على ممر ستيلفيو

الأمر واضحٌ لا لبسَ فيه؛ لقد كانت تينا لينز فتاةً لَعوبًا، وكان هذا الأمرُ يليق بها تمامًا؛ فقد كانت تعيش على سواحلِ كومو الرومانسية التي احتفَت بها الأغاني والقصصُ والدراما بوصفِها بُحيرةَ العشَّاق الزرقاء. كان لتينا الكثيرُ من المعجبين، لكنَّ عبثَها جعلها تُفضِّل من بينهم أكثرَ مَن كان والدها يعترض عليه. كان بيترو — كما صدَق والدُ تينا في وصفه له — سائقًا إيطاليًّا بائسًا تُسعده الفرنكات القليلة التي يتقاضاها من المسافرين الذين كان يُقِلُّهم من مالوجا الفقيرةِ إلى إنجاداين، أو من ممرِّ ستيلفيو المرتفع إلى ممر تايرول، وهما أكثر الممرات في أوروبا ارتفاعًا وأكثرُها انخفاضًا. كانت ضربةً قوية لآمال لينز العجوز ولكبرياءِ العائلة أيضًا عندما تحدَّتْه تينا بإعلان تفضيلها لسائق العربة التي يجرُّها حِصانان. كان لينز العجوز يتحدَّر من عائلة عريقة من أصحاب الفنادق السويسريِّين الذين يُعرَفون بقدرتهم الفريدة على استخلاص آخرِ سنت من المسافرين المترددين في الدفع. وقد ساءه كثيرًا أنه لم يُنجب ابنًا يرث منه فندقه الصغير الذي كان محلَّ احتفاءٍ كبير عن استحقاق (إذ كان يُقدم أسعارًا خاصة للإقامة لفترة ثماني ليالٍ أو أكثر)، لكنه كان يرجو أن يكون له صِهْر، ويأمُل أن يكون صِهرُه من أصل سويسري، بحيث يتمكَّن بعد أن تقدمَ به العمر أن يُورِّثه المهنة المربحة التي تُمكِّنه من استنزاف أموال الرجال الإنجليز الأثرياء باحترام. لكن تينا قد اختارت الآن بمحض إرادتها إيطاليًّا متهورًا حياتُه غيرُ مستقرة لن يلبث أن يُضيع الأموال التي جمعها بعنايةِ أبيها طوال حياته.

صاح العجوز غاضبًا، متحدثًا بالإيطالية، لكونه يتحدث عن إيطالي: «بيترو، الوغد، لن يحصل على قرشٍ واحد من أموالي.»

قالت الفتاة: «لا، سأحرص أنا على ذلك.» ثم أضافت: «سأتولى الأمورَ المالية، وأُلزمه بكسبِ ما يُنفق.»

قال لها: «لكن إذا تزوَّجتِه، فلن أمنحَك أي أموال.»

ردت: «لا، بل ستفعل، يا أبي، أنت ليس لديك أي شخص آخر تترك له أموالك. كما أنك لستَ عجوزًا، وستُبارك زواجنا قبل أن يأتيَ وقت توريث الأموال بكثير.»

رد صاحب الفندق العجوز، وقد هدأت نبرة صوته كثيرًا؛ لأنه كان بالفعل عجوزًا وسمينًا وفي وجهه بعضُ الحمرة: «لا تكوني واثقة من ذلك هكذا.»

شعر بأن لا قِبَل له بمواجهةِ ابنته، وأنها ستُنفِّذ إرادتها في نهاية المطاف، لكنه تذمَّر عندما فكَّر في مِلكية بيترو لفندقه الرائج يومًا ما. أكدت تينا على أنها ستطبق مبادئ أجدادها بحذافيرها في إدارة الفندق، وأنها ستترك بيترو يتجوَّل حول المكان كزينةٍ جميلة تجذب الزوَّارَ المرهَفي الإحساس الذين يبدو أنهم يرَون في البحيرة ومحيطها جمالًا غيرَ مفهوم.

وفي تلك الأثناء أقدم مالكُ الفندق لينز فجأةً على طرد بيترو، وندم على اليوم الذي تعرَّف فيه على بيترو وعلى ساعة توظيفه له. وقال للشابِّ الوسيم إنه إذا وجده يُحدِّث ابنته يومًا فسيُرتب للقبض عليه بتهمة سرقة بعض المقتنيات الصغيرة من المسافرين، على الرغم من أنه كان قد غضَّ الطَّرْف عن هذه السرقات عند اكتشافها، ربما لشعوره ببعض التعاطف معه في ذلك الحين، ولأنه رأى في سائق العربة أماراتٍ قد تجعل منه مالكَ فندقٍ ناجحًا يومًا ما. وما جعل الأمرَ أكثر سوءًا أن بيترو أقسم إنه سيُغمِد في البطن المتدلِّي لمالك الفندق سكينًا طوله ستُّ بوصات حالَما تسنح الفرصة، على أمل أن يصلَ السكين إلى مكان حساس. شحبت حُمرة وجه لينز العجوز عندما سمع هذا التهديد، فالسويسريون محبُّون للسلام، وأخبر ابنته في حزن بأنها ستدفع بشَعْره الشائب إلى القبر بخنجر حبيبها. فقالت مازحةً إن هذا الأمر يصعب تحقيقه؛ فقد كان رأسُ أبيها أصلعَ كقمة جبل أورتلر المستديرة الناعمة، ومع ذلك تحدثت مع حبيبها في الأمر، وقالت له على نحوٍ واضح إنه إن كان سيستخدم السكين بأيِّ نحوٍ في الجوار، فلن تلتقيَ به مرة أخرى أبدًا. فلم يسَعِ الشابَّ ذا الشعر الأسود المجعَّد والوجه الملائكي إلا أن يكتم امتعاضَه ممن يرجو مصاهرته، وأن يتعهَّد بحُسن التصرف. وتمكَّن من العمل سائقًا في فندق آخر؛ فقد كان العملُ رائجًا ذلك الموسم، والتقى بتينا كلما أمكَنه، في نهاية الحديقة المطلَّة على البحيرة الهادئة، من وراء حائط حجري.

لم يتدخَّل مالكُ الفندق لينز عندما كان يعرف بأمر أيٍّ من هذه اللقاءات، ربما منعه خوفُه من خنجر بيترو، أو من لسان ابنته، ومع ذلك وقفَت الأقدارُ في صف العجوز. كانت تينا بطبيعتها متقلِّبة المزاج، وبعد أن خبَتْ معارضةُ أبيها لعلاقتها ببيترو تمامًا، بدأ اهتمامها بالشابِّ يخبو كذلك. لم يُجِد الحديث في أيِّ موضوع سوى الجياد، ورغم ما في هذا الموضوع من إثارة، فهو مُضجِرٌ بالنسبة لفتاة في الثامنة عشرة تميل على حائط حجريٍّ في نور الأمسيات الذهبي الذي يعمُّ سماء كومو. إن في الحياة موضوعاتٍ أخرى، لكنه لم يهتمَّ بها، لم يدرك وجودَها حتى، ومن سوء حظه أن فردًا آخر من جحافل المتعطِّلين عن العمل ظهر في المشهد، وكان يهتمُّ بتلك الموضوعات الأخرى.

جاء في الوقت المناسب تمامًا، ورغم فخر العجوز لينز بفندقه وبوضعه، لم يكن ما استوقف ذلك الشابَّ المنظرُ الطبيعي الذي لا مثيل له الذي ذُكر في دعاية الفندق. لقد استوقفه منظرُ الفتاة الساحرة الجمال وهي تميل على الحائط الحجري في نهاية الحديقة وتُحدق في البحيرة وتُسلي نفسها بالغناء الرقيق.

قال الشاب ستانديش: «يا إلهي! إنها تبدو كأنها تنتظرُ حبيبها.» وهو بالضبط ما كانت تينا تفعله، ومن سوء حظِّ الحبيب الغائب أن تأخيره كان في صالح غريمه.

تمتم ستانديش: «الحبيب الغائب عنصرٌ مفقود في المشهد ينبغي تعويضُه.» ووضَع عنه حقيبة الظهر التي كان يحملها كحقيبة المناضل الراحل جون براون. ثم دخل الفندق وسأل عن أسعار الإقامة. وما إن رأى العجوزُ لينز البنطالَ القصير الذي كان الشاب يرتديه حتى قرَّر أن يطلب ضعف السعر الذي يطلبه من أهل المنطقة. غير أن الافتقار إلى الحصافة في الأمور المالية الذي ميَّز أهل الجزيرة التي كان ستانديش ينتمي إليها جعله يُوافق على شروط العجوز، فتمنى العجوز لو كان قد طلب منه ثلاثة أضعاف السعر.

خاطب العجوزُ نفسه في حين كان النزيلُ الجديد يتوجَّه إلى غرفته: «لا عليك، سأعوض ذلك في التكاليف الإضافية.»

لا بد هنا من أن نُقِرَّ آسفين بأن ستانديش الشابُّ كان فنانًا. يُكثِر ذِكر الفنانين في الأعمال الأدبية لدرجة أنَّ ذِكْرَهم في سردٍ للوقائع الفعلية يبعث على الحزن، لكن يجدر بنا أن نتذكَّر أن الفنانين يَفِدون بطبيعتهم إلى بحيرة كومو كما يَفِد سماسرة الأوراق المالية إلى البورصات، ومن سوء حظ الكاتب وهو يسرد الأحداثَ الفعلية التي جرَت في هذه المنطقة أن يزخر سردُه للأحداث بسيرة الفنانين. كان ستانديش بارعًا في الرسم بالألوان المائية، ولا يعرف كاتبُ هذه السطور إن كانت معرفة القارئ لذلك ستُهوِّن من الجريمة الأساسية في نظره أم ستجعلها أكثرَ شناعةً. شرع ستانديش من فوره يرسم تينا وهي مُحاطة بالبحيرة والجبال والعناصر الأخرى التي تكوَّن منها المشهد. لقد رسم تينا وهي عند سور الحديقة، كما رآها للمرة الأولى، ثم وهي تحت قوسٍ من الورود، ثم وهي على متن أحدِ قوارب البحيرة المهترئة التي تبدو جميلة في الصور. رسم ستانديش فأبدعَ في الرسم. وكان المالك العجوز لينز يحتقر مهنة ستانديش بشدة، كما ينبغي لأي رجلٍ ذي عقلية عمَلية، لكنه ذُهل عندما عرَض أحدُ المسافرين العابرين مبلغًا طائلًا يستعصي على التصديق مقابل إحدى اللوحات التي كانت على الطاولة في منطقة الاستقبال. لم يكن ستانديش في الجوار، لكن العجوز أراد أن يُسدِيَ إلى نزيلِه معروفًا فباعها. وبدلًا من أن يمتلئ الشابُّ بالابتهاج بحظِّه، أخبر مالك الفندق بجُرأة وثبات يميزان أمثالَه من الفنانين بأنه سيتغاضى عما حدث هذه المرةَ لكنه يجب ألا يتكرَّر ثانيةً. وأضاف ستانديش أن المالك باع اللوحة بثلث قيمتها الحقيقية. وكان لشيءٍ ما في لهجةِ الشابِّ المؤكِّدة الهادئة وقْعٌ أقنعَ العجوزَ لينز بصدقِ ما قال أكثرَ من كلماته نفسِها. إذ يمكن للمرء إقناعُ محدِّثه بأكاذيبه المتقَنة بطريقة حديثِه. ازداد احترامُ مالك الفندق للشابِّ إلى أعلى درجة ممكنة، وكان أيضًا قد رأى الكثير من الفنانين. لكن إذا كان من الممكن الحصولُ على مبالغَ كهذه ثمنًا للوحةٍ لا يستغرق رسمُها أكثرَ من بضع ساعات، فليس امتلاكُ الفنادق وإدارتُها إذن نشاطًا مربحًا إلى الحد الذي كان يظنه.

يجب أن نُقِرَّ بصدمة ستانديش الشديدة عند معرفته بأن تينا التي تُشبه الحوريات هي ابنة مالك الفندق العجوز الغبيِّ البغيض. كم كان سيكون جميلًا جدًّا لو تبين أنها إحدى الأميرات بدلًا من ذلك، وكان ذلك سيليق تمامًا بالشُّرفة المكسوَّة بالرخام التي تُطل على البحيرة. بدا متنافرًا مع المشهد كلِّه أن تربِطَها أيُّ علاقة بالعجوز لينز المنشغِل بجمع المال. وبالطبع لم تَدُر بخلَدِه فكرةُ الزواج من الفتاة؛ بل كانت تلك الفكرة بعيدةً عن عقله كبُعد فكرة شراء بحيرة كومو ثم تجفيفها، ومع ذلك كان من المؤسف ألا تكون كونتيسة على الأقل، كالكونتيسات الكثيرات في إيطاليا، وبالطبع كان الممكن أن تسكنَ إحداهن في هذا الفندق الصغير؛ لأن التكلفة تنخفض عند الإقامة به لمدة ثمانية أيام. وكانت تينا مع ذلك تبدو جميلةً في اللوحات المرسومة بالألوان المائية. لكن إذا بدأ رجلٌ في الانزلاق على تلٍّ مثل التلال المحيطة بكومو، فلا سبيل إلى معرفة الحدِّ الذي سيتوقف عنده. قد يتوقف في منتصف الطريق أو يتدحرج حتى يسقط على رأسه في البحيرة. لو كُتب هنا أنه خلال وقتٍ معيَّن لم يهتمَّ ستانديش ولو لدرجةٍ بسيطة بكون تينا أميرةً أو خادمة، لما صدَّق القارئُ ذلك؛ لأننا جميعًا نعرف برودَ أعصاب الرجل الإنجليزي وعقله الذي لا يفتَأُ يضَعُ المخطَّطات، وسالفَيه الطويلَين، وقبعتَه التي تحجب وجهه أثناء ترحاله.

من الخطير أن يرسم شابٌّ بالألوان المائية فتاةً تُضارع في جمالِها الساحرِ الكائناتِ الخياليةَ البديعةَ المنظرِ في العديد من الأماكن الآسِرة، ومن الكارثيِّ أن تعلِّمه هي لغةٌ يسترسل اللسان في نطقها كالإيطالية، أما الأدهى والأمرُّ فهو أن يُعلِّمها هو الإنجليزية ويُشاهد شفتَيها الجميلتَين تُحاولان نطق كلماتٍ لم تُخلَق لها مخارجُ صوتٍ لأجنبية مثلها. أثَّرت كل هذه الأمور في والتر ستانديش، فأي فرصة للنجاة كانت أمامه حينئذٍ؟ بالتأكيد كانت قليلةً كفرصة مَن يتسلق جبل ماترهورن دون حبال وقد زلَّت قدمه عن موطئها.

ماذا عن تينا؟ كانت تلك الشابَّة المسكينة على وشك تلقِّي انتقام الأقدار منها على كل القلوب الإيطالية أو الألمانية أو السويسرية التي كسَرَتها. لقد وقعَت في حب ذلك الإنجليزي الموفور الحيوية ولم يكن لها حيلةٌ لها في ذلك، وأدركت أنها لم تعرف المعنى الحقيقيَّ للحب من قبل. لقد ندمت ندمًا مريرًا على المعارك التافهة التي خاضها قلبُها قبل ذلك الحين. ولم ينتَبْ ستانديش أدنى شكٍّ في أنه أول مَن لامست شفتاه شفتَيها (واعترفت هي بتكوُّن هذه الفكرة لديه)، وأرَّقَها في كل يوم وساعة خوفٌ من أن يعرف الحقيقة. وفي ذلك الحين كان بيترو يُزيح عن روحه ألمَ الهَجْر بالتلفُّظ بلعناتٍ غريبة لو سمعها ستانديش الذي لم ينَل قسطًا كافيًا من التعليم لظنها صلوات ميمونة، رغم التقدم الذي كان يُحرزه في تعلُّم الإيطالية على يد تينا. ومع ذلك كان لدى بيترو علاجٌ واحد لكلِّ ما يُؤرقه، فطَفِق في ذلك الحين يشحذ هذا العلاجَ بعناية استعدادًا لاستخدامه.

وذاتَ مساء كان ستانديش يتجوَّل شاردَ الذهن وسط الضباب الخفيف القرمزي اللون، وهو منشغلُ البال بالطبع بتينا ويتساءل كيف سيستقبل ذَووه الرَّزينون مزيجَ الغلظة الملحوظ والجمال الجنوبي الذي تتمتَّع به. كانت تينا سريعةَ البديهة وتُجيد التكيُّف، ولم يُساوره أدنى شكٍّ في قدرتها على إتقان أي دور يَطلب منها أداءه، وتردَّد أيقدِّمها بوصفها فتاةً تربطها بالعائلة الإيطالية الحاكمة صلةٌ بعيدة، أم بوصفها كونتيسة. إذ سيكون من السهل جدًّا إضافةُ «دي» أو «دا» أو أي مقطع صوتي إلى اسم عائلتها يجعل مَن يسمعه يظنها عائلةً من النبلاء. كل ما عليه هو أن يختار الأحرف الصحيحة، وكان يعرف يجب أن تبدأ بحرف «د». ثم كان عليه أن يُعطي الانطباع بأن الفندق الصغير هو: «قلعة مطلة على البحيرات الإيطالية»، وفي واقع الأمر كانت نيته أن يُغلق الفندق فور تمكُّنِه من السيطرة على المكان، أو يُحوله إلى قلعة. كان يعلم أن معظم قِلاع تايرول والعديد من قصور إيطاليا قد تحولَت إلى فنادق صغيرة، فسأل نفسه لِمَ لا يعكس اتجاه التحول؟ وكان متأكدًا أن بعض شركات الأثاث في لندن يُمكنها تولِّي هذه المهمة إذا استأجرَها لهذا الغرض. وكان يعرف صحيفةً صباحية رائجة كانت تنشر إعلاناتٍ شخصية، وخطر بباله أن الإعلانَ الآتيَ سيبدو لافتًا ويستحقُّ تكلفة نشره:

يقضي السيد والتر ستانديش ابن سان جونز وود، وقرينته الكونتيسة دي لينزا هذا الصيف في مقرِّ أسلاف السيدة دي لينزا، قصر دي لينزا، المطلِّ على بحيرة كومو.

أسعدَه تخيُّلُ ذلك للحظةٍ، حتى خطَر بباله احتمالُ أن يتذكر أحدُ المعارف قصر لينزا عندما كان فندق لينز الذي يُفصِح عن أسعاره عند طلب الإقامة فيه. وتمنى لو يحمل انهيارٌ صخري المبانيَ والأراضيَ وكل شيء إلى مكان مجهول على بُعد بضع مئات من الأقدام من الجبل.

وهكذا ظلَّ الشاب ستانديش يهيم شاردًا بفِكْره إلى عَنان السماء ويُؤرجح عصاه في الهواء، ثم حدث ما أعاده إلى أرض الواقع فجأة. ظهر شخصٌ من وراء شجرة مسرعًا، فرفع الفنانُ ذراعه اليسرى يحتمي بها في حركة غريزية لم يقصدها. ثم أمسك بالسكين المغروز في الجزء اللحيم منها، وكان الألم شبيهًا بلدغة شديدة ساخنة من دبور ضخم. خطر بباله سريعًا في تلك اللحظة أن الأحرى أن يرتبط الفولاذ في الأذهان بالحرارة وليس البرودة. وفي اللحظة التالية كانت يده اليمنى قد أنزلَت المقبض الثقيل لعصاه المتينة على رأس بيترو المغطَّى بالشعر المجعَّد، فسقط ذلك الإيطاليُّ عند قدَمَيه كقطعة من الحطب. صرَّ ستانديش أسنانَه، وسحب الخنجر من ذراعه برفق بالغ، ومسح نصله في ملابس الرجل الجاثي أمامه. وفضَّل أن يُلطِّخ ملابسَ بيترو بدلًا من ملابسه هو التي كانت أجددَ وأنظف، واعتبر أنه من العدل أن يتحمَّل الإيطاليُّ المعتدي أيَّ تبعاتٍ تنتج عن اعتدائه. وفي النهاية وضع الخنجر في جيبه وهُرِع إلى الفندق وهو يشعر ببللِ كوعه.

تراجعَت تينا واستندت إلى الجدار وصرخَت فور أن رأت الدماء. وكادت تفقد الوعيَ لولا أن انتابها هاجسٌ دفعها إلى الانتباه وشحذِ حواسِّها تلك اللحظة.

قال ستانديش وهو يكشف ذراعه لتضميده: «لا يُمكنني تصور سببٍ يدفعه إلى مهاجمتي.» ثم أضاف: «لم ألتقِ به من قبل قط، ولم أتشاجر مع أيِّ شخص. يبدو أن السرقة لم تكن الغرضَ من الهجوم، فقد كنت قريبًا جدًّا من الفندق. لا يُمكنني فهمُ الأمر.»

قال العجوز لينز: «أوه، بل من السهل تفسيرُ ما حدث. إنه …»

وحينئذٍ رمَقَت تينا أباها بنظرةٍ اخترقَته كما اخترق النصل ذراع ستانديش. فأغلق فمَه كما يُغلَق فخٌّ فولاذي.

ثم قالت لأبيها بلطف: «اذهب لإحضار الدكتور زاندورف رجاءً يا أبي»، فذهب أبوها. ثم خاطبت ستانديش قائلة: «هؤلاء الإيطاليون لا يكفُّون عن التعارك. لا بد أنه ظنك شخصًا آخرَ ولم يرَك جيدًا بسبب الغسَق.»

قال ستانديش: «نعم، هذا مرجَّح جدًّا. إذا كان هذا الوغد قد استعاد وعيه، فعلى الأرجح أنه يندم الآن على التهجُّم على الشخص الخطأ.»

عندما بحثَت السلطاتُ عن بيترو لم يجدوا له أثرًا، لقد اختفى كما لو كانت ضربةُ ستانديش قد قذفَته إلى حدود الصين. فعندما استعاد وعيه، وفرَكَ رأسه، وجد على الطريق دماء، فاعتقد أنَّ ضربته قد أصابت مكانًا حساسًا. ورأى أن السكين المفقود سيكون دليلًا ضدَّه، فآثر السلامة وعبَر الحدود إلى النمسا. واختفى مِن على ممرِّ ستيلفيو، وعمل سائقًا لعربات الخيول في مكانه الجديد.

ستظلُّ مدَّة مكوث ستانديش يتجوَّل حول تلك الحديقة الغنَّاء وذراعه محمولة في حمَّالة الكتف في حين ترعاه تينا بعنايةٍ وإخلاص من الذكريات الذهبية التي لن ينساها ذلك الإنجليزي طوال حياته. لكنها لم تكن لتستمرَّ إلى الأبد، فتزوَّجا بعد نهاية تلك الفترة. وكان مالك الفندق العجوز يُفضل أن يكون صِهرُه مالكَ فندقٍ سويسريًّا، لكن هذا الإنجليزي كان في نظره أفضلَ من ذلك الإيطالي البائس، وربما أفضل من الألماني الذي انشغلَت به تينا قبل ظهور الإيطالي في المشهد. يُعَد هذا المزيجُ المحيِّر من الجنسيات من المتاعب المرتبطة بإدارة فندق دولي.

فضَّل ستانديش ألا يعودَ إلى إنجلترا على الفور؛ إذ لم يكن رأيه قد استقرَّ بعدُ على الطريقة المُثْلى للتخلُّص من الفندق الصغير وتحويله إلى قصر. كان يعرف قلعةً جميلة وعالية في تايرول بالقرب من ميران يقبل القائمون عليها استقبال المارَّة دون لفتِ الأنظار، وقرَّر أن يضع خُطَّته هناك. جهَّز لهما العجوزُ عربةً عظيمة لِيَعبروا بها الممرَّ، وأمر سائقَها سرًّا بأن يُقِلَّ أحد الأشخاص من ميران ليُعوِّض تكاليف العودة، ولو جزئيًّا. كانت خمسةُ خيول تجرُّ العربة، واحد على كل جانب وثلاثة في المقدمة. في الليلة الأولى استراحوا في بورميو، واستيقظوا في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي؛ إذ كانوا يُخطِّطون لتناول العشاء في فرانتسينشوهي حيث يُمكنهم رؤية جبل أورتلر المكسو بالجليد.

كان فصل السنة يُشارف على الرحيل والطقس متقلبًا بعض الشيء، لكنهما قضَيا ظهيرةً إيطالية جميلة يصعدان الطريقَ المتعرِّجة الخلابة التي تقع على الجانب الغربيِّ من الممر. كان الجليد يتساقط خفيفًا على قمة الطريق، والسحُب تُعانق قمم أورتلر العالية. ثم أمطرت السحب مطرًا مستمرًّا بوتيرة ثابتة بينما بدَآ يهبطان، وسَعِدا بأن وجَدا في الحانة الصخرية المستطيلة الشكل في فرانتسينشوهي مأوًى دافئًا وعَشاءً دسمًا. وبعد العشاء صفا الجوُّ بعضَ الشيء لكن ظلَّت السحب تحجب قممَ الجبال والطرق زَلِقة. أسِف ستانديش لذلك؛ إذ كان يريد أن يُرِيَ عروسَه المناظرَ الطبيعية الخلابة التي تظهر في الأميال الخمسة القادمة التي يتعرَّج فيها طريقُ الهبوط إلى تريفوي وتظهر من تحت كلِّ زاوية في الطريق التي تبعث على الدُّوار هاويةٌ سحيقة. كان ذلك الجزء من الطريق خطيرًا يتطلب سائقًا شجاعًا هادئ الأعصاب حتى لو كان يقود حِصانَين فقط. كانا النَّزيلَين الوحيدين في الحانة، ولم يكن من الصعب على الناظرِ إليهما أن يُدرِك أنهما عروسان تزوَّجا لتوِّهما. ذاع خبرُهما، وشاهدهما كلُّ مَن كانوا في المكان يركبان عربتهما وتأخذهما بعيدًا، ولو انزلقت عجَلة خلفية واحدة من مكانها، لانهار كلُّ شيء.

عند أول مُنحنًى شعر ستانديش ببعض الذعر لانعطافِ العربة فيه بسرعة خطيرة. وظل السَّوط يُقرقع كطلقات نارية متتالية، وهو ما لم يكن معتادًا عند هبوط الجبل. لكنه لم يقل شيئًا حتى لا يُفزع عروسه، وظن أن السائق أفرط في شرب النبيذ في الحانة. وعند المنحنى الثاني انزلقَت بالفعل العجلةُ اتجاهَ الحاجز الصخري الذي لم يقف سواه حائلًا بين العربة والهاوية السحيقة، واصطدمت به. وبعث صوت الاصطدام والصدمة التي رافقَته الرعبَ في نفس ستانديش؛ إذ كان يعرف الطريقَ جيدًا وكانت لا تزال به بعضُ الأماكن الأكثرِ خطورة. وكان يُطوق زوجتَه بذراعه، وحينئذٍ سحَب ذراعه من حولها برفقٍ كي لا يُفزعها. وبينما كان يفعل هذا، رفعَت نظرها ورأت ما جعلها تُطلق صرخةً حادة. فنظر ستانديش إلى النافذة الأمامية التي تُمكِن منها رؤيةُ ظهر سائق عرَبتِهما المغلقة حيث كانت تنظر زوجتُه، فإذا به يرى على الزجاج وجهًا مشوَّهًا لشبحٍ مخيف. كان السائق جاثيًا على مقعده بدلًا من أن يجلس عليه، وكان يُحدق إليهما، وزِمام العربة على كتفِه وظهره موجهًا إلى الخيول. بدا لستانديش أنَّ علامات الجنون كانت تظهر في عينَيه، أما تينا فرأَت فيهما نظرةَ انتقامٍ غاضبةً لعاشق خاب مسعاه.

لم يتعرَّف ستانديش على الرجل الذي حاول قتله ذات مرة، لكنه صاح قائلًا: «يا إلهي! هذا ليس سائقَنا.» وهبَّ واقفًا يُحاول فتح النافذة الأمامية، فصاح فيه السائق:

«افتح هذه النافذة إذا كنتَ تجرُؤ على ذلك، وسأُلقي بكما من هنا قبل أن تصلا إلى منتصف الجبل. اجلسا هادِئَين، وسآخذكما إلى فايس نوت. ثم سأُلقي بكما من هناك. ستسقطان هناك مِن ارتفاع ميل.»

صاح ستانديش: «أدرْ وجهك لتقود الخيول أيها الوغد، وإلا فلن أتركَ في جسمك عظمةً واحدة سليمة!»

قال الرجل: «الأحصنة تعرف طريقها، سيدي الإنجليزي، وكلُّ عظامنا ستُكسَّر؛ عظامك، وعظام عَروسك الجميلة، وعظامي معكما.»

أمسك السائق بالسَّوط وضرب به عدةَ ضربات بجانب الأحصنة وتحتها وفوقها. فانطلقت الأحصنةُ بسرعة جنونية تهبط المنحدر، وكادت تُلقي بالعربة من المنحدِر عند المنعطف التالي. نظر ستانديش إلى زوجته. ووجدها كالغائبة عن الوعي، لكنها كانت قد أغلقَت عينيها فحَسْب كي لا ترى وجه بيترو المرعب. مد ستانديش ذراعه من النافذة المفتوحة، وفتح قفل الباب وقفز إلى الخارج مخاطرًا بحياته. صرخَت تينا عندما فتحت عينَيها فوجدت نفسها بمفرَدِها. وضرب بيترو إطارَ النافذة الأمامية فسقطَت النافذة، وأصبح هو وتينا وجهًا لوجه دون أن يحول بينهما أيُّ زجاج. وقال لها: «الآن بعد أن رحل حبيبُك الإنجليزي يا تينا، سأتزوَّجك أنا، لقد تعهَّدتِ بذلك.»

ردَّت بصوت خفيض: «أيها الجبان، أُفضِّل الموت وأنا زوجته على الحياة زوجةً لك أنت.»

قال لها: «جريئةٌ أنت أيتها الصغيرة تينا، كما كنتِ دائمًا. لكنه ترَكَكِ. لو كنتُ أنا مكانه لما تركتُك. أنا لن أتركك. سنتزوَّج في كنيسة ثري هولي سبرنجز، أسفل فايس نوت بميل، سنقفزُ إليها من الهواء يا تينا، وسيكون سريرنا أسفلَ نهر ماداتسي الجليدي. سنذهب معًا بالقرب من المكان الذي ألقى فيه الرجلُ زوجته. لقد وسَموا تلك النقطة بقطعةٍ من الرخام، ولكنهم سيضعون قطعةً أكبر لتخليد ذِكْرانا يا تينا؛ فنحن شخصان لا شخص واحد.»

تراجعَت تينا إلى ركن العربة وشاهدَت وجه الإيطالي وهي لا تُصدِّق ما يحدث. أرادت أن تقفز كما فعل زوجُها، لكنها خَشِيَت الحركة، وكانت متأكدةً من أنها إذا حاولت الهربَ فسيقفزُ بيترو ويُمسك بها. بدا كوحشٍ كاسر يتأهَّب للوُثوب على فريسته. وفجأةً رأَت شيئًا يهبط من السماء ليستقرَّ على مُقدَّمة العربة. وسمعت تينا صوتَ زوجها يصرخ:

«خذ أيها الأبلهُ الصغير، لقد سئمنا من هذا الهُراء.»

وفي اللحظة التالية سقط بيترو على الطريق بفعلِ ركلة قوية. لم يُمكِّنه وضعُه على العربة من التماسُك. وارتجَّت العربة وهي تدهس ساقه، وظنت تينا أنها فقدَت الوعي حينئذٍ؛ لأن الشيء الوحيد الذي كانت تتذكره بعد ذلك هو توقفُ العربة، وفركُ ستانديش ليدَيها وهو يتحدث إليها بلطف. وابتسمَت هي له ابتسامةً خفيفة.

سألَته بفُضول المرأة: «كيف تمكَّنتَ من اللَّحاق بالعربة وهي تسير بهذه السرعة؟»

قال ستانديش: «أوه، نسي ذلك الأحمقُ الطرقَ المختصرة. كنتُ قد حذَّرته من إهمالِ ما يحدث حوله. سأعود إليه الآن لأتحدث معه. إنه مُلقًى على الطريق أعلى هذا المنحدر.»

لملمَت تينا شتاتَ نفسِها سريعًا.

وقالت بلطف: «كلا يا عزيزي، لا تَعُد. فأغلب الظن أنَّ بحوزته سكينًا.»

قال ستانديش: «لست خائفًا.»

قالت: «لكني خائفة، لا تتركني وحدي.»

قال ستانديش: «أود أن أُوثِقَه بقوة وأهبطَ به إلى البلدة مسحوبًا وراء العربة كالأمتعة. أعتقد أنه هو من طعنَني، وأريد أعرف ما خَطْبُه.»

وحينئذٍ للأسف بدأت تينا تفقد الوعي من جديد. وطلبت بعض النبيذ بصوت خافت، فنسي ستانديش أمر السائق الشرير تمامًا. وركب العربة وأمسك بزِمامها بنفسه. وحصل على النبيذ من حانةٍ صغيرة عند فايس نوت، على بُعد ميل أو ميلين. استفاقت تينا تمامًا بفعل اهتزازِ العربة على الأغلب، وارتعدت عندما نظرت من فوق الجبل فرأت في العتمة خمسةَ منازل بدَت في حجم ألعاب الأطفال أسفل منها بميل تقريبًا.

قال ستانديش: «هذه كنيسة ثري هولي سبرنجز. يمكننا أن نذهب إليها الليلةَ من تريفوي، إذا أردتِ.»

صاحت، وهي ترتجف: «كلا، كلا!» ثم أضافت: «لنبتعِدْ عن الجبال على الفور.»

وفي تريفوي وجدا سائقَهما الأصلي في انتظارهما.

سأل ستانديش بانفعال: «ماذا تفعل هنا بحق الجحيم؟ وكيف وصلتَ إلى هنا؟»

رد السائق المرتبك: «سلكتُ الطرق المختصرة.» ثم أردف: «طلب سائق، كان يعمل لدى سيدي في الماضي، ويُدعى بيترو — لا أعلم لماذا — أن يوصِلَكما إلى تريفوي. أين هو يا سيدي؟»

قال ستانديش: «لا أعرف.» ثم أردف: «لم نرَه. لا بد أن الرجل المجنون دفعَه من فوق العربة. اركب ودعنا نَمضِ في طريقنا.»

استعادت تينا أنفاسَها من جديد. وانتهت الأزمة.

وعاشا معًا في هناء، وأصبحَت تينا امرأةً شديدة اللباقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤