الفصل الثامن عشر

استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها

مع أن النظام التيوقراطي للعبرانيين — كما عرَضْنا في الفصل السابق — كان يستطيع أن يبقى دوامًا،١ فلم يكن من المُمكن اتِّخاذه أنموذجًا في ظروف تاريخية أخرى وإلَّا خرج قصدُنا عن حدود العقل. فلو أراد بعض الناس تفويض حقِّهم لله وجَب عليهم عقْد مِيثاق صريحٍ مع الله كما فعل العبرانيُّون من قبل. فلا تكفي إذن مُجرَّد إرادة التفويض الجماعي للحق،٢ بل لا بُدَّ من إرادة الله الذي يُفوِّض له هذا الحق. على أن الله قد أوحى إلى الحواريين بأن حِلفَه لن يُكتَب بعد الآن بالمِداد أو على ألواحٍ مِن الحَجَر، بل بِرُوح الله في القلوب.٣ ثانيًا، لا يُلائم نظام الحكم التيوقراطي إلَّا شعبًا معزولًا يُريد أن يعيش دون علاقاتٍ مع الخارج مُغلقًا على نفسه داخل حدوده، ومُنفصِلًا تمامًا عن باقي العالم، لا شعبًا يدخُل بالضرورة في علاقاتٍ مع الشعوب الأخرى؛ لذلك لا ينطبِق هذا النظام إلَّا على نطاقٍ محدود للغاية، ومع ذلك فإنه لم يكن يصلُح أنموذجًا في عصرنا الحاضر، فسيظلُّ من الصحيح أنه يُقدِّم لنا بعض السِّمات التي يجدُر ذِكرُها ويحقُّ لنا أن نتَّخِذها مثلًا يُحتذى، ولكنه نظرًا إلى أنَّني لم أقصِد تناوُل مسألة الدولة صراحةً في هذا الكتاب — وقد نبَّهتُ إلى ذلك من قبل — وسأترك مُعظم هذه السِّمات جانبًا، ولن أذكُر منها إلَّا ما يتعلَّق ببحثي الخاص.
ألحظ أولًا أنَّ حكم الله لا ينبغي مُطلقًا تعيين سُلطة بشرية تتمتَّع بحقِّ السيادة المُطلق في المجال السياسي. فبعد أن فوَّض العبرانيون حقَّهم إلى الله، سلَّموا لموسى بحقٍّ مُطلَقٍ في إصدار الأوامر، وكانت له وحدَه سلطة وضع القوانين ونسْخِها واختيار القائمين على شئون الدين، وسلطة القضاء والتعليم والعقاب، أي بالاختصار، القيام بكلِّ أعباء الحُكم في جميع الميادين. ومن ناحيةٍ أُخرى لم يكن من بين اختصاصات القائمين على شئون الدين — مع أنهم مُفسِّرو القانون — ما يسمح لهم بالحُكم على المواطنين أو حرمان أحدهم من حقوقه الدينية، فذلك حقُّ القضاة والنقباء الذين اختارهم الشعب وحدهم (انظر يشوع، ٦: ٢٦، القضاة، ٢١: ١٨، صموئيل، ١٤: ٢٤).٤ وهناك ملحوظات أخرى كثيرة طريفة نستطيع استخلاصها من تاريخ العبرانيين ومصيرهم.
  • (١)
    لم تنشأ الفِرَق الدينية إلَّا في عصرٍ مُتأخِّر عندما أصبح للأحبار في الدولة الثانية سُلطة إصدار القرارات وتصريف شئون الدولة. ولكي يحتفظوا بهذه السلطة على الدَّوَام اغتصبوا لأنفسهم حق النقيب، وأرادوا أخيرًا تنصيب أنفسهم ملوكًا. ويسهُل معرفة السبب في ذلك؛ ففي الدولة الأولى كان من المُستحيل إصدار أي قرار باسم الحبر؛ لأنَّ الحبر لم يكن له حقُّ إصدار القرارات، بل كان حقُّه يقتصِر على إعطاء الردود الإلهية بناءً على طلب النقباء أو المجالس، وبالتالي لم يكن من المُمكن أن يتطلَّع الأحبار إلى اتِّخاذ قراراتٍ جديدة، بل كان جهدهم مُنصبًّا على تنظيم القرارات الموروثة وحمايتها، وكانت المُحافظة على القوانين من الفساد أفضلَ وسيلةٍ يملكونها للدفاع عن حُرِّيَّاتهم ضد النقباء. وعلى العكس من ذلك فإنهم، بمجرَّد تدخُّلهم في شئون الدولة، وممارستهم حق الرئيس بالإضافة إلى الحبروية، طمِحَ كلٌّ منهم في أن يشتهر اسمه في ميدان الدين وفي الميادين الأخرى، بحيث ينظم كل شيءٍ بسلطة الحبر، ويُصدِر كلَّ يوم قراراتٍ جديدة خاصةً بالشعائر والإيمان وبموضوعات أخرى، ويدعي أنها لا تَقِلُّ في قدسيتها وفي إلزامها عن قوانين موسى. ومنذ ذلك الحين بدأ الدين في التدهوُر حتى أصبح مُجرَّد خُرافة مشئومة، على حين فسد المعنى الحقيقي للقوانين وتفسيراتها الصحيحة. وفضلًا عن ذلك، ففي العصور الأولى بعد إعادة بناءً الدولة، بينما كان الأحبار يُحاولون شقَّ طريق للوصول إلى السلطة، أخذوا يوافقون على جميع أفعال عامَّة الشعب، تَودُّدًا إليها، ووافقوا على أبعد هذه الأفعال عن الدين، ووفَّقوا بين الكتاب وأسوأ العادات. ويشهد «ملاخي» على ذلك شهادةً صريحة، فبعد أن لام كهَنَة زمانه الذين سمَّاهم المفسدين باسم الله، واصل هجومه عليهم قائلًا: «لأن شفتَي الكاهن تَحفَظان العلم ومن فيه يَطلُبون الشريعة إذ هو ملاك ربِّ الجنود، أمَّا أنتم فعدلتُم عن الطريق وشكَّكتُم كثيرين في الشريعة ونقضْتُم عهد لاوي، قال رب الجنود» (ملاخي، ٢: ٧-٨). واستمرَّ في توجيه الاتهامات إليهم، قائلًا: إنهم يُفسِّرون القوانين كما يشاءون وكما يهوى البشر لا كما يُريد الله. ومِمَّا لا شكَّ فيه أن الأحبار لم يكونوا على قدرٍ من الفطنة يُمكنهم من تغطية سلوكهم بالنسبة إلى من هُم أكثر منهم ذكاءً. ومن هنا فقد تجرَّأ هؤلاء الأخيرون على القول بأنَّ القوانين المكتوبة هي وحدَها المُلزمة، أمَّا القراءات التي يُلحِقها الفريسيون، بسبب غفلتهم، بتراث القدماء٥ (يرى يوسف في تاريخ اليهود القديم أن مُعظم الفريسيين كانوا ينتسِبون إلى العامَّة)، فإنها لا تستحق التنفيذ. ومهما يكن من شيء، فلا يمكن إنكار أن التملُّق الشديد للأحبار، وفساد الدين والقوانين بعد أن تضخَّمت نصوصه بطريقةٍ مُذهلة، قد أدَّى إلى إثارة المُنازَعات المُتكررة والخصومات المستمرَّة، ودخل الناس في هذا الجدل بتعصُّبٍ شديد، مُستندِين في هذا الجانب وذاك إلى رجال القانون،٦ وصار من المُستحيل إرجاعهم إلى حدِّ الاعتدال، وأصبح الشقاق بين الفرق أمرًا حتميًّا.
  • (٢)
    يجب أن نلحظ أيضًا أن الأنبياء — وهم مُجرَّد رعايا عاديين — دفعوا الناس إلى التطرُّف أكثر ممَّا دفعوهم إلى الصلاح نتيجة للحريَّة التي استباحوها لأنفسهم في التعرُّض للناس وفي سبِّهم ولومهم، على حين أن الملوك استطاعوا، باستخدام سُلطتهم العادية، أن يحمِلوهم على التسليم لهم دون مقاومة تُذكَر، بل إن الأنبياء كثيرًا ما كانوا يُثيرون سُخط الملوك، حتى الأتقياء منهم، بسبب السلطة التي كان مُعترَفًا بها لهم في الحُكم على حُسن الأفعال وقُبحِها، وفي لَوم الملوك أنفسهم عندما يتعارض سلوكهم العام أو الخاص مع ما قرَّره الأنبياء، ويروي الكتاب أن الملك آسا٧ حكم طبقًا للشريعة الإلهية ولكنه وضع النبي حناني٨ في الطاحونة (انظر الأخبار الثاني، ١٦)٩ لأنه تجرَّأ على لومه علانيةً لومًا شديدًا للاتفاق الذي عقده مع ملك الأرمن. وهناك أمثلةٌ أخرى على أنَّ مثل هذه الحرية أضرَّت بالدِّين أكثر مِمَّا أفادته. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الحروب الأهلية التي نشِبت بسبب الحقوق المُفرطة التي كان الأنبياء يُطالبون بها.
  • (٣)
    ومما هو جدير بالملاحظة أيضًا أنه طوال فترة حُكم الشعب لم تنشب إلَّا حربٌ أهلية واحدة وانتهت دون أحقاد، وأشفق المُنتصِرون على خصومهم المهزومين إلى حدِّ أنهم ساعدوهم بكل الوسائل على استِرداد كرامتهم وقوَّتِهم الأولى، ولكن عندما استبدل الشعب — الذي لم يكن مُهيَّئًا للخضوع للسلطة الملكية — نظامًا ملكيًّا بالنظام الأول، توالَتِ الحروب الأهلية دون توقُّف ووقعت معارك رهيبة لم يحدُث مِثلها حتى ذلك الحين، فقد قتل مُحاربو يهوذا خمسمائة ألف إسرائيلي في معركة واحدة (وهو أمر لا يكاد يكون من الممكن تصديقه)، وفي معركة أخرى أباد مُحاربو إسرائيل بدورهم عددًا كبيرًا من سكان يهوذا (لا يَذكُر الكتاب العدد المضبوط) وأسَرُوا الملك، وهدَمُوا جُزءًا كبيرًا من حائط أورشليم، وسَلَبُوا المعبد كله (تعبيرًا عن غضبهم الذي لم يكن له حدود). وقد رجعوا بغنيمة عظيمة من إخوتهم بعد أن ارتَوَوا من دمائهم وأخذوا معهم رهائن، وتركوا الملك في مملكته الخَرِبة تقريبًا. وعندما وضعوا أسلحتهم، كان ذلك راجعًا إلى ضَعف يهوذا لا إلى ولائهم لها. وبعد ذلك ببضع سنوات بعد أن استعاد شعب يهوذا قوَّته، قامت معركة جديدة خرج بعدَها الإسرائيليون مُنتصرين، وفي هذه المرة قَتلوا مائة وعشرين ألف رجلٍ من يهوذا، وأسَرُوا مائتي ألف امرأة وطفل، وحصلوا مرَّة أخرى على غنيمة كبيرة. وبعد هذه المعركة وغيرها مما يُذكَر في تاريخهم الطويل، أُنهِكت قواهم، وانتهى بهم الأمر إلى أن وَقَعوا فريسة لأعدائهم. ثانيًا، لو أردْنا أن نحسب الفترات التي استطاع فيها السكان أن ينعموا بسلام دائم لوَجَدْنا هذا الاختلاف البيِّن نفسه، فقبل تنصيب الملوك، كان يحدُث في كثيرٍ من الأحيان أن تمضي أربعون سنة، ومرَّة ثمانون سنة (وهو أمر يدعو إلى الدهشة) في سلام دائم دون أن تنشب حرب أهلية أو خارجية، ولكن ما إنِ استولى الملوك على السلطة تغيَّر الوضع إذ لم تعُد الحربُ تُشنُّ من أجل إقرار السلام والدفاع عن الحرية، بل من أجل العظمة. وباستثناء سليمان (الذي كانت فضيلته، وهي الحكمة، تظهر وقتَ السِّلم أكثر مِمَّا تظهر وقت الحرب) اشترك الجميع في حروب، وكان طريق الوصول إلى العرش بالنسبة إلى مُعظمهم — ممن تملَّكتْهم شهوة الحكم — مفروشًا بالدماء. وأخيرًا ففي أثناء حُكم الشعب لم تفسد القوانين، وكانت تُطبَّق بحذافيرها، وكان يندُر قبل عصر الملوك أن يُحذِّر الأنبياء الشعب، وما كاد يتمُّ انتخاب الملك الأول حتى ظهر عدد كبير من الأنبياء رأوا أن من واجبِهم التدخُّل من أجل التحذير. فقد أنقذ عوبديا١٠ من المذبحة مائةً بعد أن خبَّأهم حتى لا يُلاقوا حتفَهم مع الآخرين. كذلك نجد أنَّ الأنبياء الكذَبَة لم يخدعوا الشعب إلَّا بعد أن تُرِكت مقاليد الدولة للملوك، والذين كان كثيرٌ من الأنبياء الكذَبَة يتملَّقونهم. وأخيرًا فإن الشعب، الذي اعتاد أن يتنقَّل بين روح التعالي وروح التواضع، حسب الظروف، كان يستطيع أن يُقوِّم نفسه بسهولة عندما تَحلُّ به المصائب، فيتوجَّه إلى الله ويعيد للقوانين حُرمتها، بحيث لا يتعرَّض لأي خطر. أمَّا الملوك، الذين اعتادوا الكِبر والغرور، فلم يكن في استطاعتهم أن يُطأطئوا رءوسهم دون إذلالٍ لأنفسهم؛ ولذلك تمسَّكوا برذائلهم حتى حلَّ الخراب الكامل بالمدينة.
ومن هذا كله يتَّضِح لنا الآتي:
  • (١)

    من الخطورة على الدِّين وعلى الدولة على السَّواء إعطاء من يقومون بشئون الدِّين الحقَّ في إصدار القرارات، أيًّا كانت، أو التدخُّل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المُقدَّمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك، في تعاليمهم وفي أدائهم لشعائر العبادة، بالتراث القديم الأكثر يقينًا والأوسع قَبولًا بين الناس.

  • (٢)

    من الخطورة أن نجعل القانون الإلهي مُعتمدًا على المذاهب التي تقوم على النَّظَر البحت، وأن نضَعَ القوانين على أساسٍ من الآراء التي هي على الأقلِّ موضوع خلافٍ دائمٍ بين الناس، فلا تخلو مُمارسة السُّلطة من أشدِّ ألوان العُنف في دولة يُنظَر فيها إلى الآراء التي هي حقٌّ للفرد لا يمكن انتزاعه منه، كما يُنظَر إلى الجرائم. في مِثل هذه الدولة تحكُم انفعالات الشعب الهوجاء عادةً؛ فقد حَكَم بيلاطس على المسيح بالصلب، وهو يعلَم أنه بريء مُسايرة منه لغضب الفريسيين، بعد ذلك شرع الفريسيُّون في إثارة الخلافات الدِّينية واتِّهام الصدوقيِّين بالفسوق حتى يسلُبوا أكثر المواطنين ثراءً ما يملِكون. وكذلك نرى في كلِّ عصرٍ المُنافقين وقد تملَّكَهم جنون مُشابِه — يُظهِرونه بمظهَر التحمُّس الشديد للحقِّ الإلهي — يَطعنون رجالًا يتَّسِمون بكلِّ سِمات الشَّرَف ومظاهر الفضيلة، ويَمقُتُهم عامَّة الشعب لهذا السبب ذاته، فيَحتِقرون آراءهم كأنها آراء شنيعة، يُثيرون ضِدَّهم غضب العامة الشديد. وليس من السهل القضاء على هذه الوقاحة التي لا حدَّ لها، لأنها تتستَّر وراء الدين، وخاصةً في بلدٍ يكون أصحاب السُّلطة العُليا فيه مسئولين عن ظهور فرقةٍ تدعو لعقيدةٍ لا تخضع لسُلطتِهم؛ إذ إنهم في هذه الحالة لا يُعدَّون مُفسِّرين للقانون الإلهي، بل أنصارًا لفرقةٍ دينية يكون دُعاتها وحدَهم مُفسِّري القانون الإلهي، وبالتالي تكفُّ العامة عن احترام سُلطة رجال القضاء بالنسبة إلى الأفعال التي يُوحي بها التعصُّب الديني، على حين يزداد احترامهم لسُلطة الفقهاء إلى حدِّ الاعتقاد بأن على الملوك أنفسهم أن يخضعوا لتفسيرهم. وتجنُّبًا لهذه الشرور لن تُوجَد وسيلة أفضل من النظر إلى التقوى والعبادة التي يفرِضها الدين على أنها تنحصِر في الأعمال وحدها؛ أي في مُمارَسة العدل والإحسان وترك كلِّ ما سوى ذلك لحُكم الفرد الحُر. وسنسهب في هذا الموضوع فيما بعد.

  • (٣)

    من الضروري الاعتراف للسلطة العُليا بالحقِّ في تقرير ما هو شرعي وما هو غير شرعي، وذلك تحقيقًا لمصلحة الدين والدولة على السواء؛ ذلك لأنَّ هذا الحق — حق تقرير الأفعال — عندما منح من قبل لأنبياء الله، أدَّى إلى إلحاق ضررٍ كبيرٍ بالدين والدولة على السواء. ومن ثَمَّ كان من الواجب، أو بالأحرى، ألَّا يُعطى من لا يعرفون التنبُّؤ بالمُستقبَل أو إجراء المُعجزات، وسنُعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل التالي كله.

  • (٤)

    وأخيرًا فإنَّ شعبًا لم يتعوَّد أن يعيش في ظلِّ حُكمٍ ملكي، وكانت له من قبل قوانين قائمة، يسوء حاله لو نُصِّب عليه ملك؛ فمن ناحيةٍ لا يستطيع الشعب أن يتحمَّل سُلطة قوية كهذه، ومن ناحيةٍ أخرى لا تسمح السُّلطة الملكية مُطلقًا بوجود تشريعٍ آخر (يُعبِّر عن حقوق الشعب) وضعَتْهُ سُلطة أقلُّ منها شأنًا، وبالتالي لن يأخُذ الملك على عاتقه حمايته، خاصَّةً وأن النُّظم لم تنُصَّ على وجود ملك، بل نصَّت فقط على الشعب وعلى الجمعية السياسية صاحبة السُّلطة العُليا. وهكذا فإنَّ الملك، إذا احترم قوانين الشعب القديمة، كان بالنسبة إلى شعبه أقرب إلى العبد منه إلى السيد، ومن هنا فإن الملك سيحاول، بمجرَّد تنصيبه، وضع قوانين جديدة وتغيير التشريع القائم في الدولة لمصلحته الخاصة، ووضع الشعب في مواقف يكون فيها النيل من مهابة الملك أصعبَ بالنسبة إليه من إضفائها عليه.

وفي مُقابل ذلك، لا يفوتني أن أذكُر أنه من الخطورة بالمقدار نفسه اغتيال ملكٍ حاكم، حتى لو ثبتَ على نحوٍ قاطع أنه طاغية؛ ذلك لأن شعبًا تعوَّد على الانضواء تحت السلطة الملكية والالتزام بها لا بدَّ أن يحتقِر حُكمًا أقلَّ منها سلطة ويسخَر منه، وبالتالي فإذا اغتيل أحد الملوك، وجَبَ على الشعب تعيين ملكٍ آخَرَ ليحلَّ محلَّه، كما كان يفعل الأنبياء من قبل، وسيُضطرُّ هذا الحاكم الجديد إلى أن يكون طاغيةً رغمًا عنه، فكيف يَثِقُ بمواطنين ما زالت أيديهم مُضرجة بدماء الملك المقتول، يَفتخرون باغتيال شخصية كبيرة وكأنَّهُ عمَلٌ مجيد، لا مَفرَّ لهم من أن يُعَدَّ عبرةً للملك الجديد. فإذا أراد أن يكون ملكًا حقًّا وألَّا يعترِف بأنَّ الشعب حاكِمه وسيده وألا تكون سُلطته مُعرَّضة للزوال فسيُضطرُّ إلى الانتقام لاغتيال الملك السابق ويُقدِّم إليهم، لمصلحتِهِ الخاصة، مثلًا آخَرَ في مُقابل المثل الذي قدَّموه حتى يُثنى عن أي تفكيرٍ في تَكرار جريمته. ولكن كيف ينتقِم لموتِ طاغيةٍ بإعدام بعض المواطنين إن لم يَسِرْ على نهج سابقه، ويُوافق على مَسلكه؛ أعني إن لم يقتَفِ أثره في كلِّ شيء؟ وهكذا يحدُث في كثيرٍ من الأحيان أن يتمكَّن الشعب من تغيير طاغية، ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يتخلَّص من الطغيان نفسه أو أن يستبدِل بالملكية نظامًا مُغايرًا. وقد أعطى الشعب الإنجليزي١١ مثلًا قريب العهد لهذه المأساة؛ فبعد أن بحث عن أسبابٍ يتذرَّع بها — تحت ستارٍ من القانون — لاغتيال الملك، تصوَّر أنه استطاع فعلًا أن يُغيِّر شكل الحكومة، ولكنه بعد إراقة الدماء لم يفعل إلَّا أن هتَفَ باسم ملكٍ جديد (وكأنَّ المسألة هي مُجرَّد تغيير الاسم). ولم يكن في مُتناوَل يَدِ هذا الملك الجديد، كي يبقى في الحكم، من وسيلةٍ إلَّا أن يستأصِل كُليةً سلالة الملك المخلوع، ويغتال أصدقاءه أو من يظنُّ أنهم أصدقاؤه ويقضي بالحرْب على الاضطرابات التي سببها الفراغ في وقت السلم، حتى تعيش العامَّة مع أفكارٍ جديدة وتنشَغِل بها عن اغتيال الملك. وبعد وقتٍ مُتأخِّر أدرك الشعب أنه لم يعمل شيئًا لخلاص الوطن، بل انتهك حقَّ مَلِكه الشَّرعي وغيَّر النظام الموجود بنظامٍ أسوأ منه. ومن ثم قرَّر — بعد أن عادت إليه حُرِّيته — أن يرجِع إلى الأوضاع القديمة، ولم يهدأ إلَّا بعدَ أن عاد كلُّ شيءٍ إلى سِيرته الأولى. وقد يَدَّعي أحد أنَّ الشعب الروماني يُعطينا مثلًا مُناقضًا، لأنه لم يَجِد أيَّ عناء في التخلُّص من طاغية، ولكنِّي أعتقد، بعكس ذلك، أنَّ هذا المَثَل يؤكد نظريَّتي كلَّ التأكيد؛ فقد استطاع الشعب الرُّوماني بمزيدٍ من السهولة التخلُّص من الطاغية واستبدال نظام الحُكم لأنَّ حقَّ اختيار الملك أو خلفائه كان يَرجِع إلى الشعب نفسه، بالإضافة إلى أنَّ هذا الشعب (الذي كان يتألَّف في مُعظَمِه من مُنشقِّين ومُثيرين للفتن) لم يتعوَّد على طاعة الملوك؛ فقد قُتِل من بين مُلُوكه الستة ثلاثة. وبالرغم من ذلك فإنَّ كل ما فعله هو أنه اختار بدلًا من طاغيةٍ واحد طُغاة كثيرين، أبقَوه بسبب الحروب الداخلية والخارجية في أسوأ حالات التمزُّق، حتى عادت السلطة أخيرًا إلى التركُّز في يدِ ملكٍ واحد، بعد أن تغيَّر اسمه فقط، كما هو الحال في إنجلترا.
أما جماعة الولايات الهولندية فهي على ما أعلم لم تعترِف بملوكٍ يتولَّون حُكمها، بل على أكثر تقدير اعترفت بحُكَّام (كونتات) لم يُفوَّض لهم حقُّ السلطة في أي وقت. وكما أعلنَتِ السُّلطات العُليا للولايات الهولندية١٢ في تصريح صدر في عهد الكونت ليسستر، فإنها احتفظت لنفسها بسلطة استدعاء «الكونتات» لخدمتها، واحتفظَتْ لنفسها دائمًا بالسُّلطة الضرورية للدفاع عن كرامتها وعن حُرية مواطنيها انتقامًا من «الكونتات» لو أنهم انساقوا في تيَّار الطُّغيان، وللسيطرة عليهم بحيث يَستحيل عليهم عمل شيءٍ دون تصريح الدويلات ومُوافَقَتها. ونتج عن ذلك أنْ ظلَّ حَقُّ السيادة العُليا في يدِ هذه الولايات، وعندما أراد آخر كونت اغتصاب هذه السيادة لم يستطع سلْبَها حقَّها واستعادت الولايات سُلطتها القديمة الضائعة.

هذه الأمثلة تؤكد نظريتي القائلة: إنَّ على كلِّ دولةٍ أن تحتفظ بنظام الحكم الذي يسود فيها، وإنَّ تغييره يؤدي إلى تعريضها للانهيار التام. هذه هي المُلاحَظات التي رأيتُ أنَّ مِن واجبي إبداءها في هذا الموضوع.

١  الحُكم الإلهي هو صورة الديمقراطية لشعبٍ مُتخلِّف كما أن الإيمان هو صُوَر الفكر للإنسان المُتخلِّف.
٢  يُخاطب سبينوزا البروتستانت الكالفنيين في هولندا ويُبيِّن لهم أنَّ عصر الحكم الإلهي قد انتهى إلى غير رجعة، ولم يعقِد الله الآن أيَّ حِلفٍ مع البشر لإقامة نظام مُعيَّن، ولم يَعُد نظام الحكم تقريرًا من الأنبياء بل في الرُّوح فحسب لكلِّ فردٍ يُريد الدخول فيه والانتساب إليه، ومن ثَمَّ انتهى عصر سُلطة الكهنوت.
٣  انظر الفصول من الفصل الثالث عشر حتى الفصل الخامس عشر لمعرفة هذا التفسير الرمزي للمسيحية.
٤  (يشوع، ٦: ٢٦): «ملعون لدى الرب الرجل الذي ينهَض ويبني هذه المدينة أريحا ببكره يُؤسِّسها وبأصغر بَنيه ينصِبُ أبوابها.»
(القضاة، ٢١: ١٨): «أما نحن فليس لنا أن نُزوِّجهم من بناتِنا لأنَّ بني إسرائيل حلفوا وقالوا ملعون من يعطي زوجة لبنيامين.»
(صموئيل الأول، ١٤: ٢٤): «وتضايق رجال إسرائيل في ذلك اليوم لأن شاءول حلف الشعب وقال ملعون الرجل الذي يذوق طعامًا إلى المساء حتى أنتقِم من أعدائي فلم يذق الشعب كلهم طعامًا.»
٥  لم يكن الفريسيون مُستنيرين وكان يمكن للكهنة المُبتدعين خداعهم وذلك بإعطاء قراراتهم سُلطة النقل والأثر، أما اليهود المُستنيرون فكانوا يرفُضون سلطة كل شريعة غير مكتوبة، وكانوا يُقاومون سُلطة الكهنة التي كانت تتملَّق العامَّة وتعتمد عليها، ومن ثَم يستحيل توكيل الكهنة في إدارة أي مرفق عام.
٦  في FM «السلطات العامة» بدل «رجال القانون».
يُبيِّن سبينوزا هنا خطورة ارتباط السلطات العامة في الدولة بإحدى الطوائف الدينية ويقصِد حِلف العائلة الحاكمة أورانج مع الكنيسة الكالفنية، كما يرفُض سبينوزا تحالُف أعداء العائلة الحاكِمة مع إحدى الطوائف الدينية المُتحرِّرة. ولا يُعلي سبينوزا في النهاية إلَّا من شأن شهيد الإيمان الحُر أي شهيد حُريَّة الفكر.
٧  آسا Asa هو ثالث ملوك يهوذا (٩١١–٨٧١) خلف أحيا وحكم أربعين عامًا وكان يهويًّا Yshviste مُخلصًا وأخرج من المعبد الإلهة الأنثى التي تقطُن بجوار يهوه وطرَد العاهرات المُقدَّسات وسحب من أُمِّه لقب (الملكة الأم)، لأنها كانت تؤيد الوثنية (الملوك الأول، ١٥: ١١–١٤). تحالف مع ابن حداد في سوريا وسجن النبي حننيا عندما عاتَبَه على ذلك (أخبار الأيام الثاني، ١٦: ٧–١٠) وهو من أسلاف يشوع (متى، ١: ٧-٨).
٨  انظر الهامش ١٨، من الفصل الثاني.
٩  (أخبار الأيام الثاني، ١٦: ٧–١٠): ٧: «في ذلك الوقت وفَدَ حناني الرائي على آسا ملك يهوذا وقال له من أجل أنك اتَّكلت على ملك آرام ولم تتَّكِل على الربِّ إلهك فرغت يدك من جيش ملك آرام.» ٨: «ألم يكن الكوشيون واللوبيون جيشًا كثيرًا بمراكب وفرسان كثيرة جدًّا فإذا اتكلت على الربِّ أسلمهم إلى يدك.» ٩: «فإن عيني الربِّ تجولان في جميع الأرض حتى يتشجع سليمو القلوب أمامه. فلقد فعلت بحماقة في هذا فمِن الآن تكون عليك حروب.» ١٠: «فغضب آسا على الرائي وجعله في القيود لأنه سخط عليه لأجل ذلك.»
١٠  انظر الهامش ٣٠، من الفصل الثالث.
١١  يُشير سبينوزا كثيرًا إلى السياسة الداخلية والخارجية لهولندا، وكذلك إلى الحوادث السياسية والخارجية المُثيرة للناس فلا يقصد سبينوزا تاريخ العبرانيِّين بقدْر ما يقصد الحوادث المُعاصِرة له.
١٢  يُحاول سبينوزا في هذه الفقرة رفض الحُجَّة القائلة بأن شعبًا تعوَّد على النظام الملكي — مثل الشعب الهولندي — يُخاطر كثيرًا إذا ما غيَّر نظامه وعزل مَلِكه بعد أن عزَل الهولنديون فيليب الثاني Philippe II ومطالبة البعض بتنصيب ملكٍ هولندي — في عائلة أورانج — بدل الملك الأجنبي. لقد تعوَّد الشعب الهولندي — في رأي سبينوزا — قبل حُكم فيليب على السُّلطة الجماعية التي اغتصَبَها الملك الطاغية ويُحاول بعض الشُّرَّاح جعل هذه الفقرة تبريرًا لحُكم جان دي ويت Jean de Wit لأن سبينوزا في «الرسالة السياسية» يَعتبِر نظامَه خطرًا على حرية الجماعة. ولأنَّ سبينوزا من أكبر المُتحمِّسين لمبدأ الجمعيات العامة صاحبة السيادة في الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤