الساعة والرجل

وقف الأمير لوتارنو على قدمَيه بحركة بطيئة، ورمق السجينَ الماثل أمامه بنظرةٍ حادة.

وقال: «لقد سمعتَ ما يُدعى عليك. فهل لديك شيءٌ تقوله دفاعًا عن نفسك؟»

ضحك قاطعُ الطريق السجين.

وقال: «مضى وقتُ الكلام.» ثم أضاف: «كانت هذه مُحاكمةً هَزْلية ولم تكن عادلة. لم يكن من الضروري أن تُهدر كلَّ هذا الوقت في استقصاء ما تَدْعوه بالأدلة. فقد كنتُ أعرف مصيري منذ وقعت بين يدَيك. لقد قتلتُ أخاك، وأنت ستقتلني. لقد أثبَتَّ أني قاتل وسارق، ويُمكنني إثباتُ التهم ذاتِها عليك إذا كنت في مخيمي مكبَّلَ اليدَين والقدمين كحالي الآن وأنا في قلعتك. لن أستفيدَ شيئًا إن قلت لك إني لم أكن أعرف أنه أخوك، وإن ما حدث ما كان ليحدثَ لو كنتُ أعرف ذلك؛ لأن السارق التافهَ يحترم اللصَّ الأكبر والأكثر نفوذًا دائمًا. وإذا سقط ذئبٌ تتجمَّع حوله الذئابُ الأخرى وتفترسه. وها قد سقطتُ، وستأمر بضرب عنقي أو بتمزيقِ أوصالي في ساحتك، حسبما يُفضِّل سموك. هذه غنيمة حربك، وليس لي أن أتذمَّر. عندما قلتُ إني آسف على قتلي أخاك لم أعنِ بذلك إلا أني آسفٌ لأنك لم تكن مكانه عندما انطلقَت الرصاصة. أنت تتفوق عليَّ في عدد الرجال؛ لذا تمكَّنتَ من تفريق أتباعي وأسري. ويُمكنك أن تفعلَ بي ما تشاء. ما يُهون عليَّ وطأةَ كلِّ ذلك هو أن قتلي لن يُعيد الرجلَ الذي أُطلِق عليه الرصاص؛ لذا، فلتُنهِ هذه المهزلة التي امتدت كلَّ هذه الساعات الطِّوال. أصدِر الحكم عليَّ. أنا مستعد.»

سادت لحظةُ صمتٍ بعد توقُّف قاطع الطريق عن الكلام. ثم قال الأميرُ بنبرة هادئة لم تَحُلْ دون وصول كلماته إلى كلِّ جنبات قاعة المحاكمة:

«يُحكَم عليك بأنك، في الساعة الرابعة من يوم الخامسَ عشرَ من يناير، ستُقتاد من زنزانتك إلى غرفة الإعدام، وهناك سيُقطَع رأسك.»

تردَّد الأمير للحظةٍ وهو ينطق بالحكم، وبدا أنه أراد إضافة شيء لكنه تذكَّر على ما يبدو أن تقريرًا بمجريات المحاكمة سيُرفَع إلى الملك، الذي كان مندوبه حاضرًا، وحرَصَ على ألا يُوحي أيُّ شيء مما ستضمُّه السجلات بعداوة قديمة؛ إذ كان من المعروف عن جلالته أنه مُعارض لصنوف التعذيب القديمة التي كانت تُطبَّق في مملكته في الماضي. تذكَّر الأمير ذلك فجلس.

ضحك قاطعُ الطريق مجددًا. إذ من الواضح أنه كان يتوقع حكمًا أكثر تنكيلًا. كان رجلًا عاش عمرَه كله في الجبال، ولم يكن يعرف باستحداث تدابيرَ أكثرَ رحمةً في سياسة الحكومة.

وقال هازئًا: «سألتزم بالموعد، ما لم يكن لديَّ التزامٌ أكثرُ إلحاحًا.»

اقْتِيدَ قاطعُ الطريق إلى زنزانته. وقال الأمير: «أتمنى أن تكون قد لاحظتَ لهجة التحدِّي التي يتحدث بها السجين.»

رد المندوب: «بالفعل لم تَفُتني ملاحظتُها، يا صاحب السمو.»

قال الأمير: «أعتقد في هذه الظروف أن المعاملة التي لاقاها كانت رحيمةً للغاية.»

قال المندوب: «أنا متأكدٌ يا صاحب السمو أن جلالته سيكون له الرأيُ نفسُه. فقطعُ الرأس ميتة أكثرُ رحمةً مما يستحق هذا المجرم.»

سعد الأميرُ بتطابق رأي المندوب تمامًا مع رأيه.

أُخِذ قاطع الطريق المدعوُّ توزا إلى زنزانة في البرج الشمالي، حيث يُمكنه إذا وقف على مقعد فيها أن يرى الواديَ العميق الذي تقوم القلعة عند مدخله. كان يعرف منَعةَ موقعِها في طرَفِ الوادي جيدًا. كما كان يعلم أنه لو تمكَّن من الهرب من القلعة، لوجد نفسه محاصرًا بين جبالٍ لا يُمكن عمَليًّا تسلُّقُها، وكانت القلعة تحرس مدخل الوادي حراسةً يتعذر معها الوصولُ إلى العالم الخارجي منه. وعلى الرغم من معرفته الجيدة بالجبال، أدرك، بعد تفرُّقِ شمل عصابته ومقتلِ الكثير من أفرادها ولِواذِ آخَرين بالهروب، أن احتمال موته جوعًا في الوادي أرجحُ من احتمال هروبه منه. جلس على المقعد وأخذ يُفكر في الأمر. سأل نفسه: ما السبب الذي دفع الأميرَ إلى التحلي بكل هذه الرحمة؟ فقد توقَّع أن يُعذَّب، فإذا به في انتظار أسهل مِيتة قد يَلْقاها أيُّ رجل. استقر في ذهنه أنَّ في الأمر شيئًا غير مفهوم. ربما كانت نيَّتهم تجويعَه حتى الموت بعد أن اكتملَت مسرحية المحاكمة العادلة. ففي زنازينِ القِلاع تجري أمورٌ لا يعرف عنها العالم الخارجي شيئًا. لكن قلقه من احتمال تجويعه حتى الموت سرعان ما تبدَّد عندما ظهر سجَّانُه حاملًا له وجبةً أفضلَ من الوجبات التي كان قد تناولها منذ مدَّة طويلة؛ فقد قضى الأسبوع الماضيَ كله هاربًا بين الجبال حتى أوقع به رجالُ الأمير، الذين كان واضحًا أنهم تلقَّوْا أوامرَ بالإتيان به حيًّا. لِمَاذا إذن كان حرصُهم الشديد على ألا يقتلوه في معركةٍ عادلة إذا كان كلُّ ما في جَعبتهم له الآن الإعدامَ بقطع الرأس؟

سأل توزا سجَّانه: «ما اسمك؟»

أجابه: «اسمي باولو.»

قال توزا: «هل تعرف أن رأسي سيُقطَع في الخامس عشر من هذا الشهر؟»

رد الرجل: «هذا ما سمعت.»

سأل توزا: «وهل ستُلازمني حتى ذلك الحين؟»

رد الرجل: «سألازمك في المدة التي أُومَر بها بذلك. وإذا أكثرتَ الحديث فقد يستبدلون بي غيري.»

قال قاطع الطريق: «إذن أنت تُلمح لي بالصمت يا باولو الطيب.» ثم أردف: «وأنا دائمًا أُكافئ مَن يُحسنون إليَّ؛ لذا يُؤسفني ألا تكون معي الآن أيُّ نقود لأتمكن من مكافأتك على إحسانك لي.»

رد باولو: «ليس هذا ضروريًّا.» ثم أضاف: «أنا أتلقى أجري من المدير المسئول.»

قال توزا: «آه، لكن الأجر الذي تتلقَّاه لا صلة له بالمكافأة التي ستتلقاها من زعيمِ قُطاع الطريق. هل يُدِرُّ عليك منصبُك أرباحًا تكفي لجعلك ثريًّا، يا باولو؟»

رد باولو: «كلا، أنا رجل فقير.»

قال توزا: «حسنًا، يمكنني أن أجعلَك ثريًّا إذا تم ما أريد.»

لمعت عينا باولو، لكنه لم يَردَّ ردًّا مباشرًا. وفي النهاية همس خائفًا: «لقد مكثتُ عندك لأطولَ مما ينبغي. أنا أخضع للمراقبة. لكنها ستُخفَّف بعد مدة، ويُمكننا حينئذٍ الحديثُ عن الثراء.»

ثم انصرف السجَّان، وضحك قاطع الطريق ضحكةً خافتة في نفسه. وقال: «يبدو أن باولو يقبل الرِّشوة. سيتجدَّد حديثنا في الموضوع بعد أن تُخفَّف المراقبة.»

أصبح الأمر بعد ذلك مسألةَ ثقة. أكد قاطع الطريق أنَّ لديه ذهبًا وجواهرَ مخبَّأة في الجبال، وأنه سيمنحها لباولو إذا استطاع أن يجعله يهرب من القلعة.

قال توزا: «بمجرد أن أهرب من القلعة، يمكنني بعدئذٍ الخروجُ من الوادي على الفور.»

رد باولو: «لست متأكدًا من أن ذلك ممكن.» ثم أردف: «على القلعة حراسةٌ شديدة، وعندما يُكتشَف هروبك، سيُقرَع جرس الإنذار، وحالما يُقرَع لن يتمكنَ فأرٌ من الخروج من الوادي دون معرفة الجنود.»

فكَّر قاطع الطريق في الموقف لبعض الوقت، ثم قال في النهاية: «أعرف الجبال جيدًا.»

قال باولو: «هذا صحيح، لكنك رجلٌ واحد، وجنود الأمير كُثْر. ربما، إذا تلقيتُ المقابل المناسب، يمكنني أن أُرِيَك أني أكثرُ علمًا بالجبال منك.»

سأل قاطع الطريق هامسًا في حماس: «ماذا تعني؟»

سأل باولو وهو ينظر بقلق نحو الباب: «هل تعرف النفق؟»

قال توزا: «أيُّ نفَق؟ لم أسمع بنفقٍ قط.»

قال باولو: «لكنَّ هناك نفقًا؛ نفق يخترق الجبال إلى العالم الخارجي.»

صاح قاطع الطريق: «نفق يخترق الجبال؟ هذا هُراء!» ثم أردف: «لو كان له وجود، لعَلِمت بأمره. فأعمالُ حفره أكبرُ من تتم في الخفاء.»

قال باولو: «لقد حُفِر قبل أن تُولَد، وقبل أن أُولَد أنا أيضًا. الهدف منه أن يستطيع الفرارَ منه مَن في القلعة إذا سقَطَت. لا يعرف مدخلَه إلا قليلون، إنه بالقرب من الشلال الموجود عند الطرفِ الآخَرِ من الوادي، وتُغطِّيه أجَمة. ماذا ستعطيني نظير إيصالك إلى مدخل ذلك النفق؟»

نظر قاطع الطريق إلى باولو في جدِّيةٍ بضع لحظات، ثم أجاب ببطء: «كل ما أملك.»

قال باولو: «وكم يبلغ كلُّ ما تملك؟»

رد توزا: «أكثر مما كنت ستَجْنيه إذا أمضيت باقي عمرك في خدمة الأمير.»

قال باولو: «هل ستخبرني بمكان هذه الثروة قبل أن أساعدك في الهرب من القلعة وأُرشدك إلى مكان النفق؟»

قال توزا: «نعم.»

قال باولو: «أيُمكنك أن تُخبرني الآن؟»

قال توزا: «كلا، اجلب لي ورقًا في الغد وسأرسم لك خريطةً توضِّح كيفية الوصول إليها.»

عندما ظهر السجَّان بعد أن أعطاه توزا الخريطة بيوم، سأله قاطع الطريق بحماس: «هل وجدتَ الكنز؟»

رد باولو بهدوء: «نعم.»

قال توزا: «وهل ستفي بوعدك؟ هل ستُخرجني من القلعة؟»

قال باولو: «سأخرجك من القلعة وأُرشدك إلى مدخل النفق، لكن بعد ذلك سيكون عليك تدبُّرُ أمرك بمفردك.»

قال توزا: «بكل تأكيد، كان هذا اتفاقَنا. بعد أن أخرج من هذا الوادي اللعين، يُمكنني تحدي كلِّ أمراء الأرض. ألديك حبل؟»

قال السجان: «لن نحتاج إليه.» ثم أضاف: «سآتي إليك في منتصف الليل وسأُخرجك من القلعة عبر ممرٍّ سرِّي، هكذا لن يُعرَف هروبُك إلا في الصباح.»

وعند منتصف الليل جاء السجَّان وقاد توزا عبر الممر المحفوف بالمخاطر، وأخذا الرجلان يتوقفان بين الفينةِ والأخرى ويكتمان أنفاسَهما عندما وصلا إلى ساحةٍ مفتوحة كان حارسٌ يَذْرعُها. وأخيرًا خرَجا من القلعة بعد منتصف الليل بساعة.

تنهَّد قاطع الطريق تنهيدةَ ارتياحٍ عميقةً فور أن اشتمَّ الهواء الطَّلْق لأول مرة منذ مدة طويلة.

سأل بنبرة هامسة لا تخلو من الشكِّ في دليله: «أين نفَقُك؟»

أجابه بصوت خفيض: «صه!» ثم أردف: «إنه على بُعد مسافةٍ قصيرة من القلعة، غير أن كل بوصة في هذه المسافة تحت الحراسة، ولا يُمكننا سلكُ الطريق المباشرةِ إليه، يجب أن نصل إلى الطرَف الآخَر من الوادي أولًا ثم نتَّجِهَ إلى النفق من الشمال.»

صاح توزا مذهولًا: «ماذا؟! نقطع الواديَ كلَّه للوصول إلى نفقٍ على بُعد ياردات قليلة؟»

قال باولو: «هذه هي الخُطة الوحيدة الآمنة.» وأضاف: «إذا أردتَ أن تسلك الطريق المباشِرة، فسأتركك وشأنَك.»

قال توزا متنهدًا: «أنا طوعُ أمرك.» ثم أردف: «خذني إلى حيث تريد، ما دمتَ ستوصلني في النهاية إلى مدخل النفق.»

ظلا يهبطان المرتفعاتِ التي تقوم عليها القلعةُ، وعبَرا جدولَ المياه الصغيرَ على بعض الأحجار التي تناثرَت بين مياهِه الرَّقْراقة. وسقط توزا في المياه فجأةً فانتشله دليله. وحتى تلك اللحظة لم يكن جرسُ الإنذار قد انطلقَ في القلعة رغم ظهورِ تباشير نور الصباح. ولما زاد النُّور زحفَا إلى كهفٍ كانت فتحتُه منخفضة يصعب العثور عليها، وهناك أخرج باولو من حقيبةٍ صغيرة كان يُعلقها على كتفه وجبةَ إفطار وقدَّمها لتوزا.

سأل توزا: «ماذا ستفعل للحصول على الطعام إذا كنا لن نصلَ إلى النفق إلا بعد عدة أيام؟»

رد باولو: «أوه، لقد وضعتُ ترتيباتي لذلك، وتُرِكَت لنا كميةٌ من الطعام حيث يُرجَّح أن نحتاج إليه فيه. سأذهب لإحضاره ريثما تَحْظى أنت بقسطٍ من النوم.»

قال توزا: «لكن ماذا سأفعل لو قُبِض عليك؟» ثم أردف: «ألا يُمكنك أن تُخبرني الآن كيف أعثر على النفق كما أخبرتك بكيفية العثور على الكنز؟»

فكَّر باولو في ذلك بعض الوقت، ثم قال: «بلى، أعتقد أن هذا سيكون أكثرَ أمانًا. عليك تتبُّعُ النهر حتى تصل إلى موضع التقاء تيار الشرق به. وهناك ستجد بين التِّلال شلالًا وفي منتصف ارتفاعه رفٌّ صخري عليه عِصِيٌّ وشجيرات. أزِح هذه الأشياء وستجد مدخلَ النفق. اسلك النفق حتى تصلَ إلى بابٍ مغلق من الداخل. وعندما تمرُّ منه تكون قد وصلتَ إلى نهاية رحلتك.»

بعد طلوع النهار بمدَّة قصيرة بدأ الجرسُ الكبير الخاص بالقلعة يُقرَع، وقبل الظهر كان الجنود يوكزون كلَّ الشجيرات المحيطة بهم. اقترب الجنود منهما لدرجة أنهما سمعا أصواتهم من مخبئهم الذي كَمَنا فيه وقد ابتلَّت ملابسهما، وكتَم الاثنان أنفاسَهما وتوقَّعا أن يُعثَر عليهما في أي لحظة.

ودار بين الجنديَّين الأقربِ منهما حديثٌ كاد يوقف نبضَ قلبيهما.

سأل الأول: «ألا يوجد كهفٌ بالقرب من هنا؟» ثم أردف: «لنبحث عنه!»

رد الثاني: «هُراء!» ثم أضاف: «أستطيع القول لك إنهما ما كانا ليصلا إلى هذه المسافة في هذه المدَّة.»

قال الأول بإصرار: «ولِم لا تفترض أنهما هرَبا عندما تسلَّم الحارس مناوبتَه في منتصف الليل؟»

قال الثاني: «لأن باولو شُوهِد يعبر الساحةَ في منتصف الليل، ولم تكن أمامهما فرصةٌ أخرى للهرب إلا قُبيل طلوع النهار.»

بدا أن هذه الإجابة أقنعَت رفيقه، وتوقفت عملية البحث عندما كان الإيقاعُ بالهاربَين وشيكًا. كان هروبًا صعبًا، وبدا اللصُّ شاحبَ الوجه رغم جَسارته المعتادة، أما باولو فكان على شفا الانهيار.

وفي الليالي والأيام التالية كاد قاطعُ الطريق ودليلُه يقَعان في أيدي رجال الأمير عدةَ مرات. بدأَت وطأةُ البؤس بفعل عوامل الطبيعة، والحرمان، والإيشاك على الموت جوعًا، والأسوأ من ذلك، تناوب الأمل والخوف، تشتدُّ على قلب قاطع الطريق المقدام. وقد زاد من هذا البؤسِ سقوطُ مطر الشتاء البارد في بعض الأيام والليالي. ولم يَجرُؤا على البحث عن مأوًى آخَر؛ فكل مكانٍ يصلح للسُّكنى كان يخضع للمراقبة.

عندما طلع عليهما نورُ الصباح بعد انقضاء آخر ليالي تسلُّلِهما عبر الوادي، كانا قد وصلا إلى نقطةٍ لا تفصلها عن الشَّلال إلا مسافةٌ قصيرة، وتناهى إلى سمعهما تَرقرُقُ مياهه في هدوء.

قال توزا: «لا تقلق حيال نور النهار، لنواصل التقدُّمَ حتى النفق.»

قال باولو متذمرًا: «لا يمكنني المواصلة، أنا مُنهَك.»

صاح توزا: «دعك من ذلك، لقد اقتربنا.»

قال باولو: «المسافة أكبرُ مما تظن، إضافة إلى ذلك نحن على مَرْأى من القلعة. هل ستُخاطر بكل شيء الآن وقد اقتربَت لحظة الخلاص؟ عليك ألا تنسى أن ثمنَ الفشل رأسُك، وتذكَّر أيضًا في أيِّ يوم نحن.»

التفت قاطع الطريق إلى دليله وسأله: «في أي يوم نحن؟»

قال باولو: «الخامس عشر من يناير، اليوم الذي كان من المفترض أن تُعدَم فيه.»

التقط توزا أنفاسه بصعوبة. فتَّ الخطرُ والعَوزُ في عضده، فسرَّبا الجُبنَ إلى نفسه، وارتعد رغم أنه لم يرتعد أثناء محاكمته ولا عند الحكم بإعدامه.

سأل توزا في النهاية: «وكيف عرَفت أنه الخامس عشر؟»

رفع باولو عصاه، فكانت عليها علاماتٌ محفورة لاحتساب الأيام على طريقة روبنسون كروزو.

قال باولو: «أنا لستُ بنفس قوَّتك، وإذا ترَكتَني أستريح هنا حتى ما بعد الظهيرة، فأنا مستعدٌّ لعمل محاولة أخيرة للوصول إلى مدخل النفق.»

قال توزا باقتضاب: «حسنًا.»

استلقَيَا مكانهما في تلك الظهيرة لكنهما لم يتمكَّنا من النوم إطلاقًا. شنَّف هديرُ مياه الشلال آذانَهما وبشَّرهما بقرب انتهاء رحلتهما الشاقة.

وفجأة سأل توزا: «ماذا فعلتَ بالذهب الذي وجدته في الجبال؟»

فوجئ باولو بالسؤال، فأجاب دون تفكير: «تركته حيث كان. وسآخذه في وقت لاحق.»

لم ينبس قاطع الطريق بكلمة، لكنَّ ردَّ باولو هذا كان بمنزلة حُكمٍ بموته. لقد قرَّر توزا قتله فور خروجهما من النفق، ليحتفظ هو بذهبه.

خرجا من مَكمنِهما بُعيدَ الثانية عشرة، وكان تقدمهما مُذ ذاك بطيئًا جدًّا، واضطُرَّا إلى الزحف على منحدر الجبل تحت غِطاءٍ من الشجيرات والأشجار، وعندما وصلا إلى الشلال كانت الساعة قد تجاوزَت الثالثة، حيث عبَراه بصعوبة على الأحجار وفروع الشجر.

قال توزا وهو يهز جسمه: «كان هذا آخِرَ تيار مائي نخوضه. والآن إلى النفق!»

حجَبَهما جانبا الشلال الصخريَّان عن مرأى الناظرين من القلعة، لكن باولو لفت انتباهَ قاطع الطريق إلى حقيقة إمكانية سهولة رؤيتهما من الجانب الآخر للوادي.

قال توزا: «هذا ليس مهمًّا الآن، أسرعْ بنا إلى مدخل النفق قدر استطاعتك.»

كابد باولو بعضَ المشقة حتى وصل إلى رفٍّ صخري في منتصف ارتفاع الشلال تقريبًا، وأزاح الشجيراتِ والفروعَ والنباتاتِ الشائكةَ بسرعة حتى ظهرت فتحة كبيرة بما يكفي لينفذ منها رجل.

تنحَّى باولو وقال: «ادخل أنت أولًا.»

رد توزا: «كلا، أنت مَن يعرف الطريق، ويجب أن تدخل أولًا. لا يمكن أن تظنَّ أني أريد بك شرًّا، فأنا أعزلُ تمامًا.»

قال باولو: «ومع ذلك لن أدخل قبلك. لم أطمئنَّ إلى نظرتك إليَّ عندما أخبرتُك أن الذهب لم يزل مكانه في التلال. أعترف بأني لا أثق بك.»

ضحك توزا وقال: «أوه، حسنًا، هذا لا يهم حقًّا.» وزحف إلى داخل الفتحة التي في الصخور وتبعه باولو.

وسرعان ما اتسعَ النفق بما يسمح بوقوف رجلٍ على قدَميه.

فقال باولو: «توقف! ها هو الباب قد اقترب.»

قال اللص: «نعم، أتذكَّر أنك تحدثتَ عن باب.» ثم أضاف: «لكن ما الغرض منه؟ ولماذا هو مغلق؟»

أجاب باولو: «إنه مغلق من هذا الجانب، لكن لن يصعب علينا فتحُه.»

كرَّر اللص: «ما الغرض منه؟»

أجاب الدليل: «الغرض منه منع تيار الهواء من الاندفاع في النفق والعصفِ بالحاجز الذي يُخفي طرَفَه من هذا الاتجاه.»

قال توزا وهو يتحسَّس طرَفه بحثًا عن المزلاج الذي يُغلقه: «ها هو.»

انسلَّ المزلاج بسهولة، وانفتح الباب. وفي اللحظة التالية دُفِع قاطع الطريق بغِلظة إلى داخل غرفة، وسمع صوت المزلاج يعود إلى مكانه في نفس لحظة غلق الباب تقريبًا. أبهر الضوءُ القوي عينَيه للحظة. ووجد نفسه في حجرةٍ يعمُّها ضوءُ مشاعل يحملها اثنا عشَر رجلًا واقفين.

وكان في منتصف الحجرة قالَبٌ من الحجر مغطًّى بقماشة سوداء، وبجانبه جلَّاد مقنَّع يُسنِد الطرَفَ الحادَّ لفأس على القالب المغطَّى بالقماشة السوداء، ويُمسك الطرفَ الآخر للفأس بيديه.

وكان الأمير واقفًا هناك يُحيطه مساعدوه. وفوق رأسه ساعةٌ تشير إلى تمام الرابعة.

قال الأمير في تجهُّم: «وصلت في وقتك تمامًا! كنا في انتظارك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤