ليس وفقًا للقواعد

حتى الغرباء عن مدينة لندن الكبيرة يرَون على جُدران بيوتها أثناءَ سيرهم فيها للمرة الأولى أسماءً كثيرةً مألوفة لهم منذ وقتٍ طويل. وقد أنفقَت الشركاتُ التي تحمل هذه الأسماءَ الكثيرَ من أموال الإعلانات لترسيخ نفسها في ذهن هؤلاء الغرباء. فقد كانت هذه الأسماء تظهر لهم منذ سنوات في الصحفِ والمجلات، وعلى لوحات الإعلانات واللافتات التي تحفُّ خطَّ السكة الحديدية، ولم يُولوها في ذلك الوقت كبيرَ اهتمام، إلا أنها انطبعَت في ذهنهم وظلت عصيةً فيه على الانمِحاء، فعندما يحتاجون إلى الصابون أو أقراص الدواء تنطلق شِفاهُهم على نحوٍ تلقائي تقريبًا بالأسماء التي ألِفَتها أكثرَ من غيرها. ولهذا السببِ تُنفَق الأموال بسخاء على الإعلانات، ولهذا السبب أيضًا تخرج إلى النور الكثيرُ من المطبوعات الممتازة.

عندما تتفكَّر في الأمر، يبدو غريبًا أن يكون وراءَ هذه الأسماء التي يُعلَن عنها بهذا السخاء رجالٌ حقيقيون، أي أن يكون هناك رجلٌ يُدعى سميث أو جونز تتحقَّق المعجزاتُ بفضل أدويته المحتفَى بها، أو يغسل صابونُه حتى الذنوبَ التي تستجلب وخزَ الضمير. وإذا سلَّمنا بوجود هؤلاء الأشخاص وشرَعْنا في سَبْرِ أغوارِهم، فهل لأحدٍ أن يتخيل أو يُصدق أن سميث الذي ارتبط اسمُه بالامتياز وتطوَّع آلافٌ ممن كانت تُؤرقهم الأدواءُ بالشهادة له، أو جونز الذي ينال الإعجابَ وتُحبه المدلِّلات لأنَّ صابونه يُحافظ على بشَراتِهن الجميلة، هو رجل له شغفٌ كغيره من الرجال، وتعتمل في قلبِه الكراهية، وتروقه أشياءُ ويمتعض من أشياء أخرى؟

هذا هو الحال في لندن، وإن استعصى ذلك على التصديق ظاهريًّا. ثَمة رجالٌ في المدينة لا يعرفهم أحدٌ على الإطلاق معرفةً شخصية، ومع ذلك تنتشر أسماؤهم في ربوع المكان أكثرَ من أسماء أعظم كُتَّاب الروايات، الأحياء أو الراحلين، ولهؤلاء الرجال مشاعرُ وكِيانٌ مثلنا.

كانت شركة دانبي آند سترونج مثالًا حيًّا على الوضع الآنفِ الذِّكْر. قد لا يعني اسمُها شيئًا لقارئ هذه السطور، لكنها كانت يومًا ما ذائعةَ الصيت تنتشر إعلاناتها انتشارًا واسعًا، ليس في إنجلترا وحدها بل في معظمِ ربوع العالم. لقد راجت تِجارتُها كما هو متوقَّع من أي شركة تُنفق مبالغَ طائلة على الإعلانات كلَّ عام. كان ذلك في زمن الياقات الورقية القديم. فقد كان أغلبُ الرجال في زمنٍ ماضٍ يرتدون ياقاتٍ ورقيةً، ولو أنعمَ المرءُ التفكير في الأمر، لوجدَ أن الغريب في حقيقة الأمر هو الاختفاء التدريجي لهذه التجارة؛ فقد ابتُلِيَت لندن منذ زمنٍ بعيد بمغاسلِ ملابسَ تتسم بتدنِّي مستواها ورداءة خدمتها، وما زال الوضع الآن كما هو. وإذا أخذنا ياقات دانبي آند سترونج كمثال، فسنجد أن إعلاناتها كانت تزعم أنها شبيهةٌ بالياقات الكتانية لدرجةِ أن أحدًا لا يمكنه التفريقُ بين النسيجَين باستثناء الخبراء. عاد الفضل في هذا الاختراع إلى سترونج. وقبل أن يخترع ما كان يُعرف بياقة بيكاديللي، كان للياقات الورقية لمعانٌ برَّاق لا تُخطئه عينُ وافدٍ جديد من أبعد مقاطعات البلاد. ثم اخترع سترونج طريقةً لإضافة طبقة رفيعة من الكتان فوق الورق، تمنحه مزيدًا من القوة فضلًا عن إعطائه مظهرَ الياقات الأصلية. كان بمقدور المرء شراءُ صندوق من الكرتون به دُزَينة من هذه الياقات نظيرَ مبلغٍ مقاربٍ لثمَنِ غسلِ نصف دُزينة من الياقات المصنوعة من الكتان. وزادت شعبية ياقات بيكاديللي التي تُنتجها شركة دانبي آند سترونج فجأة، ومن الغريب أن الياقات المصنوعةَ من الكتان تعافَت من الضربة القوية التي وجَّهَها لها هذا الاختراعُ المبتكَر.

من المفارقة أن مؤسِّسَي تلك الشركة كانا صديقَين مقربَين عندما كانت الشركة في طَور التأسيس والبحث عن موطئِ قدمٍ لها في السوق، لكن عندما ازدهرَت الشركة جاءت مع ازدهارها أسبابُ الخلاف، وأصبحت العلاقةُ بينهما متوترة، وهي الصفة التي تستخدمها الصحفُ للإشارة إلى العلاقة بين الدول المتحاربة. ولم يعرف أحدٌ ما إذا كان اللومُ يقع على جون دانبي أم ويليام سترونج في ذلك. كان لهما عددٌ من الأصدقاء المشترَكين الذين قالوا إنهما كانا رجلَين طيبين، ولكنهم كانوا أيضًا يقولون إن سترونج ودانبي لم يكن بينهما انسجامٌ طبيعي.

كانت ثورة سترونج عاصفةً إذا غضب، ولسانه بذيئًا جارحًا بوجهٍ عام. أما دانبي فكانت طباعُه أهدأ، لكنه اتسمَ بعنادٍ شديد لا يؤدي إلى إنهاء أيِّ خلاف. لم يجمَعْهما حديثٌ منذ مدَّة تَزيد عن العام، فقد تأزمَت علاقتهما حتى تسبب ذلك لشركتهما التي تحمل اسم دانبي آند سترونج في كارثة. وأبى كلٌّ منهما التراجع عن موقفه قِيدَ أنملة، فحلَّ الخراب على عملهما. عندما تشتد المنافسة لا يمكن لأحدٍ الصمودُ في وجهها في وجود تناحُرٍ داخلي. ظل دانبي مُصرًّا على موقفه في هدوءٍ وثبات، في حين هاج سترونج وماج وسبَّ ولعن وكان على القدْرِ نفسِه من الإصرار على عدم التراجع. وكَرِه كلٌّ منهما الآخرَ بمرارة بلغَت من شدتها أن أصبح كلٌّ منهما مستعدًّا لِخَسارة حصته في عمل تِجاري رائج، نكايةً في شريكه.

قد تخدع أيًّا منا المظاهر. فعندما يمشي المرءُ في شارع بيكاديللي أو ستراند أو فليت ستريت ويلتقي هنالك برجالٍ كثيرين متَّشِحين بملابسَ شديدةِ الهندام يعتمرون قبعاتٍ متألقةً طويلة وينتعلون أحذيةً لامعة ويبدو في طباعهم الودُّ وفي تعاملهم مع أقرانهم الكِياسةُ، قد ينخدع المرء بهم فيظنهم متحضرين. ولا يدرك أنه إذا استقصى أمرهم في الاتجاه الصحيح فسيكتشفُ عنهم من أوجه الشراسة ما قد يَلْقى استحسانَ الهنود الحمر. هناك رجالُ أعمال ذَوو سمعةٍ طيبة في لندن مستعدُّون لربط عدوِّهم في قضيبٍ وشيِّه على نارٍ هادئة لو استجمَعوا الجُرأة الكافية لذلك، وقد حقق هؤلاء نجاحًا باهرًا ليس فقط في خداع جيرانهم ولكن في خداع أنفسهم كذلك لدرجةِ أنهم قد يشعرون بالإهانة إذا وُوجهوا بحقيقتهم تلك. إذا عُلِّق تطبيقُ القانون في لندن ليوم واحد بحيث لا يُسأل فيه أيٌّ منا عن أي شيء يجترحه، فكم منا كانوا سيظلون على قيد الحياة في صباح اليوم التالي؟ لو حدث ذلك لخرَج معظمنا يُحاول قتل أحدِ ألدِّ أعدائه، ولَقُتِلنا نحن أنفسنا لا محالة قبل أن نعود إلى منازلنا.

غير أن القانون عاملُ تقييدٍ فعَّال يُساعد في منع معدَّل الوَفَيَات من الوصول إلى مستوياتٍ عالية. وبينما قضى أحدُ فروع القانون على ما تبقَّى من شركة السيدين دانبي وسترونج وأدى بها إلى الإفلاس، منَع فرعٌ آخر من فروع القانون كلًّا من الشريكين من إزهاق روح الآخَر.

عندما وجد سترونج نفسَه مفلسًا، انطلق لسانُه باللعنات كعادته، وكتب إلى صديقٍ له في تكساس يسأله عمَّا إذا كان يُمكنه تدبيرُ عملٍ له عنده. وقال إنه سَئِم بلدَه الذي يسوده القانونُ والنظام، ولم يكن في ذلك إطراءٌ على تكساس كما قد يبدو. لكن هذا القول يوضح ما قد يتبادرُ للرجل الإنجليزي من أفكارٍ غريبة عن البلاد الأجنبية. لم يكن ردُّ صديق سترونج عليه مشجعًا جدًّا، لكنه مع ذلك شدَّ الرحال إلى هناك بطريقةٍ ما، وسرعان ما أصبح أحدَ رُعاة البقر. لقد اكتسب خبرةً أكبرَ في استخدام مسدسه وتنقَّل على ظهر حِصانٍ برِّي بالقدْرِ من البراعة الذي قد يتوقَّعه المرءُ من شخص لم يرَ ذلك الحيوان قط في لندن ولا حتى في حديقة الحيوان. إن حياة راعي البقر في مزرعة في تكساس تُنسِي المرءَ أشياءَ مثل القمصان المنسوجة من الكتان والياقات الورقية.

ولم تنطفئ قط في هذه الأثناء نارُ كراهية دانبي في نفس سترونج، لكن تفكيره فيه بدأ يقل.

وذات يوم أُثير انتباهُه إلى الموضوع على نحوٍ أدهشه بشدة، وبالُه أبعدُ ما يكون عنه. كان في جالفيستون يطلب مؤنًا للمزرعة، فمرَّ بمتجر كان من وجهة نظره هو متجرًا بسيطًا للأقمشة، ومن وجهة نظر أهل المنطقة متجرًا للسِّلَع الجافَّة، فهاله أن رأى الاسم «دانبي آند سترونج» مكتوبًا بحروفٍ كبيرة على عدد كبير من الصناديق الكرتونية الصغيرة المتراصَّة التي ملأَت نافذة العرض كلَّها. في البداية ظنَّ الاسم مألوفًا بالنسبة إليه وكاد يسأل نفسَه: «أين رأيتُ هذا الاسمَ من قبل؟» ومرت بضعُ لحظات قبل أن يدرك أن كلمة سترونج تشير إلى الرجل الذي يُحدق الآن ببلاهةٍ في نافذة العرض الزجاجية. ثم لاحظ أن جميع الصناديق كانت تحتوي على ياقات بيكاديللي الشهيرة. قرأ ولم يزَل الذهولُ متملِّكًا منه ورقةً كبيرة مطبوعة تظهر بجانب الصناديق المتراصَّة. لقد كانت تتضمَّن أن الياقات على ما يبدو هي بالفعل ياقاتُ دانبي آند سترونج الأصلية وتُحذِّر العامة من المنتجات المقلَّدة. وأكدت الورقةُ أن الياقات مصنوعةٌ في لندن ومكسوَّة بالكتان، وفوق ذلك كان هناك تأكيدٌ على زعمٍ يدعو إلى الفخر مفادُه أن المرء إذا ارتدى ياقات دي آند إس مرةً فلن يعود لأيِّ نوع يَدْنوها جودةً مرة أخرى. كان سعر الصندوق خمسة عشر سنتًا، ويمكن شراءُ صندوقين بربع الدولار. وجد سترونج نفسَه يُجري عملية حسابية في ذهنه لتحويل هذه الأموال إلى العملة الإنجليزية.

وبينما هو واقفٌ مكانَه جالت بذهنه خاطرةٌ جديدة. سأل نفسه: هل استمرَّت الشركة في العمل بالاسم القديم على يد شخصٍ آخر أو أن هذه المجموعة من الياقات تُعَد جزءًا من مخزونٍ قديم؟ لم تكن قد وصَلَته أيُّ أخبار من بلده منذ رحل عنه، وشعر بمرارة عندما خطر له أن دانبي ربما يكون قد استعان بشخصٍ يملك رأس مالٍ ساعدَه في إعادة إحياء الشركة. وقرَّر أن يدلف إلى المتجر ويحصل على بعض المعلومات.

قال للرجل الذي بدا أنه مالكُ المتجر: «يبدو أنَّ لديك مخزونًا كبيرًا جدًّا من هذه الياقات.»

رد الرجل: «نعم.» ثم أردف: «نحن وُكلاء هذه الماركة في الولاية. إننا نُورِّدها إلى تجار الضواحي.»

سأله: «أوه، حقًّا؟ أما زال هناك وجودٌ لشركة دانبي آند سترونج؟ أعرف أنها أفلسَت.»

رد الرجل: «لا أظن ذلك.» وأضاف بحرصٍ مفاجئ: «إنهم يورِّدون إلينا ما يكفي. ومع ذلك فأنا لا أعرف شيئًا عن الشركة سوى أنهم يُنتجون منتجًا على أعلى مستوى. إننا لسنا مسئولين عن شركة دانبي آند سترونج بأي صورة؛ فنحن لسنا سوى وكلاء عن ولاية تكساس كما تعرف.»

قال سترونج: «أنا لا أُكِنُّ شيئًا ضد الشركة.» ثم أضاف: «سألتك فقط لأني كنتُ أعرف بعضًا من أعضائها، وكنت أتساءل عن سير الأمور فيها.»

قال الرجل: «حسنًا، في هذه الحالة عليك لقاءُ الممثِّل الأمريكي للشركة. كان هنا هذا الأسبوع … لهذا عرَضنا المنتجَ على هذا النحوِ في نافذة العرض، فهذا يُسعد الممثِّلَ دائمًا … إنه الآن يعمل في شمال الولاية وسيعود إلى جالفيستون قبل نهاية الشهر.»

سأله سترونج: «ما اسمه؟ هل تتذكر؟»

قال الرجل: «دانبي. جورج دانبي على ما أعتقد. هذه بطاقته. بل اسمه جون دانبي. ظننتُه جورج. فمعظم الرجال الإنجليز يحملون هذا الاسمَ كما تعرف.»

نظر سترونج إلى البطاقة، لكن بدَت الحروف تتمايلُ أمام عينيه. لكنه أدرك أن السيد جون دانبي له عُنوان في نيويورك وأنه كان الممثِّلَ الأمريكي لشركة دانبي آند سترونج التي يقع مقرُّها في لندن. وضع سترونج البطاقة على المنضدة أمامه.

وقال: «كنتُ أعرف السيد دانبي، وأودُّ لقاءه. أتعرف أين يمكنني العثورُ عليه؟»

رد الرجل: «كما قلت في السابق، يمكنك رؤيته هنا في جالفستون إذا انتظرتَ شهرًا، أما إذا كنتَ في عجَلةٍ من أمرك فيمكنك لقاؤه في تقاطع برونكو ليلة الخميس.»

سأله سترونج: «إنه يُسافر بالقطار إذن؟»

أجاب الرجل: «كلا، إنه لا يفعل. لقد سافر بالقطار إلى فيلكسوبوليس. وسيأخذ جَوادًا مِن هناك ويقوده عبر البراريِّ إلى تقاطع برونكو، وذلك في رحلةٍ تستغرقُ ثلاثة أيام. قلت له إنه لن يتمكَّنَ من إنجاز أيِّ أعمال تِجارية إذا سلك هذا المسار، فردَّ بأنه اختاره لأسبابٍ تتعلق بصحته ولكي يُشاهد الريف. وقد توقَّع أن يصل إلى تقاطع برونكو ليلة الخميس.» ثم انفجر تاجرُ السلع الجافَّة بالضحك كمَن تذكر شيئًا مضحكًا. وأردف قائلًا: «أنت إنجليزيٌّ على ما أعتقد.»

أومأ سترونج بالإيجاب.

قال الرجل: «يجب أن أقول إنَّ لديكم أفكارًا غريبة عن هذا البلد. فدانبي الذي خرج في رحلةٍ ثلاثة أيام عبر السهول اشترى مسدسين دوَّارين من نوع كولتس، وسكينًا طولها نصف طول ذراعي. أما أنا فقد جُبتُ هذه الولاية كلها ولم أحمل مسدسًا قط، لكني لم أستطِع إقناعَ دانبي بأن طريقَه آمنٌ كالكنيسة. بطبيعة الحال يُطلِق أحد رعاة البقر في تكساس النارَ من مسدسه من وقتٍ لآخر، لكن الأغلب أن يُطلقوا ألسنتهم بالسِّباب واللعن فحَسْب، ولا أعتقد أن جرائم القتل في تكساس تَزيد عنها في أيِّ مساحة من الأرض لها الاتِّساعُ نفسُه. ومع ذلك يصعب إقناعُ الرجلِ الإنجليزي بذلك. فأنتم تلتزمون بالقانون بصرامة. أما أنا فأُفضل دائمًا اللجوءَ للمسدس على اللجوء للدَّعاوى القضائية.» ثم مضى ربيبُ تكساس الحسَنُ الطِّباع يحكي قصة الطبنجة في تكساس وانخفاضِ الطلب العامِّ عليها، رغم ضرورة وجودها جاهزةً عند الحاجة إليها.

ينبغي لمن بيَّت نيةَ القتل في قلبه ألا يُجرِيَ حوارًا كهذا، لكنَّ عقل ويليام سترونج تملكَت منه فكرة واحدة حتى لم تدَعْ مكانًا للحَصافة. فالحديث الذي أجراه يكفي لإرسال رجالِ العدالة في المسار الصحيح، ولن تكون العواقبُ حينئذٍ في صالح المجرم.

في صباح الخميس امتطى سترونج فرسًا من تقاطع برونكو قاصدًا فيلكسوبوليس. وبحلول وقت الظهيرة، خطر له أنَّ عليه أن يلتقيَ شريكه السابق في مكانٍ لا يُحيطهما فيه إلا الأفقُ المفتوح. كان سترونج يتمنطق بمسدَّسين دوَّارين ويحمل بندقيةً من طراز وينتشيستر أمامه. لم يكن يعرف ما ستَئول إليه الأمور، لكنه قد يُضطَرُّ إلى إطلاق النار من مسافة بعيدة، ومن الجيد أن يستعدَّ المرءُ لكل الظروف. دخلت الساعة الثانية عشرة ولم يلتقِ أحدًا بعد، ولم يكن في الأفق من كل الجهات شيء. ولما اقتربت الساعة من الثانية بعد الظهر رأى نقطةً تتحرَّك أمامه من بعيد. بدا أن دانبي لم يكن معتادًا على ركوب الخيل فأتى متمهِّلًا. وقبل أن يلتقيا بقليلٍ تعرَّف سترونج على شريكه السابق وجهَّز بندقيته.

أسند سترونج أخمصَ بندقيته إلى كتفه وصاح: «ارفع يدَيك عاليًا!»

رفع دانبي يديه فوق رأسه على الفور. وصاح في حين لم يَبدُ أنه تعرَّف على خَصمِه بعد: «ليس معي نقود.» ثم أضاف: «فتِّشني إذا أردت.»

قال سترونج: «ترجَّل عن الحصان، ولا تخفض يديك وإلا أطلقتُ النار.»

ترجَّلَ دانبي عن الفرس وهو يرفع يديه فوق رأسه. وكان سترونج قد مرَّر ساقه اليمنى إلى الجانب الأيسر من حِصانه، ثم ترجَّل عن حصانه مع ترجُّل غريمه، مُصوبًا البندقيةَ نحوَه.

قال دانبي: «أؤكد لك أني ليس معي إلا القليل من الدولارات، التي يُمكنك أخذها.»

لم يُجِب سترونج. ولما رأى أن إطلاق النار سيكون من مسافة قصيرة، أخرج من حزامه مسدسًا ذا ستِّ طلقات وسحب إبرة الأمان استعدادًا للإطلاق وصوبه نحوَ غريمه وألقى بالبندقية على العُشب. ومشى نحو عدوِّه ووجَّه فوهة المسدس نحو قلبه الذي تسارعت نبضاته، وجرَّده من سلاحه على مهل، وألقى بأسلحته على الأرض بعيدًا عن متناوله. ثم تراجع عدة خطوات وشاهد الرجل يرتعد. فبدا أن وجهه قد اصطبغَ بلون الموت بالفعل وانسحب الدمُ من شفتيه.

قال سترونج: «أرى أنك عرفتَني أخيرًا يا سيد دانبي. هذا لقاءٌ غيرُ متوقَّع، أليس كذلك؟ أتمنى أن تُلاحظ عدم وجودِ قضاةٍ أو محلَّفين أو محامين هنا، ولا أوامر قضائية ولا استئنافات. لا يوجد هنا إلا أمر طرد الرصاص من ماسورة المسدس، ولا وسيلة قانونية لوقف التنفيذ. بعبارةٍ أخرى، لا جدالات عقيمة ولا قانون لعين.»

حاول دانبي عدة مرات أن يُبلل شفتيه الشاحبتين ثم نطق أخيرًا وقال:

«هل تقصد أنك ستُعطيني فرصة أو ستقتلني؟»

رد سترونج: «سأقتلُك.»

أغمض دانبي عينيه، وترك يديه تنخفضان إلى جانبيه وظل يتمايل يَمنة ويَسْرة بخفَّة كما لو كان يقف على سقالة ويوشك على سحب بُرغلها. فصوَّب سترونج مسدسه إلى الأسفل وأطلق النار فهشَّم إحدى ركبتي الرجل الموشك على الهلاك. سقط دانبي وأطلق صرخةً طغى على صوتها صوتُ الطلقة الثانية. لقد أطفأت الطلقةُ الثانية نورَ عينه اليسرى، فخر صريعًا واتجه وجهه المشوَّه نحو زرقة السماء.

صوت طلقة المسدس الدوار في البراري قصيرٌ وحادٌّ ولا صدى له. بدا الصمتُ الذي أعقب إطلاقَ النار موتِّرًا ولا حدَّ له، كما لو كان الصوت شيئًا لا وجودَ له على الأرض. وأضفى مظهرُ الرجل المسجَّى على ظهره على السكون طابَعَ الأبدية.

وبعد أن انتهى كلُّ شيء، بدأ سترونج يدرك موقفه. ربما لم تهتمَّ تكساس كثيرًا بمصرع شخصٍ في قتالٍ عادل، بيد أن العادة جرَت فيها على لفِّ حبل المشنقة حول رقبة الجبان الذي يُقتَل غِيلةً. وكان سترونج بطبعه مخترعًا. فشرع يُحاول اختلاق مبرِّر لنفسِه. أخذ أحدَ مسدسي دانبي وأطلق رصاصتين منه في الهواء. سيبدو مِن هذا أن القتيل حاول الدفاع عن نفسه على الأقل، وسيصعب إثباتُ أنه لم يكن أولَ مَن بادر بإطلاق النار. وأعاد المسدس الآخرَ والسكين إلى حزام دانبي حيث كانا. وأمسك اليد اليمنى لدانبي وهي لم تزَل دافئة وأغلق أصابعها على أخمص المسدس الذي أطلق منه النار، واضعًا السبابة على زناد المسدس ذي الستِّ طلقات بعد سحب إبرة الأمان. ولِيُضفي مظهرًا طبيعيًّا على اللوحة التي كان يرسمها للمسافر التالي السالكِ لهذا الطريق، رفع الركبة اليمنى ووضع عليها المسدسَ واليد التي تقبض عليه ليبدوَ أن دانبي قُتِل وهو على وشك إطلاق الرصاصة الثالثة.

تراجع سترونج خطوة أو خطوتين فخورًا بعمله الفني ليتفقد التأثير الذي سيتركه المشهدُ الذي أعَدَّه ككل. كانت مؤخرة رأس دانبي قد اصطدمت عند سقوطه بكتلةٍ من التربة أو تجمُّع من العشب أدى إلى إمالة ذقنه إلى الأمام نحو صدره. كاد قلب سترونج ينخلع فزعًا عندما نظر إلى ضحيته وتملَّكه خوفٌ كالتنويم المغناطيسي شلَّ قدرته على فعل أي شيء. لم يكن دانبي قد مات بعد. كانت عينُه اليمنى لا تزال مفتوحةً، وكانت ترمق سترونج بشرٍّ وكراهية جعلاه يتسمَّر في مكانه، وخالجه شعورٌ لم يرتقِ إلى اليقين بأن المسدس الجاهزَ للانطلاق الذي وضعه في اليد التي ظنها ميتة مصوبٌ نحوه. وتحركَت شفتا دانبي دون أن يصدر منهما صوت. لم يقوَ سترونج على رفع عينيه الذاهلتين عن العين المفتوحة. وأدرك أنه هالكٌ لا محالة إذا كان لدى دانبي بقايا قوةٍ تُمكِّن إصبعَه من سحب الزناد، ومع ذلك لم يتمكن من القفز بعيدًا عن مرمى النار. انطلقت الطلقة الخامسة فسقط سترونج إلى الأمام واستقر على وجهه.

وجرى حلُّ شركة دانبي آند سترونج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤