الفصل السادس عشر

مقومات الدولة،١ حق الفرد الطبيعي والمدني،٢ حق الحاكم٣

كان اهتمامنا حتى الآن منصبًّا على الفصل بين الفلسفة واللاهوت، وبيان أنَّ اللاهوت يترُك لكل فردٍ حرية التفلسف. والآن حان الوقت لكي نتساءل: إلى أي حدٍّ يمكن المُضيُّ في مُمارسة حرية الفكر والقول في أفضل الدول. ولكي نسير في بحثنا هذا بطريقة منهجية سنبدأ بمُعالجة الأسس التي تقوم عليها الدولة، ونتساءل أولًا: ما الحقُّ الطبيعي لكلِّ إنسان، بغضِّ النظر عن الدين والدولة. أعني بالحق٤ الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مُجرَّد القواعد التي تتميَّز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي نُدرك بها أنَّ كل موجود يتحدَّد وجوده وسلوكه حتميًّا على نحوٍ مُعيَّن. فمثلًا يتحتَّم على الأسماك، بحكم طبيعتها، أن تعوم وأن يأكُل الكبير منها الصغير، وبالتالي تستمتع الأسماك بالماء، طبقًا لقانون طبيعي مُطلق. والواقِع أنَّنا إذا نظرنا إلى الطبيعة في ذاتها، نجد أنها تتمتَّع بحقٍّ مُطلَقٍ على كلِّ من يدخل تحت سيطرتها أي إنَّ حقَّ الطبيعة يمتدُّ بقدْر امتداد قُدرتها؛ لأنَّ قدرة الطبيعة هي قدرة الله نفسه الذي له حقٌّ مُطلَق على كلِّ شيء. ولكن لمَّا كانت قدرة الطبيعة الشاملة كلها لا تعدو أن تكون مجموع قُدرات الموجودات الطبيعية، فقد ترتَّب على ذلك أن يكون لكلِّ موجودٍ طبيعي حقٌّ مُطلَق على كلِّ ما يقع تحت قُدرته، أي إنَّ حقَّ كلِّ فرد يشمل كل ما يدخل في حدود قُدرته الخاصة. ولمَّا كان القانون الأعظم للطبيعة هو أنَّ كلَّ شيء يُحاول بقدر استطاعته أن يبقى على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط، دون اعتبارٍ لأيِّ شيء آخر، فينبني على ذلك أن يكون لكلِّ موجود حقٌّ مُطلَق في البقاء على وضعه، أي (كما قُلنا من قبل) في أن يُوجَد ويسلك كما يتحتَّم عليه طبيعيًّا أن يفعل. وفي هذا الصدد، لا نجِد فارقًا بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول السليمة ومن هُم خُلو منها، أو بين أصحاء النفوس والأغبياء وضعاف العقول. والواقع أنَّ كلَّ من يفعل شيئًا طبقًا لقوانين الطبيعة إنما يُمارس حقًّا مُطلقًا؛ لأنه يسلك طبقًا لِما تُمليه عليه طبيعته ولا يُمكنه أن يفعل سوى ذلك، فبقَدْر ما ننظُر إلى الناس على أنهم يعيشون تحت حُكم الطبيعة وحدَها، نجِد أن لهم جميعًا وضعًا واحدًا؛ فمن لم يعرِف العقل بعده، أو من لم يحصُل بعدُ على حياة فاضِلة، يعيش طبقًا لحقٍّ مُطلَق، خاضع لقوانين الشهوة وحدَها شأنه شأن من يعيش طبقًا لقوانين العقل، وكما أنَّ للحكيم حقًّا مُطلقًا في أن يعمل كلَّ ما يأمُر به العقل، أي من يحيا طبقًا لقوانين العقل، فإنَّ للجاهل، ولِمن هو خُلوٌ من أيَّةِ صفةٍ خلقية، حقًّا مُطلقًا في أن يفعل كلَّ ما تدْفَعُه الشهوة نحوَه، أي أن يعيش طبقًا لقوانين الشهوة،٥ وتلك هي عقيدة بولس نفسها، التي لا تعترف بوجود الخطيئة قبل الشريعة (أي ما دام الناس يعيشون تحت سيطرة الطبيعة).

وعلى ذلك، فإنَّ الحقَّ الطبيعي لكل إنسانٍ يتحدَّد حسب الرغبة والقدرة، لا حسب العقل السليم. وليس في طبيعة جميع الناس أن تتَّفق أفعالهم مع قوانين العقل، بل على العكس يُولَد الجميع في حالة من الجهل المُطبق، وقبل أن يستطيعوا معرفة الأنموذج الصحيح للحياة ومُمارسة الحياة الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى ولو كانوا على مستوًى عالٍ من التربية. على أنهم يكونون خلال ذلك مُضطرِّين إلى أن يعيشوا وإلى أن يَبقَوا، بقدْرِ استطاعتهم، على حالتِهم الراهنة، أي أن يَخضعوا لدافِع الشهوة وحده؛ لأن الطبيعة لم تُعطِهم سواه، وحرَمَتْهم من القُدرة الفعلية على الحياة وفقًا للعقل السليم، ومن ثم فهم لا يستطيعون العيش طبقًا لقوانين الذهن الصحيح، كما لا يستطيع القطُّ أن يحيا طبقًا لقوانين طبيعة الأسد؛ وعلى ذلك فإنَّ كلَّ ما يراه الفرد الخاضع لمملكة الطبيعة وحدَها نافعًا له، سواء أكان في ذلك مدفوعًا بالعقل السليم، أو بقوَّةِ انفعالاته، يحقُّ له أن يشتهيه طبقًا لحقٍّ طبيعي مُطلَق، وأن يستولي عليه بأيَّةِ وسيلة، سواء بالقوة، أم بالمُخادعة، أم بالصَّلوات، أم بأية وسيلةٍ أخرى أيسر من غيرها، وبالتالي يحقُّ له إذن أن يَعُدَّ من يمنعه من تحقيق غرضه عدوًّا له.

ونستنتِج من ذلك أنَّ الحقَّ والتنظيم الطبيعيَين اللَّذين ينشأ فيهما جميع الناس ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم، لا يَحظُران إلَّا ما لا يُرغَب فيه أو ما لا يستطيعه أحد، فهما لا يمنعان النزوع ولا الكراهية ولا الغضب ولا الخداع ولا أيَّ شيء تدفع إليه الشهوة، ولا عجب في ذلك؛ إذ إنَّ الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يَعُدُّ هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية والمُحافظة على البشر، بل إنها تشتمِل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المُتعلِّقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها، التي لا يُمثِّل الإنسان إلَّا جزءًا ضئيلًا منها. وضرورة هذا النظام هي وحدَها التي تُحتِّم على كلِّ الموجودات الطبيعية أنَّ تُوجَد وتسلُك بطريقةٍ مُعيَّنة. وعلى ذلك فكُلَّما بدا لنا في الطبيعة شيء مُضحِك أو مُتناقِض أو سيِّئ فذلك يرجِع إلى أنَّنا لا نعرف الأشياء إلَّا جزئيًّا، وإلى جهلنا الكبير بنظام الطبيعة الكاملة واتِّساقِها، ورغبتنا في أن يُنظَّم كلُّ شيء حسب ما يُمليه عقلنا، مع أنَّ ما يَستنتِجه العقل لا يكون قبيحًا بالنسبة إلى نظام الطبيعة الكاملة وقوانينها بل بالنسبة لقوانين طبيعتنا (الإنسانية) وحدها.

على أنه يظلُّ من الصحيح دون شك، أن من الأنفع كثيرًا للناس أن يعيشوا طبقًا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية، لأنَّها كما قُلنا لا تتَّجِه إلَّا إلى تحقيق ما فيه نفعٌ حقيقي للبشر. وفضلًا عن ذلك، فإن كلَّ إنسان يودُّ العيش في أمانٍ من كلِّ خوفٍ بقدْر الإمكان، ولكن ذلك مُستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء، وما دام العقل لا يُعطي حقوقًا تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يُوجَد إنسان واحد يعيش دون قلقٍ وسط العداء والكراهية والغضب والمُخادعة، ومن ثَمَّ فلا يُوجَد إنسان واحد لا يُحاول الخلاص من ذلك بقدْر استطاعته. ولنلحَظْ أيضًا أنَّ الناس يعيشون في شقاءٍ عظيم إذا لم يَتعاوَنوا ويَظلُّون عبيدًا لضرورات الحياة إنْ لم يُنمُّوا عقولهم — كما بَيَّنَّا في الفصل الخامس. ومن ثَمَّ يظهر لنا بوضوحٍ تام أنه لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحوٍ ممكن، كان لزامًا عليهم أن يسعوا إلى التوحُّد في نظامٍ واحد، وكان من نتيجة ذلك أنَّ الحقَّ الذي كان لدى كلٍّ منهم، بحكم الطبيعة على الأشياء جميعًا، أصبح ينتمي إلى الجماعة، ولم تعُدْ تتحكم فيه قوته أو شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم، على أنه كان لا بُدَّ لمُحاولتهم هذه أن تفشل لو كان الناس قد أصرُّوا على اتِّباع الشهوة (إذ إنَّ قوانين الشهوة تُحتِّم أن يسير كل فرد في اتجاه مختلف)، وإذن فقد كان لزامًا عليهم أن يتَّفقوا فيما بينهم،٦ عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم، على إخضاع كلِّ شيء لتوجيهات العقل وحده (الذي لا يستطيع أحدٌ مُعارضته صراحةً حتى لا يبدو فاقدًا للحسِّ السليم)، وعلى كبْحِ جماح الشهوة بقدْر ما تُسبب أضرارًا للآخرين، وعلى مُعاملة الناس بمثل ما يُحبُّون أن يعاملوا به، وأخيرًا على المحافظة على حقِّ الآخرين كما لو كانوا يُحافظون على حقِّهم الخاص. ولكي يكون هذا التحالُف مَتينًا ومضمونًا وجبَ إبرامه بشروطٍ مُعينة سنفحصها الآن. إنه لقانونٌ شامل للطبيعة أنَّ أحدًا لا يترُك ما يعتقِد أنه خير إلَّا أملًا في خير أعظم، أو خوفًا من ضرَرٍ أكبر، ولا يقبل شرًّا إلَّا تجنُّبًا لشرٍّ أعظم منه أو أملًا في خير أكبر، وبعبارةٍ أُخرى، يختار كلُّ فردٍ ما يبدو له أعظم الخيرَين وأهون الشرين، وقد تعمَّدتُ أن أقول: ما يبدو في لحظة الاختيار أعظمَ الخيرَين أو أهون الشرين ولا أقول: إنَّ الواقع نفسه يكون مُتَّفِقًا بالضرورة مع حكمه. وهذا القانون مسطور في الطبيعة البشرية بقوَّةٍ تُحتِّم علينا أن نضعه بين الحقائق الأبدية التي لا يُمكن لأحدٍ أن يغفُل عنها. وينتُج عن هذا القانون ضرورة أنَّ أحدًا لا يُمكن أن يَعِدَ (إلَّا إذا كان سيء النية)٧ بالتخلي عن الحقِّ الذي له على كلِّ شيء، ولا يُمكن أن يَفي مُطلقًا بوعده هذا، إلَّا خوفًا من شَرٍّ أعظم أو طمعًا في خير أكبر. وزيادة في الإيضاح لنفترِضْ أن لصًّا أجبرَني على أن أعِدَه بإعطائه كلَّ ثَروتي وقتَما يشاء، ولَمَّا كان حقِّي الطبيعي مُحدَّدًا بقُدرتي وحدها، كما بيَّنتُ من قبل، فلا شكَّ أنَّني إذا استطعتُ التنصُّل من اللِّصِّ بإعطائه وعدًا كاذبًا، أيًّا كان، فإنَّ حقِّي الطبيعي يسمَحُ لي بأن أفعل ذلك، أي أن أُبرِم العقد الذي يُريده دون أن يكون في نِيَّتي أنْ أفِيَ به. ولنفترِض أيضًا أنَّني وعدتُ شخصًا ما، عن حُسن نية، بألَّا أتناوَلَ طعامًا طيلة عشرين يومًا، وأنْ أمتنِعَ حتى عن أيْسَر غذاء، ثُمَّ أدركتُ أنَّني قطعتُ على نفسي عهدًا يتَّسِم بالحُمق، وأنَّ وفائي له سيُلحِق بي أعظمَ الضَّرَر فلَمَّا كان القانون الطبيعي يُلزِمني اختيار أهون الشَّرَّين، فإنِّي أستطيع استخدام حقِّي المُطلَق في التحلُّل من هذا العقد، وعدم تنفيذ أيِّ شيءٍ مِمَّا وعدتُ به. وأقول: إنَّ القانون الطبيعي يُرخِّص لي بألَّا أفي بوعدي، سواءً أكنتُ أرى أنِّي أسأتُ صنعًا بوعدي، بناءً على سببٍ حقيقي يَقيني، أو بناءً على مُجرَّد الظن، ففي كِلتا الحالتَين، سواء أكنتُ مُصيبًا أم مُخطئًا في تَراجُعي عمَّا قلتُه، أكون قد خشيتُ شرًّا أعظم، وحاولتُ أن أتَجنَّبَه بكلِّ الوسائل طبقًا لِما تُمليه الطبيعة. ومن ذلك نَستنتِج أن صحة أي عقدٍ رهنٌ بمنفعَتِه، فإذا بطلتِ المنفعة، انحلَّ العقدُ في الحال، ولم يعُدْ ساريًا، ومِن ثَمَّ يكون من الغباء أن يَطلُب إنسانٌ من آخَرَ أن يلتزِم بعقدٍ إلى الأبد، دون أن يُحاوِلَ في الوقت نفسه أن يُبيِّن له أن فسْخ العقد يضرُّ من يفسَخُهُ أكثر مِمَّا ينفعه. وهذه نقطة مُهمَّة للغاية في تأسيس الدولة. ولنلحَظِ الآن أنه لو كان الناس جميعًا ينقادون بسهولةٍ لهداية العقل، ويُدركون أنَّ تأسيس الدولة يجلُب لهم نفعًا كبيرًا، وأنه أمرٌ ضروري إلى أقصى حد، لَما رضِيَ أحدٌ منهم بالخِداع أبدًا، ولحافَظَ الجميع على العقود بدقَّةٍ لا حدَّ لها؛ وذلك رغبةً منهم في الإبقاء على هذا الخير الأسمى، الذي هو المُحافظة على الدولة، والأهمُّ من ذلك كله أنهم كانوا عندئذٍ سيُحافظون على ولائهم، وهو أقوى دعامة للدولة. ولكن من المُستبعَد أن يترُك جميع الناس أنفسهم لهداية العقل وحده؛ إذ تُسيطر على كلِّ فردٍ شهوته، وكثيرًا ما يُسيطِر عليه البُخل والغرور٨ والحسد والكراهية إلى حدٍّ يستحيل معه سماع صوت العقل. ولهذا السبب فإنه، بالرغم من أنَّ الناس يُقدِّمون شواهد مُقنعة على صفاء نيتهم عندما يعدون، عن طريق الكلمة أو الميثاق المكتوب، بالوفاء بعهودهم، فإنَّ أحدًا لا يستطيع أن يثِقَ بحُسن نِيَّة الآخر إلَّا إذا أُضيف ضمانٌ إيجابي إلى هذا الوعد؛ إذ يستطيع كلُّ شخصٍ طبقًا للحقِّ الطبيعي الالتجاء إلى الحيلة، ولا يلتزِم باحترام العقد إلَّا طمعًا في خيرٍ أعظم أو خوفًا من شرٍّ أكبر، ولكن لَمَّا كان الحقُّ الطبيعي لكلِّ فردٍ مُحدَّدًا بقُدرته، كما بَيَّنَّا من قبل، فبِقَدْر ما يُفوِّضُ فردٌ ما، طوعًا أو كرهًا، قُدرته الخاصة إلى فردٍ آخَر، فإنَّهُ يتخلَّى بالضرورة عن حَقِّه لهذا الآخر، ومن له سُلطة مُطلقة تُتيح له إجبار الآخرين بالقوَّة والسيطرة عليهم بإرهابهم بالعقاب الشديد، بحيث يخشاه الجميع، يكون له حقٌّ مُطلَق على جميع الناس، وهو لا يحتفِظ بهذا الحقِّ إلَّا بقدْر احتفاظه بقُدرته على تنفيذ ما يشاء، وبدون هذا الشرط لا يُنفَّذُ أمرُه ويُصبح مُلغًي، ولن يكون أحدٌ مِمَّن يتمتَّعون بقوة أكبر منه، مُلزمًا بإطاعته، إذا لم يشأ ذلك.
والآن سأعرِض الشرط الذي يُمكن أن يتكوَّن به مُجتمع إنساني دون أدنى تعارُضٍ مع الحق الطبيعي، ويُمكن به احترام كلِّ عقدٍ احترامًا تامًّا. هذا الشرط هو أنه يجِب على كلِّ فردٍ أن يُفوِّض إلى المُجتَمَع كلَّ ما له من قُدرة، بحيث يكون لهذا المُجتَمَع الحقُّ الطبيعي المُطلَق على كلِّ شيء، أي السُّلطة المُطلَقَة في إعطاء الأوامر التي يتعيَّن على كلِّ فردٍ أن يُطيعها إمَّا بمحضِ اختياره، وإمَّا خوفًا من العقاب الشديد، ويُسمَّى نظام المجتمع الذي يتحقَّقُ على هذا النحو بالديمقراطية.٩ فالديمقراطية هي اتِّحاد الناس في جماعة لها حقٌّ مُطلق على كل ما في قدرتها، وتترتَّب على ذلك النتيجة القائلة: إن الحاكم لا يلتزم بأيِّ قانون، ويجِب على الجميع في كل شيء١٠ لأنهم قد فوَّضوا له، بموجَب عقدٍ صريح أو ضمني، كلَّ قُدرة كانت لديهم على المحافظة على أنفسهم، أي حقِّهم الطبيعي كله. ولو أرادوا أن يحتفِظوا لأنفسهم بأيِّ شيء من هذا الحق، لكان عليهم أن يُصبحوا في الوقت نفسه، قادرين على الدفاع عن هذا الحقِّ دفاعًا مؤكدًا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وما كانوا ليفعلوه دون أن تحدُث الفرقة ويسقط الحكم. ولهذا السبب نفسه خضعوا لمشيئة السُّلطة الحاكمة، أيًّا كانت هذه المشيئة. وبعد أن تَمَّ هذا الخضوع المُطلَق (كما رأينا من قبل) سواء أكان ذلك تحت ضغط الضرورة، أم طبقًا لمُقتَضيات العقل نفسه — إلا إذا شِئنا أن نكون أعداء للسُّلطة القائمة، وعَمِلنا ضِدَّ العقل الذي يَدعونا إلى الإبقاء على هذا التنظيم بكلِّ قوانا — فإنَّنا نُصبِح مُلزمين بأن ننفذ حرفيًّا كل ما يأمر به الحاكم، حتى لو كانت أوامره غاية في التناقُض. وهذا ما يأمُرُنا به العقل لأنه يعني اختيار أهوَنِ الشرَّين، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفرد يستطيع بسهولةٍ مواجهة خطَر الخضوع لإرادة الآخر ومشيئته؛ إذ إنَّ الحاكِم لا يكتسِب الحقَّ في أن يأمُر بما يشاء إلَّا بقدْر ما يملك السلطة العُليا بالفعل، فإذا فقَدَها فقَدَ في الوقت ذاته الحقَّ في الأمر، وتحوَّل هذا الحقُّ إلى من يستطيع، أو من يَستطيعون الحصول على هذه السلطة والمحافظة عليها؛ لذلك كان من النادر أن يعطي الحُكَّام أوامِرَ مُتناقِضة للغاية، لأنَّ فِطنتَهم وحرصَهم على الاحتفاظ بالسلطة تجعلهم يهتمُّون إلى أقصى حدٍّ بالسَّهَر على المصلحة العامَّة، وتوجيه دفَّة الأمور جميعًا وفقًا لأحكام العقل. وكما يقول سنيكا، لم يستطِعْ أحدٌ أن يستمرَّ في الحُكم طويلًا عن طريق العنف، وفضلًا عن ذلك، فإنَّ الخوف من القرارات المُتناقِضة يَقلُّ في نظام الحكم الديمقراطي بوجهٍ خاصٍّ وذلك لسبَبَين: أولهما أنه يكاد يكون من المُستحيل أن يتَّفِق أغلبية الناس، داخل مُجتمع كبير على أمرٍ مُمتنِع. وثانيهما أنَّ الغاية التي تَرمي إليها الديمقراطية والمبدأ الذي تقوم عليه هو، كما قُلنا من قبل، تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم بقدر الإمكان في حدود العقل بحيث يعيشون في وئامٍ وسلام. فإذا خضع هذا الأساس انهار البناء كله، فعلى عاتِقِ الحاكم وحدَه تقع مهمة المُحافظة على هذا المبدأ، وعلى الرعايا تنفيذ أوامره وألَّا يعترفوا بقانونٍ إلَّا ما يَسُنُّه الحاكم. وقد يدَّعي مُدَّعٍ أنَّنا بهذا المبدأ نُحيل الرعايا إلى عبيد؛ إذ إنَّ العبد، كما يَظنُّ الناس، هو من يُنفِّذ أمرَ إنسانٍ آخر، والحرُّ من يفعل ما يشاء. غير أنَّ هذا ليس صحيحًا صِحَّة مُطلَقة، فالواقِع أنَّ الفرد الذي تُسيطر عليه شهوته إلى حدِّ أنه لا يستطيع أن يرى أو يفعل ما تتطلَّبُه مصلحته الحقيقية، يكون في أحطِّ درجات العبودية، أما الحرُّ فهو الذي يختار بمحْضِ إرادته أن يعيش بهداية العقل وحده، أمَّا السلوك الذي يتحقَّق تلبيةً لأمر، أي بالطاعة، فمع أنه يَقضي على الحُريَّة على نحوٍ ما، فإنه لا يجعل من يقوم به عبدًا في الحال، بل إنَّ الذي يجعله كذلك هو الدافِع المُوجِّه للفعل؛ فإذا كانت غاية الفعل تحقيق مصلحة الآمِر بالفعل، لا مصلحة الفاعل، يكون الفاعل عبدًا لا يُحقِّق مصلحتَهُ الخاصة، أمَّا الدولة أو نظام الحُكم الذي لا تُؤخَذ فيه مصلحة الآمر بوصفها قانونًا أسمى، بل تُراعي مصلحة الشعب كله — فمن الواجب ألَّا يُعَدَّ من يُطيع الحكم عبدًا لا يُحقِّق مصلحةً خاصَّة، بل مواطنًا، وعلى ذلك تكون أكثر الدول حرية تلك التي تعتمِد قوانينها على العقل السليم. ففي مثل هذه الدولة يستطيع كلُّ فرد — إذا أراد — أن يكون حرًّا،١١ أن يعيش بمحضِ اختياره وفقًا للعقل، وكذلك لا يكون الأطفال عبيدًا، بالرغم من أنَّهم مُلزمون بإطاعة أوامر آبائهم، لأنَّ أوامر الآباء تبغي مصلحة الأطفال قبلَ كلِّ شيء. فهناك إذن فرق كبير بين العبد والابن والمواطن، نصُوغه كما يلي: العبد هو من يُضطرُّ إلى الخضوع للأوامر التي تُحقِّق مصلحة سيِّده، والابن هو من يُنفِّذ، بناءً على أوامر والديه، أفعالًا تُحقِّق مصلحته الخاصة، وأما المواطن فهو من يُنفِّذ، بناءً على أوامر الحاكم، أفعالًا تُحقِّق المصلحة العامة، وبالتالي مصلحته الشخصية.
أظنُّ أني بيَّنتُ حتى الآن بما فيه الكفاية مبادئ الحُكم الديمقراطي الذي فضَّلتُه على أنظمة الحكم الأخرى، لأنه يبدو أقربَها إلى الطبيعة وأقلَّها بُعدًا عن الحرية التي تُقِرُّها الطبيعة للأفراد، ففي النظام الديمقراطي لا يُفوِّض أي فردٍ حقَّه الطبيعي إلى فردٍ آخَر بحيث لا يُستشار بعد ذلك في شيء، بل يُفوِّضُه إلى الغالبية العظمى١٢ من المجتمع، الذي يؤلِّف هو ذاته جزءًا منه، وفيه يتساوى الأفراد كما كان الحال من قبل في الحالة الطبيعية. ومن ناحية أخرى، أردتُ الحديث صراحةً عن نظام الحُكم هذا لأنه أفضل نظامٍ يُوضِّح هدفي؛ وهو بَيان أهمية الحرية في الدولة؛ لذلك لن أتحدَّث هنا عن مبادئ نظام الحكم الأخرى، فلكي نعرِف ما هو الحقُّ الذي ترتكز عليه، لا نحتاج (في الوقت الراهن على الأقل) إلى البحث في الأصل الذي كانت، ولا تزال، تُستَمَدُّ منه، فقد عرَضْنا لهذا الحقِّ بما فيه الكفاية فيما سبق. فسواء أكانت السُّلطة العُليا في يد شخصٍ واحد، أو مُوزَّعة بين بعض الأفراد، أو مُشتركة بين الجميع، فإنَّ صاحبها يتمتَّع أيضًا بحقٍّ مُطلَق في أن يأمُر بكلِّ ما يشاء، كذلك فإن من فوَّض مَقدِرَته على الدفاع إلى شخص آخر بعَينه، سواء أكان ذلك طوعًا أم كرهًا، فقد تنازل عن حقِّه الطبيعي وبالتالي قرَّر إطاعة هذا الشخص في كلِّ ما يأمر به، وهو يظلُّ ملزمًا بهذه الطاعة ما دام الملك أو النُّبلاء أو الشعب يحتفظون بالسلطة العليا، التي كان تفويضه لحقِّه يرتكز على قبوله إياها. ولَسْنا في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذا الموضوع أكثر من ذلك.١٣
وبعدَ أن بيَّنتُ أُسس الدولة وحقَّها (في السيادة)، يسهُل الآن تعريف القانون المدني الخاص،١٤ وانتهاك القانون، والعدل والظلم في حالة المجتمع المُنظَّم، ثُمَّ ما هو الحليف والعدو، وأخيرًا جريمة الطعن في السيادة. فالقانون المَدَني الخاص لا يُمكن أن يعني في رأينا إلَّا حُرِّية الفرد في المُحافظة على حالته، كما حدَّدَتْها وضَمِنتها له مراسيم السُّلطة العُليا. فبعد أن يُفوِّض كلُّ فردٍ إلى شخص آخَرَ حَقَّه في أن يعيش وفقًا لرغباته الخاصَّة، أي حُريته في المحافظة على وجوده وقُدرته على ذلك، وهو حقٌّ لم يكن له من حدودٍ سوى قُدرته، فإنَّهُ يُصبح مُلزَمًا بأن يحيا وفقًا للطريقة التي يفرِضها عليه هذا الشخص، وبألَّا يعتمد في المحافظة على ذاته إلَّا على حمايته.

ويُنتَهك القانون عندما يعمَدُ شخص ما لأنْ يُلحقَ الضَّرَرَ بأحد المواطنين أو الرعايا ضاربًا بالقانون المدني عرْض الحائط أي رافضًا أوامر الحاكم، ولا يُمكن تصوُّر انتهاك القانون إلا في مُجتمعٍ مُنظَّم، ولكن الحاكم الذي يُبيح له القانون أن يفعل ما يشاء، لا يُمكنه أن ينتهك حقَّ الرعية. وعلى ذلك فإن انتهاك الحقوق لا يمكن أن يحدُث داخل الدولة إلَّا بين الأفراد الذين يُحرم عليهم القانون أن يَضُرَّ أحدُهم الآخر.

أما العدل فهو استعداد دائم للفرد لأن يُعطي كلَّ ذي حقٍّ ما يستحقه طبقًا للقانون المدني، وأما الظلم فهو أن يَسلُب شخص، مُتذرِّعًا بالقانون، ما يَستحقُّه شخص آخر طبقًا للتفسير الصحيح للقوانين. ويُسمَّى العدل والظلم أيضًا بالإنصاف وعدَم الإنصاف؛ لأنَّ من واجب القضاة، المُكلَّفين بوضْع حدٍّ للخصومات، ألَّا يُفرِّقوا بين الأشخاص بل أن يَنظُروا إليهم على قدم المُساواة، ويُحافظوا بقدْرٍ مُتساوٍ على حقِّ كلٍّ منهم، فلا يحسدون الغني ولا يحتقِرون الفقير.

أما الحلفاء فهما شعبا أُمَّتَين١٥ مُختلفتَين يتَّفِقان تعاقديًّا فيما بينهما على ألَّا يَضُرَّ أحدُهما بالآخَر تجنُّبًا لأخطار الحرب أو لأيِّ سببٍ آخر مُتعلِّق بمصالحهما، وأن يُعين أحدهما الآخر وقتَ الحاجة. ولكن تظلُّ كلُّ أمَّةٍ منهما دولة مستقلة، ويظلُّ التعاقد١٦ ساريًا طالَما وُجِدَ السبب؛ أعني احتمال الخطر أو المصلحة المرجوة، إذ إنَّ أحدًا لا يَعقِد اتفاقًا ولا يلتزم بالوفاء بتعاهُد إلَّا طمعًا في مَغنمٍ أو خوفًا من ضرَر، فإذا ذهب هذا الباعِثُ انفكَّ الحِلفُ من تلقاء نفسه، كما تشهد التجربة ذاتها في كثيرٍ من الحالات. على أنه، في حين تتعهَّد الدول المُستقلة، بناءً على اتِّفاق بينها، بألا تَضُرَّ إحداهما بالأخرى، فإنها تحاول بقدر الإمكان أن تَحُول دون زيادةِ قوَّة الدولة الأخرى، ولا تَثِقُ إحداهما بشروط العقد المُبرَمة إلَّا بقدْر ما تتَّضِح غاية الاتفاق والمصلحة منه لكلا الجانبين. وبعبارةٍ أخرى، فإن كل دولة تخشى أن تخدعها الدولة الأخرى، وهي على حقٍّ في ذلك؛ إذ إن المرء لا بدَّ أن يكون غبيًّا جاهلًا بحقِّ السُّلطات العُليا لكي يَثِق بعهود دولةٍ أخرى وبوعودها على حين تحتفِظ هي لنفسها بسيادتها وبحقِّها المُطلَق في أن تفعل ما تشاء ولا تعترِف بأيِّ قانونٍ أعلى من مصلحة نظامها السياسي الخاص ومنفعته. وحتى إذا تأمَّلنا الأمر من وجهة نظر الدين والتقوى، فسوف يتبيَّن لنا أن أي فردٍ يكون قد ارتكب جرمًا إذا وَفى بوعوده وكان في ذلك ضررٌ على الدولة التي يَحكُم فيها؛ ذلك لأنه لا يستطيع الوفاء بهذا الوعد عندما يكشف أنه يُلحِق الضرر بالدولة إلَّا إذا تخلَّى عن ولائه لرعاياه، مع أنَّ هذا الولاء واجِب عليه قبلَ أيِّ شيء آخَر، فضلًا عن أنه يكون عادةً قد تعهَّد بالإبقاء عليه أمام الملأ.

أمَّا العدو فهو الذي يعيش خارج أُمَّة مُعيَّنة، ولا يعترف بسُلطتها بوصفه حليفًا لها، أو واحدًا من رعاياه، ولا تنشأ العداوة للدولة من الشعور بالكراهية بل من وضْع قانون الدولة ضدَّه، فللدولة، إزاء من لا يعترِف بسُلطتها التي أقامتها بأيِّ نوع من العقد، الحقُّ نفسه الذي لها إزاء من يُلحِقُ بها الضَّرر، فلها الحقُّ إذن في أن تُرغِمه على إطاعتها أو التحالف معها بكلِّ ما لدَيها من وسائل.

أما جريمة الطعن في السيادة فلا يقترِفها إلَّا الرعايا أو المواطنون الذين فوَّضوا كلَّ حقِّهم إلى الدولة بناءً على عقدٍ ضِمني أو صريح، ويُقال عن أحد أفراد الرعية إنه اقترف هذه الجريمة عندما يُحاول لسببٍ ما سلْب السلطة العليا حقَّها أو نقله إلى شخصٍ آخر. أقول «عندما يحاول» لأنه لو وقعت الإدانة بعد ارتكاب الجريمة، لجاء تدخُّل الدولة في مُعظم الأحيان بعد فَوات الأوان؛ إذ يكون حقها في السيادة قد اغتُصب أو نُقل إلى شخصٍ آخر بالفعل. وأقول بصيغةٍ مُطلقة: «من يُحاول لسببٍ ما سلْب السلطة العليا حقَّها في السيادة.» إذ إنه سواء نتَجَ عن ذلك إلحاق الضَّرَر بالدولة أو على العكس ازدهارها ازدهارًا عظيمًا، فإن الأمر لا يتغيَّر على الإطلاق، فأيًّا كان سبب مُحاولة ارتكاب الجريمة، فهناك طعن في السيادة، ويقع المُذنب تحت طائلة القانون. إن الجميع يُسلِّمون بأنَّ هذه الإدانة لها ما يُبرِّرها في زمن الحرب؛ فإذا ترك جُندي موقعه وهاجم العدو دون أمرٍ من قائده، فإنه مهما كانت خُطَّتُه في الهجوم مُحكمة وحتى لو أجبَر الأعداء على الفرار، فلا يشكُّ أحدٌ في أنه يتعرَّض للحكم عليه بالإعدام، لأنه أخلَّ بقَسَم الطاعة وحقِّ قائده. ولكن، في مُقابل ذلك، لا يُدرك الناس جميعًا، هذا القدْر نفسه من الوضوح، أنَّ هذا الحق مُلزِم للمواطنين جميعًا، على نحوٍ مُطلَق، في كلِّ الأحوال، على أنَّ المبدأ مع ذلك واحد؛ ذلك لأنَّه، لمَّا كان من الواجِب أن تكون السُّلطة العُليا وحدَها هي الحافظة والحاكمة للدولة، ولمَّا كان الرعايا أو المواطنون قد فوَّضوا للحاكم وحده هذا الحقَّ بناءً على عقد يلتزمون به التزامًا مُطلقًا، فلو أخذ أحد الأفراد على عاتقه، من تلقاء نفسه، ودون علم من الجمعية العليا١٧ تصريف أمر عام، فإنه، حتى لو نتَجَ عن ذلك ازدهار فِعلي للدولة، يكون قد انتهك حقَّ السلطة العليا وطعَن في السيادة وحقَّتْ إدانته.
ومنعًا لأي تَردُّدٍ بقي لنا أن نَرُدَّ على اعتراضٍ قد يُوجَّه ضدَّ الرأي الذي قُلناه من قبل، وهو الفرد المحروم من ملكة العقل يعيش على حالة الطبيعة، ويسير طبقًا لقوانين الشهوة بناءً على حقِّ الطبيعة المُطلَق. ألا يُعارض ذلك القانون الإلهي المُوحى به مُعارضة صريحة؟ الحقُّ أنه لمَّا كان ينبغي علينا جميعًا بلا استثناء (سواء أكانت لدَينا القُدرة على استخدام العقل أم لا) أن نُحِبَّ جارنا كما نُحِبُّ أنفسنا تنفيذًا لأوامر الله فإننا لا نستطيع إلحاق الضَّرَر بالآخرين، كما لا نستطيع العيش وفقًا لقوانين الشهوة دون انتهاكٍ للقانون، ولكن من السهل الردَّ على هذا الاعتراض إذا تأمَّلنا قليلًا حالة الطبيعة، لأنها سابقة على الدين بطبيعتها ومن حيث الزمان. إنَّ الطبيعة لم تُعلِّم أحدًا١٨ مطلقًا طاعة الله ولا يمكن معرفة ذلك بالاستدلال١٩ بل بالوحي المدعوم بالآيات. ومِن ثَمَّ فقبل الوحي لا يُمكن أن يلتزِم أحد بالقانون الإلهي، الذي هو جاهل به بالضرورة فيَجِب إذن ألَّا نخلِط بين حالة الدين وحالة الطبيعة التي يجِب أن نَعُدَّها حالةً لا شأن لها بالدين والقانون. وبالتالي لا شأنَ لها بالخطيئة وانتهاك القانون، وهذا ما برْهَنَّا عليه من قبلُ مُستشهِدين ببولس. وفضلًا عن ذلك فليس الجهل وحده هو السبب في اعتبار حالة الطبيعة سابقةً على القانون الإلهي المُوحى به ولا شأنَ لها بالقانون، بل إن هذا يرجِع أيضًا إلى الحُريَّة الأصلية التي يُولَد بها جميع البشر، فلو كان البشر مُلتزِمين بطبيعتهم بالقانون الإلهي أو لو كان القانون الإلهي قانونًا بالطبيعة لَمَا كان هناك داعٍ لأن يعقِدَ الله معهم عهدًا أو أنْ يُلزِمهم بميثاقٍ وبقَسَم. فيجِب إذن أن نُسلِّم دون أي شكٍّ بأن القانون الإلهي يبدأ في اللحظة نفسها التي وعد فيها الناس، في عهدٍ صريحٍ بطاعة الله في كلِّ شيء. وبهذا العهد يمكن القول بأنهم تخلَّوا عن حُريَّتهم الطبيعية وفوَّضوا حقَّهم لله، كما يحدُث في حالة المجتمع التي أوضحناها من قبل (وسأُسهِبُ في هذا الموضوع فيما بعد).٢٠

ومع ذلك يُمكن الاعتراض علينا أيضًا بأن على السُّلطات العُليا شأنها شأن الرعايا، الالتزام بهذا القانون الإلهي، مع أنَّنا قُلنا من قبلُ إنها تحتفظ بحقِّها الطبيعي وبحقِّها في أن تفعل ما تشاء. وتوضيحًا لهذه المشكلة، التي تتعلق بقانون الطبيعة أكثر من تعلُّقها بحالة الطبيعة، أقول إنَّ كلَّ شخص في حالة الطبيعة مُلزَم بالقانون الموحى به كما أنه يعيش طبقًا لنظام العقل؛ لأنَّ ذلك ضروري لمصلحته ولخلاصه، ولكنه في ذلك حرٌّ في أن يرفُض ذلك مُحتملًا ما ينتُج عن رفضه من مخاطر وأضرار. وهو أيضًا حُرٌّ في أن يعيش كما يشاء لا كما يشاء الآخرون، وليس عليه أن يعترِف بأيِّ مخلوق حَكَمًا أو مدافعًا عن حقِّ الدين. هذا الحق، في رأيي، هو الذي تتمتَّع به السلطة العليا، التي تستطيع أن تأخُذ رأي الأفراد، دون أن تكون مُلتزمة بالاعتراف بأيِّ فردٍ حَكَمًا أو بأيِّ مخلوقٍ من فوقِها مُدافعًا عن أيِّ حق، إلَّا إذا كان نَبيًّا بعَثَه الله وبرهن بآياتٍ لا شكَّ فيها على بِعثتَه. وحتى في هذه الحالة، تلتزم السلطة العليا بأن تعترِف بالله نفسه حَكَمًا، لا بأيٍّ من بني البشر. فإذا رفضت السُّلطة العُليا طاعة الله فيما أوحى به من قانون فهي حُرَّة في ذلك، وعليها أن تتحمَّل ما ينتُج عن ذلك من أضرارٍ أو أخطار، أعني أنه لا يُمكن أن يقِف في سبيل ذلك أي قانون مدني أو قانون طبيعي؛ إذ يعتمد القانون المدَني على مشيئة هذه السُّلطة وحدَها، أمَّا القانون الطبيعي، فإنه يعتمِد على قوانين الطبيعة التي لا علاقة لها بالدِّين (الذي يتَّخِذ المصلحة الإنسانية هدَفَه الوحيد) بل تتعلَّق بنظام الطبيعة الشامل، أي بمشيئةٍ إلهية أزليَّة لا نَعلَمُها، وهذا ما يبدو أن البعض شعروا به شعورًا مُبهمًا، حتى قالوا: إنَّ الإنسان يستطيع أن يُخطئ في حقِّ إرادة الله التي أوحى بها، ولكن ليس في حق المشيئة الأزلية التي قرَّر بها مقدمًا مصير كل شيء.

وقد يسألني سائل: ما العمل إذا ما أعطت السُّلطة العليا أمرًا مناقضًا للدين والطاعة التي وعَدْنا بها الله تنفيذًا للعهد الصريح؟ هل يجِب الخضوع للأمر الإلهي أم للأمر البشري؟ ونظرًا إلى أني سأُعالِج هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد، سأكتفي بأن أقول هنا بأنَّ عليه أن يطيع الله قبل كلِّ شيء عندما يكون لدَينا وَحيٌ يَقيني لا شكَّ فيه. ومع ذلك، فلمَّا كان اختلاف طبائعهم يُولِّد بينهم ما يُشبِهُ المنافَسَة على الأوهام الباطلة، كما تشهد التجربة اليومية مرارًا وتكرارًا، فمن المؤكد أنه لو لم يكن المرء مُلزمًا — بموجب القانون — بطاعة قانون السلطة العليا فيما يظنُّه من أمور الدين، لأصبح قانون الدولة مُتوقِّفًا ولا شكَّ على الأحكام الشخصية وعلى الانفعالات الفردية، إذ لا يلتزِم أحد بالقوانين الجارية إذا ظنَّ أنها مُخالفة لعقيدته أو خُرافته، وبهذه الحُجَّة يسمح كلُّ فرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء. ولمَّا كان قانون الدولة يُنتَهك كليةً في هذه الحالة، فإنَّ السلطة العليا، التي هي المُكلَّفة، وحدَها، بناءً على حقِّها الإلهي وحقِّها الطبيعي، بالمُحافظة على حقوق الدولة وحمايتها، يكون لها الحقُّ المُطلَق في اتِّخاذ جميع الإجراءات المناسبة في موضوع الدين، وعلى جميع الأفراد الالتزام بطاعة قرارات السُّلطة العليا وأوامرها في هذا الصدد، نظرًا إلى الولاء الذي وعدوها به، والذي يأمر الله بالالتزام به التزامًا تامًّا. فإذا كان مُمثلو السلطة من الوثنِيِّين فإمَّا أن يرفُض المرء عقد أي اتِّفاق معهم، ويتعرَّض عندئذٍ لأبشع الأضرار، دون أن يُفوِّض لهم أي حق، وإمَّا أن يظلَّ على الولاء والطاعة لهم، ويحفظ عهده لهم، إنْ طوعًا وإن كرهًا، إذا ما تَمَّ له عقد اتِّفاق معهم وتفويض الحقِّ لهم، لأنه بذلك يكون قد تخلَّى عن حقِّه في الدفاع عن ذاته وعن عقيدته، والاستثناء الوحيد من ذلك هو الشخص الذي وعدَهُ الله عن طريق وحيٍ يقيني بمُساعدة خاصَّة ضِدَّ الطاغية أو مَن أراد الله أن يَستثنِيَه بشخصه. فنحن مثلًا نعلَم ثلاثة فِتية فقط، من بَين يهود بابل جميعًا، قد رَفَضوا طاعة نبوخذ نصر؛٢١ لأنهم كانوا على يقينٍ من مُساعدة الله لهم، على حين أطاع الآخرون (باستثناء دانيال الذي كان مُعظَّمًا عند الملك نفسه) القهر الشرعي، وربما ظنُّوا في قرارة نفوسهم أنهم وقَعُوا تحت سيطرة الملك تنفيذًا لمشيئة إلهية، وأن الملك قد حصل على السلطة العليا واحتفظ بها تحقيقًا لغاية إلهية. وعلى العكس من ذلك، أراد العازر إعطاء مواطنيه مثلًا على المثابرة،٢٢ في الوقت الذي لم يكن قد تمَّ فيه القضاء على وطنه كليةً، حتى يقبلوا أن يتحمَّلوا معه أقسى الآلام، بدلًا من أن يُفوِّضوا حقَّهم وسُلطَتَهم لليونان، وحتى لا تُرغِمُهم أقسى المِحَن على التعهُّد بالولاء للوثنِيِّين. وتؤكد الخبرة اليومية كلَّ ما قُلته الآن، ففي أيامنا هذه لا تتردَّد السلطات المسيحية في عقد مُعاهدات مع المسلمين٢٣ والوثنيين، صونًا لسلامة الدولة، وهي تُوصي رعاياها الذين يتوجَّهون للإقامة في هذه البلاد، بألَّا تتعدَّى حُريَّتَهم، في أمور دِينهم ودُنياهم، حدود ما تَمَّ الاتفاق عليه في عقودٍ مكتوبة، أو ما تَسمح لهم به السلطات العليا في هذه البلاد، ويتمثَّل ذلك في المعاهدة المعقودة بين الهولنديِّين واليابانيين، والتي تحدَّثْنا عنها من قبل.٢٤
١  في Ap الدولة وفي FM   الجماعة السياسية La communauté politique وكلاهما ترجمة الكلمة اللاتينية Republica (انظر الهامش ٣، من رسالة في اللاهوت والسياسة).
٢  انظر الهامش ٥، من مقدمة المؤلف.
٣  في Ap   الحاكم Le souverain وفي FM  السُّلطة العليا Le Souverain Pontife. بعد تكرار سبينوزا في الفصول السابقة يُركِّز في هذا الفصل وكأنه كتَبَه في نفسٍ واحد عندما كان ينوي نشره سنة ١٦٧٠.
٤  لفهم آراء سبينوزا في هذا الفصل يَجِب أن نعرِف معنى كلمة حق طبيعي Jus naturale التي تُترجَم في الفرنسية عادةً بلفظي Droit naturel فالحق الطبيعي ليس قوة pouvoir أو سُلطة شرعية يمتلكها الإنسان لأنه لا تُوجد في الطبيعة قوة شرعية أو لا شرعية. الحق الطبيعي هو حق السلوك طبقًا لقوانين الطبيعة العامة وطبقًا لطبيعة من يقوم بالفعل، أي إنَّه حقُّه في المحافظة على وجوده وهو الحقُّ الذي يتمتَّع به كل فرد (Ethique, III, prop. 7).
٥  لا تسير الطبيعة وفقًا للعقل الإنساني أي إنَّها لا ترعى المصلحة الخاصَّة للفرد، وفي الوقت نفسه ليس في الطبيعة خير أو شرٌّ لأنَّ الخير والشرَّ نِسبِيَّان، ولا يعني ذلك إماتة الطبيعة أو مُعارضتها لأنَّ الإنسان ليس مَملكةً داخل مملكة فالعقل نفسه شيء طبيعي والمُجتمَع أيضًا شيء طبيعي (Ethique, IV, prop. 35, corrol. Et school)، ويختلف سبينوزا هنا عن هوبز (وكذلك عن روسو) لأنَّهُ يُعارض حالة الطبيعة مع حالة المجتمع (Lettre, L)، لأن أفضل مُجتمع هو أقرَبُ المُجتمعات إلى الطبيعة وهو الذي يزيد من قوة الفرد باجتماعه مع غيره ولا ينقُص منها شيئًا، فغاية المُجتمع هي الحرية لا العبودية (الفصل العشرون)، ويتمُّ ذلك بالطُّرُق الطبيعية التي تشمل العقل والشهوَّة على السواء. فسبينوزا ليس مِثاليًّا كما يظنُّ البعض لأنه يُعارض الانفعال الجارف بانفعالاتٍ أخرى مُماثلة (الخوف والرجاء)، ويجب أن تكون الدولة مُمثِّلة للقوة حتى ولو أساءت استعمال سُلطتها لأنها تُمثِّل العقل والمجتمع.
٦  يقوم التنظيم الاجتماعي على «وعد Promesse» من كل الأفراد بوضع المصلحة العامَّة فوق المصلحة الخاصة، وهذا «التحالف pacte» الاجتماعي ليس مُجرَّدًا بل ينتهي إلى تعيين شخصٍ يُمثِّل الجميع (وهو في أغلب الأحيان شخصية جماعية حتى ولو كان فردًا فإنه يمثل سلطة الجماعة التي فوضت لها حقها وسلطتها) وبالتالي ينشأ العقد contrat بين الطرفين: الجمهور الذي يُفوِّض حقَّه السياسي بمحضِ اختياره والشخص الذي يملك هذا الحق بناءً على هذا التفويض أي السُّلطة العُليا أو الحاكم، فالتحالف pacte يدلُّ على الجانب الخلقي للعمل الجماعي والذي يتم إعلانه بالقسم serment أما العقد فإنه يدلُّ على الجانب القانوني.
٧   في حالة المُجتمَع، حيث يُقرِّر القانون العام Droit commun الخير والشر، يحقُّ لنا التمييز بين التحايُل عن حُسن نِيَّة والتحايُل عن سوء نية، ولكن في حالة الطبيعة حيث يحكُم كلُّ فرد على سلوكه الخاص ويكون له الحقُّ المُطلَق في أن يضع لنفسه القوانين وأن يُفسِّرها، بل وأن يُبطِلها لو تراءى له ذلك؛ في حالة الطبيعة هذه لا يُمكن أن نتصوَّر أحدًا يتحايَلُ بسوء نية.
٨  يقصد سبينوزا هنا باللفظ اللاتيني Gloria الغرور الذي يتضمَّن معنى لفظ Vana.
٩  ليست الديمقراطية نظامًا للحكم فحسب بل هي النظام الأمثل، لأنَّ الحرية تتحقَّق فيه.
١٠  ليس هناك حدٌّ لسُلطة الحاكم إلا هذه السُّلطة نفسها لأنها لا تستطيع أن تُغيِّر طبائع الموجودات، فسُلطة الحاكم مُطلقة لأنَّ سبينوزا لا يُعطي أي ضمان دستوري للرعية ولكنَّها في الوقت نفسه محدودة بطبيعة الرعية التي تُحافظ على وجودها وإلَّا لأصبحت مُجرَّد آلة يُديرها الحاكم الطاغي كيف يشاء، فإذا تحوَّل الحاكم إلى طاغية سُلِبَت عنه سُلطته لأنه نقض العهد وخرَق العقد ولم يلتزِم به وهذا مُطابق للعقل ولطبيعة الأشياء.
١١   يستطيع الإنسان أن يكون حرًّا في أي بلد يعيش فيه فلا شكَّ أن يكون حرًّا بقدر ما يهتدي بالعقل، ولكن العقل (بالرغم من مُعارضة نظرية هوبز Hobbes لذلك) يهدي إلى السلام، ولا يتحقَّق السلام إلَّا باحترام القوانين العامَّة للبلد، ومن ثَمَّ كلَّما ترك الإنسان نفسه لهداية العقل أي كُلَّما كان حرًّا زاد حِرصُه على هذه القوانين وعلى تنفيذ أوامر الحاكم الذي يخضع له.
(يرى هوبز أنَّ الإنسان في حالة الطبيعة ذئب بالنسبة للإنسان، وفي حالة المجتمع يُصبِح إلهًا. ويرفض سبينوزا هذا التعارُض بين هاتين الحالتَين لأنَّ العقل جُزء من طبيعة الإنسان (مع أنَّ كثيرًا من الناس لا يتَّبِعونه) ويهدي إلى السلام ويكون الإنسان إلهًا بالنسبة للإنسان بقَدْر ما يتَّبِع هداية العقل، فحالة الطبيعة عند سبينوزا ليست حالة حرْب بل غياب الأمن والوقوع في الخوف، وفي هذا الموضوع يكون سبينوزا أقرب إلى مونتسكيو Montesquieu).
١٢  لا يعني سبينوزا الغالبية العُظمى في مُقابل الأقلية الصُّغرى بل يعني مجموع Totalité الناس أي المجتمع كله.
١٣  سيتحدَّث سبينوزا عن النظام الأرستقراطي والنظام الملكي في الرسالة السياسية Tractatus Politius (انظر أيضًا: Ethique, IV, déf. VIII, prop. XXVII, school. II).
١٤  تتضمن كلمة Jus اللاتينية عندما تقول Jus divinum بالإضافة إلى «قانون» معنى القاعدة المفروضة أو الأمر، ويكون هناك تناقُضٌ عندما يتبنَّى أحد قانونًا ثُمَّ لا يُمكن مُطالبة الحاكم ألَّا يرضَخ لإرادة واضع القانون. ومن ثَمَّ حق وإلَّا أصبح المُطالِب عدوًّا له وللدولة ويعود إلى حالة الطبيعة ويصبح خارجًا على القانون. أما إذا كان الحاكم طاغيًا فإنَّ من حقِّ الشعب الثورة عليه لأنه عَمِل ضِدَّ إرادة الشعب التي هي مصدر السلطات وضد الطبيعة التي حاول مُعارضتها.
١٥  يُستعمَل مع سبينوزا لفظ cevitas (كما يستعمل أيضًا في «الرسالة السياسية» لفظ Republica) ليدلَّ على كلِّ تكوين سياسي، ويقصد به «أمة» nation.
١٦  يستعمل سبينوزا لفظ Pactum وفي «الرسالة السياسية» يستعمل في بعض الأحيان لفظ contractus.
١٧  يرى سبينوزا في «الرسالة السياسية» أن «الجمعية العليا» هي السُّلطة العليا في الدولة.
١٨   عندما يقول بولس إنَّ البشر بلا مأوى فإنه يتحدَّث بأسلوبٍ إنساني لأنه يقول صراحةً في الإصحاح التاسع في الرسالة نفسها إنَّ الله يرحم من يشاء ويُعاقب من يشاء، وإن السبب الوحيد لعدَم المغفرة هو أنَّ البشر أمام قُدرة الله كالصلصال في يدِ صانع الفخار الذي يصنع الفخار الذي يصنع من العجين نفسه أوعيةً مُختلفة أحدُها للشرف والآخر للعار ولا يدلُّ هذا السبب على أنهم تلقَّوا تحذيرًا سابقًا. أما القانون الإلهي الطبيعي الذي قُلنا إن وصيَّتَه العليا هي حبُّ الله فقد سمَّيتُه قانونًا كما يُسمِّي الفلاسفة القواعد العامة الطبيعية التي يسير طِبقَها كلُّ شيء قوانين. والواقع أنَّ حُبَّ الله ليس هو الطاعة بل صِفة يُشارك فيها من يعرف الله معرفة مباشرة؛ إذ إنَّ الطاعة تتعلَّق بإرادة من يأمُر، لا بضرورة الشيء وحقيقته. ونحن لا نعلم طبيعة إرادة الله ولكنَّنا نعلَم أنَّ كلَّ ما يحدُث حدَثَ بقدرة الله وحدَها ولا نستطيع بأية وسيلة — إلا بالوحي — أن نعلم إذا كان الله يُريد من البشر أن يعبدوه وأن يُعظِّموه كأمير. لنُضِف على ذلك، ما بَيَّناه من قبلُ أنَّ قوانين الله تبدو لنا قواعد مفروضة ونظمًا طالما أنَّنا نجهل أسبابها. وعندما نعلَم هذه الأسباب تُصبِح حقائق أزليَّة لا قواعد مفروضة أو أوامر وذلك يعني أنه بدَل الطاعة يأتي الحُبُّ الذي ينشأ من المعرفة الحقيقية كما يَصدُر النور عن الشمس بالضرورة، وبناءً على هداية العقل نستطيع حُبَّ الله لا طاعتَهُ لأنَّنا لا نستطيع بالعقل أن نقبَل القواعد التي فرضها الله ونَعُدَّها إلهية طالما أنَّنا نجهل أسبابها كما لا نستطيع تصوُّر الله كأمير يضَع القوانين.
(ويتَّضِح من تعليق سبينوزا هذا تَعارُضَه مع كانط، إذ يُحاول كانط تأسيس الطاعة على العقل بلا شروط (الأمر المُطلق)، ولكن سبينوزا يرفُض هذه المحاولة ويرى أن أساس القوانين الإلهية هو مُحافظتها على الوجود، ويرفُض صورية كانط قبل أن تنشأ ولا يعترِف بالطاعة إلَّا للعامَّة الذين لا يعملون العقل).
١٩  لا يُعلِّمنا العقل أو الطبيعة الطاعة؛ إذ تضَعُ الطبيعة فينا الشهوات والرغبات المُتعارِضة التي من حقِّها أن تُشبَع في حالة الطبيعة (وحقُّها محدود بقُدرتها وحدها) وعندما يُعرِّفنا العقل بالله فإنه يُوحي إلينا بِحُبِّه ويُحرِّرنا من الطاعة، وقد كان الوحي ضروريًّا لإقامة أخلاق الطاعة وأنها طريق الخلاص، والوحي نفسه من الناحية الفلسفية أمر طبيعي يعلمه الفيلسوف بالعقل وينقله لنا الأنبياء والرُّواة والمشرِّعون والمُعلِّمون والوسطاء دون أن يَعرِفوه بالعقل، بل كان تعبيرًا عن أحوالهم النفسية وظروف مُعاصريهم.
٢٠  زيادة في Ap.
٢١  يُشير سبينوزا إلى القصة الموجودة في سفر دانيال (٣: ١٣–٢٤) عن نجاة الفتية الثلاثة المؤمنة شدرك وميشك وعبد نجوا بعد أن ألقاهم نبوخذ نصر في النار «فكانوا يتمشَّون في وسط اللهيب مُسبِّحين الله ومباركين الرب.»
انظُر استشهاد أوغسطين بهذه القصة في ترجمَتِنا لمُحاورة المعلم في كتابنا: نماذج من الفلسفة المسيحية ص٨٦ (دار الكتب الجامعية، الإسكندرية، ١٩٦٩).
٢٢  العازر Eléazer: هناك شخصيات كثيرة في التوراة باسم العازر، ويبدو أن سبينوزا يقصد أحد الكتبة Scribes المشهورين الذي استُشهِد في أيام اضطهاد أنطيوكوس (Antiochus IV) المكابيون الأول، ٥٧–٦٣، المكابيون الثاني، ٦: ١٨–٣١) ويُحتمل أيضًا أنه يُشير إلى أخٍ ليهوذا الكابي الذي حارب نيكانور وشقَّ بطن الفيل وقرأ التوراة أمام الجمع لتشجيع بني قومه، وتعني العازر «عون الله».
٢٣  يأخُذ سبينوزا كغيره من مُفكِّري السياسة حُكم الأتراك كنموذج لحُكم الطغيان.
٢٤  يأخذ سبينوزا أمثلتَهُ أيضًا من الحياة السياسية في هولندا والبلاد المجاورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤