الفصل الرابع

التعلُّم بسرعة

في الشركات، التعلُّم بسرعة رياضة جماعية، وبالرغم من أن الموظفين الفرادَى يتعلمون بطريقة عرضية طوال الوقت (باكتساب رؤًى جديدة وتحسين مهاراتهم)، فإن هذا النوع من التعلُّم لا يساعد الشركةَ تلقائيًّا على تحسين أدائها؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى اشتراكهم في البرامج التدريبية الرسمية. في هذ الفصل، ننظر فيما يتطلَّبه تعلُّمُ المؤسسات على نحوٍ ممنهج من المجموعة الكبيرة من الخبرات التي تمرُّ بها، وخاصةً من الفشل والإخفاق.

نتفق جميعًا على أنه ينبغي للأفراد والمؤسسات التعلُّم من الفشل والإخفاق؛ ومع ذلك، فإن المؤسساتِ التي تتعلَّم من الفشل على نحوٍ منتظم وفعَّال، نادرةٌ للغاية؛ ويرجع ذلك إلى أن التعلُّم بسرعة يتطلَّب النظامَ؛ فهو أمر منهجي يتطلَّب جهدًا. سأوضح هنا الخطوات الأربع لعملية التعلم التي يقوم عليها الابتكار.1 بالطبع، ثمة عوائق في سبيل التعلم كامنة في كل خطوة من هذه الخطوات، وسألقي نظرةً على الكيفية التي تتغلب بها بعضُ الشركات عليها. وأخيرًا، سأقدِّم بعضَ النصائح لقيادة عملية التعلُّم في سياق الابتكار.
إن التعلم المقصود من التجربة يبدأ بالعقلية الإدارية الصحيحة، وأُطلِق على ذلك «الترتيب من أجل التعلُّم»،2 وهي طريقةُ تفكيرٍ وتصرُّفٍ مدفوعةٌ بإدراك أن العالَم دائم التغيُّر، وأن حلول اليوم ليست بالتأكيد هي حلول الغد؛ إنها تعني ألَّا نتحلَّى بهذه الثقة الزائدة عن اللازم (غير المبررة) في أول فكرة تراودنا؛ على سبيل المثال: تذكَّرْ عمليةَ إطلاق شركة تليكو لخدمة دي إس إل التي تحدَّثنا عنها سابقًا؛ فلقد أدَّت ثقة الإدارة العليا (التي لا أساسَ لها) في قدرة الشركة على تقديم الخدمة، إلى طرحٍ على نطاقٍ واسع، وسابقٍ لأوانه، لخدمةٍ في سوقٍ حضرية متنوِّعة وضخمة.

(١) التعلم على طول الطريق

لقد فشلت تليكو لأن الشركة وضعت كاملَ قُوَاها في ابتكارٍ دون أن تقيِّم بدقةٍ قدراتِها التشغيليةَ القائمة. تخيَّلْ لو أن الشركة بدلًا من طرحها الخدمة على نطاقٍ واسع مصحوبٍ بحملة إعلانية كبيرة، استعانَتْ بعدد من العملاء الذين كانوا من بين أول مَن جرَّبوا الخدمةَ الجديدة، وتسامحوا مع وجود بعض العيوب فيها، وأعطوا بدورهم الشركةَ تقييمًا لمساعدتها في تحسين الخدمة بسرعة؛ وبصفتهم مشاركين في عملية التقصِّي، لَربما استمتع هؤلاء بمساعدة الشركة في اكتشاف نقاط الضعف في الخدمة، ولَتعلَّمَا معًا — الشركة والعملاء — خلال هذه العملية؛ وقبل مرور وقت طويل، كانت المشكلات ستُحَلَّ، وكانت مَواطِن الخلل ستُكتَشَف في مسيرة حتمية نحو ابتكارٍ موثوقٍ به وسهلِ الاستخدام، كان العملاء المستقبليون سيتعاملون معه باعتباره شيئًا مسلَّمًا به. إن طرْحَ المنتج على نطاق واسع في السوق أشبهُ ببَسْط سجادة؛ حيث يعني ضمنًا أن الشيء جاهزٌ للانطلاق لا ينقصه سوى بعض القوة اللازمة لدفعه إلى الأمام. أما طَرْحه تدريجيًّا على نطاق محدود — في المقابل — فهو رحلة يتخلَّلها التكرارُ والتعلُّم بقصدٍ وتروٍّ.

يجب على أي شركة تحاوِل الابتكارَ أن تكتشف طريقًا للتعلُّم بأسرع ما يمكن من التجارب المبكرة (التي يُفضَّل أن تكون على نطاق محدود) من عمر المشروع. لا توجد طرقٌ مختصرة في هذا الشأن؛ فلكي تقدِّم منتجًا أو خدمة جذَّابة يحقِّق كلٌّ منهما نجاحًا ويروق لمجموعة كبيرة مختلفة من العملاء، عليك أن تكون على استعدادٍ للبدء بمنتج أو خدمة لا يعمل كلٌّ منهما جيدًا من البداية؛ وهذا يعني أن تأخذ بجديةٍ شعارَ الفيلسوف البريطاني جي كيه تشسترتون، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «إذا كان شيءٌ ما يستحقُّ أن تقوم به، فإنه يستحقُّ أن تقوم به «على نحوٍ سيئ».»3 بالطبع، مجرد فعل شيءٍ ما على نحوٍ سيئ (قبل أن تعرف كيف تقوم به على نحوٍ جيد) ليس كافيًا؛ فحتى يتعلَّم المديرون من تجاربهم بسرعة، عليهم أن يصيغوا عمدًا تجاربَهم المبكرة في شكل «اختبارات»؛ فالاختبارات تنتج بيانات، والبيانات لا بد أن يُستفاد منها.
خلال رحلة الابتكار، كل خطوة تكون اختبارًا، وكل اختبار يجب أن يكون مختلفًا عن الذي يسبقه؛ فتصميمُه يجب أن يدمج المعرفةَ المكتسبة في الدورة السابقة. وبهذا النحو، يُطرَح الابتكار تدريجيًّا؛ يتخبَّط ويتحسَّن بينما يتَّسِع نطاقُ طرحه؛ على سبيل المثال: قدَّمت شركة نتفليكس عروضَها الخاصة بالمشاهدة الفورية للأعمال الفنية على مراحل متتابعة، اقتصرت كلٌّ منها على ٢٥٠ ألف عميل، مستغرقةً ستة أشهر لتطرح تكنولوجيا التنزيل الفوري تدريجيًّا؛ وخلال هذا الوقت، كانت الشركة تتواصل باستمرار مع العملاء عبر رسائل متابعة إلكترونية تتقصَّى فيها عن جودة أفلام محددة تم تقديمها،4 علاوةً على أنها أنشأت مدوَّنة نتفليكس وراقبَتْها بفعالية؛ لشرح العمليات خطوةً بخطوة، وللاستجابة لتدوينات العملاء المتكررة الخاصة بالمشكلات والطلبات والاقتراحات. وقد كانت الخدمة مجانيةً في الأساس لسنوات عديدة، إلى أن حُلَّتِ المشكلات، وما إن عملت الخدمة بسلاسةٍ، حتى طالبَتْ نتفليكس العملاءَ بالدفع مقابل الحصول على الخدمة؛ هذا هو نوع الممارسة الذي تطبِّقه الشركاتُ للتعلُّم بسرعة. وقبل كل شيء، يتطلَّب الابتكارُ من الشركات «الاستفادةَ الكاملة من تجارب الموظفين والعملاء من أجل التعلُّم».

(٢) كيفية التعلُّم بسرعة

يتضمَّن التعلُّم بصفة عامة، والتعلُّم من أجل الابتكار بصفةٍ خاصة، أربعَ خطوات أساسية هي: «تشخيص» الموقف أو التحدي أو المشكلة (بما في ذلك تقييم المعلومات المعروفة عن كلٍّ منها في الوقت الحالي)، و«تصميم» إجراءات مبدئية، و«تنفيذ» تلك الإجراءات (مع اعتبار هذا تجربةً)، ثم «تأمُّل» التجربة لاستلهام دروس مستفادة منها.

(٢-١) التشخيص

يتضمن التشخيص تقييمَ الوضع والتحديات التي قد تنتظرنا، وهو معنيٌّ بتحديد فرص الابتكار؛ رغبات العميل أو مشكلاته التي لم تُعالَج بعدُ عن طريق منتجات أو خدمات عملية. وقد تمتد هذه العملية من الدراسة الموسعة لسلوكيات العميل، إلى تحليل مجموعات البيانات الضخمة فيما وراء الكواليس، وحتى التبادل السريع للأفكار بين الزملاء حول الفرص المتاحة.

في شركة إنتويت — شركة البرمجيات المالية — يراقب المهندسون على نحو مباشر العملاءَ بينما يتفاعلون مع البرامج الإلكترونية التي ينتجونها؛ وذلك لتقييم مدى سهولة أو صعوبة استخدام العملاء للسمات المضمنة في تلك البرامج؛5 هذا يتيح للمهندسين رصْدَ احتياجات العميل التي لم تتم تلبيتها على نحوٍ مباشِر؛ تلك التي يفتقر العملاءُ أنفسهم إلى الخبرة أو المرادفات اللازمة للتعبير عنها. يتمثَّل جزء آخَر من عملية التشخيص من أجل الابتكار في تقييم الأمور العملية، بالأخذ في الاعتبار الحالة الراهنة للتكنولوجيا وتكاليف مستلزمات الإنتاج. ربما تكون الفرص كثيرة، لكنها ليست لامتناهية.

(٢-٢) التصميم

الخطوة الثانية هي تحديد احتمالات الفعل. يتم التصميمُ بوجود التزامٍ أوليٍّ لدى الفريق نحو الفعل، سواء أكان من خلال قرار أو خطة رسميَّيْن، أم بالتحول التدريجي إلى اتفاق على تجربةِ شيءٍ ما. إن الهدف من التصميم في الابتكار هو توجيه الفعل؛ قد يبدو هذا أمرًا بسيطًا بدرجة مفرطة، لكن التصميم يعزِّز التعلُّم؛ حيث إنه يدفع إلى القيام بفعلٍ على نحوٍ أكثر رَوِيَّةً ووعيًا.

في شركة موتورولا، كان الهاتف رازر — الذي أطلقته عام ٢٠٠٤ — واحدًا من أكثر الابتكارات نجاحًا في تاريخ الشركة،6 وقد كان ذلك الابتكار نتاجَ جهودِ فريقِ عملٍ لديه دافعية كبيرة لطرْحِ أفكارٍ لأشكال وسمات للهاتف، ثم صنْعِ نماذج منه بالحجم الطبيعي مصنوعة من الصلصال، وتجربتها بسرعة قبل الوصول إلى مرحلة التصنيع بمواد حقيقية. وكما هو الحال في هذا المثال، غالبًا ما تكون خطوةُ التصميم في أي رحلة ابتكار مجرد نقطة انطلاق، قد تؤدِّي إلى خطوة واحدة فقط إلى الأمام؛ تلك الخطوة التي نتوقَّع أن نُراجعها بمجرد أن نعرف أكثر؛ ومن ثَمَّ في أيِّ مشروع ابتكاري، قد تُستخدَم مجموعاتُ التركيز للتفاعل مع خدمة جديدة تجريبية أو فكرة منتج قبل أن نعرف كل تفاصيل التنفيذ.

(٢-٣) التنفيذ أو التجريب

إن الانتقال من الحديث إلى التنفيذ، ومن التأمُّل إلى التجريب، يحدث في فِرَق عملٍ أيضًا. إن مفتاح الفعل الناجح خلال التنفيذ، باعتباره وسيلةً للتعلم، هو الحرص على تتبُّع ما يحدث فعليًّا، علاوةً على تتبُّع نتائج الفعل. تؤكِّد أدواتُ مراقبةِ الإدارة التقليدية على البيانات النهائية التي تلخِّص النتائج. يولي التنفيذ، باعتباره وسيلةً للتعلم، نفسَ القدر من الاهتمام لبيانات العملية التي توضِّح كيفية سير العمل.

يكمن الفعل السريع الحر في جوهر الابتكار، ويُسمَّى كذلك بالتجريب. إن العلماء يُجرون بانتظام تجاربَ آمِلين في أن يكونوا أول مَن يتوصَّل إلى اكتشاف مهم في العملية، وتتراوح التجارب ما بين تلك التي تكون نتائجُها المحتملة مجهولةً تمامًا، وتلك التي تُختَبَر فيها فرضياتٌ قوية. في الأبحاث الأساسية، ربما يكون العالِم الذي يسجِّل نسبةَ فشل تبلغ ٧٠ بالمائة في تجاربه، في طريقه للحصول على جائزة نوبل. لقد جرَّبَ فريقُ تصنيع الهاتف رازر عدةَ توصيفات قبل التوصل إلى تصميمه الرفيع الرائد؛ وذلك من خلال وضع بطارية الهاتف إلى جوار لوحة الدوائر الإلكترونية (وكانتَا متراكبتين في الهواتف السابقة) لتقليل السُّمك. تُنشِئ فِرَقُ العمل في آيديو بانتظام نماذجَ سريعةً لرؤية ما قد تبدو عليه المنتجاتُ الجديدة في شكل ثلاثي الأبعاد؛7 والفكرة هي تجريب أشياء مختلفة ورؤية ما يحدث. من السهل ألَّا نتجاوز المرحلةَ المفاهيمية؛ أن نظل نتحدَّث عن الأفكار والاحتمالات إلى الأبد. يتمثَّل أحد السُّبل إلى الابتكار الناجح في الاندفاع المتكرر المحدود إلى التجربة.

(٢-٤) التأمُّل

بعد تنفيذ التجربة، من المهم أن نستغرق بعض الوقت في فهم ما حدث؛ ما نجح وما لم ينجح. يتمحور التأمُّلُ حول تدبُّر الإخفاقات، سواءً أكانت ذكية أم غير ذلك؛ إنها مهمة تحليلية.

يتعيَّن على فِرَق الابتكار التعلُّم بسرعةٍ من حالات المحاولة والإخفاق التي قاموا بها حتى يمكنهم إجراء تجارب جديدة بأسرع وقت ممكن. إن التأمُّلَ في الفشل نادرًا ما يكون أمرًا مبهجًا، لكنه ضروري لاكتشاف الأسباب الحقيقية وراء الفشل لتحديد ما ستتم تجربتُه في المرة التالية. لا تُبخِس التأمُّلَ حقَّه رغبةً منك في الانتقال بسرعة إلى التجربة التالية؛ ذلك لأن التأمُّل الجيد يمكن أن يساعد في تجنُّب الإخفاقات التي يمكن توقُّعها في الأفعال اللاحقة. يتحسَّر إد كاتمول — مؤسس شركة بيكسار ورئيسها — على أن موظفي الشركة يميلون إلى تجنُّب تأمُّل المشروع بعد انتهائه، مفضِّلين الاستمتاعَ بنجاحه على التمهُّل وتحديد ما كان من الممكن أن يتمَّ على نحوٍ أفضل. وللاستفادة أكثر من هذه الخطوة الحاسمة، أدْخَلَ كاتمول الإجراءَ التالي: يُطلَب من المشاركين ذِكْرَ خمسة أمور كانوا سيكرِّرونها ثانيةً، ثم مناقشة خمسة أمور لم يكونوا سيفعلونها؛ ووفقًا لرأي كاتمول، خلَقَ هذا التوازنُ بين الإيجابيات والسلبيات بيئةً آمِنة تساعد على مناقشة كل جوانب المشروعات بعناية.8

ليس بالأمر السهل على أي شركة تواجِه قيودًا في التكاليف (وعلى تلك التي لا تواجه قيودًا في التكاليف!) أن تتوقَّف وتتأمَّل؛ إن التقييمَ المنتظم يعطِّل المواردَ الإنتاجية، والإدارةُ التقليدية تعتبر هذا إنتاجيةً ضائعةً. ومع ذلك، الطريقةُ الوحيدة لتحقيق التميُّز واستدامته هي إصرار القادة على أن تستثمِرَ مؤسساتُهم في التأمُّل الذي يجعل الابتكارَ ممكنًا.

(٣) التغلُّب على العوائق أمام التعلُّم

إن التعلُّمَ من الإخفاق سمةٌ مميزة للشركات المبتكرة، لكنه يتطلَّب عقليةً غير تقليدية وجهدًا منظمًا، وعددُ الشركات التي تفعل ذلك جيدًا قليلٌ جدًّا. ما السبب في ذلك؟ السبب هو وجود عقبات في سبيل الابتكار في كل خطوة من خطوات عملية التعلم.

(٣-١) عوائق التشخيص

يمهِّد التشخيصُ الطريقَ للتعلُّم من الإخفاقات الحتمية في أي عملية ابتكارية؛ هنا تُقَيَّم الفرص ويعاد النظر في الأهداف الطموحة (تذكَّرْ توصيةَ «تطلَّعْ إلى هدف طموح»). ونظرًا لأن معظم الأشخاص تراودهم مشاعرُ سلبيةٌ قوية إزاء الفشل والإخفاق، يجب أن تدار مثل هذه النقاشات على نحوٍ مدروس.

تأمَّلْ نموذجَ قيادةِ آلان مولالي في شركة فورد؛9 فبعد فترة قصيرة من تولِّي مولالي منصبَ الرئيس التنفيذي الجديد لشركة فورد في سبتمبر من عام ٢٠٠٦، بعد ترْكِه شركةَ بوينج، دشَّنَ نظامًا لرصد الفشل؛ إذ طلب من المديرين ترميزَ تقاريرهم الخاصة بالعمليات بالألوان؛ بحيث يرمز اللونُ الأخضر إلى درجة جيد، والأصفرُ إلى التحذير، والأحمرُ إلى وجود مشكلة؛ وهذا أسلوب شائع في الإدارة. بحسب خبرٍ نُشِر عام ٢٠٠٩ في مجلة «فورتشن»، في عدد من اجتماعاته الأولى، كانت كلُّ تقارير المديرين باللون الأخضر؛ مما سبَّبَ لمولالي إحباطًا شديدًا. ذكَّرَهم أن الشركة قد خسرت عدة مليارات من الدولارات في العام السابق، سائلًا إياهم: «أَلَا يوجد أي شيء على غير ما يُرام؟»10 وبعد تقديم تقريرٍ لونه أصفر على نحوٍ متردِّد، حول عيب خطير في أحد المنتجات من شأنه أن يعطِّل إطلاقَه في السوق، ردَّ مولالي على الصمت المُمِيت الذي أعقبه بالتصفيق. بعد ذلك — خاصةً بعد أن اكتشف المديرون الآخرون أن أول مَن قدَّمَ الأخبار السيئة لم يُطرَد أو تُخفَض درجتُه الوظيفية — كانت اجتماعاتُ طاقم العمل الأسبوعية حافلةً بالتقارير ذات الألوان المختلفة.
توضِّح هذه القصة مشكلةً شائعة وجوهرية؛ فبالرغم من وجود كثير من طرق إبراز الإخفاقات الحالية والمنتظرة، فإنها غير مستغَلَّة على نحوٍ كبير في مؤسسات اليوم؛ على سبيل المثال: تُعَدُّ إدارةُ الجودة الشاملة وطلبُ التقييم من العملاء طريقتين معروفتين ترميان إلى إبراز الإخفاقات، إلا أن كثيرًا جدًّا من الموظفين — حتى أكبر المسئولين — يعزفون عن إبلاغ رؤسائهم وزملائهم بالأخبار السيئة. على سبيل المثال: أعرف مسئولًا تنفيذيًّا كبيرًا في إحدى أكبر شركات إنتاج المنتجات الاستهلاكية، كانت لديه تحفُّظات شديدة على عمليةِ استحواذٍ كان يُخطَّط لها بالفعل عندما التحق بفريق الإدارة؛ ونظرًا لوعيه بأنه فرد جديد على الفريق، فقد التزَمَ الصمتَ خلال مناقشات الخطة؛ لأن كل المسئولين التنفيذيين الآخرين كانوا متحمِّسين للأمر، وبعد شهورٍ طويلة، حين فشلت عملية الاستحواذ فشلًا واضحًا، اجتمع الفريق لمراجعة ما حدث؛ وبمساعدة أحد المختصين في المجال الاستشاري، تأمَّلَ كلٌّ من المسئولين التنفيذيين الدورَ الذي لعبه كلٌّ منهم في الفشل، وأوضح المسئول التنفيذي المُستجَد، الذي أبدى أسفه إزاء صمته السابق، أنه لم يُرِدْ أن يكون الصوتَ الوحيد المعارِض.11

من المستحيل تشخيص الفشل أو توقُّعه حين لا يشعر الأشخاصُ بالأمان تجاه التعبير عن كامل أفكارهم ومشاعرهم إزاء الموضوعات المختلفة المطروحة. يتعيَّن على القادة أن يبذلوا قصارى جهدهم لتجنُّب إلقاء اللوم على الموظفين الذين يبلِّغون عن الجوانب السلبية في العمل، وأن يشجِّعوهم بدلًا من ذلك على التحدُّث بصراحة؛ ويضرب تصفيقُ مولالي مثالًا رائعًا على كيفية القيام بذلك. يجب أن يشعر الموظفون بأنهم قادرون على الحديث بصراحة عن الإشارات الواضحة والمشوشة، التي تدلُّ على وجود شيءٍ ربما يكون خاطئًا. إن هذا ضروري للابتكار! ودون أدلةٍ على أن الحاضر به خللٌ ما، يكون الحافز للابتكار منعدمًا.

(٣-٢) عوائق التصميم

فيما يتعلق بالتعلم المؤسسي، تُعَدُّ خطوةُ التصميم وقفةً متمعنة توجِّه الفعل اللاحق. وأهمُّ عقبة في سبيل التصميم هي انعدام الأمان النفسي؛ فحين يكون الأشخاصُ مفرطي القلق بشأن رأي الآخرين فيهم، يصبحون عازفين عن إثارة أية أفكار ربما تكون مجنونة بعض الشيء. لكن الابتكار يستفيد من الأفكار المجنونة؛ فأحيانًا الفكرة المجنونة — بالرغم من كونها غيرَ عملية أو عديمةَ الفائدة في حد ذاتها — هي التي تحفِّز شخصًا آخَر على التوصُّل إلى فكرة مبتكرة ومفيدة بحق. من المهم للابتكار أن تتأكَّد من أن الأفراد يشعرون بأن لهم مطلقَ الحرية في الحلم وتخيُّل كافة أنواع الاحتمالات.

يقودنا هذا إلى عقبة أخرى؛ فوراء الشعور بالأمان للحديث بصراحة، يتعين على الأفراد كذلك أن يعيدوا إعمال خيالهم، وهو ما يمكن أحيانًا أن تعرقله الهياكلُ الهرمية للمؤسسات. يمثِّل الافتقارُ إلى الخيال عقبةً مهمة أخرى في التوصُّل إلى تصميماتٍ للفعل جديدةٍ بدرجة كافية — كافية للتخلُّص من الوضع الراهن — لتوليد تجارب تستحقُّ الجهدَ؛ ولذلك تتمثَّل إحدى المهام المهمة للقيادة في إثارة الخيال وتغذيته، لمساعدة الأفراد في توسيع نطاق تفكيرهم بشأن الخيارات إلى أقصى مدًى ممكن. إن التفكير مجانيٌّ، في حين أن الفعل يمكن أن يكون باهظَ الثمن؛ ولذلك ينبغي أن تُستخدَم خطوةُ التصميم في إجراء تجارب فكرية، يمكن من خلالها تجنُّبُ الاستمرار في تنفيذ طرقٍ من الواضح أنها خاطئة.

(٣-٣) عوائق التنفيذ والتجريب

يمثِّل انعدامُ الأمان النفسي أيضًا عقبةً في سبيل تحقيق الخطوة الثالثة من عملية التعلم، وهي التجريب المقصود؛ إذا لم يشعر الأفراد بالأمان، فإنهم لن يُجروا سوى تجارب تقلُّ نسبةُ المخاطر فيها إلى الحد الأدنى؛ حيث يسهُل توقُّع النتائج الناجحة نسبيًّا. (لهذا السبب يُجرِي المديرون أحيانًا تجاربَ لا تأتي بكثير من المعلومات، كما سبق أن أوضحنا في تقصِّي ما يتطلَّبه الإخفاقُ بذكاء.) لكن المؤسسات المُبتكِرة ترحِّب بإجراء التجارب التي تبوء بالفشل (والتعلُّم السريع منها).

تأمَّلْ مثالَ شركةِ آيديو؛ شركةِ التصميم التي تدعم التجريبَ الداخلي عبر شعارات من قبيل: «أَخفِقْ كثيرًا كي تنجح أسرع»، و«تطبيق أسلوب التجربة والفشل على نحوٍ واعٍ يحقِّق نجاحًا أكبر من تخطيط الشخص العبقري بمفرده». تصاحب هذه العباراتُ تجاربَ بسيطة ومتكررة، وكثيرًا من الدعابات حول الإخفاقات التي تنتج عنها. تذكَّرْ أن شركة ثري إم (التي أتينا على ذكرها في المقدمة) كذلك تشجِّع التجاربَ المقصودة، وتحتفي بالإخفاق الذكي؛ مما ينتج عنه عقود من الابتكار الناجح للمنتجات.

في شركات كثيرة، لا تتوافق الحوافزُ (الرسمية وغير الرسمية) مع القِيَم الخاصة بالتعلم من الفشل، وهذا يجعل عملية التجريب الصحيحة صعبةً ونادرةً. وهذه العقبة الواضحة في سبيل التجريب يجب أن يتم التغلب عليها؛ وذلك من خلال مواءَمة الحوافز لِمَا يتطلَّبه الابتكارُ. فينبغي الاحتفاء بالأشخاص الذين يقومون بالتجريب، ويجب على الشركات الإعلانُ عن الإخفاقات والنجاحات داخليًّا، حتى يسَعَ جميعَ الموظفين رؤيةُ أن فكرةَ التعلم من الفشل أكثرُ من مجرد «كلام أجوف».

تتمثَّل العقبة الأخيرة في سبيل التجريب الفعَّال في رفض الأفراد وصْفَ تجربة معيَّنة بأنها فاشلة، حتى إن كانت البيانات تشير إلى هذا الاتجاه بوضوح. من المهم أن يتعلم الأفراد متى يعلنون عن فشلهم في أي إجراء تجريبي. إن الميل الإنساني إلى تمنِّي الأفضل وتجنُّب الفشل بأي ثمنٍ يعرقل ذلك، والهياكلُ الهرمية المؤسسية تزيد المشكلةَ سوءًا؛ ونتيجةً لذلك، كثيرًا ما تبقى مشروعاتُ البحث والتطوير الفاشلة مستمرةً لوقت أطول ممَّا هو معقول على المستوى التحليلي، أو مقبول من الناحية الاقتصادية. إننا نُلقِي أموالًا طائلةً وراء أشياء لا تستحِقُّ، آمِلين في أن نحقِّق معجزةً. إن الحدس والخبرة قد يدلَّان المهندسين أو العلماء على أن مشروعًا بعينه ينطوي على عيوب خطيرة، لكن القرار النهائي لوصفه بالفشل قد يُؤجَّل لشهور.12

(٣-٤) عوائق التأمُّل

لا تستطيع المؤسسات التعلم من الفشل والتجارب الأخرى من دون التحليل والمناقشة المتأنِّيَيْن. ومرةً أخرى، يمكن أن يكون انعدامُ الأمان النفسي عقبةً كبرى في سبيل القيام بذلك بشكل جيد. تتضمَّن العمليات أو المنتديات الرسمية، المعنِيَّة بمناقشة وتحليل وتطبيق الدروس المستفادة من الفشل، لغةً صريحة ومواجهةً مباشرة بحقائق أحيانًا تكون غير مرحَّب بها. نادرًا ما يفعل الأشخاصُ هذا الأمرَ بصورة جيدة، ولا يحدث ذلك إلا إذا شعروا بالأمان النفسي الكافي للتخلِّي عن نرجسيتهم عند باب الشركة، والانخراطِ بالكامل في جوهر المناقشة.

أما العقبة الكبرى الثانية (كما رأينا من قبلُ) فهي إلقاء اللوم؛ فبعد المرور بالفشل، عادةً ما يلقي الأشخاصُ باللوم على أشخاصٍ آخرين، أو أمورٍ أخرى تتعدَّى حدودَ سيطرتهم (مثل المرور والطقس). إننا نقلِّل من مسئوليتنا ونُلقِي اللومَ على عوامل خارجية أو سياقية حين نفشل، إلا أننا نفعل العكسَ حين نقيِّم إخفاقاتِ الآخرين، وهو فخٌّ نفسي يُعرَف بخطأ العَزْو الأساسي. يتعيَّن على القادة أن يساعدوا المجموعات في تجنُّب لعبة إلقاء اللوم، وإبقاء انتباههم مركَّزًا على ما يمكن تعلُّمه من الإجراء أو التجربة السابقة، وما يعنيه ذلك للإجراء أو التجربة التالية. يستطيع المنسِّقون الخبراء من خارج المؤسسة (أو من داخلها) الإبقاءَ على عملية التأمُّل مُثمِرةً، وتقديمَ وجهات نظر ورؤًى جديدةٍ تعمِّق التحليلَ.

يحتاج التحليل الفعَّال للفشل إلى وقتٍ ومساحةٍ، بالإضافة إلى المهارة في إدارة وجهات النظر المتضاربة التي قد تنبثق عن ذلك. تخصِّص بعضُ المؤسسات — مثل المؤسسات العسكرية — وقتًا ﻟ «مراجعات ما بعد العمل»، وتستخدم المستشفياتُ مؤتمرات «الأمراض والوفيات» المخصَّصة لمناقشة الأخطاءِ الخطيرة، أو حالاتِ وفاة المرضى غير المتوقَّعة، باعتبارها منتدياتٍ لتحديد الإخفاقات ومناقشتها والتعلُّم منها.13
العقبة الثالثة هي الافتقار إلى المهارة الفنية أو التحليلية.14 للتعلُّم من التجارب الفاشلة أو الناجحة، يحتاج الأفراد إلى معرفة كيفية استخدام الأدوات العلمية الأساسية، بما في ذلك الاستخدام المناسب للتحليلات الإحصائية أو تحليل البيانات الكيفي. يمكن أن يؤدِّي الاعتمادُ الحصري على الفطنة أو الإحساس الفطري أو الحدس إلى استنتاجات خاطئة. إننا جميعًا نفضِّل الأدلةَ التي تدعم معتقداتنا القائمة على التفسيرات البديلة، وإن لم نكن نقصد ذلك؛ ويُعرَف هذا بالانحياز التأكيدي.15

أما العقبة الأخيرة، فهي عاطفية، فكما أشرنا سابقًا، تفحُّصُ أي فشل في الغالب أمرٌ بغيض من الناحية الشعورية، وإذا تُرِكَت لنا حريةُ الاختيار، فسنتعجَّل إنهاءَ تحليل الفشل أو سنتجنَّبه تمامًا. يحتاج التأمُّل إلى مهارةٍ وصبر، ومع ذلك، كثيرٌ من المديرين يعجبون بالحزم والكفاءة والعمل ويُكافِئون عليها، لكن الأمر لا ينطبق على التأمُّل العميق. يجب على القيادة أن تسعى لصد هذا المد الثقافي؛ مما يضمن التعلم من الدروس المستفادة من الفشل، وهذا الأمر يوفِّر — على المدى الطويل — الوقتَ، ويعزِّز الابتكارَ اللازم للنجاح في المستقبل.

إن الهدف من التأمُّل هو تجاوز الأسباب المباشِرة للفشل (مثل عدم الاتِّبَاع الدقيق للإجراءات) لاكتشاف الأسباب الحقيقية غير الظاهرة؛ وتتمثَّل إحدى طرق القيام بذلك في الاستعانة بفِرَق عملٍ متعدِّدةِ التخصصات، ومتنوعةِ المهارات ووجهات النظر. تنتج الإخفاقاتُ المعقدة بوجهٍ خاص عن الأحداث المتعددة التي وقعَتْ في أقسام أو تخصصات مختلفة، أو على مستويات مختلفة في المؤسسة؛ وفهْمُ ما حدث وكيفيةُ الحيلولة دون حدوثه مرةً أخرى يتطلَّبان مناقشةً وتحليلًا مُفصَّلين من جانب أفراد الفريق. وبالرغم من أن ذلك الأمر يحتاج إلى صبرٍ ومهارة، فإن الفوائد التي يعود بها على الابتكار تستحِقُّ تمامًا استثمارَ الجهد الإداري فيه.

(٤) قيادة التعلم من أجل الابتكار

يتطلَّب التغلبُ على عوائق التعلم في رحلة السعي وراء الابتكار، الانفتاحَ والشفافيةَ والأمانَ النفسي؛ ويجب على القادة، الذين يسعون لدعم الابتكارِ، العملُ على خلق وتعزيز ثقافةٍ تواجِه لعبةَ إلقاء اللوم، وتجعل الأفرادَ يشعرون بالارتياح إزاء إبراز الإخفاقات والتعلُّم منها، ويكونون مسئولين عن ذلك. ويتمحور دورُ القادة حول الإصرار على الوصول إلى فهم واضح لما حدث، وليس طَرْح السؤالِ: «مَن فعَل ذلك؟» حين تحدث مشكلةٌ.

(٤-١) اعتبار العمل عمليةَ تعلُّمٍ

ينبغي على القادة توصيل الرسالة الصحيحة حول طبيعة العمل، مثل تنبيه الأفراد في مجال البحث والتطوير بقول شيءٍ من قبيل: «إن عملنا يقوم على الاكتشاف، وكلما أسرعنا في الفشل أسرعنا في النجاح.» لا يفهم مديرون كثيرون أو يقدِّرون هذه النقطةَ الخفية على أهميتها. لبناء ثقافة تفضي إلى الابتكار، يجب على المديرين خلق بيئة يستطيع جميعُ الأفراد فيها تنحيةَ دفاعاتهم الوقائية عن أنفسهم جانبًا، والعملَ بفضولٍ ورغبةٍ في التعلُّم من الإخفاق والفشل. إننا لا نستطيع التقليلَ من شأن العقبات النفسية والمتعلقة بالعلاقات بين الأفراد التي تقف في سبيل عملية التعلم المؤسسية هذه. إن إعادةَ صياغة الفشل من شيء مرتبط بالخزي والضعف، إلى شيءٍ يتعلَّق بالمخاطرة وعدم اليقين والتحسين؛ خطوةٌ بالغةُ الأهمية في رحلة التعلم.16

(٤-٢) كرِّرِ العملية: عملية التعلُّم لا تتوقَّف

إن السر وراء التعلم المؤسسي والابتكار، كما أشرنا في المقدمة، هو أن دورة التعلم لا تتوقف أبدًا؛ فما إن يتحدَّد الهدف (أي الوجهة التي يقصدها فريق العمل)، يمكن بشكل دائم تقريبًا تحسينُ العملية (أي الكيفية التي نصل بها إلى الوجهة).

إن للرياضات الجماعية إرشاداتٍ عامةً تدفع ممارستها إلى الأمام. بالمثل، التأمُّلُ ومشاركةُ الرؤى على نطاق واسع في بيئة مفعمة بالأمان النفسي، وإعدادُ التجربة التالية وتنفيذُها، والتعلُّمُ من الإخفاقات؛ كلها خطوات ضرورية تدفع عجلة الابتكار إلى الأمام. في الفصلين الأول والثاني من هذا الكتاب، شرحنا كيفيةَ تحديد هدفٍ وعمليةٍ ما، وفي الفصل الثالث ألقينا نظرةً على كيفية تحسين هذه العملية باستمرارٍ للاقتراب أكثر من تحقيق الهدف، وأخيرًا ينبغي للتعلُّم المستمر من الفشل أن يصبح عادةً راسخة، لكن الآن دعونا نكتفِ بقول إن هذا الأمر أكثر منهجيةً وتنظيمًا مما قد يبدو عليه للوهلة الأولى.

في المؤسسات التي تبتكر، يجب أن يصبح التعلُّمُ عادةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤