الفصل السابع عشر

نُبيِّن أنَّ أحدًا لا يستطيع تفويض كلِّ ما يملك إلى السلطة العليا

وفيه نُبيِّن أنَّ أحدًا لا يستطيع تفويض كلِّ ما يملك إلى السلطة العليا وأن هذا التفويض ليس ضروريًّا. دولة العبرانيِّين١ وكيف كانت في حياة موسى وبعد موته.
مزايا هذه الدولة، وأسباب انهيار الدولة الإلهية بعد أن شاعت فيها الفِتَن دائمًا.٢

***

إن الآراء التي انتهَينا إليها في الفصل السابق عن الحقِّ الشامل الذي تتمتع به السلطات العليا، وعن تفويض الفرد حقَّه الطبيعي لها، تصدُق بالفعل إلى حدٍّ غير قليل في الحياة العملية، ويُمكن تنظيم الحياة العملية بحيث تزداد منها اقترابًا. ومع ذلك فإنَّ هذه الآراء تظلُّ نظريةً صِرفة في كثيرٍ من جوانبها. فمثلًا لا يستطيع أي فردٍ أن يصِل في التخلِّي عن قُدرته — وبالتالي عن حقِّه — لفردٍ آخر، إلى الحد الذي يُلغي فيه وجوده كإنسان، ولن يحدُث أبدًا أن تملك أية سلطة عُليا من القوَّة ما يسمح لها بتنفيذ كلِّ ما تُريد. فمثلًا لن تُطاع إذا ما أمرْتَ أحد أفراد الرعية بأن يكره من يُحسن إليه، أو أن يُحِبَّ من يُسيء إليه، أو أن يسمع السباب دون أن يشعُر بالإهانة، أو ألَّا يُحاول التحرُّر من الخوف، وما شابه ذلك من الأمور التي تتبع بالضرورة قوانين الطبيعة البشرية،٣ وفي اعتقادي أنَّ التجربة تُقدِّم إلينا شهادة واضحة على ذلك، فلم يحدُث أبدًا أنه تخلَّى الناس عن حقِّهم، ونقلوا سُلطتهم إلى شخصٍ آخر، إلى الحدِّ الذي لا يعود معه من حصلوا على هذا الحقِّ وعلى هذه السُّلطة أن يخشَوهم ولا يظلُّ معه تهديد المواطنين للدولة، حتى بعد سلْب حقوقهم، أشدَّ من تهديد الأعداء لها. هبْ أنَّ من الممكن سلْبَ الناس حقَّهم الطبيعي إلى الحدِّ الذي لا يعودون معه قادرين على التصرُّف في أية قُدرة لهم إلَّا بعد الحصول على مُوافقة من لهم الحق الأعلى،٤ فما أشدَّ العنف الذي سيسمح الحاكم لنفسه عندئذٍ باستعماله ضِدَّ الرعايا! ولا أظنُّ أنَّ هذا القدر من التطرُّف قد خطَرَ على بال أحد مُطلقًا. فيجِب إذن أن نُسلِّم بأنَّ الفرد يحتفظ لنفسه بقدْرٍ كبير من حقِّه، وهو، بالتالي، قدْر لا يعود رهنًا بمشيئة الآخر، بل بمشيئته هو، ومع ذلك، فإذا أردْنا أن نُدرك إلى أيِّ حدٍّ تمتدُّ سُلطة الدولة العُليا وحقها، يجب أن نلحظ أنَّ سلطتها لا تقتصر على استعمال القهر المُرتكِز على التخوين فحسب، بل تشمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها؛ فليس ما يُميِّز الرعية هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها. ومهما كان الباعث الذي يدفع الإنسان إلى تنفيذ أوامر السُّلطة العليا — أعني الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب أو حب الوطن أو أية عاطفة أخرى — فإنه يكون قد اتَّخذ قراره بمحْضِ إرادته، ومع ذلك يظل خاضعًا لأوامر السلطة العليا. وإذن فمن الواجب، إذا رأينا شخصًا يفعل شيئًا بمحْضِ إرادته، أن نَستنتِج من ذلك على الفور أنه يَسلُك بناءً على حقه، لا على حقِّ من يُمثِّل السلطة العليا في الدولة، فلنذكُر دائمًا أنه يسلك بمحْضِ إرادته ومشيئته، سواء أكان مدفوعًا بالحُبِّ أم كان مُضطرًّا خوفًا من العقاب. ومن ثم فإنَّ المرء ما إن يعترِف للدولة بحقٍّ ما إزاء رعاياها، حتى يمتدَّ هذا الحقُّ بالضرورة ليشمل جميع الوسائل التي يقبَلُ بها الرعايا سيادة هذه الدولة؛ وعلى ذلك فكُلُّ ما يفعله أحد أفراد الرعية تنفيذًا لأوامر السُّلطة العُليا، سواء كان يفعله، بدافعٍ من الحُبِّ أو بفعل الخوف، أو كان صادرًا عن الرَّجاء والرَّهبة معًا (وهو الأغلب) أو عن عاطفة — مثل الاحترام — يجتمع فيها الإعجاب والرهبة أو بأي دافع آخر — أقول إنَّ كُلَّ ما يفعله يكون بحقِّ السلطة في الدولة، لا بحقِّهِ الخاص. ومن المُمكن بلوغ هذه النتيجة نفسها دون عناءٍ إذا أدركنا أنَّ الطاعة ليست فعلًا خارجيًّا، بل هي فعل داخلي للنفس، بحيث إنَّ أكثر الناس خضوعًا لسلطة فردٍ آخَر هو من يشرع في تنفيذ أوامر هذا الآخر بنفسٍ راضية تمام الرِّضا، وبالتالي تكون أقوى السلطات هي أكثرها سيطرة على نفوس رعاياها. ليست قوَّة السُّلطة بمقدار ما تُثيره من خوف، وإلا كان رعايا الطاغية هم الذين يملكون أقوى سُلطة لأنه يخشاهم إلى أبعد حَد. ومن ناحية أخرى فإذا كان من الصحيح أنَّ السيطرة على النفوس أصعب من السيطرة على الألسنة، فإنَّ النفوس، مع ذلك، تقَع إلى حدٍّ ما تحت سيطرة السلطة العُليا التي تستطيع بمُختلف الوسائل أن تجعل الأغلبية العظمى من الناس تعتقد وتُحِبُّ وتكره كما تشاء هذه السلطة. وعلى ذلك، فإذا لم تكن هذه المشاعر على الإطلاق نتيجة مباشرة لأوامرها، فإنها تظلُّ مع ذلك صادرةً عن سُلطة قدرتها، وعن توجيهها، أي عن حقها، كما تشهد التجربة في كثير من الأحيان، ولذلك ففي استطاعتنا أن نتصوَّر — دون أي تناقُض ذهني — أناسًا لا يعتقدون ولا يُحبُّون ولا يكرهون ولا يحتقرون ولا تدفعهم أية عاطفة إلَّا بتوجيهٍ من السُّلطة العُليا وحقها، على أنَّنا مهما تَوسَّعنا في تَصوُّرنا حقَّ من يمارس السيادة في الدولة وقدرته، فإنَّ هذه السلطة لا يمكن على الإطلاق أن تتَّسِع حتى تُعطي أصحابها سلطة مُطلقة تُتيح لهم أن يفعلوا كلَّ ما يشاءون، (وأظنُّ أني قد برهنتُ على ذلك بما فيه الكفاية).٥

ولقد سبق لي أن ذكرتُ أنَّني لا أعتزم أن أعرض هنا للشروط التي يمكن أن تُنظَّم بها السلطة بحيث تظلُّ في أمنٍ دائم، ومع ذلك سأذكر التعاليم التي أُعطيَتْ لموسى عن طريق الوحي حتى أُبيِّن ما أُريد الانتهاء إليه في هذا الموضوع، وبعد ذلك سنفحَصُ تاريخ العبرانيِّين وتَقلُّباته حتى نرى ما هي التنازُلات التي ينبغي أن تُقدِّمها السلطة العليا لرعاياها حتى تضمَنَ للدولة أعظمَ قدْرٍ من الأمن والازدهار.

يعتمِد قيام الدولة أولًا وقبل كلِّ شيء على ولاء الرعايا وعلى فضيلتهم ومُثابرتهم على تنفيذ الأوامر، كما يشهد العقل والتجربة بوضوحٍ تام، ولكن ليس من السهل، بالمِقدار نفسه، إدراك الطريقة التي ينبغي بها حُكم الرعية لتظلَّ على ولائها وفضيلتها؛ ذلك لأنَّ الحُكَّام والمحكومين على السواء بَشَر، أي كائنات تَميل إلى ترك العمل والسعي وراء اللَّذَّة. وكلُّ من عرَف طبائع العامَّة الشديدة التقلُّب، يكاد ينتابُه اليأس التامُّ منها؛ إذ لا يحكُمُها العقل، بل تحكُمُها انفعالات النفس وحدَها، كما أنَّ افتقارهم التامَّ إلى ضبط النفس يجعلها تنقاد بسهولةٍ لمساوئ البذخ والطمع، وكلُّ فردٍ منها يعتقِد أنه الوحيد الذي يعرِف كُلَّ شيء ويريد أن يُفصِّل في كل شيء وفقًا لهواه، وتبدو له الأشياء مُنصِفة أو مُجحِفة، مشروعةً أو غير مشروعة بمقدار ما يرى فيها من كسْب أو خسارة له، ويحتقر أترابه غرورًا بنفسه، ولا يقبَلُ منهم أية نصيحة، ويتمنَّى الشرَّ للآخرين ويتلذَّذ بوقوعه حسَدًا لمن هم أكثر منه شرفًا أو غنًى. تلك، على أيَّةِ حال، أمور لا نحتاج فيها إلى مزيدٍ من الحصر، إذ لا يجهَل أحد الجرائم التي يدفع الناس إلى ارتكابها سأَمُهم من وضْعِهم الراهن، والرغبة في التغيير، والغضب الذي لا ضابط له، وكراهية الفقر، كما لا يَجهَل أحد مدى سيادة هذه الانفعالات على نفوسهم وإشاعتها الاضطراب فيها. وإنه لعملٌ شاقٌّ حقًّا أن تعمل الدولة ما مِن شأنه تجنُّب هذه الشرور، وإقامة سُلطة تكفل القضاء على الخداع، وأن تُقيم في كلِّ مجال من الأنظمة ما يجعل الجميع — مهما كانت استعدادتهم الشخصية — يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الخاصة. صحيح أنَّ الضرورة قد دفعت الناس إلى بناءِ جهودٍ كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولكن لم يحدُث مُطلقًا أن وصلت الأمور إلى حالةٍ أصبح فيها تهديد المواطنين لسلامة الدولة أقلَّ خطورةً من تهديد الأعداء الخارجِيِّين، أو أصبح فيها من يُمثِّلون السلطة العليا يخشَون المواطنين أقلَّ مِمَّا يخشَون الأعداء الخارجيين. وأبلغ دليل على ذلك هو الإمبراطورية الرومانية، التي كانت دائمًا تنتصِر على أعدائها، ولكن هزمها مواطنوها مرَّاتٍ عديدة ووضعوها في أسوأ المواقف، وخاصَّةً في الحرب الأهلية بين فسباسيان وفتليوس. ويمكن الرجوع في ذلك إلى تاكيتوس الذي يصف في أول الكتاب الرابع من تاريخه مظهر المدينة المؤلم. وكذلك كان الإسكندر — على ما يقول كوينتوس كوريتوس في آخر الكتاب الثامن — يُفضِّل أن يمدحه أعداؤه على أن يمدحه مواطنوه؛ لأنه كان يظنُّ أن انهيار عظمته سيأتي على أيدي مواطنيه، وقد وجَّه إلى أصدقائه هذا الرجاء خشيةً من أن يَلقى هذا المصير: «لو أمَّنتموني على مؤامرات الداخل ومكائد أعواني لواجهتُ مخاطر الحروب والمعارك دون تهيُّب. ولقد كان فيليب أكثر أمانًا في ميدان المعركة منه في المسرح، فقد نجا من ضربات الأعداء، ولكنه لم يستطِع أن يتجنَّب ضربات أعوانه. ولو أحصيتُم من بين الملوك الآخرين الذين لَقُوا حتفَهم غِيلة، أولئك الذين قتَلَهم مواطنوهم، فستجدونهم أكثرَ ممَّن لَقُوا حتفهم على أيدي الأعداء» (انظر كوينتوس كوريتوس، الكتاب ٩: ٦). ولهذا السبب حاول الملوك الذين اغتصبوا السلطة قديمًا أن يُؤمِّنوا أنفسهم بإقناع شعوبهم بأنهم من سُلالة الآلهة الخالدة، وكانوا يعتقدون أنه لو عدَّهم رعاياهم وجميع الناس آلهةً لا بشرًا مِثلهم فسيرضَخُون لإرادتهم، ويخضعون لهم بسهولة. وهكذا أقنع أوغسطس الرومان بأنه سليلُ أنياس، الذي كان يعتقده الناس ابنًا لفينوس ويَعُدُّونه من بين الآلهة، وكان يريد «أن يعبُده الناس ويقيموا له في المعابد صورة مقدسة وكهنة كبارًا وصغارًا» (انظر تاكيتوس، الحوليات، الكتاب الأول). وقد عظَّم الناس الإسكندر بوصفه ابن جوبتر، ويبدو أنَّ ذلك لم يكن عن غرورٍ منه، بل عن رغبةٍ في التحوُّط كما يدلُّ على ذلك ردُّه على هجوم هرمولاوس عليه، فقال: «إنه لمُضحِك حقًّا أن يطلُب مِنِّي هرمولاوس أن أكفر بجوبتر الذي اشتُهرتُ بفضل نبوءته، أو يظنُّ الناس أني المُسيطِر على إجابات الآلهة. لقد اعطاني جوبتر اسم الابن وقد قَبِلتُه (لاحظ ذلك جيدًا) لمصلحة الأعمال التي أقوم بها، ولقد شاءت السماء أيضًا أن يَظنُّوني في الهند إلهًا! إن الشهرة هي التي تُقرِّر مصير الحروب، وكثيرًا ما حلَّ الاعتقاد مكان الحقيقة» (انظر كوينتوس كويتوس، ٨: ٨). وبهذه الكلمات القليلة استمرَّ ببراعة في إقناع الجهلة بألوهيته المُدَّعاة، وفي الوقت نفسه كشف عن الدافع إلى هذا الادعاء. وقد فعل كليون هذا الشيء نفسه في خطابه إلى المقدونِيِّين، الذي حاول فيه إقناعهم بالطاعة امتثالًا لمَلِكهم، فبعد أنَّ مجَّد الإسكندر في حديثه، وأشاد بمزاياه، وألبَسَ الادعاء بذلك ثَوب الحقيقة، أخذ يُعدِّد مزايا هذا الموقف قائلًا: «لقد عبد الفُرس ملوكهم كما لو كانوا آلهة، لا بدافِعٍ من الدين فحسب، بل بدافعٍ من الفطنة. وأنا شخصيًّا سأركع على الأرض عندما يُعطي الملك إشارة بدء الحفل، ومن واجب الآخرين، وخاصةً الحُكماء منهم، أن يفعلوا مثلي» (المصدر نفسه، ٨: ٥). ولكن المقدونيِّين كانوا على قدْرٍ وافِرٍ من الوعي، ولا يمكن أن يقبَل الناس، ما لم يكونوا في إحدى درجات الهمجية، أن يُخدَعوا بمثل هذه الطريقة المكشوفة، وأن يتحوَّلوا من رعايا إلى عبيدٍ عاجزين عن تحقيق مصلحتهم الخاصَّة. ومع ذلك فقد نجح بعض الملوك بسهولةٍ أكبر في إقناع الناس بأنَّ لهم جلالًا يعلو على البشر، وبأنهم ظلُّ الله في الأرض، وبأنَّ الله هو الذي ولَّاهم دون اقتراعٍ عام أو مُوافقة الناس، وأنَّ هناك عناية خاصَّة تحفَظُه، وعونًا إلهيًّا يَحمِيه. وعلى المنوال نفسه وَجَد بعض الملوك وسائل أخرى لتأمين سلطتهم، ولكنِّي لن أتحدَّث عنها هنا لأنها خارجة عما أودُّ البرهنة عليه، وسأذكر فقط كما قلتُ من قبلُ الوسائل التي كشفها الوحي الإلهي لموسى.

لقد ذكرنا من قبل، في الفصل الخامس، أنَّ العبرانيين بعد خروجهم من مصر، لم يكونوا مُلتزمين بأي تشريعٍ لأُمَّة أخرى، وكان من حقِّهم أن يضعوا قواعد جديدة، ويحتلُّوا ما يشاءون من الأراضي؛ ذلك لأنهم بعد تحرُّرهم من اضطهاد المصريين الذي لا يُطاق، لم يعودوا مُرتبطين بأيِّ عقدٍ مع أيةِ سلطةٍ بشرية، واستعادوا حقَّهم الطبيعي على كل ما كان في نطاق قُدرتهم، وكان في استطاعة كل فرد منهم أن يتساءل من جديدٍ عمَّا إذا كان يودُّ الاحتفاظ بهذا الحق أو التخلِّي عنه وتفويضه إلى شخص آخر. واتباعًا لنصائح موسى، الذي كان لديهم أعظم قدْرٍ من الثقة فيه، قرَّروا الخروج من هذه الحالة الطبيعية التي وجدوا أنفسهم فيها، وتفويض كلِّ حقِّهم إلى الله وحده، لا إلى أية سلطةٍ بشرية. وهكذا فإنهم، دون تردُّدٍ، وبصوتٍ واحد، وعدوا الله بأن يُنفِّذوا أوامره، وبألَّا يعترفوا منذ ذلك الحين بأيِّ قانونٍ إلَّا ما يُقرِّره الله نفسه بوحيٍ نبوي، هذا الوعد، أو هذا التحويل للحقِّ إلى الله، قد تمَّ على النحو نفسه الذي ذكرْنا من قبل أنه يحدُث في حالة المُجتمع العادي، عندما يُقرِّر الناس التخلِّي عن حقِّهم الطبيعي، فقد تخلَّى العبرانِيُّون عن حقِّهم الطبيعي وفوَّضوه إلى الله (انظر الخروج، ٢٤: ٧)٦ وذلك بعهدٍ صريح وقسَم، أعطوهما بكامل حريتهم دون أن يكونوا قد خضعوا لقوة قاهرة أو للخوف من وعيد. ومن ناحية أخرى فإن الله، لكي يضمَن العهد ويجعله راسخًا آمِنًا من كل خداع، لم يُبرِم معهم شيئًا إلَّا بعد أن شرعوا بهذه القدرة العجيبة التي أمكن بفضلها وحدَها تحقيق الخلاص لهم في الماضي وفي المستقبل (انظر الخروج، ١٩: ٤-٥).٧ وإذن فاعتقاد العبرانيين بأنهم يحتاجون دائمًا في بقائهم إلى عناية القدرة الإلهية، هو الذي جعلهم يُفوِّضون الله كل قُدرتهم الطبيعية على البقاء، التي ربما كانوا يعتقدون قبل هذا التفويض أنهم هم الذين يملكونها. وبالتالي فوَّضوا له جميع حقوقهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت سلطة الحاكم عند العبرانيين لله وحده، وأصبحت الدولة التي قامت على هذا النحو هي وحدها التي تستحق، بفضل هذا العهد، اسم مملكة الله، كما أصبح الله يُسمَّى بحقٍّ ملك العبرانيين، وبالتالي كان أعداء هذه الدولة أعداء الله، كما أنَّ من أراد من المواطنين اغتصاب السلطة، أصبحوا مُدانين بجريمة الطعن في سُلطة الله العلية. وأخيرًا، أصبح تشريع الدولة هو مجموع قوانين الله وأوامره، في هذه الدولة، إذن كان القانون المدني والدين، الذي يتلخَّص كما رأينا في طاعة الله، شيئًا واحدًا. وبعبارة أخرى لم تكن عقائد الدين تعاليم بل مجموعة من القوانين والأوامر، وكانت التقوى تُعَدُّ عدالة، والفسوق جرمًا وإثمًا، فمن ترك دِينَه لا يعود مواطنًا، ويُصبح لهذا السبب وحده عدوًّا، ومن ضحَّى بحياته في سبيل الدين يكون شهيدًا للوطن، فلم يكن هناك أي فرقٍ بين القانون المدني والدين؛ ولذلك أمكن تسمية دولة العبرانيين بالحُكم الإلهي (تيوقراطية)؛ إذ إنَّ المواطنين لم يكونوا مُلتزمين بالخضوع لأي تشريع سوى ما أوحى الله به، ومع ذلك يجب القول بأنَّ هذا الوصف نظري أكثر منه واقعي، فقد احتفظ العبرانيون — كما سنُبيِّن فيما بعد — بحقِّهم في حُكم أنفسهم، ويَتَّضِح ذلك في الوسائل التي استُخدِمت والقواعد التي اتُّبِعت في إدارة الدولة، وهذا ما سأعرضه الآن.
إن العبرانيين لم يُخوِّلوا حقهم إلى شخص آخر، بل تخلَّى عنه الجميع كما هو الحال في النظام الديمقراطي، وصاحوا بصوتٍ واحد: «سنفعل كل ما يطلُبه الله منَّا.» (دون أي وسيط) وبناءً على هذا العهد ظلَّ الجميع مُتساويين تمامًا؛ فكان لهم جميعًا الحقُّ نفسه في مُخاطبة الله، وفي تلقي قوانينه وتفسيرها، وكانوا يُشاركون جميعًا بوجهٍ عام في إدارة شئون الدولة؛ ولهذا السبب كان الجميع، في البداية، يقصدون الله ليسمعوا أوامره، ولكنهم في أثناء هذه الحضرة الأولى فزِعوا فزعًا شديدًا، وآثار فيهم كلام الله من القلق ما جعلهم يظنُّون أن نهايتهم قد حانت، فتوجَّهوا إلى موسى للمرة الثانية وهم يرتجِفون وقالوا: «ها نحن قد استمعْنا إلى الله وهو يُحدِّثنا في النار، وليس هناك ما يدعونا لأن نرغَب في الموت. فهذه النار العظيمة ستلتهِمُنا يقينًا، وسنموت حتمًا لو سمِعْنا صوت الله مرة أخرى. وإذن فلتذهب أنت ولتستمِع إلى كلِّ ما يقوله الله لك وتُبلِّغُنا إياه (أنت لا الله) وسنُطيعُك في كلِّ ما سيقوله الله لك وسنعمل على تنفيذه.» وبهذا الكلام أبطلوا العهد الأول وفوَّضوا إلى موسى كليةً حقَّهم في التشاور مع الله وتفسير أوامره، ولم يعُدْ وعدهم مُنصبًّا على طاعة كل ما يبلغهم الله به، كما كان الحال من قبل، بل على كلِّ ما سيتلقَّاه موسى من الله (انظر التثنية، ٥: الوصايا العشر؛ ١٨: ١٥-١٦).٨ ومنذ هذه اللحظة كان لموسى وحده الحق في إعلان شريعة الله وتفسيرها، وكان وحده هو القاضي الأعظم الذي لا يحكُم عليه أحد، أيًّا كانت العظمة القصوى (لأنه وحده كان له الحقُّ في مُخاطبة الله وتبليغ الشعب ردوده وإجباره على تنفيذ أوامره). أقول: إنه كان هو وحده الذي يملك هذا الحق، لأنه لو كان أحد في زمن موسى قد أراد أن يُبشِّر بشيءٍ باسم الله لاتُّهم، حتى ولو كان نبيًّا حقيقيًّا، باغتصاب الحقِّ الأعظم (انظر العدد، ١١: ٢٨).٩
وفي هذا الصدد، ينبغي أن نلحظ أنه بالرغم من أن الشعب قد اختار موسى، فإنه لم يكن له الحقُّ في انتخاب خليفة له؛ ذلك لأنه، بعد أن فوَّض العبرانيون لموسى حقَّهم في مخاطبة الله، ووعدوا دون قيد أو شرط بأن يرَوا فيه مُتحدِّثًا باسم الرب، فقدوا بذلك جميع حقوقهم، وكان عليهم قبول من يختاره موسى خلفًا له، وكأنَّ الله هو الذي اختاره، ولو كان موسى قد اختار خليفةً له لأخذ على عاتقه مهمَّة إدارة شئون الدولة، أي كان من حقِّه وحدَه مُخاطبة الله في خبائه وبالتالي كانت لديه سلطة من القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب، وإقرار السلام، وإرسال السُّفراء وتعيين القضاة، واختيار خليفة له، أي بوجهٍ عام، القيام بجميع وظائف السلطة العُليا؛ لو كان قد فعل ذلك، لأصبح نظام الحكم مَلكيًّا، مع فارقٍ يَسيرٍ هو أن الملكية العادية تقوم على تنفيذ مشيئة إلهية خافية على الملك نفسه، على حين تقوم دولة العبرانيين أو يجِب أن تقوم طبقًا لمشيئة إلهية أُوحِيَتْ إلى الملك وحده، وهو فارق يزيد من سُلطة الملك وحقِّه على كل شيء ولا يُقلِّل منها شيئًا، أمَّا الشعب فإنه يكون في كلا النوعين من النظام الملكي خاضعًا، جاهلًا بالمشيئة الإلهية؛ إذ إنه في كِلتا الدَّولتين يعتمد كليةً على كلمة ذلك، ويُعلم منه وحدَه ما هو مشروع وما هو غير مشروع؛ إذ إن اعتقاد الشعب بأن جميع أوامر الملك قد ألهَمَتْهُ إياها المشيئة الإلهية من شأنه أن يزيد من خضوعه له، لا أن يُقَلِّله. على أنَّ موسى لم يخْتَر خليفةً له على هذا النحو، وترك لخُلفائه دولةً تُدار شئونها بطريقة لا يمكن وصفُها بأنها نظام شعبي أو أرستقراطي أو ملَكي بل هي نظام تيوقراطي، فقد كان حقُّ تفسير القوانين وتبليغ ردود الله متروكًا لسلطة شخصٍ واحد، وحقُّ إدارة شئون الدولة حسب القوانين التي تمَّ تفسيرها والردود التي تَمَّ تبليغها على هذا النحو متروكًا لشخص آخر (انظر في هذا الموضوع سفر العدد (٢٧: ٢١)).١٠
ولكي يتَّضِح ذلك سأعرض بطريقة منهجية طريقة إدارة جميع شئون الدولة. أولًا، أُمِر الشعب ببناء مسكن كان بمثابة بلاطٍ لله، وهو السلطة العليا لهذه الدولة. وكان من الطبيعي ألا يتحمَّل فرد واحد بعَينِهِ تكاليف هذا البناء، بل يتحمَّلُه الشعب كلُّه حتى يكون المسكن الذي يتمُّ فيه التِماس المشورة من الله ملكًا للجميع. وقد اختِير اللاوِيُّون لخدمة هذا البلاط الإلهي وإدارته، واختِير هارون أخو موسى ليكون رئيسًا لهم، ونائبًا للملك الإله، ثُمَّ يخلفه في ذلك أبناؤه خلافةً شرعية. وإذن، كان هارون، وهو أقرَبُ العبرانيين إلى الله، هو المُفسِّر الأعظم للقوانين الإلهية، وهو الذي يُعطي الشعب ردود النبوَّة الإلهية، وهو الذي كان يتوجَّه أخيرًا بتضرُّعاته إلى الله من أجل الشعب، ولو كان له، بالإضافة إلى ذلك، حقُّ الأمر بما يُريد لَمَا أصبح ينقصه شيء ليكون ملكًا مُطلقًا، ولكنه لم يحصل على هذا الحق، وكان سبط لاوي كُلُّه مُستبعدًا بوجهٍ عام من الاشتراك في الحُكم إلى حدِّ أنه لم يكن له الحق، كباقي الأسباط في الاستحواذ على بعض المُمتلَكات ليستطيع على الأقل أن يرتزِق منها، فقد أمر موسى أن يقوم الشعب بسدِّ حاجاته المادية، على أنَّ هذا الوضع الخاص قد جلَبَ لهذا السِّبط احترامًا عظيمًا من الشعب، على أساس أنه هو وحدَه الذي وهب نفسه لله. ثانيًا، تكوَّن جيش من الأسباط الاثني عشر الآخرين، وصدر له الأمر بغزو بلاد الكنعانيين، وقُسِّمت الأرض التي تمَّ الاستيلاء عليها إلى اثني عشر قِسمًا بالتساوي، وتوزيعها بالقُرعة، وقد ساعدَهم في مهمَّتهم هذه يشوع والعازار كعب الأحبار. وبعد أن عُيِّن يشوع قائدًا عامًّا للجيش، أصبح له وحده الحقُّ في سؤال الله كلَّما ظهرَتْ مشكلات جديدة، ولكنه لم يعتزِل كموسى في خبائه أو في المظلَّة بل كان لا بُدَّ له من الاستعانة بوساطة كعب الأحبار الذي يسمع وحده ردود الله، ثُم يُصدِر يشوع الأوامر المُبلَّغة إليه من الحبر، ويدفع الناس إلى تنفيذها، ويبحث عن الوسائل اللازمة لذلك ويستخدمها، ويختار في الجيش العدد الذي يُريده من الرجال، ويرسل السفراء باسمه. وكان قانون الحرب رَهْن مشيئته، ولم يخلفه شرعًا أحد من بعده ولم يتمَّ اختيار أحدٍ إلَّا من الله مباشرةً، عندما كانت مصلحة الشعب كلِّه تتطلَّب ذلك. وفيما سوى ذلك نُقباء الأسباط الاثنا عشر يقومون بتنظيم شئون الحرب والسِّلم، كما سأُبَيِّن بعد قليل. وقد أمر موسى بالخدمة العسكرية للجميع من العشرين حتى الستِّين، وبتكوين الجيش من المواطنين فقط، ثُمَّ يُقسِم هذا الجيش يمين الولاء للدين، أي لله، لا للقائد العام أو كعب الأحبار؛ ولذلك سُمِّي جيش الله، وكتائبه كتاب الله كما سُمِّي الله عند العبرانيين إله الجيوش؛ ولهذا السبب كان تابوت العهد يُنصَبُ وسط الجُند في المعارك الكبرى التي يتحدَّد فيها مصير الشعب كلِّه بالنَّصر أو الهزيمة، حتى يبذُل الشعب قصارى جهده في المعركة، وكأنَّ الملك حاضر بينهم. ويكفي أن نتذكَّر وصايا موسى لخلفائه، لنفْهَم أنه عَيَّنَ موظفين في الدولة لا سادة لها؛ ذلك لأنه لم يُعطِ أحدًا حقَّ مُخاطبة الله وحده وأينما شاء، وبالتالي لم يُعطَ أحدٌ هذه السُّلطة المَهيبة التي كانت لموسى نفسه؛ سُلطة سَنِّ القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب وإقامة السلام، واختيار القائمين على تنظيم شئون الدين وأمور الدولة، وباختصار القيام بجميع مهام السلطة العُليا. صحيح أنَّ كعب الأحبار كان له الحقُّ في تفسير القوانين وفي تبليغ ردود الله، ولكنَّه لم يكن يقوم بذلك وقتما يشاء، كما كان الحال عند موسى، بل بناءً على طلب قائد الجيش أو الجمعية العليا أو السلطات المُختصَّة في الدولة.١١ وعلى العكس من ذلك كان القائد الأعلى للجيش والمجالس السياسية يستطيعون أن يُخاطبوا الله كما يريدون، ولكنهم لم يكونوا يتلقَّون ردًّا إلا عن طريق كعب الأحبار؛ ولذلك لم تكن كلمات الله على لسان الحبر أوامر كما كانت على لسان موسى، بل كانت مُجرَّد ردود، ولم تكن لها قوة الأمر والقرار إلَّا بعد أن يتلقَّاها يشوع والمجالس، هذا فضلًا عن أنَّ كعب الأحبار الذي كان يتلقَّى بنفسه من الله الردود الإلهية لم يكن يعتمد على أي جيشٍ ولم يكن له حقُّ إصدار الأوامر. وعلى العكس من ذلك لم يكن لمن يتمتعون بحقوق ملكية الأرض أي حق في وضع القوانين. ولنُضِف إلى ذلك أنه إذا كان موسى قد عيَّن كعب الأحبار في حالة هارون وابنه العازار، فإن أحدًا لم يعُدْ له، بعد موت موسى، أي حق في أن يختار حبرًا. وكان الابن يخلُف أباه شرعًا، كذلك عيَّن موسى القائد الأعلى للجيش وأضفى عليه صِفة القيادة بناءً على حقِّ موسى الذي فوَّضَه له، لا بناءً على حقِّ كعب الأحبار؛ ولهذا السبب فإنه عندما تُوفِّي يشوع لم يخَتَرْ كعب الأحبار أحدًا ليخلُفه، ولم يطلُب نقباء الأسباط من الله المشورة في تعيين قائد جديد لجميع الجيوش، بل احتفظ كلٌّ منهم بحقِّ يشوع على جيش سبطه كما احتفظ جميع النقباء بالحق نفسه على جيش العبرانيين كله. ويبدو أن العبرانيين بعد ذلك لم يكونوا في حاجة إلى قائد أعلى، إلَّا في الحالات التي كانوا يُوحِّدون فيها كل قواتهم لمحاربة عدوٍ مشترك. وقد حدث ذلك في زمان يشوع حين لم يكن لأي سبطٍ موطن دائم، وكانت ملكية الأشياء حقًّا مشاعًا بين الجميع، وفيما بعد، عندما تَمَّ تقسيم الأراضي التي استولى عليها الأسباط بحق الغزو وكذلك الأراضي التي كانوا يعتزمون غزوها، لم تَعُدْ هناك ملكية عامَّة مشتركة، ولم يعُدْ هناك، لهذا السبب ذاته، ما يدعو إلى وجود قائد عام، لأنه ابتداءً من هذا التقسيم أصبحت الأسباط المتميزة أقرب إلى الدولة الحليفة منها إلى الدولة الواحدة. صحيح أنه بالنسبة إلى الله والدين، كان يجِب النظر إلى العبرانيين على أنهم أُمَّة واحدة، أما بالنسبة لحقِّ كل سبطٍ على الآخر فقد كانوا أسباطًا مُتحالفة، شأنهم في ذلك (إذا استَثْنَينا المعبد المشترك)، شأن «دول الاتحاد الهولندي»١٢ السامية. والواقع أن تقسيم أية ملكية عامَّة إلى أجزاء، معناه أن يمتلِك كلُّ فرد نصيبه وحده، وأن يتخلَّى الآخرون عما كان لهم من حقٍّ فيه؛ ولذلك عَيَّن موسى نقباء للأسباط، حتى يتفرَّغ كل منهم بعد التقسيم لتنظيم شئون نصيبه أي ليضطلع بمهمة استشارة الله في شئون سبطه، على لسان كعب الأحبار، وقيادة جيشه، وتأسيس المدن وتحصينها، وتعيين القضاة فيها، ومُحاربة عدو دولته الخاصة، وتنظيم شئون الحرب والسِّلم بوجه عام. ولم يكن كلُّ نقيبٍ مُلزمًا بالاعتراف بأي حَكَم سوى الله، أو على الأقل نبي بعثَهُ الله بالفعل.١٣
فإذا لم يقُم نقيب سبطٍ ما بواجباته نحو الله، كان على باقي الأسباط ألا تُعامله على أنه من بين الرعايا، بل إنَّ عليها مُحاربته وكأنه عدو نقض عهدًا أخذه على نفسه. وفي الكتاب أمثلة كثيرة على ذلك، فبعد موت يشوع خاطب أبناء إسرائيل الله، ولم يُخاطبه قائد الجيش، وعندما علم أنَّ على سبط يهوذا مُهاجمة عدوه أوَّلًا، تحالف مع سبط شمعون وحدَه لتوحيد قُوَّاتِهما ضِدَّ العدو، ولم تدخُل باقي الأسباط هذا الحلف (انظر القضاة، ١: ١–٣)،١٤ ويروى في الإصحاح نفسه أيضًا أنَّ كلَّ سبطٍ حارب العدو بمُفردِه وقبل التسليم أو الخضوع مِمَّن أرادوا ذلك، مع أنَّ الأوامر الأصلية كانت تقضي بإبادة جميع الأعداء بلا رحمة، وعدم التفاوُض معهم على أي شرطٍ من الشروط. صحيح أن السِّبط الذي كان يقترف هذا الإثم، كان يُوجَّه إليه اللوم، ولكنَّه لم يكن يُدان، فلم يكن ذلك دافعًا كافيًا لكي تتطاحَنَ الأسباط في حربٍ بينها ويتدَخَّل كلُّ سبطٍ في شئون الآخر. وعلى العكس عندما أهان سِبط بنيامين الأسباط الآخرين وقطع العلاقات السِّلمية التي تربِطُه بهم، بحيث إن الأسباط الحلفاء لم تَعُدْ تجد فيه حليفًا يُعتمَد عليه، نشبَتِ الحرب، وبعد المعركة الثالثة انتصر الأسباط الآخرون وقتلوا، طبقًا لقوانين الحرب، جميع أبناء بنيامين، المُذنِبين منهم والأبرياء، ثُمَّ ندِموا على هذه الجريمة بعد فوات الأوان وحزِنوا عليها.
هكذا أثبتْنا بالأمثلة، على نحوٍ قاطع، ما قُلناه فيما يتعلق بحق كل سبط. وقد يسألني سائل: من الذي كان يُعيِّن خليفة نقيب كلِّ سبط؟ الواقع أني لم أجِد في الكتاب جوابًا يقينيًّا في هذا الموضوع، ولكنِّي أفترِض أنَّ أكبر المشايخ سنًّا كان له الحقُّ في خلافة نقيب السبط، نظرًا إلى أن كل سبط كان مُقسَّمًا إلى أُسَر يُختار شيوخها من بين المُسنِّين في الأُسْرة، وقد اختار موسى من بين المشايخ سبعين مُعاونًا له كانوا يكوِّنون معه المجلس الأعلى، وقد أطلَقَ الكتاب اسم الشيوخ على من تولَّوا إدارة شئون الدولة بعد موت يشوع، وكان لفظ الشيوخ يُستعمل دائمًا عند العبرانيين للإشارة إلى القُضاة، وهو أمر يعلمه الجميع ولا شكَّ. وفضلًا عن ذلك فلا يُهمُّنا كثيرًا، بالنسبة إلى مقصدنا، أن نعرف معرفةً يقينية تعيين نقباء الأسباط، بل يكفي أن أكون قد بيَّنتُ أن أحدًا بعد وفاة موسى لم يقُم بكلِّ مهام السلطة العليا، فلما لم يكن تصريف الأمور العامة في دولة العبرانيين يعتمد على مشيئة إنسان واحد، أو مجلس واحد، أو حتى على الشعب نفسه، وكان بعض منها من اختصاص سبطٍ ما والبعض الآخر من اختصاص باقي الأسباط، وكان لجميع الأسباط الحقوق نفسها، فإنه يتبيَّن من ذلك بوضوحٍ تام أن نظام الحكم بعد وفاة موسى لم يكن ملكًا ولا أرستقراطيًّا ولا شعبيًّا، بل كان حكمًا للسلطة اللاهوتية (ثيوقراطيًّا) كما قلت من قبل (وذلك للأسباب الآتية):
  • (١)

    كان المعبد هو المقر الملكي للدولة، وبالنسبة إليه وحده، كان جميع أفراد الأسباط كلهم مواطنين في دولة واحدة كما بيَّنَّا من قبل.

  • (٢)

    كان على جميع المواطنين أن يُقسِموا يمين الولاء لله حاكمهم الأعظم (وهو وحده الذي وعدوه بالطاعة المُطلَقة في كل شيء).

  • (٣)
    كان الله وحده هو الذي يختار عند الحاجة قائدًا أعلى.١٥
وقد تنبأ موسى بذلك للشعب صراحةً باسم الله (التثنية، ١٧: ١٥)١٦ كما يشهد بذلك أيضًا اختيار جدعون وشمشمون وصموئيل، وهو أمر لا يترُك مجالًا للشكِّ في أنَّ القواد المُخلصين الآخرين قد اختيروا بالطريقة نفسها، حتى ولو لم يكن ذلك قد ذُكِر في تاريخهم.

والآن علينا أن نبحث كيف نجح نظام الحكم الثيوقراطي في تخفيف حدَّة انفعالات الحكام والمحكومين على السواء، بحيث لم يُصبح المحكومون عُصاةً ولا الحُكام طُغاة.

إذا ارتكب الذين يَحكمون دولةً ما أو الذين يرأسونها جُرمًا ما، فإنهم يُحاولون دائمًا إخفاءه تحت ستارٍ من القانون، وإقناع الشعب بأن سلوكهم جدير بالثناء، وهم ينجحون في ذلك بلا عناء لأنهم هم وحدَهم الذين لهم الحقُّ في تفسير القانون، ومن ثَمَّ فإنهم يستغلُّون هذه الميزة في ارتكاب كلِّ أفعالهم المُغرِضة، وكل ما تدفعهم الشهوة إليه. وعلى العكس تُحَدُّ حريتُهم المُطلقة في السلوك لو كان هناك شخص آخر له حقُّ تفسير القوانين، وخاصَّةً إذا كان التفسير المقترح صحيحًا لا يمكن أن يُنازِع فيه أحد. ويتبيَّن من ذلك بوضوحٍ تامٍّ أنَّ أحد الدوافع القوية لعددٍ كبير من الجرائم التي يرتكبها الأمراء، لم يكن قائمًا عند العبرانيين:
  • أولًا: لأنَّ حقَّ تفسير الشريعة كان متروكًا بأسره للَّاويِّين وحدهم (انظر التثنية، ٢١: ٥)١٧ الذين لم يكونوا يشاركون في أي تنظيم سياسي، ولم يكن لهم حقُّ الملكية، وكان كلُّ ما يتمتعون به من امتياز واحترام مُستمَدًّا من تفسيرهم الصحيح للقوانين.
  • ثانيًا: لأنه كان على الشعب كله، تطبيقًا لأوامر الله، أن يجتمِع مرةً كلَّ سبع سنوات في مكانٍ مُحدَّد، لكي يتلقَّى من الحبر معلوماتٍ عن الشريعة، كما كان على كل فرد أن يقرأ باستمرارٍ سِفر الشريعة ويعيد قراءته (انظر: التثنية، ٣١: ٩ وما بعدها؛ ٦: ٧)،١٨ بحيث كان على الرؤساء، حرصًا على مصلحتهم الخاصة، أن يَعملوا على تصريف الشئون العامة طبقًا للقوانين التي سُنَّتْ من قبل، والتي كان الجميع يعرفونها معرفةً لا بأس بها، وذلك إذا أراد هؤلاء الرؤساء أن يكونوا مَوضِع أعظم احترام من الشعب، الذي كان يُبجِّلهم، عندما يتوافَر فيهم هذا الشرط، باعتبارهم رُسل مملكة السموات وخُلفاء الله. أما إذا لم يتوافر فيهم هذا الشرط (أي إذا خرَقوا القوانين) فلم يكن من المُمكن أن يَسْلَموا من كراهية الرَّعيَّة لهم (وهي أشد ألوان الكراهية، كما هي العادة في كلِّ كراهية لاهوتية) وهناك عامل آخر ساعد على منع نُقباء الأسباط من الاندفاع وراء أطماعهم، هو تكليف جميع المواطنين بالخدمة العسكرية (من العشرين إلى السِّتِّين بلا استثناء) وحظر استقدام النُّقباء للمُرتزَقة من الخارج، وكان لهذا الإجراء أثر كبير، إذ يحتاج الطُّغاة، من أجل قهْر الشعب، إلى جيشٍ يرتزِق منهم، فضلًا عن أن هؤلاء الطُّغاة لا يَخشَون شيئًا بقدْر ما يخشون جيشًا يتألَّف من مواطنين أحرار بذَلُوا شجاعتهم وجُهدَهم وأُريق دَمُهم في سبيل عزَّة الوطن وحريته؛ ولهذا السبب فإن الإسكندر عندما كان عليه محاربة داريوس للمرة الثانية، لم ينفجِر غضبًا على بارمينون بعد أن سمع منه نصيحته، بل غضب على بوليسبرخون، الذي أبدى رأي بارمينون نفسه؛ ذلك لأنه فيما يقول كوينتوس كوريتوس، (الكتاب الرابع: ١٣): «لم يجرؤ على توجيه اللَّوم مرة أخرى إلى بارمينون، بعد أن كان قد غضِب عليه من قبل غضبًا شديدًا، ولم يستطع القضاء على حُريَّة المقدونيين، التي كان يخشاها، إلَّا بعد أن أسَرَ من الجنود عددًا أكبر من المَقدونِيِّين، وأدخلهم في جيشه، بعد ذلك أطلَقَ لانفعالاته العنان، بعد أن كانت حُريَّة فضلاء المواطنين قد كبَتَها طويلًا. فإذا كانت حُريَّة الجيش المُؤلَّف من مواطنين تسطيع أن تكبَحَ جماح انفعالات رؤساء دولة أقامها البشر، وهم الذين اعتادوا أن يَحتفِظوا لأنفسهم بكل أمجاد النصر، فإنَّ تأثيرها ولا شكَّ كان أعظم بكثيرٍ على رؤساء العبرانيين الذين حارب جنودهم في سبيل المجد الإلهي، لا مجد أحد الرؤساء، ولم يكونوا يبدءون معركةً قبل أن يستشيروا الله ويسمعوا إجابته.
    ولنُضِف إلى ذلك ثانيًا أن نقباء الأسباط لم يرتبطوا فيما بينهم إلا برباط الدين المشترك، فإذا بدأ أحدهم في التخلِّي عنه والنَّيل من حق الفرد الإلهي،١٩ كان من حق الآخرين القضاء عليه وكأنه عدو.
  • ثالثًا: يجب أن نذكُر أيضًا الخوف من ظهور نَبيٍّ جديد، فقد كان يكفي أن يأتي إنسان معروف بالشَّرَف ويُبرهِن ببعض الآيات الصحيحة على نُبوَّتِه ليكون له حقٌّ مُطلَق في إعطاء الأوامر بوصفه مُمثِّلًا لله الذي تكشَّفَ له وحده، مثل موسى لا بوصفِه مُمثلًا لله بتوسُّط الحبر على طريقة الأسباط. ولا شكَّ أن أمثال هؤلاء الأنبياء كانوا يستطيعون بسهولةٍ اكتساب ثِقة الشعب المُضطَهَد وإقناعه بكلِّ ما يُريدون بآياتٍ يسيرة. وعلى العكس إذا استطاع النقيب أن يُنظِّم الشئون العامَّة باستقامةٍ أمكَنَهُ أن يتدخَّل في الوقت المناسب وأن يجعل النبيَّ يَمثُل أمام محكمته، حتى يعلم بأنه كان يعيش عيشةً شريفة حقًّا، وإن كان قد تلقَّى بالفعل آياتٍ على بِعثته، وإن كان ما يقوله وما يدَّعي أنه من عند الله مُتَّفِقًا مع العقيدة الدينية الموروثة ومع التشريع الوطني العام، فإن لم تكن للآيات القِيمة المطلوبة، أو كانت التعاليم بِدعة، كان من حقِّ النقيب الحُكم عليه بالموت، وإلا تمَّ الاعتراف بالنبي، على ألا يكون ذلك إلا بناءً على سلطة النقيب وبشهادته.
  • رابعًا: لم يكن نقيب السِّبط يَفضُل مواطنيه في النبل والعظمة أو في أي حقٍّ موروث، بل كان يُعهَد إليه بحكم الدولة نظرًا لسِنِّه وفضيلته وحدهما.
  • وأخيرًا: نلحظ عند العبرانيين أن النقباء والجُند لم يكن من الممكن أن يُفضِّلوا الحرب على السلم، فقد كان الجيش — كما قُلنا من قبل — مُكوَّنًا من المواطنين وحدهم، وكانوا هم أنفسهم الذين يتولَّون أمور الحرب والسلم، فمن كان جنديًّا وقتَ الحرب كان مُواطنًا عاديًّا في الحياة المدنية، ومن كان ضابطًا آمرًا، كان قاضيًا في دائرته، أمَّا القائد الأعلى فكان قاضي قُضاة المدينة. فلم يكن من المُمكن إذن أن يرغب أحدٌ في الحرب من أجل الحرب، بل لإقامة السلام وللدفاع عن الحرية. والأرجَحُ أن نقيب السبط كان يتجنَّب بقدْر ما يستطيع أيَّ تغيير في النظام القائم، حتى لا يتوجَّه إلى الحبر ويُهين كرامته.
هذه هي الأسباب التي منعت النُّقباء من الخروج على حدِّ الاعتدال. ولنبحث الآن في الكيفية التي تمَّ بها ضبْط انفعالات الشعب، وهو بِدَوره أمرٌ تُبيِّنُه لنا أُسُس التنظيم الاجتماعي بوضوح، فحتى لو ألقَينا على هذه الأسس نظرةً عابرة لوجَدْنا أنها كان لا بُدَّ أن تبُثَّ في قلوب المواطنين حبًّا فريدًا لوطنهم، يستحيل عليهم معه التفكير في خيانته أو التخلِّي عنه، بل لقد تعلَّق الجميع به إلى حدِّ أنهم كانوا يُفضِّلون الموت على أية سيطرة أجنبية عليهم. فالواقع أنهم بعد أن فوَّضوا حقَّهم إلى الله واعتقدوا أنَّ مملكتهم مملكة الله، وأنهم وحدَهم أبناء الله، وأن الشعوب الأخرى أعداء الله؛ ولهذا السبب كانوا يُكنُّون لهذه الشعوب كراهية شديدة (وهي كراهية كانت تبدو لهم علامَةً على التقوى، انظر: المزمور ١٣٩: ٢١-٢٢).٢٠ وكانوا يشعرون بفزعٍ شديدٍ إزاء فكرة التعهُّد بالولاء للأجنبي أو وعْده بالطاعة، ولم يكن هناك أشنع أو أبغض، في نظرَهم، من خيانة وطنهم، أي مَملكة الله الذي يعبدونه، وكانت مُجرَّد الإقامة في أرضٍ أجنبيَّة تبدو لهم عارًا، لأنه لم يكن يسمح لهم بإقامة شعائر دِينهم، التي هم أحرَصُ الناس عليها، في أيِّ مكانٍ آخر؛ ولهذا السبب أيضًا كانوا يرَون أرض وطنهم مُقدَّسة وكلَّ أرض أخرى دَنِسة لا قُدسيَّة فيها. ومن هنا فإن داود عندما اضطرَّ إلى هجْر وطنه، ندب على حالِهِ أمام شاءول قائلًا: «إن كان من يُحنقوك عليَّ بشَر فعليهم اللعنة لأنهم يَسلُبون مِنِّي مِيراثي الإلهي وينزعونني منه ويقولون لي: اذهب واعبُد آلهةً أجنبية.» لذلك لم يُحكَم على مواطن بالنفي مُطلقًا، وهذا أمر يجِب ملاحظته جيدًا؛ لأنَّ من يرتكب جرمًا كان في نظرهم يستحقُّ العقاب، لا العار، لذلك لم يكن حُبُّ العبرانيين لوطنهم مجرَّد حب، بل كان تقوى تُحيِيها العبادة اليومية وتُغذِّيها، كما تُثيرها في الوقت نفسه كراهيَّتُهم للشعوب الأخرى، بحيث أصبحت هاتان العاطِفتان طبيعةً ثانية عند العبرانيين. الواقع أن شعائر الدين العبري لم تكن تختلف عن شعائر باقي الأديان فحسب بحيث يشعُر المؤمنون بأنهم مُختلفون كلَّ الاختلاف عن غيرهم، بل كانت مُناقِضة لها أشدَّ التناقُض، وقد كان لا بدَّ أن يتولَّد عن العار الذي كانوا يُلحِقونه بالأجنبي كلَّ يوم، كراهيةً شديدة له، كانت أشدَّ تملُّكًا لقلوبهم من أيَّةِ عاطفة أخرى، وهي كراهية تتولَّد عن الإيمان والتقوى، بل كانت هي نفسها تُعَدُّ تقوى، وتلك بحقٍّ هي أقوى أنواع الكراهية وأشدُّها تأمُّلًا. ولقد كان يتمثَّل في هذه الحالة بدورها ذلك العامل المألوف الذي كان يزيد من حدة الكراهية على الدوام، وأعني به الكراهية المُتبادَلة والمُتأصِّلة التي كانت تُكنُّها الشعوب الأخرى بدَورها للعبرانيين. كلُّ هذه الظروف مُجتمِعة؛ أعني حُريَّة المواطنين في الدولة إزاء غيرهم من المواطنين، والولاء للوطن، والحق المُطلَق ضدَّ الأجنبي، وإباحة الكراهية الشديدة لكلِّ من هو غير يهودي وجعلِها واجبًا مُقدَّسًا، والتميُّز بالعادات والشعائر. أقول: إنَّ هذه الظروف كلُّها قد ساعدت على تثبيت قلوبهم، بحيث تعلَّم المواطنون أن يتحمَّلوا دائمًا بصبرٍ وشجاعة في سبيل وطنِهم أيَّ امتحان. وهذا أمر يُوضِّحه لنا العقل وتشهد به التجربة. وطالما كانت مدينتهم قائمة لم يستطِعِ العبرانيون الخضوع طويلًا للأجنبي، حتى تعوَّد الناس تسمية أورشليم بالمدينة المُتمرِّدة (انظر: عزرا، ٤: ١٢، ١٥)٢١ فلم يستطِعِ الرومان بسهولةٍ هدْم الدولة العبرية الثانية (التي كانت على أكثر تقديرٍ ظلًّا للدولة الأولى، بعد أن سلَبَ الأحبار حقوق نُقباء الأسباط) ويشهد تاكيتوس على ذلك في الكتاب الثاني من تاريخه بقوله: «لقد انتصَر فسباسيان في حربه ضِدَّ اليهود، ولكنه لم يستطع اقتحام أورشليم، فقد كانت تلك مهمَّةً صعبة وشاقَّةً، ويرجع ذلك إلى الاستعداد النفسي الخاص للشعب وشدَّة تعصُّبه، أكثر مِمَّا يرجع إلى قواته الحقيقية الباقية المُحاصَرين لمواجهة ضرورات الموقف.» وبالإضافة إلى هذا الباعث، الذي يختلف تقديره من فردٍ لآخر، كان هناك باعثٌ آخر فريد له في الدولة العبرية أعظم الأثر في تثبيت نفوس المواطنين، في المحافظة عليهم من أي ضَعف أو رغبة في هجْر وطنهم، وأعني به عامل المنفعة الذي يُعطي الأفعال الإنسانية قوَّتَها وحياتها. ففي هذه الدولة كان للمصلحة الخاصَّة أهمية فريدة؛ إذ لم يكن المواطنون في أيِّ مكانٍ آخر يملِكون أموالهم عن حقٍّ مضمون بقدْر ما كانوا يَملكونها في هذه الدولة، فقد كان نصيب كلٍّ منهم من الأرض والحقول مُساويًا لنصيب النقيب، وكان كلٌّ منهم هو السيد الدائم لأرضه، فإذا اضطُرَّ أحد بسبب الفقر إلى أن يبيع مُمتلكاته أو حقَّه رُدَّت إليه الأرض في وقت العِيد (اليوبيل)، وكانت هناك أنظمة أخرى من هذا النوع تمنع من سلْب أحد نَصيبَه المُعتاد من المُمتلكات. وكان الفقر مُحتملًا في هذا البلد أكثر منه في أيِّ بلدٍ آخر؛ إذ كان الإحسان للآخرين أي للمواطنين عملًا صالحًا يتقرَّب به الناس إلى الملك الإله. وإذن فلم يكن في استطاعة العبرانيين أن يعيشوا سُعداء خارج وطنهم، إذ كانوا مُعرَّضين لجميع ألوان العوز والخزي في كل مكان. ومما كان له أكبر الأثر في ربطهم بأرض الوطن، وفي حثِّهم على تجنُّب الحرب الأهلية وكل أسباب الشقاق، أنَّ أحدًا لم يكن سَيِّدًا للآخر، بل كان الله سيِّدًا للجميع، وكان حبُّ المواطنين والإحسان إليهم أفضلَ مظاهر التقوى، وكان يُقوِّي من هذا الحبِّ كراهيتهم للشعوب وكراهية الشعوب لهم. وفضلًا عن ذلك فقد كانت الطاعة نتيجة للنظام الصارم الذي نشئوا عليه؛ فقد كانت جميع أفعالهم خاضعة لأحكام الشريعة، ولم يكن حرث الأرض مُصرَّحًا به في كلِّ الظروف، بل في أوقاتٍ مُعيَّنة وفي سنواتٍ مُعيَّنة فقط، وبمواشٍ من نوعٍ مُعيَّن، كذلك لم يكن البذر والحصد مسموحًا بهما إلَّا بطريقةٍ مُعيَّنة وفي وقتٍ مُعين. وبوجهٍ عام كانت حياة العبرانِيِّين كلها طاعة مُستمرَّة (انظر في هذا الموضوع الفصل الخامس عن فائدة الشعائر)، ونظرًا إلى اعتيادهم هذه الحياة فإنَّها لم تَعُد في نظرِهم عبودية، بل بدَتْ لهم هي والحُريَّة شيئًا واحدًا، بحيث لم يَعُد الممنوع مرغوبًا فيه من أحد، بل أصبح الفعل الذي يُؤمَرون به هو وحده المرغوب. وذلك كان التزامهم بأيام الراحة والمُتعة الدورية في الجيش طاعةً لله لا إمتاعًا لأنفسهم، وكانوا يَحلُّون ضيوفًا على الله ثلاث مرَّاتٍ سنويًّا (انظر التثنية، ١٦)،٢٢ كما كان عليهم التوقُّف عن العمل والإخلاد إلى الراحة في اليوم السابع، وفي مناسباتٍ أُخرى لم تكن المُتَع البريئة وإقامة المآدب مُصرَّحًا بها فقط بل كانت مفروضة بالأمر، ولا أعتقد أنَّ هناك تدابير أكثرَ فاعلية من هذه في التأثير على قلوب الناس، فليس هناك شيء أقوى تأثيرًا في النفس من الفرَح المُنبعِث من الإيمان، أي من الحُبِّ والإعجاب.٢٣ ومع ذلك لم يكن هناك خوف من أن يَنتابهم مَلَل التكرار المُستمرِّ لأنَّ الشعائر الخاصة بأيام العيد كانت نادرة ومُتنوِّعة. يُضاف إلى ذلك احترامهم الشديد للمعبد فكانوا يُحافظون عليه بدافعٍ ديني نظرًا إلى الطابع الفريد الذي كانت تتَّسِم به شعائره والطقوس الواجب اتِّباعُها حتى يُسمَح بالدخول فيه. وحتى في أيامنا هذه، ما زال ينتاب اليهود فزَعٌ شديد كُلَّما قرءوا قصة تدنيس منسي للمعبد٢٤ عندما تجرَّأ وأقام فيه صنمًا، ولم يكن الشعب أقلَّ احترامًا للقوانين التي كانوا يحتفظون بها بعناية وبدافعٍ ديني في المِحراب الأكثر أمنًا. ولذلك قلَّ الخوف من القلاقل الناجمة عن انتشار الأحكام المُسبَقة بين الشعب، ولم يَجرُؤ أحدٌ على أن يُصدِر حكمًا على الأمور الإلهية، بل كان على الجميع أن يُطيعوا كلَّ ما أمر الله به، إما بناءً على سُلطة الردِّ الخاص الذي يبعَثُ به الله، وإما بناءً على سلطة الشريعة التي أوحى بها الله منذ القِدَم، دون إعمال للعقل.
أظنُّني الآن قد عرضتُ المبادئ الأساسية لهذه الدولة عرضًا واضحًا، وإن كان مُوجزًا، ولم يبْقَ لنا إلَّا أن نعرف الأسباب التي من أجلها لم يُحافِظ العبرانيُّون في كثيرٍ من الأحيان على الشريعة،٢٥ والتي جعلتهم يقَعُون مراتٍ عديدة تحت نَير الأجنبي حتى انهارت دولتُهم تمامًا في النهاية،٢٦ قد يُقال: إنَّ السبب في ذلك هو عصيان هذه الأمة، وهو قول صبياني؛ فلماذا كانت هذه الأُمَّة أكثر عصيانًا من الأمم الأخرى؟ لم تكن الطبيعة حتمًا هي السبب في ذلك؛ لأنَّ الطبيعة لا تخلق شعوبًا، بل أفرادًا٢٧ لا ينقَسِمون إلى شعوبٍ إلَّا لاختلافهم في اللغة والقوانين والعادات الموروثة، فالقوانين والعادات وحدَها هي التي تُعطي كلَّ أُمَّة طابعًا مُميزًا، ووضعًا خاصًّا، وأحكامًا مُسبَقَةً تنفرِد بها.
فإذا سلَّمنا بأن العبرانيين كانوا أكثر عِصيانًا من باقي البشر، فيجِب أن يرجِع ذلك إلى أوجهِ نقصٍ مُعيَّنة في قوانِينهم أو في عاداتهم الموروثة.٢٨ صحيح أنه لو كان الله قد أراد أن يُعطيهم دولة أكثر استقرارًا، لجعل لهم دستورًا مُختلفًا وقوانين مُغايرة، ولأَقام حُكمًا آخر، وهكذا نُضطرُّ إلى القول أنهم قد أغضَبوا إلَهَهم ابتداءً من التشريع الأول لا ابتداءً من تأسيس المدينة كما يظنُّ إرميا (انظر ٣٢: ٣١).٢٩ وهذا ما يؤكده حزقيال بقوله (٢٠: ٢٥): «فأعطيتُهم رسومًا غير صالِحة وأحكامًا لا يَحيون بها ونجَّستُهم بعطاياهم بإجازتهم في النار كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ لكي أُدمِّرَهم حتى يعلموا أني أنا الرب.»٣٠ ولكي نفهَم جيدًا هذه الكلمات، وسبب انهيار دولة العبرانيين، فلنتذكَّر أولًا أنَّ الهدف الأصلي كان قَصْر البعثة المُقدَّسة على الأطفال حديثي الولادة دُون تمييزٍ خاصٍّ للَّاويِّين (انظر العدد، ٨: ١٧)،٣١ ولكن بعد أن عبد الجميع العجل، باستثناء اللاويين، استُبعِد الأطفال حديثو الولادة، وأصبحوا يُعدُّون مُدنَّسين، وتمَّ اختيار اللاويين بدلًا عنهم (التثنية، ١٠: ٨).٣٢ والحقُّ أنني كلما فكَّرتُ في هذا التغيير وجدتُ نفسي أقول مع تاكيتوس: عندئذٍ لم يَعُد الله يهتمُّ بسلامة العبرانِيِّين، بل بانتقامه الخاص، وأكاد أُصعَقُ دهشة٣٣ عندما أتأمَّل شدَّة هذا الغضب الذي تملك رُوحَه السماوية (أي روح الله) بحيث جعله يضع القوانين إرضاءً لرغبتِهِ في الانتقام وعقابًا للعبرانيين، لا من أجل خلاص الشعب كله وسلامته وشرَفِه، كما جرَتِ العادة في وضع القوانين. وهكذا أصبحت هذه القوانين تبدو أقرب إلى التعذيب والعقاب منها إلى القوانين الفعلية، التي هي وسيلةٌ لخلاص الشعب. والحقيقة أن كلَّ الهباتِ التي كان العبرانِيُّون مُضطرِّين إلى إعطائها اللَّاويين والكهنة — وهي وجود فداء الأطفال حديثي الولادة، ودفع مبلغ من المال عن كل فرد في الأسرة للاويين، وأخيرًا تميُّز اللاويين على غيرهم بأنَّ من حَقِّهم وحدَهم دخول الأماكن المقدسة — كلُّ هذه دلائل مُتكرِّرة على تدنيس الشعب ونبْذِ الله له. وفضلًا عن ذلك، كان اللَّاويُّون ينتهِزون كلَّ فرصةٍ ليُشعِروا العبرانِيِّين بعارهم. ولا شَكَّ أنه كان هناك، من بين خُدَّام المعبد من اللَّاويِّين الذين يُعدُّون بالآلاف، بعض الكهنة المُنافِقين، مِمَّا جعل الشعب يُراقِبُ بدقَّة أفعال اللاويين، وهم بَشَر على أية حال، ويُلقي عليهم جميعًا أي ذنبٍ يرتكبه واحد منهم. وهذا سبب استمرار القلاقل المُتوالية بين الشعب، والسأم الذي شعَرَ به وخاصةً في سنوات القحْط، من إعانة هؤلاء العاطِلين المكروهين الذين لا تَربِطُهم بهم أية قرابة، فلا عجَبَ إذن إن كان الشعب، في فترات الهدوء التي لا تظهر فيها مُعجزات صارخة أو رجال ذوو سلطة فائقة، يستسلم لغضبِهِ وأطماعه الشديدة، فيفقد أولًا حمِيَّته الدينية، ثم يتخلَّى عن ممارسة عبادة دِينية هي حقًّا إلهيَّة، ولكنه يراها مصدرًا لإذلاله، بل موضوعًا لارتِيابه، وسُرعان ما تتَّجِهُ رغبته إلى البحث عن عبادة أخرى، ولا عجب إن كان النُّقباء، في بحثهم الدائم عن وسيلة للتقرُّب إلى الشعب وإبعاده عن الحبر، لكي يحصلوا وحدَهم على حقوق الحكام، يرضخون لرغبات الشعب، ويُقدِّمون له عباداتٍ جديدة. ولو كانت دولة العبرانيين قد قامت كما أراد مُؤسِّسها الأول لكان لجميع الأسباط الحق نفسه، والشرف نفسه، ولعَمَّ الأمان في كلِّ مكان، فمن الذي يرغب في التعدِّي على الحق المُقدَّس لأقربائه؟ وأي شيء يرغب فيه المرء أكثر من إطعام الآباء والإخوة والأقرباء بدافعٍ من الحمِيَّة الدينية. ومن تعلُّم تفسير القوانين منهم، وتلقِّي الردود الإلهية منهم؟ بهذه الطريقة؛ أعني لو كان لكلِّ سبطٍ الحق نفسه في تنظيم شئون الدين، كان من المُمكن ربط الأسباط فيما بينهم برباطٍ قوي. ولو كان قد تَمَّ اختيار اللَّاويِّين بدافعٍ غير الغضب والانتقام لَمَا كان هناك ما يُخشى منه، ولكن العبرانِيِّين — كما قُلنا من قبل — أغضبوا ربهم، وتركهم الله — حسب تعبير حزقيال — يُدنِّسون أنفسهم بقرابينهم التي يَفدُون بها كلَّ فتحٍ في الرحم حتى يستطيع إهلاكهم. وتؤيِّد الروايات التاريخية كل ما أقوله، فبمُجرَّد أن بدأ الشعب في التمتُّع بالراحة في الصحراء رفضَ عددٌ كبير من الناس — لم يكونوا مع العامَّة — امتياز اللاويين، وانتهزوا هذه الفرصة لكن يرَوا فيها دليلًا على أنَّ موسى لم يضع هذه التنظيمات المُختلفة بأمرٍ من الله بل بمَحْض خياله، ألم يُفضِّل سبطَهُ ويُعطي أخاه الحبروية إلى الأبد؟ وهكذا قامت جماعة منهم بثورة صاخِبة ضِدَّ موسى، مُطالِبين بمساواتهم جميعًا في القُدسية الدِّينية، ومُعترِضين بأنَّ تفضيله سبطًا على الآخرين فيه خرْق للشريعة، وعندما أخفَقَ موسى في تهدئة مُعارضيه بالحُجَّة العقلية التجأ إلى مُعجزة كان المفروض منها أي تؤدي إلى إعادة الإيمان، ولكنها أدَّت إلى هلاك الجميع، ونشأت عن ذلك فِتنة جديدة بين الشعب كله، عندما آمن الشعب بأنه هلك بحيلةٍ بارعة من موسى لا بأمر الله، وبعد مذبحةٍ كبيرة وظهور الطاعون، أدى الإعياء الذي تملَّكَهم إلى استتباب الهدوء بينهم، ولكن جميع العبرانيين أصبحوا يُفضِّلون الموت على الحياة، وهكذا خمَدَت الفِتنة دون أن يَعمَّ الوفاق ويشهد الكتاب على ذلك (التثنية، ٣١: ٢١)، فبعد أن تنبَّأ الله لموسى بتخلِّي الشعب بعد موته عن عبادة الله أضاف قائلًا: «لأنِّي عالِم بخواطرهم التي يُجرونها اليوم من قبل أن أُدخِلهم الأرض كما أقسمتُ.» وبعد ذلك بقليلٍ قال موسى للشعب: «لأني أعلم تَمرُّدَكم وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمرَّدتُم على الربِّ فكيف بعد موتي؟» وكلُّنا نعلم أن ما تنبَّأ به موسى هو الذي حدَث، فقد أدَّت التغيرات الكبيرة والإباحية المُطلقة والتَّرَف والإهمال إلى انهيارٍ عام في الدولة، حتى وَقَع العبرانيُّون مرَّاتٍ عديدة تحت نَير الأجنبي، فنقضوا عهدهم مع الله بعد أن سقط حقَّه، وأرادوا لأنفسهم ملوكًا من البشر بحيث لا يعود المعبد مركز السلطة، بل البلاط، وبحيث أصبح رجال الأسباط كلهم مواطنين، لا بسبب خضوعهم لقانون الله والحبروية، بل بسبب خضوعهم لملك واحد. وقد كان هذا التغيير سببًا قويًّا لوقوع فِتَن جديدة أدَّت إلى الانهيار التام للدولة؛ ذلك لأن الملوك لا يَقبلون مُطلقًا أن يحكموا حكمًا غير مأمون، ولا يَسمحون بوجود دولة مُستقلة داخل الدولة. صحيح أنَّ الملوك الأوائل المُختارين من بين الرعية كانوا راضين بما وصلوا إليه من مراتب الشرف، ولكن بمجرَّد اعتلاء الأبناء العرش خلفًا للآباء بحقِّ الوراثة، عملوا على إحداث تغييراتٍ تدريجية حتى يتمكَّنوا آخِر الأمر من الاستيلاء على حقِّ السلطة في الدولة كاملًا، ولكن سُلِب منهم قدْر عظيم من هذا الحق، ما دامت سلطتهم لم تمتدَّ إلى التشريع الذي كان الحبر هو الذي يُحافظ عليه في المحراب، وهو الذي يفسره للشعب؛ وعلى هذا النَّحو اضطُرَّ الملوك كباقي الرعية إلى احترام القوانين، ولم يكن لهم حقُّ نَسخِها أو وضع قوانين جديدة لها بالسلطة نفسها، والسبب الذي أدَّى إلى سلْب هذا الحقِّ منهم هو أنَّ قانون اللَّاويِّين كان يمنع الملوك والرعية على السواء — لأنهم دُنيويُّون — من رعاية شئون الدين. والسبب الأخير هو أن سُلطتهم لم تكن مضمونة أمام إرادة أي رجلٍ واحد يُعترَف به نبيًّا، ويستطيع بذلك القضاء عليها وعلى سيطرة الملك، وهو أمر كانت له أمثلة كثيرة، ألم يكن صموئيل يُعطي بكلِّ ثقةٍ أوامر مُلزِمة لشاءول؟ ألم ينتزِع منه النبي بكل سهولةٍ حقَّهُ في الحكم وأعطاه داود مُقابل خطأ واحد ارتكبه شاءول؟ لذلك كان عليهم الحذر من وجود دولة داخل الدولة، وكانوا يحكمون حكمًا محفوفًا بالخطر. ولكي يُقلِّل الملوك من خطورة هذين العاملين سمَحوا بأن تُخصَّص معابد أخرى لعبادة آلهة مُختلفة، بحيث لا يُسأل اللَّاويُّون في شيء، ثم حرَّضوا بعض الناس مراتٍ عديدة على التنبؤ باسم الله بحيث يُعارض هؤلاء المُتنبِّئون الأنبياء الصادقين. ولكن بالرغم من كلِّ هذه الجهود لم يُحقِّقوا غرَضضهم، فقد استعدَّ الأنبياء لكلِّ شيء، وكانوا ينتظرون الوقت المناسب، وهو وقت انتقال السلطة إلى ملكٍ جديد تكون سلطته ضعيفة، خاصةً وأن ذكرى الملك السابقة ما زالت حيَّة، فكان سهلًا على الأنبياء عندئذٍ، اعتمادًا على السلطة الإلهية، أن يدفعوا بشخصٍ حانقٍ على الملك ومعروف بشجاعته في الدفاع عن حقِّ الله إلى الاستيلاء على السُّلطة أو على جزءٍ منها. ولكن لم يستطِع الأنبياء بهذه الطريقة الوصول إلى شيء؛ فإذا كانوا قد نجحوا في القضاء على طاغية، فإنهم أخفقوا في القضاء على الدوافع الحقيقية للطغيان، فيظهر طاغية جديد بعد دفْع ثمنٍ باهظ من دماء المواطنين، ويستمرُّ الشقاق، وتتوالى الحروب الأهلية بلا انقطاع، وتبقى الدوافع نفسها المؤدية إلى خرق القانون الإلهي، ولا تختفي تمامًا إلا بعد انهيار الدولة نفسها.
نستطيع الآن أن نرى كيف أدخل الدين في مملكة العبرانيين، وكيف كان يُمكن لهذا النظام أن يستمرَّ إلى الأبد لو سمح له الغضب العادي للمُشرِّع٣٤ بالبقاء كما أنشأه من قبل. ولكن لَمَّا كان ذلك مُستحيلًا، فقد قضى على هذا النظام. ويُلاحظ، فضلًا عن ذلك، أنَّني لم أتحدَّث هنا إلا عن الدولة العبرانية الأولى، أما الثانية فكانت مُجرَّد ظِلٍّ لها، إذ اضطُرَّ شعبها إلى احترام تشريع الفرس بعد خضوعه لهم، وبعد تحرُّره استولى الأحبار على حقِّ نُقباء الأسباط وكانت لهم السُّلطة المُطلَقة، وهكذا تولدت عند الكهنة رغبةً قوية في الوصول إلى الحكم والحبروية على السواء. وهذا هو السبب في أنَّنا فضَّلنا عدم التوقُّف كثيرًا عند هذه الدولة. وسنتحدَّث في الفصول القادمة عمَّا إذا كانت الدولة الأولى، بما فيها من سمات افترَضْنا أنها كان يُمكن أن تجعلها باقية، يمكن أن تتَّخِذ أنموذجًا نُحاكيه الآن، أو أنَّ مُحاكاتها بقدر الإمكان دليل على التقوى.
وفي نهاية هذه المناقشة سأكتفي بإبداء ملحوظةٍ على موضوع أُثِير من قبل، فالنتيجة التي ينتهي إليها هذا الفصل كلُّه هي أنَّ الحقَّ الإلهي نتيجة لعهدٍ لا يُوجَد بدونه أيُّ حقٍّ إلَّا حقُّ الطبيعة؛ لذلك لم يكن للعبرانيين — بأمر دينهم — أي واجب مُقدَّس تجاه الشعوب الأخرى التي لم تُشارك في هذا العهد، بل كان واجبهم هذا يسري إلى مواطنيهم وحدهم.٣٥
١  انظر الهامش ٣، من رسالة في اللاهوت والسياسة.
٢  قد يُصيب القارئ بعض الملل من هذا الفصل ومن الفصل التالي لأنهما مُنصبَّان كليةً على التاريخ العِبري مع ذِكر كثيرٍ من التفصيلات، ولكن القارئ المُتخصِّص سيجد فيهما تحليلًا لغويًّا وتاريخيًّا لدولة العبرانيين على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية خاصَّةً وأنه من المُحتمل أن سبينوزا وضع فيهما أجزاء من «الهجوم» L’Apologie المفقود الذي كتَبَه دفاعًا عن التراث اليهودي. ويرمي سبينوزا إلى مُعارضة بعض اللاهوتِيِّين الهولنديين من أنصار كالفِن الذين يدَّعون أنهم أيضًا أحبَّاء الله وأصفياؤه ويُريدون إخضاع الدولة السياسية إلى العقائد اللاهوتية في الكتاب.
٣  يُحاول سبينوزا هنا تأكيد الحرية الفردية وفي الوقت نفسه المحافظة على سلامة الدولة.
٤   قرر جُنديَّان تحويل إمبراطورية الرومان وحوَّلاها بالفعل (تاكيتوس التاريخ، الكتاب الأول).
٥  زيادة في Ap.
٦  (الخروج، ٢٤: ٧): «وأخذ كتاب العهد فتلا على مسامع الشعب فقالوا كل ما تكلَّم الربُّ به نفعله ونأتمِر به.»
٧  (الخروج، ١٩: ٤-٥): ٤: «فقد رأيتم ما صنعتُ بالمصريين وكيف حملتُكم على أجنحة النسور وأتيتُ بكم إليَّ.» ٥: «والآن إن امتثلتُم أوامري وحفظتِم عهدي فإنكم تكونون لي خاصَّة من جميع الشعوب لأنَّ جميع الأرض لي.»
٨  (التثنية، ٥: ١–٥): ١: «واستدعى موسى جميع إسرائيل وقال لهم اسمع يا إسرائيل الرسوم والأحكام التي أتلوها على مسامعكم اليوم وتعلَّموها واحرِصوا أن تعملوا بها.» ٢: «إن الربَّ إلهنا قد بتَّ معنا عهدًا في حوريب.» ٣: «لا مع آبائنا قطع ذلك العهد بل معنا نحن الذين ها هنا اليوم كلُّنا أحياء.» ٤: «وجهًا إلى وجه كلَّمكم الربُّ في الجبل من وسط النار.» ٥: «وأنا قائم بين الربِّ وبينكم في ذلك الوقت لكي أُبلِّغكم كلام الربِّ إذ خِفتم من النار ولم تصعدوا الجبل فقال …»
(التثنية، ١٨: ١٥-١٦): ١٥: «يقيم لك الربُّ إلهك نبيًّا من بينكم من إخوتك مِثلي له تسمعون.» ١٦: «جريًا على كلِّ ما سألته الرب إلهك في حوريب في يوم الاجتماع قائلًا لا عدتُ أسمع صوتَ الربِّ إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلا أموت.»
٩   (العدد، ١١: ٢٨): «فأجاب يشوع بن نون وهو خادم موسى منذ حداثته وقال يا سيدي يا موسى كفهما.»
في هذا النص اتُّهم شخصان بالتنبُّؤ في المعسكر وقرَّر يشوع اعتقالهما، وما كان ليُقدِم على ذلك لو كان مسموحًا لكلِّ فردٍ دون أمرٍ من موسى بإعطاء إجابات الله، ولكن موسى فضَّل العفوَ من المذنبين وعاتب يشوع على نصيحته له بالاحتفاظ بحقِّه كحاكِمٍ في وقتٍ كان يشمئزُّ فيه من السلطة، وكان يُفضِّل فيه الموت على الحُكم وحده كما نرى ذلك في الآية ١٤ من الإصحاح نفسه وقال ليشوع: أتتحمَّس لي؟ ليت الله يرضى أن يجعل جميع أفراد الشعب أنبياء، أي ليتَ الله يرضى أن يُعطي حقَّ مُخاطبته للشعب بحيث تكون السُّلطة أيضًا للشعب. لم يخطئ إذن يشوع في حقِّ موسى، ولكنه أخطأ في عدَم مُراعاته للظروف؛ لذلك عنَّفَه موسى كما عنَّف داود أبيشاي Abisée الذي نصَحَه بقتل شمعي Shimhi بعد أن أذنب لطعنِهِ في السيادة (انظر صموئيل الثاني، ١٩: ٢٢-٢٣).
(العدد، ١١: ١٤): «لستُ أُطيق أن أحمل هذا الشعب كله وحدي لأنه ثقيل عليَّ.»
(صموئيل الثاني، ١٩: ٢٢-٢٣): ٢٢: «قال داود ما لي ولكم يا بني صروية حتى تكونوا على فُتَّانا اليوم؟ أفي هذا يُقتل أحد في إسرائيل؟ ألَعلِّي أجهل أنِّي اليوم قد صرتُ ملكًا على إسرائيل؟» ٢٣: «وقال الملك لشمعي إنك لا تموت وحلف له الملك.»
١٠   (العدد، ٢٧: ٢١): «يقف بين يدي العازار الكاهن حتى يطلُب له قضاء أوريم أمام الرب، بأمره يخرُجون، وبأمره يدخُلون، هو وجميع بني إسرائيل معه وكل الجماعة.»
يبدو لي أن المُفسِّرين يُسيئون ترجمة الآيات ١٩، ٢٣ من هذا الإصحاح، فلا تعني الآيتان ١٩، ٢٣ أنَّ موسى أوصى يشوع أو أمدَّه بتعليماته بل تَعني أنه جعلَهُ أو نصَّبَه قائدًا أعلى، وهذا شائع دائمًا في الكتاب، مثلًا في الخروج (١٨: ٢٣)، صموئيل الأول (١٣: ١٥)، يشوع (١: ٩)، صموئيل الأول (٢٥: ٣٠) … إلخ.
وكلما حاول المُفسِّرون فهم الآيتين ١٩، ٢٣ من هذا الإصحاح كلمة كلمة فإنهم يَزيدونهما غموضًا. وإني واثِق من أن أفرادًا قلائل هم الذين يعلمون مَعنيَيهما الحقيقِيَّين؛ إذن يظنُّ الغالبية أنَّ الله يأمر موسى في الآية ١٩ بتعليم يشوع أمام الجمعية، وأنه في الآية ٢٣ يضع يديه عليه ويعلمه، ولم يعلموا أن هذه الطريقة في الحديث شائعة عند العبرانيين لإعلان شرعية انتخاب الأمير وقيامه بمهام منصبه، فهكذا تحدث يترو عندما نصح موسى باختيار مساعديه الذين عاوَنوه في حُكم الشعب قائلًا: إذا فعلتَ ذلك فسيأمُرك الله وكأنه يقول: إنَّ سُلطته قوية وإنه يستطيع البقاء مُشيرًا بذلك إلى ما يقوله في الخروج (١٨: ٢٣)، وصموئيل الأول (١٣: ١٤؛ ٢٥: ٣٠)، ويشوع (١: ٩)؛ حيث يقول الله له: «ها أنا ذا قد أمرتُك فتشدَّد وتشجَّع وكأنَّ الله يقول له ألم أنصبك أميرًا؟ لا ترهَب ولا تفشَل لأنَّ الربَّ إلهك معك حيثما توجَّهت.»
(العدد، ٢٧: ١٩، ٢٣): ١٩: «وقفه بين يدَي العازار الكاهن والجماعة كلها.» ٢٣: «ووضع يديه عليه وأوصاه الربُّ على لسان موسى.»
(الخروج، ١٨: ٢٣): «فإن أنت صنعتَ هكذا وأمرَك الله بأمرٍ أمكنك القيام به وجميع هذا الشعب ينصرفون إلى مواضعهم بسلام.»
(صموئيل الأول، ١٣: ١٤): «وأما الآن فلا يدوم ملك لأنَّ الربَّ قد اختار له رجلًا على وفقِ قلبِهِ وأمرَه الربُّ أن يكون رئيسًا على شعبه لأنك لم تحفَظ ما أمرك الربُّ به.»
(يشوع، ١: ٩): «ها أنا ذا قد أمرتُك فتشدَّد وتشجَّع لا ترهَب ولا تفشَل لأن الرب إلهك معك حيثما توجَّهْت.»
(صموئيل الأول، ٢٥: ٣٠): «فليكن عندما يصنع الربُّ لسَيِّدي بحسب كلِّ ما تكلَّم به من الخير في حقِّك ويُقيمك رئيسًا على إسرائيل.»
١١  ينتقل سبينوزا من فترة إلى أخرى في تاريخ العبرانيين دون مُراعاة لتسلسل الحوادث مما يجعل مهمَّة القارئ صعبة في تتبُّعه ولكن الذي يُهِمُّ سبينوزا هو البرهنة على نظريته بالأمثلة من تاريخ العبرانيين دون أن يُحاول أيَّ سردٍ مُنظَّم له.
١٢  يتحدَّث سبينوزا في بعض الأحيان عن «دول الاتحاد الهولندي» أو «اتحاد الدول الهولندية» وأحيانًا أخرى عن «الدولة المُستقلَّة» (صاحبة السيادة) في إقليم هولندا وحده … وتجِد السُّلطة العليا في «دول الاتحاد الهولندي» صعوبةً في التوفيق بين مصالح دول الاتحاد لأنَّها لا تُمثِّل سلطة دولية، ولكنها مَثَل يُعطيه سبينوزا لإحدى صور الاتحاد الفيدرالي.
١٣   ينسب الأحبار إلى موسى خطأً تأسيس ما يُسمَّى عادة بالمحكمة العُليا Sanhédrin ويتفق مُعظم المسيحيين مع الأحبار في هذه التُّرَّهات نفسها. صحيح أن موسى اختار سبعين مساعدًا Coadjuteurs ليُعاونوه في تنظيم شئون الدولة لأنَّهُ لم يستطِع وحده القيام بمهام الشعب كله، ولكنه لم يضع قانونًا بتأسيس جماعة من سبعين عضوًا، بل على العكس أمر أن يقوم كلُّ سبطٍ في المدينة التي عيَّنَها الله له بتعيين قضاة للفصل في المُنازعات طبقًا للقوانين التي وضعها هو نفسه. فإذا حدَث أن ساور القضاة بعضُ الشكِّ في صحة القانون Droit كان عليهم استفتاء كعب الأحبار Le Souverain Pontif (أي المفسر الأعظم Le Suprême Interpréte للقوانين) أو قاضي القُضاة الذي كان يرأسُهم للفصل في المُنازعات طبقًا لتفسير كعب الأحبار. فإذا حدَث أن ادَّعى أحد القضاة عدَم التزامه بفتوى كعب الأحبار التي أخذَها عنه مُباشرةً أو التي نقَلَها إليه نقيب سِبطِهِ فجزاؤه القتل ويُعلن قاضي القضاة القائم بالعمل في ذلك الوقت إدانته (انظر التثنية، ١٧، ٦). وكان من الممكن أن يكون قاضي القضاة هذا مثل يشوع القائد الأعلى للشعب الإسرائيلي كله أو رئيس سبط فقد كان من حقِّه بعد التقسيم مُخاطبة كعب الأحبار في الشئون الخاصة لسبطه، في الحرب والسِّلم، والاستيلاء على المدن، وتعيين القضاة. وكان من الممكن أن يكون الملك الذي فُوَّضَت له جميع الأسباط أو بعضها حقوقها. وللبرهنة على ذلك يُمكنني الاستشهاد بأدلَّة كثيرة من روايات العهد القديم ولكني سأكتفي بشاهدٍ رئيس واحد، عندما اختار النبي شيلو Silo الملك ياربعام Iéroboan أعطاه بذلك حق استفتاء الحبر وتعيين القضاة وحصل بوجهٍ عام على حقوق الاثني عشر سبطًا، هذه الحقوق التي كان يحتفظ بها ياربعام Iéroboam على سبعين فقط، ولذلك استطاع ياربعام إقامة مجلس أعلى للدولة في مملكته كما فعل يوشافاط Josaphat ذلك في أورشليم (انظر أخبار الأيام الثاني، ١٩: ٨ وما بعدها) …
وممَّا لا شكَّ فيه أن ياربعام كان ملكًا بتفويض من الله وبالتالي لم يضطر رعاياه — بناءً على شريعة موسى — إلى الامتثال أمام ياربعام والاعتراف به قاضيًا أو الوقوف في المحكمة التي كوَّنها ياربعام في أورشليم والاعتراف به قاضيًا للقضاة. وبعد أن تجزَّأت دولة العبرانيين كانت هناك مجالس عُليا بقدْر ما كان هناك من دول منفصلة. فإذا أغفَلْنا تعدُّد الدول التي عاش فيها العبرانِيُّون وتصوَّرناها كلها في دولة واحدة فإنَّنا نقَعُ في مشكلاتٍ لا حلَّ لها.
(التثنية، ١٧: ١٢): «وأي رجل كان مُتجبِّرًا حتى لا يسمع من الكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك أو من القاضي فليقتُل ذلك الرجل واقلَع الشر من إسرائيل.»
(أخبار الأيام الثاني، ١٩: ٨): «وأقام يوشافاط أيضًا في أورشليم من اللاويين الكهنة ومن رؤساء آباء إسرائيل لقضاء الرب وللخصومة فأقاموا في أورشليم.»
ياربعام الأول هو مُؤسِّس مملكة إسرائيل وأول ملوكها (٩٣٥–٩١٠) وقد عينه سليمان مُفتشًا على المتطوِّعين لبناء ميلو Millo وبحركة رمزية أشار إليه النبي أحياس Ahias على أنه سيكون ملك أسباط الشمال في المستقبل، وعندما عَلِم سليمان بذلك نوى قتلَهُ فهرَبَ ياربعام إلى مصر وصاهَر فرعون ولكنه عاد عندما تَولَّى ياربعام مُلك شكيم وأصبح ملكًا على أسباط الشمال.
أما ياربعام فهو ابن سليمان وخليفته وأول ملوك يهوذا بعد الانفصال (٩٣٥–٩١٤) الذي أحدثه بتعصُّبه، وقد حاول توحيد المَملكتَين بالقوة، ولكن النبي شمعي Sheméi منعه من ذلك، وكان في صراعٍ دائم مع ياربعام مُنافِسه في الشمال ثُمَّ هزمه فرعون مصر واستولى على أورشليم.
أما يوشافاط فهو رابع ملوك يهوذا (٨٧١–٨٤٨) ابن أسا Asa وخليفته وزوج ابنه يورام من عتاليا ابنة أحآب فشَل في الحملة البحرية التي بدأها سليمان ورفض اقتراح أحزيا Ochozias لمعاونته من جديدٍ في ذلك وقد أقام مجلس دولة في أورشليم من الكهنة والعلمانيين حتى يعطي تفسيرًا صحيحًا للشريعة (أخبار الأيام الثاني، ٢٩: ٥–١١).
١٤  (القضاة، ١: ١–٣) ١: «وكان بعد وفاة يشوع أنَّ بَني إسرائيل سألوا الربَّ قائلين من مِنَّا يصعد في مُقدِّمتنا لمحاربة الكنعانيين؟» ٢: «فقال الرب: يهوذا يصعد لأني إلى يَدِه قد أسلمتُ الأرض.» ٣: «فقال يهوذا لشمعون أخيه اصعَد معي إلى ميراثي لنُحارب الكنعانيين وأنا أصعد معك أيضًا إلى ميراثك فانطلق شمعون معه.»
١٥  يذكر سبينوزا النقطة الثالثة مع الثانية بلا ترقيم.
١٦  (التثنية، ١٧: ١٥): «فأقم عليك ملكًا يختاره الربُّ إلهك من بين إخوتك نقيم عليك ملكًا وليس لك أن نُقيم عليك رجلًا أجنبيًّا ليس بأخيك.»
(التثنية، ١٨: ١٥): «يقيم لك الرب إلهك نَبِيَّك من بينكم من إخوتك مثلي له تسمعون.»
١٧  (التثنية، ٢١: ٥): «ثُمَّ يتقدَّم الكهنة بنو لاوي لأنَّ الربَّ إلهك إياهم اختار ليخدموه ويُبارِكوا باسم الرب وبكلامهم تُفصَل كل خصومة وكلُّ ضربة.»
١٨  (التثنية، ٣١: ٩–١٣): ٩: «وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الربِّ وسائر شيوخ إسرائيل.» ١٠: «وأمرهم موسى قائلًا في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال.» ١١: «حينما يأتي جميع إسرائيل ليتمثَّلوا لدى الربِّ إلهك في الموضع الذي يختاره تُنادي عليهم بهذه التوراة على مَسمعٍ من جميع إسرائيل.» ١٢: «اجمع الشعب الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في مُدُنك لكي يسمعوا ويتعلَّموا ويتَّقوا الربَّ إلهكم ويتحرَّوا العمل بجميع كلام هذه التوراة.» ١٣: «ويسمع بنوهم الذين لم يعلموا ويتعلَّموا مَخافةَ الرب إلهكم كل الأيام التي تَحيَونها في الأرض التي أنتم عابرون إليها الأردن لتَمتلِكوها.»
(التثنية، ٦: ٧): «وكرِّرْها على بنيك وكلِّمهم بها إذا جلستَ في بيتك وإذا مشيتَ في الطريق وإذا نمتَ وإذا قُمت.»
١٩  ليس نقيب السبط حاكمًا وليس مُشرِّعًا بل يخضع للقوانين فإنْ خرَقَها بالنسبة لمن يخضعون له فإنه ينقُض مِيثاقه مع الله ومع نقباء الأسباط الأخرى التي يَحقُّ لها مُعاملته كعدوٍّ كما يحقُّ لسِبطه الخروج عليها، ومن ثَمَّ تُحفَظ حقوق الفرد لأنه لا حاكم إلَّا الله.
٢٠  (المزمور ١٣٩ (١٣٨): ٢١-٢٢): ٢١: «ألم أبغض مُبغضيك يا رب ألم أمقُتْ مُقاوميك.» ٢٢: «بل أبغضتُهم بُغضًا تامًّا وصاروا لي أعداء.»
٢١  (عزرا، ٤: ١٢، ١٥): ١٢: «ليكن معلومًا لدى الملك أنَّ اليهود الذين خرجوا من عندك قد وفَدوا إلينا إلى أورشليم المدينة المُتمرِّدة الشقيَّة يَبنون أسوارًا وقد رَمَّموا أساسها.» ١٥: «ليبحث في سِفر آثار آبائك فتطلَّع في سفر التواريخ وتعلَّم أنَّ هذه المدينة مُتمرِّدة مُسيئة إلى الملوك والأقاليم، وأنهم قد أثاروا فيها شغبًا في قديم الدهر ولذلك خُرِّبَت هذه المدينة.»
٢٢  (التثنية، ١٦: ١٦): «ثلاث مرات في السنة يحضُر جميع ذُكرانك أمام الرب إلهك في الموضع الذي يختاره في عيد الفطر وفي عيد الأسابيع وفي عيد المظال ولا يَحضُروا أمام الرب فارغين.»
٢٣  Ethique III, déf. Io.
٢٤  انظر الهامش ٩، من الفصل العاشر.
٢٥  عرض سبينوزا مبادئ الحُكم عند العبرانيين كما يجِب أن تكون أي الدولة التيوقراطية. ولكن حدَث في التاريخ شيء مُخالف فقد ضاعَتِ الدولة التيوقراطية المثالية بسبب امتيازات طبقة الكهنوت، وبالتالي تُمثِّل مِثل هذه الطبقة خطورةً كبيرة على سلامة الدولة، فقد أدَّت امتيازات اللَّاويِّين إلى تكوين دولة مَلَكية وهم أصحاب السلطة فيها وانتهت هذه السلسلة بمُنازعة الكهنة والأنبياء لها حتى قضَتِ الحروب الداخلية نهائيًّا على كيان الدولة.
٢٦  من المُحتمل أن يكون هذا الجزء من الهجوم الذي كتَبَه سبينوزا من قبلُ ضِدَّ السلطات اليهودية كما تقتَرِح مادلين فرنسيس لتفسير انتقال سبينوزا من وَصفِ الدولة المثالية إلى وصْفِ الدولة التاريخية. ولكن هاجم سبينوزا في الوقت نفسه الحزب الهولندي الذي يُهدِّد سلامة الدولة والبروتستانتية الكالفنية التي ورثَتْ فكرة الشعب المُختار وادَّعَتْها لنفسها.
٢٧  لا تخلُق الطبيعة أُمَمًا أو أجناسًا مُتفرِّقة ومن ثَمَّ يفسِّر سبينوزا تكوين الأجناس واختلافها بسلسلةٍ من الظروف العارِضة والتزاوُج والاختلاط.
٢٨  من المُحتمَل أنَّ سبينوزا هنا يُشير إلى اللَّعنة التي ألقاها الله على بني إسرائيل.
٢٩  (إرميا، ٣٢: ٣١): «لأن هذه المدينة كانت عُرضةً لغضبي وحنَقي من يومِ أن بَنَوها إلى هذا اليوم حتى أمحَقُها من أمام وجهي.»
٣٠  هذا هو نصُّ حزقيال كما يترجمه سبينوزا.
٣١  (العدد، ٨: ١٧-١٨): ١٧: «لأنَّ كُلَّ بِكر في بني إسرائيل من الناس والبهائم هو لي فإني يوم ضربتُ كلَّ بكرٍ في أرض مصر قدَّستُهم لي.» ١٨: «وقد أخذتُ اللَّاوِيِّين بدَل بكر.»
٣٢  (التثنية، ١٠: ٨): «في ذلك الوقت فرَزَ الربُّ سِبط لاوي ليَحموا تابوت عهد الرب ويَقِفوا أمام الربِّ ليخدموه ويُباركوا باسمه إلى هذا اليوم.»
٣٣  يستعمل سبينوزا هنا أسلوب السُّخرية أو إعلان رأيه على لِسان المُعارِض وهي الطريقة التي اتَّبَعها في دراسته الأولى L’Apologie من التراث اليهودي.
٣٤  يستمر سبينوزا هنا في سُخريته ويجعل غضب الله هو السبب في فَشَل نظام الحكم الإلهي (التيوقراطي).
٣٥  هل يقصد سبينوزا أنَّ الدين الإنساني الشامل مَرَّ بمرحلةٍ وطنية ناقصة وهي مرحلة العبرانيين، أم هل يستمرُّ في نقده لتاريخ اليهود القديم؟ على أية حال يُشير سبينوزا إلى أنَّ كل حروب اليهود الداخلية وتزَمُّتهم وتعَصُّبهم كان باسم عهدهم مع الله (سخرية ذات حدَّين).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤