الفصل الثاني عشر

الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مُقدَّسًا

في الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مُقدَّسًا ووصفه بأنه كلام الله وفي أن الكتاب، بقدْر ما يتضمَّن كلام الله، قد وصل إلينا دون تحريف.

***

إنَّ من يعتقدون أن التوراة على ما هي عليه الآن رسالة من الله بعث بها من السماء إلى البشر، لن يفوتهم أن يَصرُخوا قائلين بأني ارتكبتُ الخطيئة في حقِّ الرُّوح القدس؛ إذ لقد قلتُ فعلًا: إن كلام الله مُزيَّف ومنقوص ومُحرَّف، وإنَّنا لا نملك منه إلَّا شذَرات، وإنَّ الميثاق الذي يشهد بعقد الله عهدًا مع اليهود قد فُقِد. ومع ذلك، فإني لا أشكُّ في أنهم لو وافقوا على فحص المسألة، لكفُّوا عن الاحتجاج. والحقيقة أن نصوص الأنبياء والحواريين نفسها هي التي تشهد أكثر مما يشهد العقل نفسه، بأنَّ كلام الله الأبدي، وعهدَه والدينَ الحقَّ، مسطورٌ على نحوٍ إلهي في قلب الإنسان أي في الفكر الإنساني، وهذا هو الميثاق الحقيقي١ الذي طبَعَه الله بخاتمه٢ أي بفكرته وكأنَّه طبعَهُ بصورةٍ لألوهيته. ففي المبدأ اعطي الدين لليهود في صورة قانون مكتوب لأنهم كانوا وقتئذٍ أشبَهَ بالأطفال.٣ ولكن موسى (التثنية، ٣٠، ٦)٤ وإرميا (٣١: ٣٣)٥ تنبَّأ فيما بعدُ بأنَّ زمانًا سيأتي يسطُر الله فيه الشريعة في قلوبهم. وإذن فاليهود وحدهم، ولا سيما الصدوقيين منهم،٦ هم الذين كان عليهم أن يُكافحوا من أجل قانونٍ مكتوب على ألواح، أما من كانوا يملكونه مُدوَّنًا في قلوبهم فلم يكن عليهم أن يفعلوا شيئًا من هذا، فمن يأخُذ ذلك في اعتباره لن يجِد في الفصول السابقة شيئًا مُناقضًا أو مُكذبًا لكلام الله أي للدين الحق وللإيمان، بل على العكس سيرى أنَّنا نُوطِّد دعائمه، كما بَيَّنَّا أيضًا في نهاية الفصل العاشر. ولو لم يكن ما أقول صحيحًا لكنتُ قد قررتُ التزام الصمت في جميع هذه الموضوعات، ولسلَّمتُ راضيًا، لكي أتجنَّب جميع المشكلات، بأنَّ هناك أسرارًا عميقةً مُخبَّأة في الكتب المقدسة. ولكن لمَّا كانت قد نشأت خُرافات لا يمكن قَبولها من هذه الأسرار الكاذبة، التي هي مصدر كلِّ الشرور الخطرة الأخرى التي تحدَّثتُ عنها في مقدمة الفصل السابع، فقد رأيتُ أنَّ من واجبي ألا أتخلَّى عن فحص هذه المسائل، خاصةً وأن الدين لا يحتاج إلى مُحسِّنات من الخُرافة، بل على العكس تَضيعُ روعتُه لو زيَّنَّاه بمثل هذه الأوهام. ولكن قد يُعترَض بأنه على الرغم من أنَّ القانون الإلهي مسطور في القلوب، فإن هذا لا يمنع من أن يظلَّ الكتاب كلام الله، ومن ثَمَّ فلا يحقُّ لأحدٍ أن يقول عن الكتاب إنه منقوص ومُحرَّف، تمامًا كما لا يحقُّ لأحد أن يقول ذلك عن كلام الله. ولكنِّي على العكس أخشى أن يؤدِّي التطرُّف في التقديس إلى تحويل الدين إلى خُرافة، وأن ينصرِف الناس إلى عبادة التماثيل والصور، أي الورق المُسوَّد، بدلًا من كلام الله. وإني لأعلم أنَّني لم أقُل شيئًا ينال من الكتاب أو من كلام الله، لأنِّي لم أعرِض شيئًا لم أُبرهِن على صحته ببراهين واضحة للغاية؛ ولهذا السبب أيضًا أستطيع أن أؤكد واثقًا أني لم أقُل شيئًا فيه كُفر أو يُشتمُّ منه رائحة الكفر. وإني لأعترِف بأنَّ بعض الذين يَعُدُّون الدين عبثًا ثقيلًا عليهم، قد يَستخلصون من هذه الرسالة ما يُبيح لهم ارتكاب الإثم دُون ما سببٍ سوى سعيهم وراء اللَّذَّات، وينتهون منها إلى أنَّ الكتاب برمَّتِهِ معيب ومُحرَّف، وبالتالي فلا سُلطة له. وأنا لا أستطيع شيئًا حيال هذه المساوئ، نظرًا إلى هذه الحقيقة المعروفة وهي أنه يستحيل على الإنسان أن يقول شيئًا يبلُغ من الصواب حدًّا يستحيل معه تشويهه أو إساءة تأويله. ومن يُريد السعي وراء اللَّذَّات يسهُل عليه إيجاد المُبرِّرات لذلك، بل إنَّ من كانوا، في الزمان الغابر، يملكون الأصول وتابوت العهد، بل كان بينهم الأنبياء والحواريون، لم يكونوا أفضلَ ولا أكثر طاعة، بل ظلُّوا جميعًا — يهودًا وغير يهود — على ما هم عليه، وظلَّت الفضيلة نادِرة للغاية في كلِّ عصر. ومع ذلك، فإن من واجبي، لكي أُزيل أي تحرُّج أن أُبيِّن هنا أولًا بأي معنى يُقال عن الكتاب، أو عن أي شيءٍ آخَر ليس له صوت، إنه مُقدس أو إلهي، وثانيًا ما هو كلام الله حقيقة، وإنه لا يُوجَد في عددٍ مُعيَّن من الأسفار، وأخيرًا نُبيِّن أنَّ الكتاب من حيث إنه يدعو إلى ما هو ضروري للطاعة والخلاص، لم يكن من المُمكن أن يُحرَّف، وبذلك يسهُل على المرء الحكم بأنَّنا لم نقُل شيئًا مُناقضًا لكلام الله، وأنَّنا مُبرَّءون من كلِّ كُفر.
يطلق اسم «مقدس» و«إلهي» على كل ما يؤدي إلى التقوى وإلى الدين،٧ ولا يظلُّ الشيء مُقدسًا إلَّا إذا استمرَّ الناس في استخدامه على نحوٍ ديني، فإذا لم يعودوا أتقياء، ضاعت قُدسية ما كان مُقدسًا من قبل، فمثلًا أطلَق البطريق يعقوب على مكانٍ ما اسم «مسكن الله» لأنه عبد الله الذي أوحى إليه في هذا المكان. أما الأنبياء فقد أطلقوا على المكان نفسه اسم «مسكن الطُّغيان» (انظر عاموس، ٥: ٥، هوشع، ١٠: ٥)٨ لأن الإسرائيليين اعتادوا، تنفيذًا لمشيئة ياربعام، على التضحية فيه للأوثان. وهناك مثل آخر يُوضح هذه المسألة تمامًا، وهو أنَّ الكلمات لا تدلُّ على معانٍ مضبوطة إلَّا في الاستعمال، فإذا كانت في هذا الاستعمال قادرةً على أن تحثَّ من يَقرءونها على التقوى، أصبحت هذه الكلمات مقدسة، وأصبح الكتاب الذي نُظِمت فيه هذه الكلمات مُقدَّسًا، أما إذا حدث بعد ذلك أن بطَلَ الاستعمال إلى حدِّ أنَّ الكلمات لا يعود لها أي مدلول، أو أُهمل الكتاب إهمالًا تامًّا، إمَّا لخُبث البشر أو لأنَّهم لا يعرفون ماذا يفعلون به، عندئذٍ تضيع فائدة الكلمات والكتاب معًا، ولا تعود لهما أية قداسة. وأخيرًا، إذا اختلف مدلول الكلمات، أو شاع استعمالها بمدلولاتٍ مُضادة، تُصبح الكلمات، وكذلك الكتاب، اللَّذين كانا مُقدَّسَين من قبل، دِنِسَين لا قُدسية فيهما. نستنتِج من ذلك أنه لا يُوجد شيء على الإطلاق مُقدَّس أو دَنِس لا قُدسية فيه خارج الفكر، بل إنه لا يكون كذلك إلَّا بالنسبة إلى الفكر، وهذا ما يُمكن البرهنة عليه بوضوحٍ تام بنصوصٍ عديدة من الكتاب. وسأُعطي لذلك مثلًا أو مثَلَين، يقول إرميا (٧: ٤)٩ إن يهود زمانه قد أطلقوا بُطلانًا على معبد سليمان اسم معبد الله، ثُم يُعلِّل ذلك في الإصحاح نفسه بقوله: إن اسم الله لا يمكن أن يرتبِط بهذا المعبد إلَّا إذا كان الناس الذين يَؤمُّونه يُمجِّدون الله ويدافعون عن العدالة، فإذا أمَّهُ القتَلَةُ واللصوص وعبَدَة الأوثان وسائر المجرمين، يُصبح حينئذٍ مأوًى للأشرار. وكثيرًا ما لحظتُ مدهشًا أنَّ الكتاب لا يذكُر شيئًا عن مصير تابوت العهد، والأمر المؤكَّد أنه هُدِم أو حُرِق مع المعبد، مع أنه كان أعظم المُقدَّسات وأكثرها تبجيلًا لدى العبرانيين؛ ولهذا السبب نفسه لا يكون الكتاب مُقدَّسًا، ولا تكون نصوصه إلهية، إلَّا بقدْر ما يحثُّ الناس على تقوى الله، فإن تخلَّوا كليةً عن هذه التقوى، كما تخلَّى عنها اليهود من قبل، أصبح حبرًا على ورَقٍ أو ضاعت قُدسيته كلية، وأصبح مُعرضًا للتحريف، بحيث إنه لو حُرِّف أو فُقد، لكان من الخطأ أن يُقال إنَّ كلام الله قد حُرِّف أو فُقد، وبالمثل كان من الخطأ أن يُقال في زمان إرميا: لقد التَهَمَتِ النيران١٠ المعبد، الذي كان وقتئذٍ معبد الله. وهذا ما يقوله إرميا عن الشريعة نفسها عندما كان يسبُّ كفَّار زمانه (٨: ٨): «كيف تقولون: نحن حُكماء وشريعةُ الربِّ معنا؟ إنَّ قلَمَ الكتَبَة الكاذب قد حوَّلَها إلى الكذِب.» وهذا يعني أنه مع أن الكتاب بين أيديكم فإنكم تكذبون إذا قُلتم إنكم تملكون شريعة الله بعد أنْ جعلتموها كاذِبةً كلَّ الكذب. وكذلك عندما حطَّم موسى الألواح الأولى للتوراة، لم يقذِف كلام الله مُطلقًا ولم يُحطِّمه بيديه غضبًا (ومن ذا الذي يتصوَّر ذلك وهو موسى وهذا كلام الله؟)١١ بل إنَّ ما قذَفَه لم يكن إلَّا أحجارًا، أعني أحجارًا مُقدَّسة من قبل، لأنَّ العهد الذي قطعه اليهود على أنفسهم كان مكتوبًا عليها، ولكن بعد أن عبَدَ اليهود العِجل، ومن ثَمَّ نقضوا هذا العهد، أصبحت هذه الأحجار خلوًا من كلِّ قدسية. وللسبب نفسه ضاعت الألواح الثانية مع التابوت؛ لذلك، فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كانت مخطوطات موسى الأصلية قد ضاعت، وإذا كانت الأسفار التي بَين أيدينا قد لقِيَت المصير الذي ذكرناه بعد أن ضاع تمامًا الأثر الأصلي بحقٍّ للميثاق الإلهي وهو أقدَسُ الآثار جميعًا. فلْيَكُفَّ خصومُنا إذن عن اتهامنا بالكفر، نحن الذين لم نقُل شيئًا مُناقضًا لكلام الله ولم نُدنِّسه مُطلقًا، وليَصُبُّوا غضبَهَم — لو كان الغضب عن حقٍّ مُمكنًا — على القُدَماء الذين دَنَّسوا بخُبثهم هيكل الله والشريعة وكلَّ ما هو مُقدَّس، وعرَّضوها كلها للفساد. وأُضيفُ أنه لو كانت في كلِّ واحدٍ مِنَّا كما يقول الحواري (الرسالة الثانية إلى أهل كورنثة، ٣: ٣)١٢ رسالة الله مكتوبة برُوح الله لا بِالمداد، وعلى لَوحٍ من اللَّحم وهو القلب، لا على ألواحٍ من الحَجَر، لكفَّ الناس عن عبادة الحرف ولذهب قلقُهم البالِغ عليه.
أعتقد أني شرحتُ على هذا النحو بما فيه الكفاية بأي معنى ينبغي أن ننظُر إلى الكتاب على أنه مُقدَّس وإلهي، وعلينا الآن أن نرى ما المعنى الدقيق المقصود بلفظ «دبر يهوه» (كلام الله).١٣ تعني دبر: كلام، خطاب، أمر، شيء. ولكنَّا قد بَيَّنَّا في الفصل الأول الأسباب التي يُقال من أجلها عن الشيء في العبرية إنه ينتمي إلى الله أو يتعلَّق بالله، وبذلك نعرِف بسهولة ماذا يقصِد الكتاب عندما يستعمل تعبيراتٍ مثل كلمة الله وخطابه ووصيَّته وأمره. فلا فائدة إذن من تكراره هنا أو مِن تكرار ما عرَضْنا له في النقطة الثالثة من الفصل السادس ونحن نعالج موضوع المُعجزات،١٤ بل تكفي إشارة واحدة لإيضاح ما نُريد قوله هنا على نحوٍ أفضل. عندما يُوصَف شيء لا يكون هو الله نفسه، بأنَّه كلام الله، فإنَّ المقصود بذلك على وجهِ الدقَّةِ هذا القانون الإلهي الذي عرَضْنا له في الفصل الرابع، أي هذا الدين الشامل، أو الكاثوليكي، الذي يُشارك فيه الجنس البشري كله، ويُمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى أشعيا (١: ١٠ … إلخ)،١٥ حيث تعلَّم الطريقة الصحيحة للحياة، التي لا تتكوَّن من طقوس، بل من إحسانٍ وصِدق، وحيث يُسمِّيها النبيُّ كلام الله وشريعته دون تمييز، وكذلك تُستخدَم الكلمة مجازيًّا لكي تدل على نظام الطبيعة نفسه، وعلى القَدَر (لأنهما يعتمدان على الأمر الأزلي للطبيعة الإلهية ويَصدُران عنه) ولكي تدلَّ بوجهٍ خاصٍّ على ذلك الجزء من نظام الطبيعة، الذي تنبَّأ به الأنبياء؛ وذلك لأنهم لم يكونوا يُدركون الأشياء المُستقبلة بِعِلَلِها الطبيعية، بل بوصفِها قراراتٍ وأوامر إلهية. وتُستعمَل الكلمة أيضًا للدلالة على كلِّ أمر نبوي، بقدْر ما يكون قد أدرَكَه بقُدرته التي يتفرَّد بها، أو بهبةِ النبوَّة، لا بالنور الطبيعي الذي يُشارك فيه الجميع، خاصةً وقد اعتاد الأنبياء بالفعل تصوُّرَ الله كمُشرِّع، كما بينا ذلك في الفصل الرابع. لهذه الأسباب الثلاثة إذن سُمِّي الكتاب كلام الله؛ أولًا: لأنَّه يُعلِّم الدين الصحيح الذي وضعه الله أزليًّا. ثانيًا: لأنه يتنبَّأ في صورة رواية بالمُستقبل بقدرٍ ما قضى به الأمر الإلهي؟ ثالثًا: لأنَّ مُؤلِّفيه الحقيقيين كانوا في مُعظم الأحيان يدعون إلى ما حصلوا عليه بنورٍ خاصٍّ بهم، لا بالنور الفطري، وجعلوا الله نفسه هو الذي يتحدَّث. وعلى الرغم من أنَّ جزءًا من محتوى الكتاب مُجرَّد تاريخ يُمكن إدراكه بالنور الفطري، فإنَّ الاسم مُستمدٌّ مِمَّا يؤلِّف المضمون الأساسي للكتاب، بذلك نُدرِك بسهولةٍ بأي معنى يجِب أن نتصوَّر الله كمؤلِّفٍ للتوراة؟ هذا المعنى هو أنَّ التوراة تُعلِّمنا الدين الصحيح، لا أنَّ الله أراد أن يُعطي البشر عددًا مُعيَّنًا من الكتب. ونستطيع أيضًا أن نفهم سبب تقسيم الكتاب إلى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد؛ ذلك لأنَّ الأنبياء قبل ظهور المسيح كانوا يُبشِّرون بالدين على أنه قانون الأُمَّة الإسرائيلية فحسب، ويستمِدُّون قوَّتَهم من العهد الذي أُبرِم زمن موسى، على حين بشَّر الحواريون بعد ظهور المسيح بالدين نفسه لجميع الناس بوصفه قانونًا كاثوليكيًّا، واستمدُّوا قوَّتَهم من آلام المسيح. وهذا لا يعني اختلاف أسفار العهد الجديد في العقيدة عن أسفار العهد القديم أو أنَّها كُتِبت كميثاقٍ لعهدٍ ما، أو أنَّ الدين الكاثوليكي، وهو دِين طبيعي إلى أقصى حد،١٦ كان جديدًا، إلَّا بالنسبة إلى الناس الذين لم يعرفوه من قبل. ومن هنا قال يوحنا كاتب الإنجيل (١: ١٠): «كان في العالم … والعالم لم يعرفه.» ولو كان لدَينا عدد أقل من أسفار العهد القديم او الجديد، لما أدَّى ذلك إلى حرماننا من شيءٍ من كلام الله (الذي ينبغي أن يكون معناه، كما قُلنا، الدين الصحيح)، مِثلما لا يمكن أن يُؤدِّي ضياع كتُب أخرى كثيرة في غاية الأهمية إلى حرماننا من أيِّ شيءٍ فيه مِثل سفر الشريعة الذي كان محفوظًا في المعبد على نحوٍ ديني كميثاق للعهد، وكذلك كُتُب الحروب والأخبار وعددٌ كبير آخَر أخذت منه الأسفار التي لَدَينا في العهد القديم ثُم جُمِع ذلك كلُّه فيما بعد. هذا فضلًا عن وجود أسبابٍ أُخرى تُؤيِّد ذلك، هي:
  • (١)

    لم تُدوَّن أسفار العهدَين والقديم والجديد بتفويضٍ خاص في عصرٍ واحد، يَسري على كلِّ الأزمان، بل جاء تدوينها مُصادفة، وقُصد بها أناسٌ مُعيَّنون، ودُوِّنَت بحيث تُلائم مُقتضيات العصر والتكوين الشخصي لهؤلاء الناس، وهذا ما تدل عليه رسالات الأنبياء (الذين أرسلوا نذيرًا لكفَّار عصرهم) وكذلك رسائل الحواريين.

  • (٢)
    تختلف معرفة الكتاب وفِكر الأنبياء عن فَهم فِكر الله أي الحقيقة.١٧ وقد برْهَنَّا على ذلك في الفصل الثاني الخاص بالأنبياء، وينطبِق هذا البرهان أيضًا على الروايات وعلى المُعجزات، كما بَيَّنَّا في الفصل السادس، وعلى العكس من ذلك لا تنطبِق هذه التفرقة على الفقرات التي تتحدَّث عن الدين الصحيح والفضيلة الحقَّة.
  • (٣)

    تَمَّ اختيار أسفار العهد القديم من بين أسفارٍ كثيرة أخرى، ثُمَّ جمَعَها وأقرَّها مجلس الفريسيين، وكذلك قُبلت أسفار العهد الجديد ضِمن المجموعة المُقننة بقرار بعض المجامع الكنسية التي رفضت في الوقت نفسه أسفارًا أخرى كثيرة بوصفها مُنعدمة القيمة، مع أنَّ كثيرًا من الناس كانوا يُقدِّسونها. على أنَّ أعضاء هذه المجامع الكنسية (سواء مجامع الفريسيين أم مجامع المسيحيين) لم يكونوا أنبياء، بل كانوا من ذوي الخبرة والفقهاء فحسب. ومع ذلك يجِب أن نعترِف بأنهم أخذوا كلام الله قاعدة لاختيارهم؛ وعلى ذلك فلا بُدَّ أنهم عرفوا كلام الله قبل موافقتهم على جميع الأسفار.

  • (٤)

    لم يكتُب الحواريون (كما قُلنا في الفصل السابق) بوصفِهم أنبياء بل بوصفِهم فُقهاء، واختاروا أسهل الطرق لتعليم التلاميذ الذين يَودُّون تكوينهم؛ وبالتالي فإن رسائلهم تتضمَّن (كما قُلنا في نهاية الفصل نفسه) أشياء كثيرة يمكن الاستغناء عنها، دون أن يُلحِقَ ذلك أي ضرَرٍ بالدين.

  • (٥)

    وأخيرًا، فهناك أربعة أناجيل في العهد الجديد. ومن مِنَّا يستطيع أن يعتقد أنَّ الله أراد أن يَقُصَّ سيرةَ المسيح وأن يُبلِّغَه للبَشَر أربع مرَّات؟ لا شكَّ أنه يُوجَد في كل إنجيلٍ أشياء مُعيَّنة لا تُوجَد في غيرها، وأنَّ كلَّ إنجيلٍ يُساعد على فهم الآخر. ومع ذلك، لا ينبغي أن نَستنتِج من ذلك أنَّ من الضروري معرفة كلِّ ما يرويه كُتَّاب الأناجيل الأربعة، وأنَّ الله قد اختارهم كُتَّابًا حتى يُعرِّف الناس سيرة المسيح على نحوٍ أفضل، فلقد بَشَّر كل واحدٍ منهم بإنجيله في مكانٍ خاص، وكتَبَ كلٌّ منهم ما بشَّر به، لا لشيءٍ إلا لكي يروي سيرة المسيح بطريقةٍ أوضح، لا لكي يشرَح الأناجيل الأخرى. فإذا كانت مُقارنة الأناجيل تؤدي أحيانًا إلى فهم المرء لها على نحوٍ أفضل وأيسر، فإنَّ ذلك يحدُث مُصادفة، وبالنسبة إلى عددٍ محدود من النصوص، يُمكننا أن نتجاهلها دُون أن تُصبِح السيرة، نتيجة لذلك، أقلَّ وضوحًا، أو يُصبح الناس أقلَّ قُدرة على السعادة الرُّوحية.

وهكذا بَيَّنَّا أن الكتاب قد سُمِّي عن حقٍّ كلام الله، وذلك من وجهة نظر الدين وحدَها، أي من وجهة نظر القانون الإلهي الشامل، ولم يبْقَ لنا إلَّا أن نُبيِّن أنه لا يُمكن أن يكون مُختلفًا أو مُحرَّفًا أو منقوصًا، بقدْر ما يكون هذا الاسم مُنطبقًا عليه. وأودُّ أن ألفت النظر هنا إلى أنِّي أُسمِّي النص مُختلفًا ومُحرَّفًا ومنقوصًا عندما يكون قد ساء التأليف والكتابة إلى حدٍّ لا يمكن معه التعرُّف على معناه، سواء بالرجوع إلى الاستعمال اللغوي أو باستخلاصِه من الكتاب وحده. ولستُ أعني بذلك أنَّ الكتاب، بقدر ما يحتوي على الشريعة الإلهية، كان له دائمًا النَّقْط نفسه والحروف نفسها والكلمات نفسها (وأترك للماسوريِّين١٨ ولِمَن يعبدون الحرْف بطريقةٍ خُرافية أمر البرهنة على ذلك)، بل أعني فقط أنَّ المعنى الذي من أجله وحدَه يُسمَّى النص إلهيًّا، وصل إلينا دون تشويه، وإن كانت الكلمات التي استُخدِمت أولًا للتعبير عنه قد تغيَّرت مراتٍ كثيرة، وهذا لا ينقص مُطلقًا من أُلوهيَّة الكتاب لأنه يَظلُّ إلهيًّا وهو مكتوب بكلماتٍ أخرى وبلغةٍ أخرى. فلا يمكن إذن أن يَشكَّ أحدٌ في أن الشريعة بهذا المعنى، وقد وصلت إلينا دون تحريف؛ لأننا نُدرك بالكتاب نفسه، ودون أية صعوبة أو أي اشتباه، أن الشريعة تتلخَّص في هذه الوصية: حُبُّ الله فوق كلِّ شيء، وحبُّ المرء لجارِهِ كما يُحِبُّ نفسه. ونحن واثِقون من أنَّ هذه الوصية لا يُمكن أن تكون نتيجةً للتحريف، ولم يَكتُبها قلَم مُتسرِّع، أو مُتَّهَم بالأخطاء، ولو كان الكتاب قد أعطى تعاليم مُختلفة، لاختلفت تعاليمه أيضًا في جميع الموضوعات الأخرى؛ لأنَّ هذه الوصية أساس الدِّين كله، بحيث إنَّ مَحوها يؤدِّي إلى هدْم البناء كلِّه في الحال، وبالتالي، فإنَّ كتابًا لا يدعو إلى ذلك لن يُصبِح كتابًا مقدسًا، بل يكون كتابًا مُختلفًا كلَّ الاختلاف. فنحن إذن على يقينٍ تامٍّ من أن تعاليم الكتاب كانت كذلك دائمًا، وأنَّهُ لا يمكن، في هذا الصدد، لأيِّ خطأ عرَضي أن يُغيِّر معنى هذه التعاليم وإلَّا اكتُشِف فورًا، كما لا يُمكن لأحدٍ تزييف هذه التعاليم إلَّا وظهر إثمه باديًا للعيان. ولكن لَمَّا كان علينا أن نُسلِّم بأن هذا الأساس ظلَّ دون إفساد، فيجب أن نعترف أيضًا بجميع النتائج التي تترتَّب عليه دون مناقشة، والتي تتَّسِم بالطابع الأساسي نفسه؛ وهي أن الله موجود، وأن عنايته شاملة، وأنه قادِر على كل شيء، وأن أمره يقضي بأن يكون التقيُّ سعيدًا والعاصي شقيًّا، وأنَّ خلاصَنا يتمُّ بفضله وحده. ويُعلِّم الكتاب ذلك كلَّه بوضوحٍ في جميع مواضعه، وكان لا بُدَّ أن يُعلِّمه دائمًا، وإلَّا لكان كل شيء آخر فيه عبثًا لا أساس له. أما باقي الحقائق الخُلقية فإنها خالية أيضًا من أي فساد، لأنها تنتج بوضوح من هذا الأساس الشامل. مثال ذلك، الحرص على العدالة، ومُساعدة المحتاج، والامتناع عن القتل، وعدم التطلُّع إلى ما يَملكه الغَير … إلخ. أقول: إنَّ شَرَّ الناس لم يُمكنه أن يُزيِّف من هذه الحقائق شيئًا، ولم يمحُ الزمان أقلَّ قدْرٍ منها. وإذا كان قد حدَث لها أي انهيارٍ جُزئي، فإن أساسها الشامل كان كفيلًا بإعادة بنائها كاملًا في الحياة، وخاصةً تعاليم الإحسان التي يُوصي بها العهدان في كلِّ مَواضِعهما باعتبارها أهم الفضائل. ولنُضِفْ إلى ذلك، أنه على الرغم من أن الإنسان قد ارتكب من الجرائم الشنعاء كلَّ ما يمكن تصوُّره، فلن يُحاول أحد مع ذلك — كيما يجد عذرًا لجريمة — أن يهدِم القوانين، أو أن يُقدِّم قاعدةً فاسقة بوصفِها إحدى التعاليم الأزلية النافِعة للخلاص. والحقُّ أن الطبيعة البشرية تتبدَّى دائمًا بحيث إنه إذا اقترف أحدٌ جرمًا (سواء أكان ملكًا أم من الرعية) فإنه يحاول أن يُحيطه بظروفٍ كفيلة تجعل الناس يَظنُّونه بريئًا من كل جُرمٍ في حقِّ العدالة وفي حقِّ الشرف، ففي استطاعتنا إذن أن نَستنتِج عن حقٍّ أن القانون الإلهي الشامل الذي علَّمَه الكتاب قد وصل إلينا كاملًا دون أي تحريف. وبالإضافة إلى ذلك، هناك بعض الموضوعات الأخرى التي لا يُمكن الشكُّ فيها لأنَّ لدَينا عنها تُراثًا جديرًا بالثقة، مثل جوهر روايات الكتاب، لأنَّها تَروي وقائع معروفة ومشهورة لدى الجميع. فقد اعتاد العامة من اليهود تذكُّر وقائع التاريخ الوطني عن طريق إنشاد المزامير، وكذلك عرف الناس في كافَّة أنحاء الإمبراطورية الرُّومانية جوهر أفعال المسيح وآلامه، فلا يُمكننا أن نظنَّ أن الخلَف قد نقل إلينا جوهر هذا التاريخ على غير ما تلقَّاه إلَّا إذا افترَضْنا تواطؤ السَّواد الأعظم من الجنس البشري.

وهذا أمر بعيد عن التصديق. وإذن فلم يكن من المُمكن أن تقَعَ التغييرات والأخطاء إلا فيما بقِيَ من الأمور؛ أعني في واحدة أو أخرى من مُلابسات الرواية أو النبوَّة التي تفيد في حثِّ الشعب على التقوى، أو في هذه المُعجزة أو تلك التي تُقدَّم لبعث الارتباك في عقول الفلاسفة، أو في الموضوعات التأمُّلية التي أدخلتها الفِرَق المُتنازِعة في الدين، حتى يتسنَّى لكل فرقة إيجاد ضمانٍ من السُّلطة الإلهية لبِدَعِها. ولكن لا يهم كثيرًا للحصول على الخلاص أن تكون هذه الأمور قد زُيِّفَت أم لا. وسأبَيِّن ذلك صراحةً في الفصل التالي، وإن كنتُ أعتقِد أنَّني قد أقمتُ البرهان عليه من قبل، وخاصةً في الفصل الثاني.

١  الميثاق ترجمة للفظ اللاتيني Syngraphium والتي تُتَرجَم إلى الفرنسية بلفظ Charte تعني الوثيقة المكتوبة التي يرتبِط بها شخصان. والميثاق عند سبينوزا ليس هو الوثيقة المكتوبة (أي الكتاب) بل فِكر الله الحي فينا.
٢  يُبيِّن سبينوزا هنا الوحي الداخلي (يستعمل ديكارت أيضًا اللفظ نفسه Sigillum) فإذا كان الفكر الإنساني يحمِل طابع الله فلا حاجةَ للوحي الخارجي الذي يعتمِد على المُعجِزات …
٣  انظر الهامش ٦٥، من الفصل الثاني.
٤  (التثنية، ٣٠: ٦): «ويختن الرب قلبك وقلب نسلك لتُحبَّ الربَّ إلهك بكل قلبك وبكل نفسك لكي تحيا.»
٥  (إرميا، ٣١: ٣٣): «ولكن هذا العهد الذي أقطَعُه مع آل ياسِر بعد تلك الأيام يقول الرب هو أني أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتُبُها على قلوبهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا …»
٦  انظر الهامش ٤٣، من الفصل العاشر.
٧  هناك فرق بين تصوُّر سبينوزا للدين وللتقوى في كتاب «الأخلاق» (IV, prop. 37, schol.I) وتصوُّره لهما في «الرسالة»، ففي كتاب «الأخلاق» الدِّين هو أحد أسماء الفضيلة وهي الرغبة في البقاء والمحافظة على النفس من حيث إن الإنسان يعمل بالعقل وطبقًا لأفكارٍ صحيحة adequates، أي إنه دين الحكيم. أما في «الرسالة» فالدِّين هو مجرَّد التقوى الباطنية. انظُر التفرِقة بين هذَين التَّصوُّرَين في: prümers Spinoza’s Religionsbegniff, Halle, 1906.
٨  (عاموس، ٥: ٥): «ولا تطلبوا بيت إيل ولا تأتوا الجلجال ولا تجوز إلى بئر سبع فإن الجلجال تُجلى جلاءً وبيت إيل تصير عدمًا.»
(هوشع، ١٠: ٥): «يخاف سكان السامرة على عجال بيت آون لأنَّ شعبَهُ وكهنته الذين كانوا مُبتهِجين به يتوَّجون على مجده لأنه زال منه.»
٩  (إرميا، ٧: ٤): «لا تتكلَّموا على قول الكذِب قائلين هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب.»
١٠  البناء الذي التهمَتْهُ النيران أيام إرميا لم يكن معبد الله، ولكن ذلك لا ينقُص من تحليل سبينوزا شيئًا في أنَّ حرْق معبد الله لا يعني المِساس بالله نفسه.
١١  تدلُّ هذه الفقرة على أنَّ السُّخرية من الكتاب هي أكبر منهجٍ نقديٍّ يُمكن تطبيقه عليه كما فعل فولتير بعد ذلك في القرن الثامن عشر.
١٢  (كورنثة «٢»، ٣: ٣): «فإنه قد اتَّضح أنكم رسالة المسيح التي خدمناها ونحن وقد كُتِبت لا بمدادٍ بل بِرُوح الله الحي. لا في ألواحٍ من حَجَرٍ بل في ألواحٍ من لحم.»
١٣  لم يكن أعداء سبينوزا كلهم يعلمون اللغة العبرية.
١٤  بيَّن سبينوزا في النقطة الثالثة من الفصل السادس أنَّ العناية الإلهية لا تفترق في شيءٍ عن نظام الطبيعة ومِن ثَمَّ يكون الوحي شيئًا طبيعيًّا.
١٥  (أشعيا، ١: ١٠-١١، ١٦-١٧): ١٠: «اسمعوا كلمة الربِّ يا حُكَّام سدوم، أصغوا إلى شريعة إلهِنا يا شعبَ عمورة.» ١١: «ما فائدتي من كثرة ذبائحكم.» ١٦: «فاغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شرَّ أعمالكم من أمام عيني وكفُّوا عن الإساءة.» ١٧: «تعلَّموا الإحسان والتمسوا الإنصاف، أغيثوا المظلوم وأنصِفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة.»
١٦  الدين الشامل هو أيضًا دين طبيعي وكان في العالم قبل ظهور المسيح ويقترِب سبينوزا هنا من هربرت أوف شربري Herbert of Cherbury، كذلك يقول هوبز Hobbes إن المسيح لم يأتِ بتعاليم جديدة بل نصَحَ البشر بطاعة القوانين التي تُعطيها إيَّاهُم الطبيعة والحاكم.
١٧  يستعمل سبينوزا هنا الكلمات التقليدية، ولكنه يُعطيها معاني جديدة.
١٨  انظر الهامش ٥٣، من الفصل التاسع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤