مقدمة

عندما أذكر «هوميروس» و«القصائد الهوميرية»، فإنني في هذا الكتاب أعني ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة» المنسوبتَين إلى هوميروس منذ أقدم العصور. هل كان هذا الشاعر حقًّا يُدعى هوميروس؟ هل كان له وجود من الأساس؟ لا شك في أن ثَمَّةَ قصائد ليست من نسج قريحة مُؤلِّف «الإلياذة» و«الأوديسة» ونُسبَت إلى «هوميروس» إبَّان الحِقبة الكلاسيكية (انظر التسلسل الزمني)، ولكنها كانت في مرحلةٍ زمنيةٍ متأخِّرة. ومثل هذه الإسنادات الباطلة تُعد شهادة بمكانة «الإلياذة» و«الأوديسة» في الحِقبة الكلاسيكية. لا بُدَّ وأن اسم «هوميروس» له مصدرٌ ما، والأغلب الأعم أنه بسبب أنه كان اسم شاعرٍ شهير. تعني كلمة homeros اليونانية «رهين»، وقد بحث كثيرون عن دلائلَ في ذلك الشأن، أو التمسوا تفسيراتٍ خياليةً لاسم هوميروس. بَيْد أن هذه الأناشيد لم تظهر من العدم، ولم تتبلوَر من تُراثٍ تقليدي: فثَمَّةَ شخصٌ أنشدها. فالشعراء هم من يَنْظِمون القصائد. فهل نُسي اسم ذلك المُنشد العظيم إلى الأبد، ثم سرعان ما استُبدل باسم «هوميروس» الغامض؟ ومن الجائز أن اسم الشاعر الذي أنشد هذه الأناشيد كان في الحقيقة هوميروس، مثلما كان الجميع يُردِّدون دومًا.

إن السكوت المُمنهَج اللافت في «الأوديسة» عن وقائع رُوِيت في «الإلياذة»، ولم تتكرَّر مُطلقًا في «الأوديسة»، والجهود الجليَّة في «الأوديسة» لاستكمال قصة حرب طروادة يُوضِّحان أن مُنشد «الأوديسة» عرَف «الإلياذة» التي بين أيدينا معرفةً وثيقةً تفصيلية؛ فعلى سبيل المثال، تتضمَّن «الأوديسة» قصة حِصان طروادة وتصف جِنازة آخيل. لا بدَّ وأن نفس الشاعر، وهو هوميروس، قد أنشد القصيدتَين، على الرغم من طرح المُعلِّقِين منذ العصور القديمة تساؤلاتٍ حول هذا الأمر؛ ومع ذلك لم يكن ثَمَّةَ طريقةٌ أخرى من الممكن أن يعرف بها شاعر «الأوديسة» نَص «الإلياذة» تلك المعرفة المُتقَنة. فلم يكن ثَمَّةَ مكتباتٌ في زمن هوميروس ولا جمهور قُراء. بل إنه في القرن الخامس قبل الميلاد لم يمتلك إلا قلةٌ من الناس نُسخًا كاملةً من القصائد. ولم يكن مُمكنًا للمُنشدِين المُحترفِين، أمثال هوميروس، أن يكونوا قارِئِين تحت أي ظرفٍ من الظروف؛ فالمُنشِدون المُحترِفون لا يَتحاشَون تَكرار عناصرَ أو أفعالٍ استخدمها شاعرٌ آخر في قصيدة عن موضوعٍ ذي صلة؛ بل كانوا يفعلون العكس! وحده طَرْح مُؤلَّفٍ واحد يُمكن أن يُفسِّر السبب في أن «الأوديسة» تُكَمِّل التقاليد الواردة في «الإلياذة» ولا تُكرِّرها.

لا تُعَدُّ «الإلياذة» و«الأوديسة» أقدَم الأعمال الأدبية الباقية في التراث الأبجدي الغربي الإغريقي فحسب، ولكنها تُعَد، مع قصائد هيسيود، أقدم الأعمال الكاملة للكتابة الأبجدية من أي نوع. فيكاد لا يُوجد أي شيءٍ باقٍ (عدا شذَرات) بين هذه القصائد، التي تظهر في فجر الإلمام بالأبجدية الإغريقية، وبين الإنتاج الأدبي الغزير الذي اتَّسمَت به أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. فلماذا لم تنجُ «الإلياذة» و«الأوديسة» فحسب، بل أصبحت تُمثِّل الكلاسيكيات الأدبية الأساسية للحضارة الغربية؟ كيف صارت أدبًا كلاسيكيًّا ولماذا؟ ما حل هذا اللغز؟

علينا أن نتوقَّف لبرهة ونتساءل: ما «الإلياذة» وما «الأوديسة»؟ في المقام الأول، إنهما ينتميان إلى ما يُطْلَق عليه «نصوص»، وهي أشياءُ ماديةٌ ملموسةٌ قابلة للفساد، والتحلُّل، والتغيير المُتعمَّد، ولها تاريخ في العالم المادي. هما «أشياء» وهو ما نَنساه عندما نُفكر في خصائصهما من الناحية الأدبية. نريد أن نعرف كيف ظهرت هذه النصوص للوجود وأين، ولماذا، ومتى. هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة»، الذين يريدون أن يعرفوا الحال الذي كان يبدو عليه أول نص، وعلامَ كان ينص. يبحث علماء فقه اللغة في شأن ملحمتَي هوميروس من الناحية المادية حيث للرموز على الورق أشكالٌ مُعيَّنة يمكن تفسيرها بطرقٍ شتَّى.

كذلك تُعَد ملحمتا هوميروس أخصب مصدر للمعلومات عن اليونان القديمة؛ فقد كانتا دومًا عملًا كلاسيكيًّا عن اليونان نفسها وكل ما تَدِين به الثقافة الغربية لليونان. فلا وجود لشيء اسمه «اليونانيِّين» من دون القصائد الهوميرية. ماذا تروي لنا ملحمتا هوميروس عن الماضي؟ عن التَّرحال، والزواج، والتجارة، والحرب، والعِمارة، والاقتصاد، والسياسة، والدين؟ هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند المُؤرِّخِين»، وذلك هو المنظور الثاني لملحمتَي هوميروس في بحثنا، وهو أنهما عبارة عن وثائقَ مُدوَّنة تحكي لنا عن الماضي.

ولكنَّ ملحمتَي هوميروس تعني للغالبية، ممن ليسوا علماءَ في فقه اللغة ولا مُؤرِّخِين، القصص التي يُحبها الجميع ويُحبون الحديث عنها، وتأخذهم نشوة النَّظْم فيها. إن قصص ملحمتَي هوميروس هي التي تجعل منهما عملًا كلاسيكيًّا. ويُعتبر مبحث «ملحمتا هوميروس عند القارئ» — المنظور الثالث لملحمتَي هوميروس في بحثنا — هو المبحث الأكثر أهمية؛ لأنه ما يجعل لجهود علماء فقه اللغة والمُؤرِّخِين قيمة.

في هذا الكتاب المُوجَز، سوف أبحث في الجزء الأول الجوانب الثلاثة لملحمتَي هوميروس. وانطلاقًا من هذه المنظورات، سوف أقود القارئ في الجزء الثاني عبر القصائد على نحوٍ سريع بعض الشيء، وفي غضون ذلك سوف أُشير في سياق العرض إلى جوانب فقه اللغة، والجوانب التاريخية والأدبية التي اجتَذبَت الاهتمام لما يُناهز ثلاثة آلاف عام. بعد ذلك، في الجزء الثالث، سوف أصف كيف فَهِم الإغريق والرومان اللاحقون ملحمتَي هوميروس وحاكَوهما. وأخيرًا، سوف أستعرض بعض الأعمال الأدبية الإضافية الهامَّة التي تناوَلَت ملحمتَي هوميروس إلى جانب اقتراحات لمراجعَ إضافيةٍ للاستزادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤