الفصل الثالث

ملحمتا هوميروس عند القراء

يريد عالم فقه اللغة أن يعرف المصدر الذي جاءت منه قصائد هوميروس، والشكل الذي ربما كانت عليه في صيغتها الأصلية. ويرغب المؤرِّخ في أن يعرف أيُّ الأحداث في قصائد هوميروس ربما «يكون قد حدث بالفعل» وأيُّها محض خيالٍ شِعري. واستمتاع القارئ يجعل تلك الموضوعات ذات أهمية؛ لأن نصوص هوميروس كانت تُقرأ وتُدرَس منذ لحظة وجودها في القرن الثامن قبل الميلاد، وحتى وقتِنا الحالي الذي تُقرأ وتُدرَس فيه أكثر من أي وقتٍ مضى. ويسهل العثور على ترجماتٍ بديعة بلغاتٍ أوروبية مُعاصِرة وتُقرأ على نطاقٍ واسع في التعليم الثانوي والجامعي.

لا يَملك القارئ العادي وعيًا مباشرًا بمشكلة النص؛ لأن القارئ يتجاوب تجاوبًا مباشرًا مع العلامات الرمزية التي تَحويها الصفحة تبعًا لأنماط سلوك اكتسبها في سنٍّ مبكر. فالنص هو جزء من «عملية القراءة» وليس شيئًا تتدبَّره. كما أن متعة القارئ لا تنشأ عن فهم العوامل التاريخية على هذا النحو، وإنما من التلاحُق السريع للأحداث، والعمق الأخلاقي للصراع، وجمال التعبير، ومنطقية الحبكة. دعونا في هذا الفصل نتأمَّل الكيفية التي يتحكَّم بها هوميروس في تلك العناصر الأدبية.

(١) القراء القدامى والمعاصرون

إنَّ تجربة القارئ المعاصر مع «الإلياذة»، بأي لغة كانت، مختلفةٌ تمامًا عما قد يكون اليوناني القديم قد عرَفَه. فنحن نمتلك القدرة على إتمام قراءة النص بأكمله في بضعة أيام ولإدراك تركيبِه والقصة التي يرويها هوميروس إدراكًا واضحًا، وهو ما لم يكن من المُمكن مطلقًا أن يتحقَّق في العالم القديم. فالنصوص الأولى للقصائد الهوميرية لم يكن الغرض منها مُتعة القارئ، وإنما تقديم العون لأولئك الذين شرعوا في الإحاطة بأسرار الكتابة الأبجدية ليُعيدوا تكوين نسخةٍ سماعية من الصياغة الفعلية للشاعر واستظهارها. لا بدَّ وأن النصوص الكاملةً لملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد — التي كانت مَثار اهتمامٍ هائل، وذات تكلفةٍ باهظة لنسخها، وغير ملائمة للتخزين أو التشاوُر بشأنها — كانت بالغة الندرة ومن الصعب إيجادها. لهذا السبب كانت قصائد «دائرة الملاحم»، التي ظهَرت لاحقًا والتي كانت أقصر كثيرًا، معروفة في العصر العتيق على نحو أفضل كثيرًا من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ وذلك استنادًا إلى التمثيلات الفنية للأساطير الإغريقية. ومن غير المُتصوَّر أن أحدًا على الإطلاق، في القرون الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد قد جلس و«قرأ» ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة» كما نقرؤها هذه الأيام.

كانت المرة الأولى التي قُدِّمَت فيها «الإلياذة» و«الأوديسة» أمام الجمهور في العالم القديم، بقَدْر ما نعلم، في مهرجان عموم أثينا في القرن السادس قبل الميلاد، عندما — بحسب pseudo-Plato «المحاورات المنسوبة كذبًا إلى أفلاطون» (انظر الفصل ١، قسم «لوح بيليرفونتيس: حُجج فريدريش أوجست وولف») — كان مجموعة من الرابسوديِّين المُتعاقبِين يُؤدُّون أجزاءً منها، «رجل يَعقُب آخر كما لا يَزالون يفعلون في زماننا هذا» (بسبب الطول المُفرِط للقصائد كان من غير الممكن أداؤها كاملةً في هذا المهرجان). والدليل الوحيد الذي بين أيدينا على تمثيلٍ فني أقدم للقصائد هو فيض الرسوم التي تُصوِّر سَمل عين بوليفيموس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد (انظر شكل ٢-٥)، والتي تشير إلى أن جزءًا مقتطفًا من «الأوديسة» كان منتشرًا انتشارًا واسعًا. وقد يكون اليوناني مُعرَّضًا على نحوٍ معتاد لمثل هذه المُقتطَفات في تعليمه، وهو الأمر الذي كان أساس مأخذ زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد.

على النقيض، يُمكننا في الوقت الحاضر أن نُطالِع القصائد باللغتَين اليونانية أو الإنجليزية. ولو كانت المطالعة باللغة اليونانية، فإن القارئ، مهما كان متمرسًا، سوف يتحيَّر باستمرارٍ إزاء الصِّيَغ الغريبة والمفردات غير المعروفة، وهي الصعوبات التي من أجلها وُجدَت شروحاتٌ مستفيضة للقارئ المُجِد؛ فكل بضعة أبيات تحتوي على كلمة لن تتكرر ثانيةً أبدًا. بل إن هوميروس نفسه، على ما يبدو، لم يكن يفهم دومًا معنى كلماته وبعض تراكيبه النحوية، وإنما ينقل شيئًا ورَد إليه بأسلوب الصياغة الشفاهية. إن قراءة ملحمتَي هوميروس باللغة اليونانية، حتى للمُتمرِّسِين، هو أمرٌ بطيءٌ وصامت.

عندما نقرأ باللغة الإنجليزية تمسَحُ أعينُنا الصفحة بسرعة في صمت، مستغلةً فواصل الأبيات والكتابة بالأحرف الكبيرة وفواصل الكلمات وعلامات الترقيم لاستيعاب الطابع الشعري الذي وُضعَت قواعده لأجل الصفحة المطبوعة. إن تجربةً كهذه يمكن أن تكون مُشوِّقة، ولكنها ضئيلة الصلة بخبرة فرد من جمهور هوميروس المفعم بالحياة؛ حيث كان ثَمَّةَ صلاتٌ وثيقة، أو بخبرة جمهور أحد رواة الملاحم (رابسودي)، حيث تكون براعة المُمثل هي الأهم.

(٢) أسلوب هوميروس

يُدهَش الجميع لأسلوب هوميروس الغريب (على الرغم من أن المُترجمِين غالبًا ما يُخفونه)؛ فهو يتَّسم بالتكرار المُفرِط؛ إذ يتكرر بيت من كل ثمانية أبيات على الأقل مرةً واحدة. والتكرار الحرفي للرسائل والتوجيهات الأخرى هو سمةٌ ذات صلة وتعكس منشأ القصائد من ناحية كونها نصًّا مكتوبًا عن طريق الإملاء الشفاهي. وثَمَّةَ مثالٌ واضح على ذلك في الكتاب الثاني من «الإلياذة»، عندما يُجهِّز زيوس حُلمًا ملفقًا ليرسله إلى أجاممنون، ثم بعد ذلك يُكرِّر إله الحُلم توجيهات زيوس على أجاممنون بحذافيرها. ثم يقُصُّه أجاممنون على الملوك الآخرين (الإلياذة، ٢، ١١–١٥ الذي يكافئه ٢، ٢٨–٣٢ وكذلك ٢، ٦٥–٦٩). وتظهر تكراراتٌ مماثلة في أدب بلاد ما بين النهرَين، على الرغم من أنها ليست نصوصًا مكتوبة عن طريق الإملاء الشفاهي.

والأهم مِن كل ذلك النعوت المتكررة المتواترة التي حيرت ميلمان باري كثيرًا:

ثم أجابه آخيل «ذو القدمَين السريعتَين» وقد اشتدَّ غضبه: لقد خدعتني أيها «الإله الذي يعمل من بعيد»، و«أشد الآلهة قسوة …» (الإلياذة، ٢٢، ١٤-١٥)

وكما رأينا، فإن الاصطلاحات من هذا النوع، وما يُماثلها من التعبيرات والفقرات المُصاغة، هي جزء من اللغة الخاصة للمُنشِد المَلحمي؛ إذ تُعين المُنشِد على النَّظم ارتجالًا مستخدمًا وحداتٍ دلالية أكبر من «الكلمة» المطبوعة. والمَيزة العملية لأسلوب الصياغة النمطية المتكرِّرة أنه يتيح للشاعر أن يَنْظم بتدفقٍ ثابت، مع إبطاء إيقاع السرد بزيادة النسبة بين عدد «الكلمات» المنطوقة ووحدة التوصيل الدلالي. فعبارة «آخيل ذو القدمَين السريعتَين» تستغرق وقتًا أطول في قولها ولكنها تعني فقط «آخيل» (نعم، هو رياضيٌّ عظيم، ولكن تذكيري بالأمر لا يُطلعني على أي شيء لم أكن أعرفه بالفعل أو شيء ذي صلة في هذا السياق خاصةً). لا شك في أن النعت يستحضر تراثًا شاسعًا من الحكايات عن آخيل، مكتسبًا بذلك قوة، ولكنه لا يُحدِث أي تطوير في السرد على الإطلاق.

إنَّ إبطاء السرد بهذه الطريقة لا يمنع إيقاع القصة من أن يكون سريعًا كالبرق، كما هو الحال في استهلال «الإلياذة»، إلا أن هوميروس لا يقع أبدًا تحت ضغوط تدفعه إلى إغفال أي شيء. إنه يطيل أمد قصته، كما لو كان لديه متَّسعٌ كبير من الوقت. وكانت هذه النزعة تصبُّ في مصلحة وجهة نظر المُحلِّلِين القدماء، الذين أبصروا حالات انحرافات عن إطار السرد المثالي المُنتظِم الخالي من العوائق نتيجة تراكم، أو حشْو، أو تنقيحاتٍ لاحقة. ولا يَملك القُراء المعاصِرون، الذين تربَّوا على مشاهدة التليفزيون، الصبر إزاء هذا النوع من وسائل السرد ويرون أن الكتب التي تحتويها «الإلياذة» والتي تتناول المعارك هي كتبٌ تتَّسم بالرتابة والطول المُفرط. فلا يُمكن للقارئ أن يستمتع بسلسلة الحكايات المختلَقة التي يَرويها أوديسيوس في النصف الثاني من «الأوديسة» إلا من خلال الحب الخالص للسرد بأي شكل من الأشكال. فمِن دون هذه القصائد لم يكن يُمارَس أي ضغط على الشاعر لتكثيف سرده، بل على العكس تمامًا!

يمتزج التَّأَنِّي المفرط، الذي من خلاله يستطيع الشاعر أن يروي قصته، مع نفور من التشويق، وهو ما يُعَد أحد الأدوات المفضَّلة للروائيِّين المعاصرين. على سبيل المثال، عندما تستهلُّ بينيلوبي مسابقة القوس، يُصرِّح أنطونيوس الخاطب الرئيسي بألا أحد من الحاضرين نِدٌّ لأوديسيوس، ولكنه يأمُل في سريرته أن يستطيع هو نفسه أن يشدَّ وتر القوس. لسْنا بحاجة للتساؤل بشأن ما إن كان سيُفلِح، أو ما سيكون إليه مآل أنطونيوس المُختال بنفسه؛ لأنَّ هوميروس يُخبرنا بما سوف يحدث:

هكذا تكلم، ولكن قلبه الذي بين أضلعه كان يأمل أن يستطيع أن يَثني وتر القوس ويُطلِق سهمًا عبر حديد القوس. بيْد أنه في الواقع سيكون أول من يذوق سهمًا من يد أوديسيوس النبيل، الذي كان يُدنِّس سيرته بلسانه بينما كان يَجلس في الردهات يُحرِّض رفاقه. (الأوديسة، ٢١، ٩٦–١٠٠)

وعلى نفس المنوال، في مشهدٍ شهير تكتشف المُربِّية العجوز أوريكليا النَّدْبة المُميِّزة على فخذ أوديسيوس التي تشي بهُويَّته. يُلحِق هوميروس بهذا المشهد الذي يتناول التعرُّف أطولَ حوارٍ جانبيٍ في كلتا القصيدتَين، وهو تفسير لكيفية إصابته بالندبة أثناء صيد للخنازير البرية، بل وكيف منَحه جَده لأمه اسمه الذي يَحمِله. وبينما تُمسك أوريكليا برجله، وهوميروس يُفسر مصدر الندبة، ولا نتساءل بتلهُّف عما إن كانت ستتعرَّف على المُتسوِّل وتعرف أنه سيدها؛ لأن أول شيء يُطلِعنا عليه هوميروس هو أنها تتعرف عليه بالفعل:

وهكذا دَنَت وبَدأَت تغسل [قدمَي] سيدها. وعلى الفور تعَرَّفَت على نَدبة الجُرح الذي أصابه به خنزيرٌ بري بِنابه الأبيض منذ زمنٍ بعيد … (الأوديسة، ١٩، ٣٩٢-٣٩٣)

ليست مسألة «ما الذي سيحدث بعد ذلك؟» هي ما يشغل بال الجمهور وإنما إعادة الصياغة الدرامية المتأنية لعالم بأكمله: الناس الذين يعيشون فيه، وما يُفكرون فيه ويقولونه، والاختيارات التي يتخذونها، وأوجاعهم وأفراحهم، والأحداث التي تحلُّ بهم؛ فالشعر يأخذنا إلى عالمٍ بديل، نرغب في أن نكون فيه.

ولا عجب في كون أسلوبٍ متمهِّل كهذا مواتيًا للتوصيفات الدقيقة للأشياء والأحداث. على سبيل المثال، عندما يستعد بريام في الكتاب الرابع والعشرين من «الإلياذة» لزيارة المعسكر اليوناني، يُجهِّز الخدمُ عربته:

ثم أنزلوا نِير البغال من الوتد الخشبي، وهو ذو رأسٍ مستديرة، ومُزوَّد بالحلقات كي يمرَّ منها اللِّجام. وكذلك أحضروا سيرًا من الجِلد بطول تسعة أذرع، وبه ثبَّتوا النِّير جيدًا فوق العريس المصقول، من خلال الحلقات الأمامية؛ وذلك بوضع الحلقات في وتدٍ خشبي، ثم ربطها ثلاث مرات من الجانبَين فوق سُرَّة النير، وبعد تثبيتها جيدًا صنعوا عقدة في نهاية السير الجلدي. (الإلياذة، ٢٤، ٢٦٨–٢٧٤) [ترجمة عادل النحاس، المركز القومي للترجمة (بتصرف يسير)]

في كتب المعارك في «الإلياذة» تظهر توصيفات مفصلة كثيرة للموت المروِّع:

إذ ضربه ابن تيلامون، الذي اندفع من بين الجموع، عن قربٍ شديد، على خَوذته البرونزية ذات الجوانب الواقية للصُّدغ، فانشَطرَت الخوذة المُزيَّنة بعُرفٍ من خصلات من شعر الجياد تحت رأس الرمح؛ إذ أصابها الرمح العظيم واليد القوية، واندفع المخ عبر الجرح على طول مَغرِز الرمح، الذي تلطَّخ كله بالدماء … (الإلياذة، ١٧، ٢٩٣–٢٩٨) [ترجمة عبد السلام البراوي، المركز القومي للترجمة (بتصرف)]

يتميَّز جمهور هوميروس بولعٍ بالدم، وهو الولع الذي يُشبعه وصفٌ دقيق، ولكنه يأنَف من الإشارة إلى التوظيفات الجسدية أو التوصيفات الصريحة للأفعال الجنسية، التي لا تَتناسَب مع العالم البطولي ومع إكباره لخصال الرجولة.

تُعزِّز رغبة هوميروس في قول كل شيء — وهو الأمر الذي يَبلغ حد التطرُّف — من مسألة تعديد الأسماء، التي يُوجد منها الكثير في كلتا القصيدتَين. ومن الأشكال الشائعة لتعديد الأسماء، سلسلة النسَب، التي يُعدِّد فيها البطل أسلافه ليُثبت جدارته. وفي مَشاهد المعارك يُمكن لتعديد أسماء الضحايا أن يُعظِّم الفعل ويُضخِّمه، كما في الكتاب الحادي عشر من «الإلياذة» عندما يَختبر أوديسيوس، المُحاصَر، معدنه:

… ولكنه ضرب أولًا البطل الفذ ديوبيتيس بعد أن قفَز فوقه وضربه أعلى كتفه برمحه الحاد، وبعد ذلك قتل ثوون وإنوموس، ثم انقضَّ على خيرسيداماس وهو يَثِب من عربته وضربه برمحه في السُّرة من تحت درعه الضخم، فسقَط في التراب وتشبَّثَ في الأرض بقبضتِه. وترك أوديسيوس هؤلاء وحدَهم وهاجم خاروبس بن هيباسوس، شقيق سوكوس الثري، وقتَلَه بضربة من رمحه. (الإلياذة، ١١، ٤٢٠–٤٢٧)

ما مصدر الأسماء الألف التي تظهر في هذه القصائد؟ على ما يبدو أن هوميروس يأخذها من مستودَعٍ عامٍّ للأسماء (فلا نسمع بمعظم هؤلاء الناس أبدًا قبل أو بعد هوميروس)، ذاك الذي يُعدُّ جزءًا من ذخيرة المُنشِد الملحَمي. ففي أكبر تعديد أسماء في الملحمتَين، وهي قائمة السفن الشهيرة في الكتاب الثاني من الإلياذة، يُرتِّب هوميروس معلوماتٍ جغرافيةً حقيقية تبعًا لنسقٍ مُعقَّد. ولتعديد الأسماء نظائرُ بارزة في أدب الشرق الأدنى. على سبيل المثال، يُخصَّص قسمٌ كامل تقريبًا من ملحمة الخلق البابلية مِن بلاد ما بين النهرَين «إنوما إليش»، (وهما ببساطة أول كلمتين في الملحمة) وتعني «عندما كانت السماوات العلى …» تلك التي تحكي قصة انتصار الإله مردوخ خالق العالم على قوى الفوضى، لتعديد لأسماء مردوخ. فمما لا شك فيه أن في مجتمعٍ شفاهي كان تعديد الأسماء وسيلةً لتنظيم المعلومات، أخذه كتَبة الشرق الأدنى المُلِمُّون بالقراءة والكتابة مثلما أخذوا خصائصَ أسلوبيةً أخرى يتَّسمُ بها الشعر الشَّفاهي.

ثَمَّةَ سمةٌ لافتة أخرى يتَّسم بها أسلوب هوميروس وهي ميله إلى «النَّظم الدائري»، أي أنْ يَطرح المعلومة [أ]، و[ب]، و[ﺟ] ثم يُجيب عليها بترتيب معكوس أي [ﺟ] ثم [ب] ثم [أ]. على سبيل المثال، عندما يَلتقي أوديسيوس بأمِّه في العالم السُّفلي يَسألها:
أيُّ مَنيَّة من منايا الموت المُفجِع ألمَّت بكِ [أ]؟ أكان مرضًا طويلًا، أم أن أرتميس، رامية السهام، أصابتْكِ بسهامها النَّبيلة [ب]؟ وخبِّريني عن أبي [ﺟ] وابني [د]، اللذَين خلَّفتهما ورائي. هل ما زال الشرف [geras]، الذي كان لي، بين ظهرانيهما، أم إن رجلًا آخر الآن يَملكه، وهل يقول الناس إنني لن أرجع أبدًا [ﻫ]؟ وخبِّريني عن زوجتي المُخلِصة، عما تنويه وما يدور بخلَدِها. هل ما زالت إلى جوار ابنِها، وتُبقي كل الأشياء مصونة؟ أم إن مَن هو أفضل الآخيِّين قد تزوَّجَها بالفعل [و]؟ (الأوديسة، ١١، ١٧١–١٧٨)

عندما تُجيب والدة أوديسيوس (الأبيات ١٨٠–٢٨٤)، فإنها تفعل ذلك بترتيبٍ معكوس: فبينيلوبي لا تَزال صامدةً في المنزل [و]، ولا يحوز رجلٌ آخر شرفه [ﻫ]، وابنه ما زال على حاله [د]، وأبوه يعيش في الريف [ﺟ] (تستفيض مُطولًا في الحديث عن معاناته). أمَّا بشأن موتها، فلم تكن أرتميس [ب] هي التي قتلتْها، وإنما الشوق إلى ولدها، أوديسيوس [أ]. وقد استنبطَ باحثُون كثيرون أنماطًا مُعقَّدة للنَّظم الدائري في القصيدة ككل وفي أجزائها المُتنوِّعة. وهذه بالضبط هي الطريقة التي نَنظم نحن بها المعلومات عندما نتحدَّث علنًا ويكون حديثنا عفويًّا دون إعدادٍ مُسبق. ومُجددًا، تعكس سيطرة النَّظم الدائري على صعيد الأسلوب وفي أنماطٍ أوسع، الأصول الشفاهية لهذه القصائد.

(٣) التشبيهات

ثَمَّةَ سمةٌ بارزة من سمات أسلوب هوميروس المتمهل تستحق اهتمامًا خاصًّا وهي التشبيه. والتشبيه، الذي يُعَدُّ أكثر شيوعًا بكثير في «الإلياذة» عنه في «الأوديسة»، هو وسيلة لإيقاف الحدث، والانسحاب منه والتعليق عليه، وإثرائه، وفي بعض الأحيان الحكم عليه. كما في وصف هوميروس لدرع آخيل، الذي هو نفسه عبارة عن تشبيهٍ ممتد؛ إذ يُرينا هوميروس عالمًا عاديًّا يقطنه أُناسٌ عاديون في منظومةٍ معتادة؛ رعاة يحمون القطعان، ويحلبون الأبقار، ويحصدون القمح، أو نساءٌ بسيطات يغزلن:

ثم بسرعة شقَّ ابن أويليوس [أي أياس الأدنى شأنًا] طريقه نحو المُقدِّمة، وعلى مقربةٍ بعده جرى أوديسيوس الإلهي. وأصبح على مقربة منه كدنو وشيعة المغزل من صدر امرأة ذات نطاقٍ جميل، وهي تشدُّها بيدَيها بعناية وتسحب خيط الغزل عبر السداة، وتُمسِك العصا على مقربة من صدرها، هكذا بهذا القرب ركض أوديسيوس وراءه. (الإلياذة، ٢٣، ٧٥٨–٧٦٣)

عادةً ما يَلتقي التشبيه بالموقف الذي يصفه في نقطةٍ واحدة فقط. في هذه الحالة، في سباق عَدو، كان قُربُ أوديسيوس من أياس يكافئ قرب وشيعة المغزل من صدر امرأة. وبخلاف ذلك فالمَشهدان مُختلفان تمامًا عن عمد. فهناك، من ناحية، المسلك البطولي على السَّهل العاصِف، ومِن الناحية الأخرى، العالم الهادئ المَصون والمُسالم المحيط بمسلك أنثى مُبدِعة.

تستدعي الطبيعة تشبيهاتٍ كثيرة وبخاصَّة عمليات الافتراس التي تقوم بها السنَّوريَّات المُفترِسة، التي يسهل مقارنتها بالمُحاربِين في عُدوانيتها الخَطِرة. ومع ذلك، فنُقطة الالتقاء ستكون بسيطة. آخيل يُهاجم إنياس مثل أسدٍ كاسر:

وعلى الجانب الآخر اندفَعَ ابن بيليوس لمُلاقاتِه وكأنه أسد، أسدٌ كاسر يتلهَّف الرجال لقَتلِه، جمعٌ من الناس احتشد، ويَتجاهَلُهم الأسد في البداية ويَمضي في طريقه، ولكن عندما يَرميه واحد من الشبان السريعِين في النزال برمح، عندها يَستجمِع قُواه ويفغر فاه ويَسيل الزبَد من بين أنيابِه، وفي قلبه تُزمجِر رُوحه الشجاعة ويَلطم بذَيلِه أضلُعَه وجنبَيه على هذا الجانب وذاك ويَستجمِع نفسه للقتال وبعينَين متقدتَين يَهجم مباشرةً وهو في فورة غضبِه، إمَّا أن يقتل أحدهم أو يَلقى حتفه في الهجمة الأولى. هكذا كان حال آخيل المدفوع بحميتِه ورُوحِه لمجابهة إنياس ذي القلب الباسل. (الإلياذة، ٢٠، ١٦٤–١٧٥)

غضبٌ عاتٍ هو كل ما يجمع بين حال آخيل وحال الأسد: فآخيل لم يُجرَح (أما الأسد فجُرح) وآخيل لم يكن في البداية غير مُبالٍ، ثم استَشاط غضبًا على العدو.

ومع ذلك، يُمكن أحيانًا للحال في التشبيه أن يَتشابه مع الحال الذي يَصفه. فعندما يرى أوديسيوس الوصيفات وهنَّ يَمضين ليُعاشرنَ الخُطَّاب، يُزمجِر قلبه ويُفكِّر في قتلهنَّ حينئذ:

ومثلما تُراقب الكلبة عن كثبٍ جِراءَها الغضَّة، وتُزمجِر عندما ترى رجلًا لا تَعرفُه، وتتحمَّس لقتاله، كذلك زمجرَ قلبه بين أضلعه في غضبتِه على فعالهم الخبيثة. (الأوديسة، ٢٠، ١٤–١٦)

إنَّ نقطة الالتقاء هي «الزمجرة»، ولكنَّ حالَيهما مُتشابهان إجمالًا؛ فالكلبة تُزمجِر لأنَّ صغارَها الأحبَّاء مُهدَّدون؛ بينما يُزمجِر أوديسيوس لأن ملكات يَمينه، الوصيفات، يستولي عليهنَّ غرباء.

إجمالًا، لقد رأى القُراء في التشبيهات اللمسة الشخصية العُظمى للشاعر هوميروس نفسه، كما هو الحال لدى شعراء العصور الحديثة في تصورنا؛ لأنَّ استخدامَه للغة والتصوير في التشبيهات مُفعَم بالإحساس ومُدهِش لدرجة أنَّنا نَشعُر بالتقارُب مع شخصية الشاعر. وفي حين آل التشبيه إلى هوميروس على هيئة أداةٍ أسلوبيةٍ تاريخية، مألوفة في أدب بلاد ما بينَ النهرَين ولكنها غير مُطوَّرة أو مُستغَلة (ومما يُثير الدهشة أنه لا يكاد يكون لها وجود في «الملاحم» غير الغربية)، فإنه يَبدو أن هوميروس الإنسان قد طوَّره ووظَّفه ليُصبِح وسيلة لامتداداتٍ فكريةٍ مُذهِلة، مثلما في التشبيه التالي مِن مشهَد مُبارَزة، حيث يُقارن هوميروس بين الجيشَين اللذَين يَشُدَّان من الجانبَين جثمانًا فيما بينهما بقرويِّين يَدبغُون جلد ثور:

وكما حينما يُعطي رجلٌ جِلد ثورٍ ضخم، غارق في الشحم، إلى قومِه لكي يشُدُّوه، وعندما يأخُذُونه يَقِفون في دائرة ويشُدُّونه، فتخرج الرطوبة من فورها ويَنفصِل الشحم جرَّاء جذب أيادٍ عديدة، ويتمدَّد الجلد مِن كل اتجاه إلى أقصى حد، هكذا من هذا الجانب وذاك كانوا يَتجاذَبون الجثمان جيئةً وذهابًا في مساحةٍ ضيِّقة وقلوبهم مُفعَمة بالأمل، أمل الطرواديِّين في أن يَسحَبوا الجثمان إلى طروادة، أمَّا أمل الآخيِّين فكان أن يعودوا به إلى السفن المُجوَّفة. (الإلياذة، ١٧، ٣٨٩–٣٩٧)

بل إنَّ ثمَّة تشبيهات أكثر رقيًّا:

عاد الدانانيُّون يَتدفَّقون بين السفن المُجوَّفة، وتصاعَد صخب واستمر. ومثلما، من فوق الذِّروة المطلَّة لجبل شاهق يُبعِد زيوس جامع الصواعق غَيمةً كثيفة عنه، فتَبين قمم الجبال والمرتفعات والوِهاد ويتدفَّق من السماء النسيم العليل المتواصل، هكذا كان الدانانيون عندما كانوا يُبعدون نار [الطرواديِّين] الآكلةَ عن السفن، ويَستريحون استراحة مُحاربٍ قصيرة، مع أن الحرب لم تتوقَّف. (الإلياذة، ١٦، ٢٩٥–٣٠٢)

ما نُقطة الالتقاء هنا؟ من الواضِح أنها قِصَر فترة استراحة الدانانيِّين من الحرب. لا يقول هوميروس إنَّ الغيمة المُكفهِرة ستعود سريعًا لتُغطِّي الجبل، ولكن علينا أن نُخمِّن ذلك. ففي البداية ثَمَّةَ عَتَمةٌ تكسو الجبل، ثم يَسطَع بنور الشمس، ثم يعود مُعتِمًا ثانيةً. كذلك يَنغمِس الدانانيون في الحرب، ويَجدون مُتنفَّسًا، ثم يعودون للانغماس في الحرب. نَستخلِص مِن ذلك أن جمهور هوميروس المُثقَّف يُقدِّر التصوير المُبدِع ويَميل إلى الفكر الراقي.

(٤) هوميروس وحبكة القصة

إنَّ الصيغ والعبارات المُدبَّجة، والوصف المُفصَّل، والعداء للتشويق، والتشبيهات المُتقَنة، كلُّها وُجدَت لتدعيم القصة التي يَرويها هوميروس، التي تُمثِّل البناء الذي تقوم عليه الحبكة، والتي هي بمَثابة العمود الفقري الذي يقوم عليه الأسلوب السردي. إننا نَعتبِر الحبْكة أمرًا مُسلَّمًا به في وسائل الترفيه الحديث، في الروايات والأفلام الروائية الطويلة، ولكن ثَمَّةَ القليل من الدلائل على وجودها في آداب عصر ما قبل الهيلينية. ثَمَّةَ استثناءٌ بالغ الأهمية وهو ملحَمَة «جلجامش»، التي تحتوي بالفعل على حبكةٍ بدائية، على الأقل في الصيغة المحفوظة على الاثنَي عشر لوحًا التي عُثر عليها في مدينة نينوى. إنَّ المعنى الذي نَعرِفه لمفهوم الحبكة يرجع مباشرةً إلى هوميروس، ولكنه في هذه المسألة، مثلما في مسائلَ أُخرى كثيرة، بنى على إنجازاتٍ سابقة.

قد يبدو الأدب السردي وكأنه يُشبه الحياة، بيْد أن في الحياة ليس ثَمَّةَ حبكة؛ فالتشبُّه بالواقع في الأدب ليس إلا وهم. ما هي الحبكة، ذلك المُحرِّك لقصائد هوميروس؟ كان أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) أَوَّل من حلَّل عناصر الحبكة، التي يدعوها muthos (ما نُسمِّيه نحن «الأسطورة» أو «الخرافة»). وأغلب تفكيره يدور حول الدراما الإغريقية، التي هُذِّبَت فيها مبادئ أرساها هوميروس وحُوِّلَت إلى الحبكة المُعاصِرة التي نألفها في زمننا الحاضر:
إنَّ الترتيب الصحيح للحوادث … هو أول وأهم نقطة في المأساة. لقد قرَّرنا أن المأساة هي محاكاة فعلٍ [mimesis praxeos] تامٍّ وله مدًى معلوم؛ لأنَّ الشيء قد يكون تامًّا دون أن يكون له مدى. والتامُّ هو ما له بداية ووسط ونهاية. البداية هي ما لا يَعقُب شيئًا آخر بالضرورة، ولكن يَعقُبه شيءٌ آخر، يُوجد أو يحدث كنتيجةٍ طبيعية له والنهاية على العكس من هذا، هي ما يترتَّب بالضرورة أو أحيانًا على شيءٍ آخر، ولكن لا يَعقُبه شيء. أمَّا الوسط فهو ما يترتَّب على شيءٍ آخر ويترتَّب عليه شيءٌ آخر. ومِن ثم لا يَجبُ للحبْكات [muthoi]، حين يُجاد تأليفها، أن تبدأ وتنتهي كيفما اتفق، بل يجب أن تَنسجِم مع المبادئ التي أورَدْنا ذكرَها. (أرسطو، «فن الشعر»، نقله إلى الإنجليزية دبليو هاميلتون فايف (بتصرف)، القِسْم ١٤٥٠ب)
إذن للحبكة عناصرُ ثلاثة: بداية، ووسط، ونهاية. وهذه العناصر ليسَت قابلة للتبادُل فيما بينها وإنما لها خصائصُ متفرِّدة. وقد ظهرت تلك العناصر، حسبما رأى أرسطو، أول ما ظهرَت في شعر هوميروس:
إذ إنه حينما ألَّف «أوذوسيا» [الأوديسة] لم يَرْوِ جميع حوادث حياة أوديسيوس — مثلًا، أنه جُرِح على [جبل] فارناسوس [بارناسوس] وتظاهَرَ بالجنون حينما احتشَدَ الإغريق — لأنَّ هذَين الحادثَين لا يرتبطان بحيث إذا وقع الواحد وقع الآخر بالضرورة [أو] احتمالًا، وإنما ألَّف «أوذوسيا» بأن جعل مدار الفعل [praxis] فيها حول شيءٍ واحد بالمعنى الذي نَقصِده. وكذلك فعل في «الإلياذة». وكما في سائر فنون المُحاكاة تنشأ وحدة المحاكاة من وحدة الموضوع؛ كذلك في الخرافة [الحبكة]؛ لأنَّها محاكاة فعل [mimesis praxeos]، فيجب أن تحاكي فعلًا واحدًا وتامًّا، وأن تُؤلَّف الحوادث المُكوِّنة بحيث إذا نُقل أو بُتر جزء انفرط عِقد الكل وتزعزَع؛ لأنَّ ما يُمكن أن يُضاف أو ألَّا يُضاف دون نتيجةٍ ملموسة لا يكون جزءًا من الكل (أرسطوطاليس، «فن الشعر») [ترجمة عبد الرحمن بدوي (بتصرف)، القِسْم ١٤٥١أ، ص٢٥-٢٦].
إنَّ كلمات أرسطو هي بعض أكثر الآراء خضوعًا للدراسة والبحث في النقد الأدبي. يبدو أنه يعني أن، أولًا، الأدب ليس الحياة وإنما «محاكاة» mimesis. محاكاة لماذا؟ «لفعل» praxis واحد ولمُجمَله (الذي يَشتمِل على ثلاثة أجزاء). والفعل المتعلِّق بملحمة «الأوديسة» هو عودة أوديسيوس إلى الوطن والبيت. وليس الفعل المتعلِّق بملحمة «الإلياذة» هو «حرب طروادة»، التي لا يُمكن أن تكون مبحثًا واحدًا، وإنما غضبة آخيل. ففي الملحمتَين نَكتشِف كل شيء عن هذَين الفعلين، من البداية إلى النهاية، في ثلاثة أجزاء ليسَت قابلة للتبادُل فيما بينها.

وتظلُّ تلك هي عناصر الحبكة في الأدب الروائي المعاصر، الذي يُعَد الفيلم الروائي الطويل، بفارقٍ شاسِع، أهم قوالبه. والحبكات في الأفلام الروائية الطويلة تتبَع صيغة صارمة؛ إذ تُقسَّم إلى ثلاثة أجزاء تفصلها «نقطة تحوُّل في الحبكة»، أي حدثٌ يُغيِّر وِجهة القصة. في فيلم مدته ١٢٠ دقيقة، تظهر نقاط تحوُّل الحبكة الأساسية في الدقيقتَين الثلاثين والتسعين وثَمَّةَ نقطةُ تحوُّل ثانوية في الدقيقة الستين، التي تُمثِّل منتصف الفيلم.

إنَّ كلًّا من «الإلياذة» و«الأوديسة» تفوق الفيلم الروائي الطويل طولًا بثماني أو تسع مرات، ولكنهما تَندرِجان ضمن البِنية الثلاثية نفسها. في الجزء الأول من «الإلياذة»، يَتنازع آخيل مع قائدِه، الذي يأخذ منه مَحظِيَّته. وتلك هي نقطة التحوُّل الأولى في الحبكة، التي تَنعطِف بالأحداث منتقلةً إلى القسم الأوسط بالغ الطول، الذي تُمثِّله الكتب من الثاني وحتى السادس عشر، حيث تتحوَّل دفَّة القتال ضد اليونانيِّين. ويَنقسِم القسم الأوسط إلى نصفَين عند نقطة المُنتصَف بحدث إرسال البعثة غير المُثمِرة إلى آخيل في الكتاب التاسع، الذي يُمثِّل نقطة تحوُّل ثانوية للحبكة. ويُعَد موت باتروكلوس في الكتاب السادس عشر هو ثاني نقاط التحوُّل الرئيسية في الحبكة، الذي يَنعطِف بالقصة إلى شطرها الثالث الذي يُنتقَم فيه لباتروكلوس، ويذهب عن آخيل غضبه أخيرًا.

تَملِك «الأوديسة»، شأنها شأن «الإلياذة»، بِنيةً ثُلاثيةً. فالبداية مُخصَّصة لتليماك؛ حيث فوضى وبلبلة في البيت وابن يُحاول العثور على أبيه. في نقطة التحوُّل الأولى في الحبكة يَهرب أوديسيوس مِن جزيرة الحورية كاليبسو وتتحوَّل وجهة القصة ونحن نَستكشِف جهود أوديسيوس للعودة إلى بيتِه ووطنه، ليكون الإفصاح عن هُويتِه على جزيرة فياشيا هو نقطة التحوُّل الوسطى في الحبكة، التي بعدها يَصف أوديسيوس رحلاته، ذاك الذي يُعَد بمثابة رجلٍ وُلِد من جديد على وشك دخول بيتِه ووطنه اللذَين غادرهما منذ زمن بعيد. القسم الثالث والأخير تدور أحداثه على جزيرة إيثاكا. يَلقى الابن أباه، تلك هي نقطة التحوُّل الثانية في الحبكة، ومعًا يُسوِّيان الصراع بين أولئك الذين يَسلُكون مسلكًا يتعارَض مع العدالة، ويأخذون ما ليس لهم، وأولئك الذين يُدافِعون عن بيوتهم وزوجاتهم في مواجَهة الاعتداء على حُرماتهن.

(٥) هوميروس والنوع الأدبي

كثيرٌ من الكلمات التي نستخدمها لوصف، أو مناقشة، الأدب القديم ليس لها نظير في اللغات القديمة، ويشمل ذلك أغلب مصطلحات النقد الأدبي المعاصرة (على سبيل المثال، «التناص» Intertextuality، و«ما وراء المسرح/الميتامسرح» metatheatre)؛ وكلماتٌ ذات أصلٍ يوناني اتَّخذت عندنا معنًى مختلفًا. وكلمة Epic «ملحمة/ملحمي» هي واحدة من تلك الكلمات، التي نستخدمها للدلالة على نوعٍ أدبيٍّ رئيسي من الأدب القديم استهلَّه هوميروس. بيْد أن اليونانيِّين لم يملكوا كلمةً تُكافئ لفظة «القصص الشفاهية» ولم يُقسِّموا القصص التي روَوها إلى أنماط أو أنواع مثل «الملاحم». أمَّا في مجال الترفيه المعاصر، يُحدَّد النوع بعناية؛ فإذا ذَهبتَ إلى مشاهَدة فيلم رعب، لا تتوقع أن ترى حبيبَين تتعانق أيديهما في المَرج (إلا في حالة ظهور وحش يَقطعهما إلى نصفَين!) إذن فالنوع الفني هو ما يتوقَّعه الجمهور، وأعني شيئًا مختلفًا تمامًا عن بِنْدار، الذي يمتدح الرياضيِّين في أبياتٍ مُعقَّدةٍ مُناسِبة للرقص، وعن هوميروس، الذي يستكشف عوالمَ رحبةً ذات أبعاد ليس لها مثيل، وهو ما نَعتبره سمةً مميزة «للملاحم».
لا شكَّ أن المشاهِدين اليونانيِّين كان لديهم توقُّعاتٌ مختلفة في ظروفٍ مختلفة ومواضعَ مختلفة، ولكن لم يكن لديهم تصنيف من قبيل الشعر «الملحمي» Epic. ويُشتَّق مصطلح Epic في اللغة الإنجليزية من الكلمة اليونانية epos، والتي تعني «كلمة»، بيد أنه في ملحمتَي هوميروس، تقتصر كلمة epos في صيغة المفرد على الإشارة إلى الحوار العادي. أمَّا في حالة الجمع، يمكن للفظة epea في ملحمتَي هوميروس أن تُمثِّل مرادفًا للفظة muthos، التي تعني «قول قاطع» في القصائد الهوميرية (ولكنَّها تعني «حبكة» في كتابات أرسطو). في كتابات أرسطو أصبحَت epea «كلمات» تُشير إلى أي شيء له علاقة بالشِّعر السُّداسي التفعيلات الدكتيلية، وهو تعريفٌ اصطلاحيٌّ خالص؛ لأن شتى صنوف النَّظْم وُضعَت في قالب الوزن السُّداسي التفعيلات الدكتيلية، بما في ذلك قصيدة هيسيود التوجيهية/التقويمية «الأعمال والأيام»، بل الأطروحات العِلمية. يُفرِّق أرسطو بين كلمة epea، التي هي أعمالٌ أدبيةٌ منظومة على الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية، وكلمة tragoidia، وتَعني «الأغنية العنزية»، أي التراجيديا، حيث الوزن مُختلِف عن الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية؛ بَيْد أن هذا التمييز يُشبه تمييزنا نحن ما بين الفيلم والرواية، أي تمييزٌ مُتعلِّق بالوسائط وليس بالنوع. ولم تُؤدِّ مكانة هوميروس — أي دورُه بصفته من عرَّف الهيلينية ونسَبها إلى الهيلينيِّين — إلا لاحقًا، في العصرَين الهيليني والرُّوماني، إلى معادلة طابع قصائد هوميروس بنمطٍ نَوعي من الشِّعر يمكن تعريفه على هذا النحو؛ فقد بدأنا نَسمع عن epikê poiêsis «الشعر المَلحمي»، الذي يعني «قصيدة سَردية ممتدَّة تستخدم لغةً راقية أو مُفخَّمة، وتَحتفِي بمآثر بطلٍ أسطوري أو تقليدي.» وقد أثار استنباطُ فئةٍ أدبيةٍ عامة من القصائد الهوميرية ذُهولًا بالغًا في أوساط الباحِثين الذين يذهبون إلى أفريقيا المُعاصِرة أو الهند أو أمريكا الشمالية بحثًا عن «ملاحم شفاهية»؛ فما يَعثُرون عليه لا يُماثل على الإطلاق القصائد الهوميرية.

(٦) هوميروس والأساطير

رأينا سابقًا كيف استخدم أرسطو الكلمة اليونانية muthos بحيث تعني «حبكة»، وهي بِنيةٌ ثلاثيةٌ موجودة في القصائد الهوميرية وفي التراجيديا. بَيْد أن «أسطورة» تعني لنا قصةً تقليدية، تُنوقِلَت عبر الزمان والمكان بالاستعانة ليس عن طريق الكتابة، وإنما بالتناقُل الشفاهي. ولقد توصَّلنا إلى تعريفنا عبر التحليل العلمي الحديث؛ ففي دراستنا للقصائد الهوميرية نَعتبر أن الأسطورة هي الإطار الذي يحتوي حكاياتٍ منقولةً شفاهيًّا، يتشاركها الشاعر بطريقةٍ ما مع جمهور من رجالٍ أرستقراطيِّين، وإن ندُر ما يستطيع الشاعر تقديمه من تفصيلات.

بينما يُوجد مؤلفون للقصائد، مثلما صاغ هوميروس «الإلياذة»، فإن الأساطير ليس لها مؤلِّفين. ويظلُّ هذا صحيحًا حتى وإن كان مُحتمًا أن شخصًا ما قد روى القصة لأول مرة. ولأنَّ الأساطير ليس لها مؤلفين، فلا يوجد مقصد للمؤلف، ولا غرض أصيل لرواية القصة. ولكن عندما يَسرِد هوميروس أسطورة، فإن القصة تكتسب غرضًا لذلك السرد؛ فهوميروس مؤلِّف، أي إنه عقل مُتفرِّد يمتلك غاية متفردة.

تعيش الأساطير فقط عندما يكون من المُمكن أن يُعاد حكْيها، ومن ثَم يُمكن مواءمتها لتتناسَب مع الظروف المتغيِّرة. ولعدم وجود قصةٍ أصلية، فإنَّنا بحاجة لاستيعاب الأسطورة باعتبارها تقليدًا يَنطوي على تنوع؛ أي إنه لا وجود لما يُسمَّى صيغةً «أصلية» للأسطورة، مثلما كان هناك في حالة نَص القصائد الهوميرية، أمَّا الأسطورة فدائمًا ما تكون مجموعة من التنويعات. ومما يُؤسَف له أنَّ الفشل في استيعاب الفارق بين الأسطورة وقصائد هوميروس قد ضلَّل بعض المُعلِّقِين وساقَهم إلى الاعتقاد بأن قصائد هوميروس، هي أيضًا، «مجرَّد تقليد» وأن هوميروس هو «رمز لذلك التقليد».

والمُفارقة أنه لا يُمكن لنا مطلقًا أن نُطالع الأسطورة على نحوٍ مباشر؛ لأنها لا تُوجد إلا ضمن تنويعاتٍ محدَّدة، أيًّا كان ما تُصادفه وفي أي وقتٍ كان، وفي دراستنا للعالم القديم، نجد تلك التنويعات دومًا في صورةٍ مُدوَّنة. ومع ذلك فإن الأسطورة، التي هي عبارة عن قصةٍ ذات بِنْية، تقبع مُتواريةً وراء كل تلك التنويعات. لنتأمل، مثلًا، أسطورة أوديب. يَحكي لنا هوميروس (في الأوديسة، ١١، ٣٤٨–٣٦٠) أن أوديب تزوج أمه وقتل أباه، ولكنَّه لا يذكر شيئًا بشأن فَقْء أوديب عينَيه، وهو الأمر الذي من أهميته في رواية سوفوكليس ذائعة الصيت للقصة كان ذروة الأحداث. وكلتا الصيغتَين تُمثِّل «أسطورة أوديب» بِصرف النظر عن الفروق بينهما.

في المثال الوحيد على وجود شكلَين مختلفَين لأسطورةٍ واحدة في كل القصائد الهوميرية، نعرف في الكتاب الأول (الأبيات ٥٨٦–٥٩٤) من «الإلياذة» أن زيوس الغاضب أمسك هيفايستوس ذات مرة مِن قدَمِه وقذَف به مِن جبل الأولمب، ولعلَّ هذا هو مصدر عَرَجه (لا يقول هوميروس ذلك). وفي الكتاب الثامن عشر (الأبيات ٣٩٤–٣٩٧) نَكتشِف أنَّ هيرا أم هيفايستوس ألقَت به مِن السماء، اشمئزازًا من عرجه. لا هذه ولا تلك هي الأسطورة الصحيحة عن «طرد هيفايستوس»، ولكن كل واحدة منهما هي تنويع استمدَّه الشاعر من «مستودع من التقليد» يُجسِّده على أنه الوحي (إله الإلهام): مصدر كل ما يَعرفه ويقوله. علاوةً على ذلك فإنَّ كل شاعرٍ شفاهيٍّ يُضيف باستمرار لهذا المستودع، أو يُغيِّر مِن خصائصه، إذا كان شاعرًا عظيمًا ويتمتع بالتأثير. نعم إنَّ التقليد شيءٌ حقيقي، ولكنه ليس موجودًا إلا في أفواه وعقول الشعراء الذين يُجسِّدونه، لا في أي مكانٍ آخر.

يُقسِّم النُّقاد المُعاصِرون الأساطير تقليديًّا إلى ثلاثة أنواع، حسب مُحتواها وطبيعة الشخصيات الفاعِلة فيها. تختصُّ «الأساطير الإلهية» بالآلهة وتصرُّفاتهم؛ وتختص «أساطير الأقدمين» بمآثرِ رجال ونساءٍ عِظام عاشُوا منذ زمنٍ بعيد؛ وتتعلَّق الحكايات الشعبية ببشرٍ عاديِّين أو حيوانات. تختلف أساطير الأقدمِين عن التصنيفَين الآخرَين نظرًا لزعمِ صحتها تاريخيًّا. تُصنَّف «الإلياذة» و«الأوديسة» ضمن أساطير الأوَّلِين، وطالَما تقَبَّلهما اليونانيون باعتبارهما قصصًا تاريخية، على الرغم من تضمُّنهما لبعض الأساطير الإلهية والحكايات الشعبية. فقصة إسقاط هيفايستوس من السماء أسطورةٌ إلهية. تحتوي «الإلياذة» على نَزْرٍ يَسير جدًّا من الحكايات الشعبية، في حين أن «الأوديسة» في مُجمَلها، على النقيض، هي شكلٌ مُختلِف من «نوع» من الحكاية الشعبية يَدعوه الباحثون «عودة الزوج إلى الديار» (يُوجد مئات الأنواع من الحكايات الشعبية في الأدب الشعبي العالمي). و«الفكرة النمطية (الموتيفة)» المحورية للحكاية الشعبية في القصة هي «قدوم الزوج للديار في نفس الوقت الذي كانت فيه الزوجة على وشك الزواج من آخر». وهذا النوع الرائع من الحكايات الشعبية موجود على نطاقٍ جغرافيٍّ شاسع، من أيسلندا إلى إندونيسيا، ونال الكثير من المُعالَجات الأدبية. تظهر تنويعاتٌ عديدة، تحتوي على تشابهٍ ملحوظ مع «أوديسة» هوميروس، في التقليد السلافي الجنوبي الذي درسه باري ولورد. لاحقًا سيكون لدينا المزيد مما سنُدلي به بشأن الأسطورة في قصائد هوميروس.

(٧) الخلاصة: إنجاز هوميروس

عادةً عندما ندرس عملًا أدبيًّا يكون لدينا بعض المعلومات حول توقيت إنشائه، ومكان تأليفه، وكيفية انتشاره. في حال قصائد هوميروس ليس لدينا أيٌّ من هذه المعلومات. فهو يَنتمي إلى مرحلةٍ قريبة من بداية معرفة الأبجدية الغربية، ولكن كيف ولماذا؟ إن قصائده أطول بكثير من أن تكون مألوفة أو اعتيادية. وبعد ألفين وخمسمائة سنة من البحث المكثَّف ما زلنا لا نستطيع أن نجزم بالغرض الذي من أجله نُظمَت هذه القصائد.

إنَّ أعظم العقبات التي تَعترض الفهم نَتجَت عن توقُّع كل جيل أن هوميروس كان يتصرف مثلما نتصرَّف، ومثلما يتصرَّف أولئك المحيطون بنا. وكأنه جلس على منضدة وكتب قصيدتَين طويلتَين ومعقدتَين؛ وقرأهما الناس، وقلَّدوهما، واقتبسوا منهما، وأحبوهما. بيْد أن أدلةً دامغة تكشف عن أن ذلك لم يحدث على الإطلاق. لقد جاء هوميروس من عالم لا يسعنا إلا التخمين بشأنه، وهو العالم الذي يقع زمنيًّا على مشارف معرفة الأبجدية اليونانية.

وفقًا لتفسير يبدو مُقنعًا، يمكننا القول إنه أملى قصائده على شخصٍ ما، وقد يكون ذلك حدث على جزيرة عوبية في أواخر القرن التاسع أو أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. ولا شكَّ في أنه قد آل إليه تقليدٌ بالغ القِدم من النَّظم الشفاهي للأنشودات تعود جذوره إلى بلاد ما بين النهرَين. وعلى مدى مئات الأعوام كان هذا النوع من الأنشودات، نوعًا ما، يُدوَّن بخطٍّ ساميٍّ غربي أو فينيقي؛ وبعد ذلك دُوِّنَت كلمات هوميروس بالأبجدية اليونانية التي كانت جديدةً تمامًا وقتئذٍ، والتي تُعَد أول تقنيةٍ قادرة على حفظ ملامحَ تقريبيةٍ للسمات الصوتية للكلام البشري. ومن ثَمَّ كانت القصائد، أو أجزاءٌ منها، أساس التعليم اليوناني ثم الروماني. وحتى في وقتنا الحالي تُعتبر القصائد الهوميرية محوريةً للتعليم الإنساني.

حالَما نضع هوميروس الإنسان في زمنه الصحيح، يُمكننا أن نعتبره شاهدًا على أسلوب حياة اليونانيِّين في ذلك الوقت، ولكن كي نفعل ذلك علينا أولًا أن نُجرِّده من عناصر الصنعة الأدبية التي أضفى بها على قصصه سمة التشويق وهي: الحَبكة، والشخصية، وجمال العبارة، والأسطورة، والخيال، والصراع الشُّعوري والأخلاقي، وتسوية الصراع. لو كان هوميروس قد افتقر إلى تلك الصنعة الأدبية، لما اتَّسم بهذا القدر من التشويق بالطبع، أو يُمكننا القول إنه لم يكن سيُصبح له وجود على الإطلاق؛ لأنه لا بدَّ وأن عظمة هوميروس «كمُنشدٍ ملحمي» هي السبب وراء تكبُّد شخص عناء إنشاء نصوص من شعره من الأساس.

ولمَّا كانت الاستعراضات العامة المتعلِّقة بفقه اللغة والتاريخ والأدب لقصائد هوميروس مُثيرة لقدْرٍ كبير من الاهتمام، يتعيَّن علينا الآن أن نفحص بتدقيق أكبر عناصر الصنعة الأدبية لنرى الكيفية التي تعني بها هذه القصائد ما تعنيه، منتقلِين من مشهد إلى مشهد ومِن تَعاقُب إلى تعاقُب. دعونا نتابع الاستعراض التفصيلي للشاعر، مُبدِين، ونحن نَمضي قُدُمًا، ملاحظاتٍ على مسائل اجتذبت اهتمام مؤرِّخِين أدبيِّين، يعود بعضهم إلى أقدم العصور. وإن كان لنا أن نجد إنجاز هوميروس الباقي على مر الزمن، فلسوف نَجده ها هُنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤