أحمد فارس الشدياق

أخي الأستاذ الأديب المحترم١

لا تسل عما أحدث كتابك الكريم في نفسي من التأثير. إني لا أستغرب هذا منك وأنت أديب ذاك البيت الكبير الذي يقدر الناس، ويحترم أعاظم الناس الذين يستحقون الاحترام؛ كشيخنا الأكبر علامة عصره بلا منازع أحمد فارس الشدياق.

كلك جميل يا جميل، ولا شك في أن عظام النابغة كانت تهتز جذلًا عندما كنت تكتب إليَّ، فهل لي أن أفوز بإذن منك في نشر رسالتك إليَّ مع التعليق عليها، فتكون إحثاثًا للناس واعترافًا بفضل المرحوم جرجس صفا، الذي أُجلُّ علمهُ وأحترم شخصه كل الاحترام؟

وهل تتفضل عليَّ بإرسال عدد من جريدة بيروت الغراء لأطَّلع على ما كتبت حول الموضوع فأشكرها؟

أنا بين يديك يا سيدي الأخ، وسأتشرف بزيارتك ليلة العيد المبارك أو يومهُ، فأقوم بواجبين مقدسين في وقت معًا.

تفضَّل عليَّ بالجواب، واقبلْ تحيتي مقرونة بشكري الجزيل مع المصافحة الأخوية، لا زلت سبَّاقًا لكل كريمة. وفَّقنا الله بمعونتك إلى خدمة الأدب الصحيح، والسلام عليك من الداعي لك.

عاليه
٥ / ١٢ / ١٩٣٦

الأخ الفاضل شكري٢

لا شك في أنكم تعلمون مكانة شيخنا الأكبر أحمد فارس الشدياق ومنزلته العلمية والأدبية؛ فهو أبو النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وأكبر رجالها الذين يفاخر بهم لبنان.

كتبنا عنه ما كتبنا في جريدة صوت الأحرار التي أرسلتها إليكم اليوم خصيصًا لتطَّلعوا عليها، وسنواصل الكتابة عن هذا النابغة المفرد لنُذكِّر أمته به؛ فقد كادت تنساه.

دعونا الناس كما تقرءون إلى الاحتفال بذكرى الخمسين له في العام القادم، وأكبر آمالي معلقة عليكم؛ نظرًا لما لكم من الأيادي البيضاء على إحياء ما به مجد لبنان، الذي يفاخر بأمثالكم من بَنِيه.

لا أقترح عليكم شيئًا؛ فأنتم أدرى، ولكنني أسألكم الاهتمام الجدي بذكرى أحمد فارس الذي آثر وحشة الحازمية على قصور الآستانة. ومتى أردتم رفعتم رأسنا عاليًا، وهذه مأثرة تسجل بين مآثركم الغالية.

دمتم نصيرًا لنا، وعونًا للأدباء الذين ليس لهم منْ يذكرهم. وفي الختام، أصافحكم وأدعو لكم من صميم القلب.

الداعي لكم
حاشية: يا حبذا لو صحَّت الأحلام فيكون الاحتفال بذكرى فارس الشدياق مظهرًا من مظاهر مجد لبنان، ونرى بيننا شكري الخوري؛ الرجل الذي نفتخر بإخلاصه وجهاده.
عاليه
٢٤ / ١١ / ١٩٣٦

من يوسف يزبك إلى مارون عبود

لا أعلم كيف أشكرك يا أستاذنا الوقور وإمامنا الجليل على الجهد الذي بذلته — وما تزال تبذله — لإنصاف الفارياق،٣ ولا أعلم بأي قلم وفيٍّ أصوغ لك آيات الثناء على الفصول القيمة التي نشرتها — وما تزال تنشرها — منذ ثلاث سنوات حتى اليوم عن مهجور الحازمية، وعلى المروءة الشماء التي أبديتها في كل ما كان له علاقة بإيفائه حقه، حتى بتنا نعتقد أنك أنت ابن الشدايقة الذين حصلوا على خيره العميم وآثاره الخالدة، وأنك أنت الوارث من أبيك وجدك من آل الشدياق سمعته الداوية، وأنك العائش بمكانة هذه السمعة ونفوذها كما عاش أبناء أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم، وحتى بتنا نعتقد أن مارون عبود إنما هو وحده الباقي من سلالة الذين رفلوا بها.
أقول هذا ولا أغفر لبني خئولتي — وهم أحفاد المروءة والهمة — تقاعدهم عن البِرِّ بذكرى مفخرتهم، وتاج رأسهم، وولي نعمهم. وإذا كنت تعتب، يا أستاذنا، على أحدهم؛ لأنه تراجع «لأسباب ما نزال نجهلها، وقد تكون صوابًا» عمَّا وعد به من مساعدة مالية للجنة اليوبيل؛ فاعلم أنه يبعد في نسبة ثماني درجات عن حجة اللغة،٤ وأن لأحمد أقربين هم أولى به منه، ناهيك بأن متبرعنا الكريم «الراجع عن غيه» مغترب ناء عن ذويه لم ينعم مثل معظمهم بالمكانة التي خلقها منشئ «الجوائب» لآل الشدياق في وطنهم، ولم يستغل ظروفها … وإنما وصل إلى بسطة العيش بجده واجتهاده.

ولو شاء القدر لظل في بني الشدياق نوحهم الذي كان وحده يصلح لأن يحمل اسم نديم الملوك، ويرثه ويرث مجده، ويفيء على مواطنيه بكبر فضله، وكرم يده، وبياض عمله: عنيت العلامة الألمعي، والعصامي العبقري، شيخ الفضل والأريحية، ورجل الإقدام والوطنية القس يوسف الشدياق؛ من إذا عُدَّت الرجال في قومه عُدَّ بالقوم جميعًا.

ولكن جليلنا المفضال كاهنٌ نذر نفسه لرحمانه لا لدنياه، فاحترامه تقاليد كنيسته أوجب حجب عطفه عن ذويه، في مثل هذه الحالة وهو الرحيم بهم، والجواد عليهم في كل آنٍ، وأن ورعه لا يشجعه على القيام «بواجب» يحنُّ في أعماق قلبه إلى تحقيقه، ويعلم أن رجال الدين الكاثوليكي لا «يستحسنون» صدوره عن كاهن كاثوليكي، وليس على القوم من حرج …

وإذا قصَّر الشدايقة في شكرك؛ فأنا معوض عنهم: بارك الله بنبل وفائك يا أستاذ، واعذرني على فقري في التعويض؛ فلا خيل عندي ولا مال، ولا أقل من الدعاء من الأعماق بطول بقائك دعاءً صادقًا ليس فيه من بضاعة أصحابنا … الداعين لجميع الناس، وفي جميع المناسبات …

ولو أتيح لي شرف الانتساب إلى أدبك الخطير، وكنت صفحة صغيرة على «توراته المشلعة»؛ لحق لي أن أقترح على حملة الأقلام مبايعتك خلافة أحمد، فأنت فيهم — كما كان الإمام في زملائه — الفارس الذي لا يشق له غبار.

متى ولد الفارياق؟

أما بعد هذه المقدمة اللازمة، فأرجو أن تتلطف، يا أستاذي، وتساعدني على إصلاح بعض أخطاء ترافق ترجمة الفارياق، وأولها تاريخ ولادته؛ فقد ذهب مترجموه إلى أنه ولد في عشقوت سنة ١٨٠٤، والواقع أن والده لم ينتقل من الحدث إلى تلك البلدة الكسروانية التي كانت موطن أجداده إلا سنة ١٨٠٥، وقد أشار شقيقه طنوس إلى ذلك بقوله: «… وسنة ١٨٠٥ استدعى الأمير حسن عمر الشهابي يوسف «والد الفارياق» لخدمته، وأمره أن يتوطن في كسروان، فاشترى يوسف دار أبيه ودار الشدياق في عشقوت من بنت الشيخ صليبي الخازن ووالدتها، ورحل إليها …»٥

قلت: والبيت المشار إليه بقيت منه بعض أحجار ضخمة في زاويته الغربية تقوم اليوم عليها مدرسة آل سعد الكرام، الذين أنجبوا للبنان رجالًا من أعظم مفاخره؛ وهم أبناء أعمام الشدايقة.

أما رواية طنوس أخي الفارياق فنستنتج منها ما يأتي:

إما أن يكون التاريخ الشائع عن ولادة فارس ١٨٠٤ صحيحًا، فيجب عندئذ أن تكون هذه الولادة في الحدث وطن الشدايقة الذي لجئوا إليه سنة ١٧٣٧، وإما أن يكون الفارياق قد ولد في عشقوت حقًّا موطن أجداده سابقًا، فيجب أن يكون تاريخ هذه الولادة إذن سنة ١٨٠٥ على الأقل؛ أي بعد أن استدعى المير الشهابي والده لخدمته «وأمره أن يتوطن في كسروان». وإني أرجح هذا التقدير الأخير، ولا بأس أن نذكر بالمناسبة المأساة التي سببت نزوح بني الشدياق إلى الحدث، بعد أن كانوا قد نزحوا من مزرعة بيت قصاص إلى عشقوت وتوطنوها منذ سنة ١٦٥٠، واستقروا فيها ثماني وثمانين سنة.

قال مؤرخهم طنوس:

«… وسنة ١٧٣٧ طلب الأمير ملحم حيدر شهاب «حاكم لبنان» من الشدياق أن يقرضه قليلًا من المال، فاعتذر بأنه معسر، وفي غضون ذلك اشترت زوجة الشدياق بستانًا من ثمن مصاغها، فقال أحد حسَّاده للأمير: ها إن الشدياق اشترى بستانًا ودفع ثمنه بعد طلبك منه القرض، فكيف يعتذر ويدَّعي الإعسار؟ فغضب الأمير عليه مُصدِّقًا كلام الوشاة، ومن غير أن يسأله عن الكيفية وضعه في محرس منفردًا، فاغتاظ الشدياق من ذلك جدًّا حتى إنه ذات يوم وهو في الكنيف ضرب بطنه بسكين فخرقه، فأُغمي عليه، فلما أبطأ كشفه الحارس فرآه مطروحًا على الأرض، فمضى مسرعًا وأعلم الأمير، فأمر «الشهابي» أن يحضروا له طبيبًا، فحضر فعالجه فلم يشفَ، بل توفي وله ولدان: ضاهر وخطار، فتأسَّف الأمير عليه؛ لأنه كان ذكي الفؤاد، نافعًا له بحسن تدبيره، شجاعًا، حسن الخط والإنشاء، بارعًا في الحساب. بقي مدبرًا عند والده٦ سبع سنين، وعنده ثماني سنين. وإذ لم يتأكد براءته قبض على ولديه ضاهر وخطار وابن أخيه منصور، وضبط مالهم وخيلهم وسلاحهم، ثم أمر بإطلاقهم وإرجاع بعض عقاراتهم، ووهب دارَي الشدياق وابن أخيه منصور في عشقوت للشيخ ابن صليبي مرعب الخازن، فارتحل منصور إلى حارة حدث بيروت ببعض أقاربه فتوطنوها …»٧

قلت: ومنصور هذا، ابن أخي الشدياق المذكور، هو جد الفارياق لوالده يوسف.

البطرك مسعد والفارياق

أما القصة التي نقلتموها عما جرى بين الفارياق وابن خاله البطرك بولس مسعد في عاصمة آل عثمان، فيلزمها بعض التصحيح، والذي أعرفه وقد سمعته مرارًا من عجوزات الشدايقة؛ أي من عمات والدتي اللواتي رُبيت في أحضانهن، ومن بنات أعمامهن اللواتي مرحت طفلًا في بيوتهن، أن ابن عمهن فارسًا هو الذي سعى لدى أولي الأمر في العاصمة، «وقد كان من مسموعي الكلمة عندهم، ومن المقرَّبين إلى الباب العالي» باستئجار قصر للبطرك القادم إلى إسلامبول قبالة قصره، فلما حلَّ رئيس الموارنة في جواره نهض أحمد فارس مبكرًا، وأخذ «يشوبح»٨ بالسريانية من الشرفة المقابلة، فاستغرب البطرك أن يرتفع في دار الخلافة وبين الجوامع والمآذن، وفي عاصمة التكبير والتهليل صوت يرتل بالسريانية، وسأل مرافقه عما يكون هذا «التشوبح»، فأجابه أحدهم بالنكتة المشهورة: «شايفلك، يا سيدنا، هيدا شي واوي عتيق!»

وثابت عند قدماء الشدايقة الذين عاصرو الرجلين العظيمين الداهيتين أن البطرك بولس لم يقر عمل زميله الحبيشي في حبس أخي الفارياق «أسعد» ذلك الحبس القاسي، وأنه سفهه إذ اجتمع بابن عمته، وثابت عندهم أيضًا أن أحمد فارس قال ساعتئذٍ للبطرك كلمة تاريخية: «ولن أخجل بعد الآن، يا ابن خالي، أن أكون مسيحيًّا مارونيًّا …»

وشائع أيضًا عند الشدايقة — وانتبه يا أستاذي إلى هذا الخبر الخطير — أن نسيبهم أحمد فارس رجع إلى دين آبائه، وقد مات وذخيرة عود الصليب في عنقه … وهذا ما سأبسطهُ في مقال خاص.

فقولكم: إن الشدياق أبَى زيارة ابن خاله في الآستانة «إن لم يعترف بخطأ سلفه البطرك الحبيشي،٩ فتعقدت مساعي التقريب بينهما؛ لأن البطريرك لا يستطيع ذلك، فالذي فعله الحبيشي في ذلك الزمان كان واجبًا دينيًّا رعائيًّا.» إن هذا الرأي لم يكن رأي البطرك مسعد؛ أعقل وأخطر زعيم عرفته الملة المارونية «وهيهات أن ينجب لبنان مسعدًا آخر»، وإنما هو رأي يقول به المطران عبد الله الخوري في أيامنا هذه على ما اتصل بي.

وثق يا شيخ مارون وأنت مثلنا الجبلي الأصيل من عظام الرقبة، والعارف مثلنا نفسية وطننا الصغير الجميل، ثق لو أن البطرك كان يومئذٍ غير حبيشي «أو غير خازني» لما تجرع أسعد ذلك العذاب المرير. ولعلك تذكر عن أبيك عن جدك أن أسيادنا الإقطاعيين ما كانوا يتحملون أن يرد أحد عبيدهم في وجوههم، فكيف بهم إذا كانوا إقطاعيين مزدوجين — إقطاعيتهم اجتماعية روحية — وكان ذلك العبد جريئًا حرًّا شبعان من حليب أمه كشهيدنا أسعد؟

ثم إني أعتقد أن القرابة بين مسعد والشدياق١٠ «ثم التحاقد بين مسعد والبطرك الخازن «خلف الحبيشي» على أثر تزاحمهما على البطركية»، والثورة التي كانت تتأجج في صدر مسعد على العهد الإقطاعي الذي ساد لبنان، ونال منه سوء عظيم، «ولعلك تذكر أن الميزة «الوحيدة» التي جعلت المطران الخازن يجلِّي في ميدان السباق إلى الكرسي الأنطاكي، ويقهر مزاحمه مسعد الجبار إنما كانت إقطاعيته وثروته.»

قلت: إن هذه الأسباب كلها كانت من أشد العوامل التي حملت البطرك بولس على تسفيه فعلة سلفه الحبيشي … فالقول إذن بأن «الذي فعله الحبيشي في ذلك الزمان كان واجبًا دينيًّا رعائيًّا» إنما هو قول نعرف قيمته، فلا يجوز حشره في مثل هذه المناسبة؛ لئلا يحمل الناس على الاعتقاد بأنه كان رأي مسعد العظيم.

الشهيد هو أسعد وحده

ربما أننا ننصف الناس وننصف التاريخ أيضًا، فمن الواجب أن نتحفظ في الحكم على أبي الفارياق وجده اللذين جعلتهما مع أخيه أسعد «شهداء حرية الفكر والميل (ص٣، عمود ٣)»، فأبوه «يوسف» وجده «منصور» كانا، ولا سيما الأب، فرسَي رهانٍ في «المرونة» السياسية. وقد جارى يوسف معظم الشهابيين المتزاحمين يومئذٍ على كرسي العبودية والاستعباد. وفي سنة واحدة (١٨٠٤)، لعب على حبلين متعاكسين … وإذا كان شهيد حقيقي في بني الشدياق، بل في جبل لبنان، وإذا كان من لبناني شرَّف وطنه وأمته العربية بتسجيل اسميهما في تاريخ البلدان والأمم الحية التي تنجب شهداء حرية الفكر؛ فذلك اللبناني الشريف الذي ينحني أمام ذكراه كل شريف إنما هو أسعد؛ أسعد القديس الطوباوي الخالد. وأما أبوه وأما جده فكانا في السياسة وتمشية الحال شاطرين، وقد فعلا ما فعله مواطنوهما في عصرهما والناس على دين ملوكهم.

على الهامش

  • أولًا: طنوس الشدياق لم يكن قاضي النصارى عندما بعث إليه أخوه الفارياق من لندرة برسالة يعنفه بها؛ لأنه لم يذكر مناقب أخيه أسعد في تاريخه، ولم يكن قاضيًا على الإطلاق. ومن المستغرب أنه لم يشتغل في القضاء مع أنه اشتغل في كل شيء.
  • ثانيًا: إن تاريخ الرسالة التي كتبها الفارياق من مالطة في ٨ محرم ١٢٥٥ يوافق ٣ نيسان ١٨٣٩، على ذمة تقويم البشير.

وتكرارًا أبثك شوقي وإجلالي وشكري يا شيخ الأدباء، وسيد المنصفين الأوفياء، راجيًا أن ينصفك بنو قومك في حياتك، التي أتمنى طولها وازدهارها وتوفيقها من صميم القلب.

أخوك المخلص يوسف إبراهيم يزبك
الحدث

من مارون عبود إلى يوسف يزبك
يا أخي يوسف

لا أدخل الموضوع الذي يخصني من مقالك الشائق؛ لئلا يكون كلامنا من صنف حكَّ لي أحك لك … ولكني أجيب عن بعض نقاط في الموضوع أولها تاريخ الولادة.

أنت محقق أكثر مني في تاريخ لبنان عامة، وتاريخ هذه الحقبة خاصة؛ لأن وثائقها الخطية تحت يدك، ولا أنسى قصتك الرائعة — ليلة عيد الميلاد — عن ثورة كسروان، ولا أنسى أيضًا يوم تلاقينا في «دار المكشوف» وكنت تتأبط خيرًا؛ أي نسخة تاريخ طنوس الشدياق الأصلية. أما المكان فنحن غير قاسمين فسيان عندي عشقوت والحدث والمتن وكسروان، فالرجل ولد بلا شك، وإن نقص من عمره عام؛ فعام الجبار سنون من حياة الأقزام.

أما أنا فاعتمدت، في تحديد الظرفين، العلَّامة الدبس (الجامع المفصل، ص٥٣٤)، والدبس من أصقاء شدياقنا وعارفي فضله.

أما المارونية فلا يعني أدب الشدياق منها شيء؛ إذ ليس هناك أدب ماروني على كثرة أدباء الموارنة، بل هناك أدب من محصولات هذا الجبل كما نقول: بنٌّ عَدَنيٌّ، وتَمْر عراقيٌّ، ورز مصريٌّ وهلمَّ جرًّا.

وما افتخاري بالفارياق وأنا وأنت وكل أديب أقرب إليه من أهله، إلا كافتخار رجل بابن ضيعته، وما لبنان إلا ضيعة من ضياع الأدب العربي، والذي أسميه هنا ضيعة هو القطر بكامله.

فلندع فينيقيا للمتفينقين، والفرعونية للمتفرعنين، وحسبي وحسبك لساننا المبين، فما يزدريه إلا الذين هم أعداء لما جهلوا …

أما طنوس، فالأب شيخو اليسوعي قلَّدهُ منصب القضاء (الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزء أول، ص١٠٦، س٣)، ولدَيَّ مكتوب يوصي به الفارياق بأخيه طنوس الذي هو «من رجال السمت»، ولكن المنصب الذي يرشحه له غير مذكور.

أما البطرك الحبيشي فديِّن، والدينُ لا يخلط بين كهنوته ومشيخته.

أما استبداده فلا أنكره، وكيف أنكر وقد قرأتُ — لا أذكر لمن: «تحت ثوب كل كاهن حاكم مستبد»؟

وكيف أنكر وقد تمرست بالكثيرين منهم؟ ولكن هذا الاستبداد لا ينفي: «إنما الأعمال بالنيات.» فكم في التاريخ ممن اعتقدوا أنهم بالاضطهاد قدَّموا لربهم ذبيحة كما اشترطت التوراة: لا عمياء ولا عرجاء ولا ضعيفة …

أنا أدافع عن الحبيشي ومقياسي القصبة والباع والقامة، لا الإنش ولا السنتيمتر، ثم لا ننس أنه كان يحكم الجبل دينيًّا إلى جانب المالطي الذي كان يحكمه مدنيًّا.

ولا ننس أيضًا أن الكنيسة كانت تساس في ذلك الزمان بالعنف، ولو كنت أنا وأنت يا أخي يوسف في ذلك العهد لزرنا قنوبين وسراي بتدين …

إن المثل الأعلى يتبدل، وما نراه اليوم حقًّا قد يصير بُطلًا.

ماذا تريد من بطرك أن يفعل وأحد أساقفته؛ المطران بطرس أبو كرم، أسقف بيروت، يُصدر رسالة رعائية أطول من يوم الجوع، صفحاتها ٨٥، وتطبعها رومة سنة ١٨٣٠، وما هذا المنشور غير رد على يونس كين صاحب أسعد؟

والكتاب عندي أنشر هنا أولى صفحاته للتاريخ والعبرة:

رسالة رعائية

مؤلفة من السيد الجليل بطرس أبو كرم؛ مطران بيروت الماروني الكلي الشرف والاحترام، منفذة منه إلى أبناء رعيته خصوصًا، وإلى غيرهم عمومًا؛ دحضًا وتفنيدًا كاثوليكيًّا للمكتوب الأراتيكي، المحرر في ٥ أيلول سنة ١٨٢٥، من الرجل البيبليشي الأماريكاني الضال يونس كين، الذي بعد أن ذهبت سدى اجتهاداته، وحيل أرفاقه الأراتقة في أن يجذبوا إلى ضلالهم المبين بعض الأشخاص البسيطين من سكان جبل لبنان وغيرهم. وكان قدس السيد يوسف حبيش؛ بطريرك الموارنة الأنطاكي الكلي الطوبي، ومثله كثيرون من الرؤساء الكنايسين نهضوا لمقاومة هؤلاء المُضلِّين، وبددوا وأحرقوا كتبهم، فهو؛ أي يونس كين، حين سفره من بيروت، قد أشهر المكتوب المرقوم بصفة وداع منه إلى أحبابه في بلاد فلسطين وسوريا، ومِن ثَمَّ التزم السيد المطران المذكور بأن يدحضه في هذي الرسالة، التي قد طبعت الآن بإذن الرؤساء في مطبعة مجمع انتشار الإيمان المقدس في مدينة رومية سنة ١٨٣٠.

وللبطرك الحبيشي رسالتان نشَرتُ شيئًا منهما على صفحات «صوت الأحرار» الغراء.

يا ليت شعري لو كان الحبيشي اليوم، أما كان كالبطرك أنطون الرجل الحكيم الواسع الصدر؟!

بلى، ولكنه لم يكن. وهنا فقط يصح لوم الزمان، ولو خالفنا الشافعي.

قد فعل الحبيشي ما فعل معتقدًا أنه يقدم لله قربان هابيل، وليفعل قايين ما يشاء.

لست أجهل أن الحبيشي كان شيخًا إقطاعيًّا، وأذكر ولا يزال يرن في أذني خبر ما وقع بين العلامة بولس مسعد والخازنين حين صار بطريركًا.

أراد أحدهم أن يلبسه الجبة حسب التقاليد، ولكنه أبى ولبسها وحده بلا معونة … كما لبسها سلفه الخازني من قبلُ.

سمعت كل هذا يا أخي الحبيب، وأسلم بأن الحبيشي كان صارمًا لا يمشي على الهينة. كان سيلًا جارفًا والويل لمن يفتح فمه.

خبرني جدي أخبارًا عديدة تدل على حزم الحبيشي وبطشه يوم كانت عصا جدي سيفًا في ظل رئيسه … وأحيانًا كنت أسمعه ينفخ نفخة تذري بيدرًا، آسفًا على سلطانه المفقود، ناعيًا على الرؤساء رخاوتهم.

في عين كفاع رجمة طالما قرعها جدي بعصاه في طريقنا إلى الكنيسة، ووقف يقول لي: هنا مدفون ديب الكريدي المحروم، قتله الجزيني لأنه عاصٍ ما خضع لأمر المير والحبيشي.

والحرم، يا أخي يوسف، مثل البطيخ منه كبير ومنه صغير. أما حرم العم ديب فكان «كبيرًا يخرق جسمه كالزيت في الصوف، ويحل على صاحبه الغضب الذي نزل على التينة …»

كل هذه القصص لا تدفعني إلى لوم الحبيشي، ولا تحملني على «تسفيه» رأيه في الأمس. أما اليوم فكلنا على دينك، ولا أستثني الشيخ فؤاد حبيش؛ صاحب «المكشوف».

كان للطائفة في ذلك الزمان آراء مختلفة جدًّا عما نراه اليوم؛ فالآباء اليسوعيون جاءوا عمشيت قبل غزير فطردوا منها، ولم يقبلوهم غير مبالين بقول يسوع: «من قبلكم فقد قبلني.» وعمشيت ضيعة مارونية من أبرشية غبطته. أما اليوم ففي عمشيت من هذه البضاعة أشكال، والمطران طوبيا عون، وهو الذي جلس على كرسي المطران أبو كرم، أُهدي تمثالًا من الغرب، فاستبشع الهدية، وأبى أن ينصب في كنيسته صنمًا، وظل التمثال «المقدس» نائمًا في القبور حتى أيقظه الدبس من رقدته، وفتح الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد.

وماذا تقول في خوري ليس من المتقدمين في الأخوة، مع أنه بعل امرأة واحدة، يأبى وحده ويبقى طويلًا لا يختم قداسه بالسلام الملائكي ولا «السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة والرأفة»؟

ذلك الخوري هو جدي لأبي. ما أمتثل لمشيئة روما العظمى مع أنه كان يقول كل ساعة: «إيمان بطرس إيماني.»

استغرب أن يزاد على «النافور» (كتاب رتبة القداس) حرف، ولو كان الأمر من بابا رومية خليفة الله المعصوم.

وأغرب من ذلك أن هذا الخوري مات ولم يسلم بأن لقلب يسوع — دونه كله — عيدًا مخصوصًا، وكم كان يهز برأسه هزًّا مضحكًا حين يختم كهنتنا الجدد الذين يكهنون في فلسطين قداسهم ﺑ «يا قلب يسوع الأقدس»!

وكان يستهجن أن يقدس حفيده الخوري يوسف الحداد همسًا، وجدي جده يريد القداس جهوريًّا، صغيرًا كان القداس أو كبيرًا.

على الخوري أن يسمع الشعب ما يقول، ولو في السريانية التي لا يفهمونها.

كم أزعجني وأنا شماسه الصغير بهذا التطويل! وكم آثر الناس قداس غيره على قداسه لهذا السبب!

ماذا أقول لك بعد؟

على هذا الرجل الذي ربيت في حجره، وشهد له الناس بالتقوى، قست سيده الحبيشي، فهو الذي سامه كاهنًا، وفسح له من العجز؛ أي صغر السن.

وبراءة التفسيح والسيامة محفوظة عندي.

أنت تعرفني لا أعمل برأي أحد. عشت وسأموت بعد عمر طويل على هذا الرأي النحس الذي خرب بيتي.

وما عذري اليوم يا بو يوسف ونهار المشيب يضيء الطريق قدامي؟

لك أن تقول فيَّ إن شئت: «وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده.» أما إذا أخطأت؛ فكالحبيشي عن اعتقاد لا يشعر به سوء نية.

أما أسعد فأنا من «مطوبيه»، وقد جاهرت بذلك أكثر من مرة.

إني أعظم حريته وجرأته، والذي اتضح لي من حواره مع رجال الدين أنه نزاع إلى الإصلاح والتهذيب البيعي، وله مطالب دينية لخير الرعية (قصة أسعد الشدياق، ص٤٤).

والرجل في كل حال سابق لعصره. وهذه ميزة النابغة أخفق أو أفلح.

شكرًا لك، يا أخي، على ما لاحظت. أما أسعد والحبيشي فهما الآن معًا عند الذي في بيته منازل كثيرة.

رزقني الله وإياك منزلًا صالحًا ليس ككوخ الحطيئة في آخر الجنة.

عاليه
١٩٣٨
١  الأديب الأستاذ جميل بيهم.
٢  الأستاذ شكري الخوري، صاحب جريدة أبي الهول.
٣  الفارياق: عنوان لكتاب خطير ألَّفه فارس الشدياق واختصر اسمه به؛ إذ ضم الأحرف الأولى من كلمة فارس إلى الأحرف الأخيرة من كلمة الشدياق.
٤  جد والد المتبرع هو عم أحمد فارس.
٥  تاريخ الأعيان، ص١٩٤ مكررة.
٦  الأمير حيدر موسى شهاب، جد الشهابيين الذين في جبل لبنان.
٧  تاريخ الأعيان، ص١٨٦ مكررة.
٨  يشوبح: يتلو التسابيح.
٩  البطرك الحبيشي لم يكن سلف البطرك مسعد مباشرة، بل كان سلفًا لسلفه؛ أي إن بينهما بطركًا هو يوسف الخازن، ولا شك في أن أستاذنا مارون قصد من كلمة «سلفه» معناها المطلق.
١٠  أصلهما من أسرة واحدة، والأول ابن خال الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤