألف فدان في السنة من الثلاثمائة ألف فدان التي تقرر إصلاحها، ومن القدر الأول لا يمكن زراعة القطن إلا في مائة ألف فدان فقط؛ لأن الأرض ليس في استطاعتها أن تنتج القطن أكثر من مرة في كل ثلاث سنوات مقابل نظام سنتين في كل خمسة وهو النظام المستحسن اتباعه في القطر المصري، وما عدا القطن من الحاصلات يتم حصادها في أواسط شهر يناير فلا حاجة بها إلى الماء بعدئذٍ، وأما القطن فلا يتم نموه إلا بعد ذلك التاريخ، ويمنع عنه ذلك الماء عادة حوالي ٣١ مارس، ولو أنه في بعض الأحايين تستمر الحاجة إليه حتى نصف أبريل؛ ولذا فمن البديهي أن القطن في احتياج إلى الماء في فبراير ومارس في حين لا تستطيع مصر أن تتخلى عن المقدار المنحدر إليها في النهر.

ولهذا فحكومة السودان آخذه في إنشاء خزان سنار الذي يكون ماؤه حوالي نهاية موسم الفيضان حينما يكون الماء دائمًا متوفرًا.

وسيكون الماء المخزون كافيًا لري قطن السودان في فصل الربيع، وبذا يمكن تفادي سحب المياه من النهر حين تكون مصر في احتياج إليها، والنفقات مقدرة لهذا العمل ١٣٥٠٠٠٠ج.م وسيتم حوالي يولية سنة ١٩٢٤.

قناطر نجع حمادي

يجب أن تنشأ بجوار نجع حمادي قناطر على نمط القناطر الحالية في مصر يكون الغرض منها رفع منسوب الماء في وقت الفيضان إلى درجة يتيسر معها لحياض مديرية جرجا الحصول على إيراد كافٍ من الماء حتى في أشد الفيضانات انخفاضًا كفيضان عام ١٩١٣ حيث اضطرت مسائح كبيرة إلى بقائها خالية من الزراعة، وستشتد الحاجة إلى هذه القناطر حينما تنشأ أعمال أخرى جنوبًا إما لري الأراضي المجاورة وإما لملء خزان لإيراد صيفي من الفيضان.

وستبلغ مساحة أراضي الحياض المنتظر انتفاعها نحو خمسمائة ألف فدان لا تدخل فيها حياض مديرية أسوان المنعزلة وبضع مساحات صغير على ضفة النهر الشرقية، وبهذا الاعتبار تكون إقامة هذه القناطر خاتمة الأعمال التي شرع فيها منذ عدة سنين بقصد وقاية أراضي الوجه القبلي من الخسارة الناشئة من قصور الفيضانات المنخفضة عن الري.

وبفضل هذه القناطر سيتيسر أيضًا لهذه الأراضي بعد تحويلها الحصول على الماء للري الصيفي بالراحة.

ومما يذكر في هذا المقام أن من جملة أراضي الحياض الباقية بالوجه القبلي منطقة يتوقف ريها على قناطر إسنا، وهذه المنطقة يمكن تحويلها إلى نظام الري الصيفي كلما كان الماء كافيًا؛ إذ القناطر الموجودة الآن سيكون في استطاعتها إمداد هذه الأرض بماء الري الصيفي بالراحة عندما يتم تحويلها.

فلا يبقي إذًا بمصر من الأراضي ما يحتاج تحويل نظام ريه إلى الري الصيفي سوى حياض أسوان الصغيرة وبعض أجزاء منعزلة أخرى قليلة المساحة على ضفة النيل الشرقية، على أنه من المتيسر تحويلها بواسطة آلات رافعة على النيل، وليلاحظ أن إبطال زراعة الحياض بالوجه القبلي ستكون نتيجته تقليل كمية المياه المأخوذة من النهر حال صعوده وعند ذروة الفيضان ذاتها، وبقدر هذه النتيجة تكون الزيادة في ارتفاعه في مصر الوسطى.

وقياسًا على الأعمال التي من هذا القبيل يحتمل أن تبلغ نفقات قناطر نجع حمادي مليونًا وخمسمائة ألف جنيه، وينبغي إنشاؤها قبل عام ١٩٢٥.

خزان أعالي النيل الأزرق

وقد دلَّت المباحث التقريبية الحديثة على إقامة سد في موضع ملائم في المسايل العليا للنيل الأزرق؛ ليكون بمثابة خزان سعته ٧ آلاف مليون متر مكعب حتى يتيسر بعض الضبط لمقدار الماء المنحدر في النهر، ويقترح قسمة هذا المقدار إلى قسمين:

الأربعة آلاف مليون متر مكعب الأولى تُدَخَّرُ إلى وقت الحاجة من سنة إلى أخرى، والثلاثة آلاف مليون متر مكعب الثانية تستقى من الفيضانات ما عدا شديدة الانخفاض منها للانتفاع بها في السودان في الربيع التالي.

أما إذا كان الفيضان شديد الانخفاض فلا يؤخَذ ماء لاستعماله في الأشهر التالية، بل على العكس يزداد الفيضان في أدواره الأخيرة بأن يضاف إليه جزء من الأربعة آلف مليون متر مكعب المدَّخَرة من السنين السابقة الكثيرة الإيراد.

وأما إذا كان عاليًا جدًّا فمن حيث إن الثلاثة آلاف مليون متر مكعب تنسحب من النهر في الغالب حال مرور دورة الفيضان فينقص مقدار ماء النهر في تلك الفترة نقصًا كبيرًا، وبذا يساعد مساعدة فعلية على تخفيض الفيضان في مصر، وإنشاء هذا الخزان من الأمور الجوهرية لإنماء السودان في المستقبل؛ لأن مصر تستمد ما تحتاج إليه من الماء من النيل الأبيض، ولكن ماء النيل الأزرق هو وحده الذي يفيد جزيرة السودان على أن مصر سيكون لها نصيب أيضًا من الفائدة التي تنجم عن إنشاء ذلك الخزان؛ لأنه يعتبر من أهم أعمال ضبط النيل؛ إذ النيل الأزرق هو الذي يحدث الفيضان، وسيكون موضعه حيث المياه لا تزال خالية من الطمي؛ لتيسر خزنها عند ذروة الفيضان.

أما من حيث السودان فإنه لم ينشأ خزان في إحدى نقط المسايل العليا للنيل الأزرق كما أن ما يراد إدخاله من التحسين في سهل الجزيرة سيكون محدودًا بمقدار المياه المخزونة في خزان سنار. فخزان أعالي النيل الأزرق بمحتوياته المتقدم ذكرها سيقدم إلى السودان كل ما يحتاجه من الماء حتى بعد تمام نمو أرض مصر في سنة ١٩٢٥ بمدة طويلة وقبل ذلك التاريخ وإلى أن تتم أعمال السدود المتعلقة بخزان بحيرة ألبرت تستعمل المقادير الزائدة بتكبير إيراد مصر المائي، ولإتمام نماء السودان في حينه يجب زيادة حجم هذا الخزان زيادة عظيمة في العقود الأخيرة من القرن الحالي، ويرجح أن هذا يمكن إجراؤه عند الاقتضاء، وينبغي إنجاز يسع سبعمائه مليون متر مكعب حوالي سنة ١٩٣٠.

ويجوز تقدير النفقات اللازمة له بمبلغ مليون جنيه ونصف مليون، ويقتضي الحال البحث في مقدار ما يتحتم على حكومة السودان القيام به من هذه النفقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤