الفصل السادس

صعدت أم وديدة إلى الطابق الأعلى، وهناك لقيتها الأسرة جميعها بالترحاب، وبخاصة سهير التي راحت تدور حولها في فرحة نشوانة، يبتعثها في نفسها هذا اللقاء الذي مهَّدَت له أم وديدة في أمسهم الذاهب، ولم يكن فرح سميحة أخت سهير بأقل من فرح أختها بأم وديدة، فقد طالما كانت تهمس أم وديدة لسميحة أن أختها الكبرى ستتزوج عما قريب، وعما قريب ستلحق هي بها وتتزوج من فتى أحلامها سامي، الذي لا يمنعه عن طلبها إلا أن أختها الكبرى لم تتزوج بعد، ولم يكن فرح الأم بأقل من فرح البنتَين، فقد كانت أم وديدة تقرأ لها الفنجان، وتُطمئنها أن فرحَين لا واحدًا سيُقامان عما قريب، بعد نقط ثلاث فقط، في القصر، فيطمئن مضطربها القلق، ويهدأ ثائرها المفزع دائمًا بتلك القالة التي تشيعها أخوات بناتها من زوجة الباشا الأولى، من سهير وسميحة ستظلان عانستَين بلا زواج.

راحت البنتان تتواثبان حول أم وديدة، جاعلتين السبب الظاهر لفرحتَيهما أنها قد جاءت لهما بما طلبته كلٌّ منهما في الأمس من ملابس وأقمشة.

واستقبلتها السيدة تفيدة في فرح هادئ شاع في وجهها كله، وأطلَّ من عينَيها الطيبتَين، ومن صوتها وهي تقول بعد أن صفقت بيدَيها: يا بنت هاتي القهوة.

وواجهت أم وديدة هذا الاستقبال الفرحان بوجمة حزينة، ووجه شاحب كالثلج، وعقل مذهوب، وقد وضحت آلامها جميعًا في صوتها وهي تقول: اعملي القهوة سادة يا نبوية.

واكفهرَّ وجه الست الكبيرة وقالت: لماذا يا أم وديدة كفى الله الشر؟!

– والله يا ستي كنت عند جماعة وسمعت — ويا شوم ما سمعت — حكاية — بعيد عنك — ومن ساعتها وأنا مخي داير وربنا يستر.

– خير يا أم وديدة؟

وانطفأت الفرحة عن وجوه الأسرة جميعها، وارتمت الفتاتان إلى الأرض بجانب أم وديدة، واشرأبَّت إليها رأساهما، وجفَّ فمهما، فما تطيقان كلامًا، وما تطيقان صمتًا.

– خير يا أم وديدة؟

– والله يا ستات لا خير أبدًا، لا إله إلا الله.

وقالت الست تفيدة: يا أختي قولي، نشفتِ ريقنا.

وخلست أم وديدة نظرة إلى سهير، ثم أطرقَتْ وصعدت تنهيدة عميقة، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، كان بودي يا ستي سهير أن يحمل غيري الخبر، ولكن لا عليكِ يا ابنتي، غيره أحسن منه.

وحملقَتْ عينا سهير في أم وديدة، وأوشكت أن تصرخ «وصفي» ولكن أمسك بلسانها وجود أمها وأختها، وأمسك بها استدراك أم وديدة السريع بصوت رفعته حتى يطغى على ما قد يبدر من سهير: وصفي يا ستي الكبيرة، سيدي وصفي بك.

ودقَّت السيدة الكبيرة صدرها وهي تقول: ما له يا أم وديدة؟ ما له وصفي؟

وقفزت سميحة واقفة ذاهلة: ما لوصفي يا أم وديدة؟

وبقيت سهير مكانها وكأنها تعرف أن وصفي بخير، وكأن الأمر لا يعنيها، فهي مطرقة تشتعل نفسها بنيران من الغيظ والألم والحسرة والكِبرُ ذلَّ من بعد كبر، والكرامة أُهينَت من بعد كرامة.

واستطردَتْ أم وديدة: خطب يا ستي الكبيرة، خطب هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.

وتمالكت الست الكبيرة نفسها في كبر وهي تقول: وما له؟

وحاولت سميحة أن تقلِّدها وهي تقول: آه، وما له؟

وقامت سهير إلى حجرتها في هدوء وبطء وفي وجوم، فكأنما وجهها قُدَّ من صخر فهو قاتم لا يُبين عما يسده في نفسها من ثورات، حتى إذا خلَتْ بحجرتها أقفلتِ الباب وأحكمَتْ رتاجه، ثم ارتمت على السرير، شعلة لا تريد أن تخفف وقودها بماء، وإن كان هذا الماء دمعًا، لا، وإن كان هذا الماء دمًا، إنها تريد شعلة نفسها أن تظل مشتعلة تحرق وتحرق، وإن يكن الوقود نفسها، وإن يكن الوقود حياتها، ارتمَتْ على السرير وألقَتْ بوجهها إلى الجدار الصلب، لا تذرف دمعة، ولا تفكِّر في شيء غير أمس عند القارب، وغير الأمسيات التي سبقت الأمس هناك، حيث قتلت كرامتها، وأهدرت كبرها، ولم تنَلْ حبًّا لقاء كرامة، ولا وفاء لقاء كبر، فلتلتهب نيران الشعلة، ولتكن نفسها الوقود، وما النفس بلا كرامة، وبلا كبر، وبلا حب، وبلا وفاء.

لقد أدركت أن الذي قضى على مستقبلها هو لقاؤها بوصفي، مهما يكن لقاء بريئًا، لقد كانت تعرف وصفي رجلًا متشبِّثًا بالتقاليد، يقدسها ويدافع عنها، ألم تكن تقرأ له مقالاته التي يعارض بها مَن يطالبون برفع الحجاب، أما كان هذا رادعًا لها أن تلتقي به، ولكن هي أم وديدة أوحَتْ إليها أن لقاء سيتم بينها وبين مَن تحب. وهيَّأت لها أنه أمرٌ ميسور، فانصاعت في سذاجة الهوى، وفي رعونة الشباب الأولى.

صامتة سهير لا تبكي ولكن تشتعل وتحترق بلا نور من الشعلة، ولا بصيص من ضياء يبعثه الحريق، حريق أسود داكن كآمالها، كمستقبلها، كماضيها، كحياتها جميعًا.

وطرق الباب فقامت إليه لم تسأل الطارقَ مَن هو وما يريد، وانفرج الباب عن سميحة التي دخلت صامتة وأقفلت الباب من خلفها، وسارت مع أختها إلى السرير، وعادت سهير إلى استلقائها، وجلست سميحة بجانبها: لا عليك يا …

ولم تكمل سميحة الجملة، فقد كانت تدرك أن آمال سهير مُعلَّقة بوصفي، وقد كانت العائلة جميعها تذكي هذه الآمال بما تطلقه من شائعات وأقاويل، كانت تدرك ذلك، ولكنها كانت تجهل مواعيد أم وديدة ولقاء الأمسيات، لم تكمل سميحة الجملة، فقد وجدتها سخيفة لا تفيد شيئًا، ولم تجد شيئًا تفوته غير دمعات فاضت صامتة أول الأمر، ثم انفجرت عن بكاء ونشيج، راحت سميحة تكتمه بالوسادة، وقد ألقت وجهها إليها، وسهير صامتة لا تتكلم، وكأنما هي وحدها في الغرفة بلا بكاء جازع حزين قد ألقيت أختها في غمرته، وطرق الباب مرة أخرى وانفتح عن أم وديدة تقول: ستي سهير.

ولم تزد سهير على أن تقول: مع السلامة يا أم وديدة.

وعادت أم وديدة في نغمة توشك أن تكون نغمة نصح: يا ستي سهير …

ولم تكمل لفظ سهير، فقد قاطعَتْها سهير في صوت حازم يحمل مقتًا ويحمل أمرًا: مع السلامة يا أم وديدة.

وأقفلت أم وديدة الباب وانصرفت، وخلت الحجرة بالأختَين مرة أخرى، ولكن سهير تريد أن تنفرد بنفسها، فهي تقول لأختها: اذهبي إلى حجرتك يا سميحة، أريد أن أنام.

– ومَن سيُلبس أبي حين يعود؟

وقالت سهير في تصميم: أنا طبعًا، سأصحو قبل عودته، اذهبي إلى حجرتك.

وفهمت سميحة أن أختها تريد أن تخلو إلى نفسها، فقامت وتركت لها وحدتها.

عاد الباشا متأخرًا بادي التعب، وأحسَّتْ سهير وقع أقدامه في البهو، فقامت إليه جامدة محاذرة أن تلتقي عيناه بعينَيها، ودخلت معه حجرته ووقفت وراءه لتخلع عنه سترته.

وقال الباشا وهو يخلع ملابسه: لا أدري يا سهير لماذا أحس بتعب الليلة؟

– لعلك تحتاج إلى النوم يا أبي، أبي.

وقال الأب في إشفاق: نعم يا بنتي.

– ماذا كان سليمان يعمل عندك اليوم؟

وأدرك الباشا ما يهفو إليه حديثها، ولكن لم يستطع أن يميل بالموضوع إلى آخَر، فهو يقول متظاهرًا بعدم الاهتمام: إنه يجيء كل يوم يا بنتي.

– نعم أعرف!

وأدرك الباشا أنه لا بد له أن يلاقي الأمر مواجهة، فسكت حتى لبس جلبابه، وقعد على الأريكة، ثم نظر مليًّا إلى وجه ابنته وقال لها: أتعرفين ما تريدين يا سهير؟

وقالت سهير: تمام المعرفة يا أبي.

– لعلك غاضبة الليلة من أمر ما، فيحسن أن تتروي في الأمر، وتُفكِّري فيه وأنتِ بعيدة عن الغضب لحظة، إنها حياتك يا سهير، حياتك كلها.

– أبي، إذا كنت أنت لا تريدني أن أتزوج من سليمان فأمرك، ولا أخرج عن أمرك، أما أنا … أما أنا …

وجمعت كلَّ قواها الباقية لتكمل الجملة قائلة: أما أنا فأقبله يا أبي.

– أواثقة أنتِ يا سهير؟

– كلَّ الثقة يا أبي، إني أقبله.

وكان الباشا صادقًا مع نفسه، وصادقًا مع قومه، لقد قبلت ابنته الزواج من سليمان، ولا بد له أن يوافق، فهو ابن أخيه ولا يستطيع أن يرفضه، وقد كان أمله الوحيد في الرفض مُعلَّقًا بابنته، ولكن ها هي ذي تقبل، فماذا بقي له؟ إنها حياتها، وهي فيها حرة، ويل لها من الأيام، أيكون سليمان زوجًا لابنتي هذه؟ ويل لها من الأيام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤