مَن القاتل؟

لم تكن السيدة جون فوردر تتوقَّع أيَّ شر. عندما سمعَت ساعة الردهة تدقُّ معلنةً تمام التاسعة، كانت تُغني بابتهاج وهي تتجول في أنحاء المنزل لتقوم بواجباتها الصباحية، ولم تتخيَّل أن الساعة التي دخلت للتوِّ ستكون أكثرَ ساعات حياتها شؤمًا، وأن كارثةً مزلزلة ستُصيبها قبل أن تدق الساعة مرةً أخرى. كان زوجها الشابُّ يعمل في الحديقة كعادته كلَّ صباح قبل أن يتوجَّه إلى مكتبه. توقعَت أن يكون مستعدًّا للانطلاق إلى وسط المدينة في أي لحظة. سمعَت قرقعةَ فتح البوابة الأمامية، وبعدها مباشرةً سمعت بعض الكلمات الغاضبة. وساورَها القلق، وهمَّت بتفقُّد ما يجري عبر الستائر المفتوحة للنافذة الناتئة الموجودة في مقدمة المنزل، عندما سمعت صوتَ إطلاق نارٍ حادًّا من مسدس، فهُرِعت نحوَ الباب وقد انقبضَ قلبها بشدة. ولما فتحت الباب، رأت شيئين؛ أولًا: زوجَها مُلقًى على وجهه على العُشب دون حَراك، وقد انثنت ذراعُه اليُمنى تحته؛ وثانيًا: رجلًا يُحاول فتح قُفل البوابة الأمامية باضطرابٍ شديد، ويحمل في يده مسدسًا لم يزَل الدخان ينبعث منه.

كثيرًا ما تُغير أبسطُ الأمور مسارَ حياة البشر. كان القاتل قد أحكم غلق البوابة الأمامية خشيةً من أي تطفُّل محتمَل. وكان ارتفاع السور يحجب رؤية المارة للحديقة، غير أن هذا الارتفاعَ الذي صعَّب أي تطفُّل جعل أيضًا هروبَ الرجل مستحيلًا. لو كان قد ترك البوابة مفتوحة لكان من الممكن أن يهرب دون أن يراه أحد، لكن ما جرى فعلًا هو أن الصرخات التي أطلقَتها السيدة فوردر أثارَت أهل الحي، فاحتشدوا قبل أن يتمكَّن القاتل من الهرب، وكان في وسط المحتشدين شرطي، فتعذَّر الهرب. كانت رصاصة واحدة فقط قد أُطلِقَت، لكن ضيق المساحة جعلها تخترق جسد الضحية. لم يلقَ جون فوردر حتفه، لكنه كان مُلقًى على العُشب مغشيًّا عليه. حُمل إلى داخل المنزل، واستُدعي طبيب الأسرة. واستَدعى الطبيبُ متخصصًا آخرَ ليُعاونه، وتشاورا معًا في الأمر. هدَّأ الرجلان قليلًا من رَوع الزوجة الذاهلة. لقد كان تطور الحالة غيرَ مؤكد وكان ثَمة أملٌ في التعافي الكامل، لكنه كان أملًا ضعيفًا.

وفي الوقت ذاتِه كان القاتل قيدَ الاحتجاز، وتعلَّق مصيرُه على نحوٍ كبير بمصير ضحيَّته. إذا مات فوردر، فسيُرفَض إطلاق سراحه بكفالة؛ أما إذا ظهرَت عليه بوادرُ تعافٍ، فسيَحْظى مهاجمُه بحرية مؤقتة على الأقل. لم يكن أحدٌ في المدينة كلِّها — باستثناء الزوجة — يتمنَّى تعافيَ فوردر أكثرَ من الرجل الذي أطلق النارَ عليه.

كان وراء الجريمة تناحُرٌ سياسي بائس؛ مجرد صراعٍ على المناصب. كان يرى القاتل، والتر رادنور، أنَّ له الحقَّ في المطالبة بأحد المناصب، وعزا إخفاقَه في مسعاه، سواءٌ أكان هذا صحيحًا أم لا، إلى دسائسِ جون فوردر الخفيَّة. وعندما غادر منزله ذلك الصباح لم تكن نيته دون شكٍّ قتلَ خَصمِه، لكنهما ما إن التقيا حتى تشابكا في معركةٍ كلامية، وكان المسدس جاهزًا في جيب بنطاله الخلفي.

كان رادنور يحظى بدعمٍ سياسي قوي؛ لذا لم يتخيَّل أن يُهجَر تمامًا هكذا بعد ذُيوع الخبر في المدينة بأنه أسقط ضحيته على أرض الحديقة. لم تكن الحياة مصونةً عندما حدثت تلك الواقعة بقدرِ ما صارت بعدها، وكان الكثير من الرجال الذين يمشون في الطرقات في حريةٍ تامة قد سبق لهم إطلاقُ النار على ضحاياهم. إلا أن هذه الواقعةَ انتهكَت القواعد المتعارَف عليها في الاغتيال. لقد أطلق رادنور النار على رجلٍ أعزلَ في حديقة منزله الأمامية وعلى مرأًى من زوجته تقريبًا. ولم يمنَحْ ضحيته فرصةً للنجاة. لو كان فوردر يحمل في أيٍّ من جيوبه مسدسًا ولو كان فارغًا من الطلقات، لَمَا بدا وضعُ رادنور بهذا السوء؛ لأنه في هذه الحالة كان من الممكن أن يدفع أصدقاؤه بأنه أطلَق النار دفاعًا عن النفس، كما كانوا بلا شكٍّ سيدَّعون أن الرجل المحتضر أبرز سلاحه أولًا. لذا أدرك رادنور وهو في سجن المدينة أن تقاريرَ حزبه السياسي هي أيضًا لم تكن في صالحه، وأن أهل المدينة كانوا مذعورين مما اعتبَروه جريمةً ارتُكِبت بدمٍ بارد.

مع مرور الوقت بدأ بصيصٌ من الأمل يلوحُ من جديد لرادنور وأصدقائه القليلين. لم يزَل فوردر بين الحياة والموت. وبات من المؤكَّد في نظر الجميع أنه سيموت متأثرًا بإصابته، لكن القانون كان يشترط أن يموتَ الرجل بعد مهاجمته بوقتٍ محدد ليُحاكَم مُهاجمُه بتهمة القتل. وشارفت المدةُ التي حدَّدها القانون على الانقضاء ولم يَمُت فوردر بعد. كما خدَم الوقتُ رادنور بطريقة أخرى. لقد هدأ السخط الشديد الذي أثارته الجريمة. وقد وقعَت أحداثٌ فظيعة أخرى استحوذت على الاهتمام الذي كان منصبًّا على مأساة فوردر، فمنح ذلك أصدقاءَ رادنور المزيدَ من التشجيع.

مرَّضَت السيدة فوردر زوجَها بعنايةٍ فائقة، وحَداها الأملُ في تعافيه. كان قد مرَّ أقلُّ من عام على زواجهما، ولم يزد مرورُ الوقت كلًّا منهما إلا حبًّا للآخر. أصبح حبُّها لزوجها الآن شبيهًا بالهوَس، وخشي الأطباءُ إخبارَها بأن الحالة ميئوس منها تمامًا؛ فقد توقَّعوا انهيارها عصبيًّا وجسديًّا إذا علمت بالحقيقة. كان كرهها للرجل الذي سبَّب كلَّ هذا البؤس عميقًا وشديدًا للغاية، حتى إنها عندما تحدَّثَت ذاتَ مرة مع أخيها، المحامي البارز في المنطقة، رأى في عينَيها نظرةَ الجنون، وتخوَّفَ من الأمر بشدة. أصرَّ الأطباء، خوفًا من اعتلالِ صحتها، على أن تُمارس المشي كلَّ يوم لبعض الوقت، لكنها رفضَت الخروج من البوابة، وظلت تتمشى وحدها ذهابًا وإيابًا في ممرٍّ طويل في الحديقة المهجورة. وذات يوم سمعت من وراء السور محادثةً أفزعَتها.

سمعت صوتًا يقول: «هذا هو المنزل الذي يسكنه فوردر، الذي أطلَق والتر رادنور النارَ عليه. حدثَت الجريمة وراء هذا السور مباشرة.»

سأل صوتٌ آخَر: «حقًّا؟» ثم أردف: «أعتقد أن قلق رادنور سيكون بالغًا هذا الأسبوع.»

رد الأول: «بالتأكيد، لا شكَّ أن القلق يُؤرِّقه منذ البداية.»

قال الثاني: «هذا صحيح. لكن إذا انقضى هذا الأسبوع وفوردر على قيد الحياة، فسيُفلت رادنور من حبل المشنقة. أما إذا مات فوردر هذا الأسبوع، فسيتعقَّد الأمر بالنسبة إلى قاتله؛ لأن هذه القضيةَ سينظر فيها القاضي برنت في هذه الحالة، وهو معروف في جميع أنحاء الولاية بإصدار أحكام الإعدام. وهو لا يتهاونُ مع الجرائم المرتكَبة بدوافعَ سياسية، ولا شك أنه سيحكم على رادنور بالإعدام، وأنه سيُقنع المحلَّفين بذلك. أقول لك إن الرجل المحتجز سيكون أسعدَ مَن في هذه المدينة صباحَ الأحد القادم إذا ظل فوردر حيًّا، وأعتقد أن أصدقاءه مستعدُّون لدفع الكفالة، وأنه سيُطلَق سراحه في وقتٍ مبكر من صباح الإثنين.»

مضى الشخصان الخفيَّان في سبيلهما بعد أن أشبَعا فضولهما بتفقُّد المنزل، وتركا السيدة فوردر واقفةً مكانها تُحدق في الفراغ، ويداها مقبوضتان بشدةٍ من فرط التوتر.

وبعد أن تمالكت نفسَها أسرعت إلى المنزل وأرسلت رسولًا يستدعي أخاها. ولما وصل وجدَها تَذْرع الغرفةَ جيئةً وذهابًا.

قال أخوها: «كيف حال جون اليوم؟»

أجابته: «لم يزَلْ كما هو، لم يزَل كما هو.» ثم أضافت: «يبدو لي أنه يضعف كلَّما مر الوقت. ولم يَعُد باستطاعته التعرفُ عليَّ.»

سألها: «وما رأي الطبيبَين؟»

ردت: «أوه، كيف لي أن أخبرك؟ أعتقد أنهما يُخفيان الحقيقةَ عني، لكن عندما يأتيان في المرة القادمة سأُصرُّ على معرفة رأيهما. لكن أخبرني: هل سيُفلت قاتل جون من العقاب حقًّا إذا مر هذا الأسبوع وهو لم يزَل على قيد الحياة؟»

سألها: «ماذا تعنينَ بإفلاته من العقاب؟»

قالت: «وفقًا لقانون الولاية، إذا عاش زوجي حتى نهايةِ هذا الأسبوع، فلن يُحاكَم الرجل الذي أطلقَ النار عليه بتهمة القتل، أليس كذلك؟»

رد المحامي: «لن يُحاكَم بتهمة القتل، لكنه قد لا يُحاكم بتهمة القتل حتى لو مات جون الآن. لا شكَّ أن أصدقاءه سيُحاولون إظهار القضية كقضيةِ قتلٍ غير متعمَّد، أو سيحاولون إنقاذَه منها بحُجَّة الدفاع عن النفس. ومع ذلك لا أعتقد أن فرصة نجاحهم في ذلك كبيرة؛ خاصة أن قضيته سينظر فيها القاضي برنت، لكن إذا ظل جون على قيد الحياة بعد الساعة الثانية عشرة يوم السبت القادم، فقانون الولاية يقضي بأن رادنور لا يُمكن أن يُحاكَم بتهمة القتل العمد في هذه الحالة. وعندئذٍ ستكون أقصى عقوبة قد يُحكَم عليه بها هي عقوبة السَّجن لعددٍ من السنوات في أحد سجون الولاية، ولكن لن يَضرَّه ذلك كثيرًا. إن وراءه دعمًا سياسيًّا قويًّا، وإذا فاز حزبُه بانتخابات الولاية القادمة — وهو ما يبدو مرجحًا — فلا شك أن الحاكمَ سيعفو عنه وسيُطلِق سراحه قبل انقضاء العام.»

قالت الزوجة بانفعال: «هل من الممكن أن يحدث عَوارٌ بهذه الفداحة في تطبيقِ أحكام العدالة في ولايةٍ تدَّعي التحضُّر؟»

هز المحامي كتفَيه. وقال: «لا أُعوِّل كثيرًا على تَحضُّرنا.» ثم أضاف: «هذه الأشياء تحدث كلَّ عام، بل عدة مرات في العام.»

أخذت الزوجة تذرع الغرفة مجددًا، في حين حاول أخوها أن يُهدئ من روعها.

صاحت: «إنه لأمرٌ فظيع … إنه لأمرٌ مُخزٍ أن تُرتكَب جريمةٌ بشعة كهذه ثم لا يُعاقَب الفاعل!»

قال المحامي: «أختي العزيزة، لا تتركي الثأر يُسيطر على عقلك هكذا. وتذكَّري أنه مهما حدث للمجرم الذي سبَّب كل هذا البؤس، فلن يمكن أن يجلب ذلك لزوجك نفعًا ولا ضررًا.»

التفتَت إلى أخيها فجأةً وصاحت: «الثأر! أقسم بالله إني سأقتل هذا الرجلَ بيدي إذا أفلتَ من العقاب!»

أمسكَت حِكمةُ المحامي لسانَه عن قول أي شيء آخر لأخته وهي في حالتها المِزاجية الراهنة، وبعد أن فعل ما كان بوُسعه للتهدئة من رَوعها، انصرف.

وعندما أتى صباحُ يوم السبت، واجهَت السيدة فوردر الطبيبَين.

قالت: «أريد أن أعرف بالتحديد إن كانت هناك فرصةٌ ولو ضئيلة لتعافي زوجي أم إنَّ الفرصة معدومة. إن الترقُّب يقتلني ببُطء، ويجب أن أعرف الحقيقة، ويجب أن أعرفها الآن.»

نظر كلٌّ من الطبيبين إلى الآخر. ثم قال أكبرهما: «أعتقد أنه لم يَعد هناك جَدْوى من تركك في هذا الترقُّب. ليس هناك أيُّ أمل في تعافي زوجك. ربما يعيش لأسبوعٍ أو لشهر، أو قد يموت في أيِّ لحظة.»

قالت السيدة فوردر بهدوءٍ أذهل الرجلين اللذين كانا يعرفان مدى انفعالِها الشديد خلال الفترة الماضية: «شكرًا لكما أيها السيدان.» ثم أضافت: «أشكركما. أعتقد أنه كان من الأفضل أن أعرف.»

جلسَت طَوال فترة ما بعد الظهيرة بجوار سرير زوجها الغائب عن الوعي الذي يتنفَّس بصعوبة بالغة. كانت معركته الطويلة مع الموت قد غيَّرَت بشدةٍ ملامحَ وجهه. استأذنت الممرضةُ لمغادرة الغرفة لدقائقَ قليلة، فوافقَت في صمتٍ الزوجةُ التي كانت تنتظر هذا الطلب. وعندما انصرفَت الممرضة، قبَّلَت السيدة فوردر زوجَها والدموع تسيل من عينيها.

همسَت: «جون، أنت تعرف الوضع، وستتفهَّم الأمر.» ثم ضمَّت وجه زوجها إلى صدرها، وعندما عاد رأسه إلى الوسادة، كان قد اختنق.

استدعَت السيدة فوردر الممرضةَ وأرسلت في طلب الطبيبين اللذين كانا يتوقَّعان ما حدث.

•••

نزل خبر موت فوردر على الرجل القابع في سجن المدينة كالصاعقة. وأدرك كلُّ مَن كانوا في قاعة المحكمة أن الرجل هالكٌ لا محالة فورَ أن فرَغ القاضي برنت من مواجهة القاتل بتهمته الشنيعة. ولم يلبث المحلَّفون أكثرَ من عشْر دقائق في المداولة، وأسهمَ إعدامُ والتر رادنور أكثرَ من أي حدث آخر وقع في الولاية في جعلِ الحياة في هذا الكومونولث أكثرَ أمنًا من ذي قبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤