الفصل الثاني

العالم المترابط

حينما نظر المفكرون في الفترة الحديثة المبكرة إلى العالم؛ رأوا «كونًا» بكل ما تحمله الكلمة اليونانية Cosmos من معنًى، أي كلٌّ منظَّم مرتَّب. رأوا المكونات المختلفة للكون المادي مترابطة بإحكام بعضها مع بعض، وترتبط بروابط وثيقة بالبشر وبالله. كان عالمهم محبوكًا بعضه مع بعض في هيئة شبكة معقدة من الروابط والعلاقات المتبادلة، يمتلئ كل ركن فيه بالغاية، ويزخر بالمعنى. ومن ثم، لم تكن دراسة العالم — من وجهة نظرهم — تعني كشف اللثام عن الحقائق المرتبطة بمكوناته وتصنيفها فحسب، بل الكشف أيضًا عن تصميمه الخفي ورسائله غير الملفوظة. ويتناقض هذا المنظور مع منظور العلماء المعاصرين الذين يؤدي تخصصهم المتزايد إلى حصر تركيزهم في موضوعات محدودة وأشياء معزولة عن غيرها، والذين تركز مناهجهم على تحليل الوسائل بدلًا من تركيبها، والذين تثبِّط وجهات نظرهم المختارة الأسئلةَ الخاصة بالمعنى والغاية تثبيطًا. نجحت الوسائل الحديثة في الكشف عن كميات هائلة من المعرفة بشأن العالم المادي، لكنها أنتجت أيضًا عالمًا مفتتًا مفكك الأوصال بوسعه أن يُشعر البشر بالغربة، وبيُتمهم من الكون. والحقيقة أن جميع فلاسفة الطبيعة في الفترة الحديثة المبكرة قد تبنوا رؤية للعالم أكثر اتساعًا وشمولًا، وتولَّدت دوافعهم وأسئلتهم وممارساتهم عن تلك الرؤية. علينا إذن أن نفهم رؤيتهم للعالم إذا أردنا فهم دوافعهم ومناهجهم في دراسة هذا العالم.

ومفهوم العالم مُحكَم الترابط والهادف يُشتق من مصادر كثيرة؛ أهمها: عملاقا العصور القديمة اللذان لا يمكن تجاهلهما: أفلاطون وأرسطو، ومن اللاهوت المسيحي أيضًا. فمن المصادر الأفلاطونية — لا سيما المفكرون الذين يُطلَق عليهم الأفلاطونيون المتأخرون أو الأفلاطونيون المحدثون (وهم الفلاسفة الذين نشطوا في تطوير أفكار أفلاطون في مصر الهيلينية في القرون الأولى من العصر المسيحي) — تأتي فكرة سُلَّم الطبيعة. وطبقًا لهذا المفهوم، فإن لكل شيء في العالم مكانًا خاصًّا في تسلسل هرمي متصل. في أعلى قمة هذا التسلسل الهرمي يأتي الإله الواحد الباقي المتعال، ومنه تستمدُّ كلُّ الأشياء وجودها. إنه «الواحد» الذي يطلق قوة خلَّاقة تجلب كل الأشياء إلى الوجود، وكلما انبعثت هذه القوة بعيدًا عن «مصدرها»، كانت الأشياء التي تخلقها أدنى منزلة وأقل شبهًا بالخالق. وفي قاع هذا التسلسل تقع المادة الجامدة غير الحية، بينما تمتلئ المستويات بين القمة والقاع — في ترتيب تصاعدي — بالحياة النباتية والحيوانية، يليها البشر، ثم الكائنات الروحانية مثل أنصاف الآلهة، والآلهة الأدنى شأنًا. كان هدف بعض الأفلاطونيين المحدثين هو صعود السلم — إذا جاز التعبير — والوصول إلى مستوًى أكبر من الروحانية، وأقل من المادية، وتحرير النفس البشرية — وهي الجزء الأكثر نُبلًا — من الجهل الناتج عن انحدارها في حيز المادة، والارتقاء عبر مستويات الكائنات الروحانية في رحلة الوصول إلى «الواحد». وهذا المفهوم القديم أثَّر في المذاهب المسيحية وتأثر بها، ويمكن تطبيقه بسهولة على المعتقدات المسيحية الأرثوذكسية عن طريق استبدال الملائكة بالآلهة الأدنى شأنًا وأنصاف الآلهة الوثنيين، واستبدال «الرب المسيحي» بالإله «الواحد»، مثلما اقترح «ديونيسيوس الأريوباغي»، أحد الأفلاطونيين المحدثين المسيحيين في القرن الخامس. وبفضل هذا التنصير، بقيت فكرة «سلَّم الطبيعة» معروفة طوال العصور الوسطى اللاتينية، حتى وإن كانت النصوص الأفلاطونية القديمة التي تقوم عليها قد فُقدت منذ قرون.

تلك النصوص الأفلاطونية كانت من بين تلك الأشياء التي أعاد الإنسانيون اكتشافها في عصر النهضة، والتي ترجمها مارسيليو فيسينو. حصل فيسينو أيضًا على مجموعة أخرى من النصوص ترتبط باسم «هيرمس تريسمجيستوس» — ومعناه هيرمس «العظيم ثلاثًا»، الذي يقال إنه حكيم مصري قديم عاصر النبي موسى — وترجمها ونشرها. حصل فيسينو على مجموعة مختارة صغيرة من بين كمٍّ هائل من «الهرميتيكا» (الكتابات المنسوبة لهيرمس) مختلفة الألوان التي يرجع تاريخها إلى الفترة من نحو القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي. ومن المرجح أن هرميتيكا فيسينو تعود إلى القرنين الثاني والثالث، رغم أنه كان هناك اعتقاد في بادئ الأمر أنها أقدم من ذلك بكثير. وتكمن أهميتها في طابعها الأفلاطوني المحدَث الذي يؤكد على قوة البشر، ومكانهم في العالم المترابط لسلَّم الطبيعة، وقدرتهم على ارتقائه. وقد وجد كثير من قارئي عصر النهضة ما اعتقدوا أنها إرهاصات للمسيحية في الهرميتيكا، وهكذا احتل هيرمس تريسمجيستوس مكانة نبي وثني، ومن ثم يمكن العثور على صورته بين الأنبياء في كاتدرائية «سينا».

يصوِّر سلَّم الطبيعة عالمًا لكل مخلوق فيه مكانٌ، وكل مخلوق فيه يرتبط بمن هم فوقه وتحته مباشرةً، بحيث يكون هناك ارتقاء متدرج ومستمر من المستوى الأدنى إلى الأعلى يخلو من الفراغات على طول ما سمِّيَت باسم «سلسلة الوجود الكبرى». وثمة مفهوم ذو صلة — موجود في كتاب «تيماوس»، وهو وصف لأفلاطون عن أصل الكون، وعمل أفلاطون الوحيد المعروف لدى العصور الوسطى اللاتينية — هو العالم الكبير والعالم الصغير. والعالم الكبير هو هيكل الكون؛ أي العالم الشاسع من النجوم والكواكب، بينما يعتبر العالم الصغير هو هيكل الإنسان. والفكرة الأساسية أن هذين العالَمَيْن أُنشئا على مبادئ متشابهة، ومن ثم توجد علاقة وثيقة بين أحدهما والآخر. وثمة إسهام حديث أضيف إلى الهرميتيكا — وهو عمل عربي من القرن الثامن يسمى «لوح الزمرد» — يلخص بدقة هذا الرأي في شعار موجز معروف جيدًا في أوروبا في العصور الحديثة الأولى: «مثلما في السماء مثلما على الأرض.» يرى أفلاطون أن ربط عالم البشر الصغير بعالم الكواكب الكبير له معنًى أخلاقيٌّ عمليٌّ؛ هو أن علينا النظر إلى الإبداعات المنطقية المنظمة للسماء بوصفها مرشدًا لنا كي نحكم أنفسنا حكمًا منطقيًّا منظمًا. أما الأوروبيون في الفترة المبكرة من العصر الحديث، فيرون في الربط بين العالمين الصغير والكبير — قبل أي شيء — معنًى طبيًّا؛ هو أنه أساس علم التنجيم الطبي؛ فالكواكب المختلفة لها تأثيرات محددة على أعضاء بشرية معينة يمكن بفعلها أن تؤثر على الوظائف الجسمانية (انظر الفصل الخامس).

ثمة إسهام رئيس ثانٍ في مفهوم العالم المترابط الهادف يأتي من الأفكار الأرسطية بشأن كيفية الحصول على المعرفة. وفقًا لأرسطو، فإن المعرفة السليمة بشيءٍ ما هي «معرفة سببية». وهذا المصطلح يحتاج إلى تفسير. رأى أرسطو أن معرفة شيء ما تتطلب تعيين عِلَله الأربع أو أسباب وجوده؛ وأولها «السبب الفاعل» الذي يحدد ما أو مَن الذي صنع الشيء، وثانيها «السبب المادي» الذي يحدد من أي شيء صُنع هذا الشيء. أما «السبب الصوري» فيحدد الخصائص المادية التي تجعل الشيء على ما هو عليه، أو هو بعبارة أخرى بيان تفصيلي بخصائصه. أما أهم الأسباب لدى الأرسطيين — وأكثرها تعذرًا على فهم المحدثين — فهو «السبب الغائي». يخبر «السبب الغائي» بالغاية من وجود هذا الشيء، ويرى أرسطو أن لكل شيء هدفًا أو غاية. ويمكن توضيح هذه الأسباب باستخدام أحد تماثيل آخيل؛ فالسبب الفاعل للتمثال هو النحات، وسببه المادي هو الرخام، وسببه الصوري هو الجسم الجميل لآخيل، وسببه الغائي تخليد ذكرى آخيل. ويمكن أن يكون هناك أكثر من سبب واحد في كل فئة من الفئات الأربع (فمثلًا قد يكون للتمثال سبب غائي آخر هو الزينة، أو قد يُستخدم حامل معاطف كما في بعض المنازل الأثينية).

النقطة المهمة أن الصور الأرسطية للمعرفة — لا سيما فيما يتعلق بالسببين الفاعل والغائي — قد عملت على تعريف الأشياء في سياق علاقتها بأشياء أخرى؛ فمعرفة شيء ما تؤدي إلى القدرة على وضعه داخل شبكة من العلاقات مع أشياء أخرى، لا سيما الأشياء التي تكون باعثة على وجوده والتي تستفيد منه. وفي السياق المسيحي لأوروبا، تناغَمَ السبب الغائي كثيرًا مع فكرة التصميم والتدبير الإلهي؛ فالأسباب الغائية في الطبيعة كانت جزءًا من خطة الله للخلق، وضُمِّنت ورُمِّزت داخل الأشياء المخلوقة بفعل السبب الفاعل الأول.

عبَّر كُتَّاب الفترة الحديثة المبكرة عن فهمهم للعالم المترابط بطرق مختلفة عديدة؛ فقد كتب الفيلسوف الطبيعي الإنجليزي روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١) — المعروف بعمله في مجال الكيمياء (لا يزال طلبة الكيمياء يتعلمون قانون بويل القائل إن حجم الغاز يتناسب عكسيًّا مع الضغط الواقع عليه) — أن العالَم يشبه «رواية رومانسية جيدة الحبكة». هنا يلمِّح بويل إلى الروايات الفرنسية الكبيرة في زمنه (والتي كان مغرمًا بها جدًّا)؛ فهذه الروايات الرومانسية، غالبًا ما تزيد على الألفي صفحة، تصوِّر عددًا هائلًا مرهِقًا للذاكرة من الشخصيات التي تتلاقى دومًا حكاياتها المركبة وتتباعد على نحو يثير الدهشة، وتزخر بالكشف عمن يرتبطون بعلاقة حب سرية، وعمن يلتقي بأخيه أو ابنه الذي فقده منذ زمن. يرى بويل أن الخالق هو كاتب الروايات الأعظم، وأن الباحثين العلميين هم القارئون الذين يحاولون كشف جميع العلاقات والقصص المتشابكة في العالم الذي أبدعه الخالق.

أما العالم اليسوعي الموسوعي أثناسيوس كيرشر (١٦٠١ / ١٦٠٢–١٦٨٠) — الذي احتفظ بمتحف للعجائب في روما، وكان مركزًا للمراسلة اليسوعية بشأن الفلسفة الطبيعية — فقد صوَّر العالم المترابط في صورة أنيقة على الطراز الباروكي تتصدر كتابه الموسوعي «عن المغناطيسية» (الشكل ٢-١).

توضح الصورة سلسلة من الأختام الدائرية كلٌّ منها يحمل اسمًا لأحد فروع المعرفة: الفيزياء، والشعر، والفلك، والطب، والموسيقى، والبصريات، والجغرافيا وغيرها؛ حيث يحتل علم اللاهوت القمة. توجد سلسلة واحدة تربط الأختام معًا فيما يعبر عن الوحدة المتأصلة بين جميع فروع المعرفة. يرى المحدثون الأوائل أنه لم تكن ثمة حواجز دقيقة تفصل العلوم والإنسانيات واللاهوت بعضها عن بعض؛ بل إنها شكَّلت طرقًا متشابكة في استكشاف العالم وفهمه. وفي صورة كيرشر تتصل فروع المعرفة هذه بسلاسل بثلاثة أختام أكبر تمثل الأجزاء الرئيسة الثلاثة للعالم الطبيعي؛ وهي: العالم النجمي (كل ما هو أبعد من القمر)، والعالم تحت القمري (الأرض وغلافها الجوي)، والعالم الصغير (البشر). وبالمثل ترتبط هذه الأجزاء الثلاثة من العالم بعضها مع بعض تعبيرًا عن الاعتماد المتبادل الحتمي الموجود بينها. في مركز الصورة وفي اتصال مباشر مع كلٍّ من العوالم الثلاثة بالتساوي، يوجد «العالم الأصلي»، بمعنى عقل الرب الذي لم يخلق كل شيء فحسب، بل يضم داخله النماذج الأصلية لكل شيء محتمل في الكون. ويستكمل كيرشر صورته بالشعار اللاتيني: «يستقر كل شيء في هدوء مرتبطًا بعُقَد خفية.»

fig1
شكل ٢-١: صفحة عنوان محفورة لأثناسيوس كيرشر من كتابه «عن المغناطيسية» (روما ١٦٤١) تعبر عن الارتباط بين فروع العلم وبين الرب والبشر والطبيعة.1

مفهوم الترابط هذا، سواء بين فروع المعرفة وبين الأوجه المختلفة للكون، يميز «الفلسفة الطبيعية»؛ ذلك الفرع من فروع المعرفة الذي مارسه طلبة الفترة الحديثة المبكرة بالعالم الطبيعي. ترتبط الفلسفة الطبيعية ارتباطًا وثيقًا بما اعتدنا أن نسميه «العلم» في يومنا هذا، لكنها أوسع نطاقًا ودلالة. درَس الفيلسوف الطبيعي في القرون الوسطى أو في عصر الثورة العلمية العالَمَ الطبيعي كما يفعل العلماء المحدثون، لكنه فعل ذلك ضمن منظور أوسع شمل اللاهوت وما وراء الطبيعة. ولم تكن العناصر الثلاثة؛ الرب والإنسان والطبيعة، بمعزل بعضها عن بعض قط. شيئًا فشيئًا حلَّت محل وجهات النظر الفلسفية الطبيعية وجهاتُ نظر «علمية» أكثر تحديدًا وتخصصًا خلال القرن التاسع عشر (وهو العصر الذي صيغت فيه كلمة «عالِم» لأول مرة). ولا يمكن فهم أعمال الفلاسفة الطبيعيين في الفترة الحديثة المبكرة ودوافعهم فهمًا جيدًا، أو تقديرها تقديرًا سليمًا دون وضع الطابع المميز للفلسفة الطبيعية نصب أعيننا؛ فأسئلتهم وأهدافهم لم تكن بالضرورة أسئلتنا وأهدافنا، حتى عندما تكون الأشياء الطبيعية الخاضعة للدراسة واحدة. ومن ثم، فلا يمكن كتابة تاريخ العلم بانتزاع «الباكورات» العلمية من سياقها التاريخي، بل برؤيتها بأعين وعقول شخصياتنا التاريخية.

«السِّحر» الطبيعي

كانت النظرة «الكونية» منتشرة على نطاق واسع في كل من القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكانت تشكِّل أساس مجموعة متنوعة من الممارسات والمشروعات، حتى وإن اعتبر المفكرون المختلفون أن لعلاقات الترابط في العالم درجات متفاوتة من الأهمية لعملهم. وكان وجه الفلسفة الطبيعية الأكثر صلة بتلك النظرة إلى العالم يسمى magia naturalis. ومن الخطأ ترجمة هذا المصطلح اللاتيني مباشرةً إلى الإنجليزية على أنه natural magic أي «السحر الطبيعي»؛ فكلمة «سحر» تجعل القارئين المحدثين بطبيعة الحال يفكرون في رجال يرتدون حُللًا ويُخرِجون الأرانب من القبعات، أو في أشخاص واهنين يرتدون ثيابًا سوداء، وقبعات مدببة، ويغمغمون بكلام غير واضح أمام القدور التي تغلي، أو في أسماء لا تثير الشعور بالخطر، مثل هاري بوتر ومَدرسة «هوجوورتس» لتعليم فنون السحر والشعوذة. لكن مصطلح magia naturalis في الفترة الحديثة المبكرة كان مختلفًا تمامًا عن ذلك؛ فهو يشكل جزءًا مهمًّا من تاريخ العلم.
لعلَّ من الأفضل أن نترجم كلمة magia للمحدثين على أنها mastery بمعنى «البراعة». وهدف من يمارس تلك البراعة أن يفهم الارتباطات المضمَّنة في العالم ويتحكم فيها كي يستفيد منها في أغراض عملية. انظر مرة أخرى إلى صورة كيرشر: ستجد في أعلى يسار الصورة أن «البراعة الطبيعية» مذكورة ضمن فروع المعرفة بين علمي الرياضيات والطب، ويرمز إليها كيرشر باستدارة زهرة عبَّاد الشمس كي تتبع الشمس في السماء طوال اليوم (وهناك العديد من النباتات تسلك هذا السلوك الذي يُعرف باسم «الانتحاء الشمسي»). لماذا تستدير زهرة عبَّاد الشمس دائمًا تجاه الشمس على عكس معظم النباتات؟ من الواضح أنه لا بد من وجود رابط معين بين الشمس وزهرة عبَّاد الشمس. قدَّمت قدرة عبَّاد الشمس على تتبع الشمس مثالًا أوليًّا على القوى والروابط الخفية في العالم؛ تلك التي سعى ممارسو «البراعة الطبيعية» إلى تحديدها والتحكم بها.

قسَّم الأرسطيون في القرون الوسطى خواص الشيء إلى مجموعتين؛ المجموعة الأولى: هي «الخواص الظاهرة» التي يستطيع أي شخص أُنعِم عليه بأعضاء الحس أن يدركها؛ وأول هذه الخواص السخونة، والبرودة، والرطوبة، والجفاف، وهناك خواص أخرى، مثل: النعومة، والخشونة، والصفرة، والبياض، والملوحة، والمرارة، وعلو الصوت، وطيب الرائحة وغيرها، وكلها خواص تثير الحواس. كانت الأرسطية في الأساس منهجًا للتعامل مع العالم يقوم على حسن التمييز. استخدم الأرسطيون هذه الخواص الظاهرة لتفسير تأثير أحد الأشياء على غيره؛ فالمشروبات الباردة، على سبيل المثال، تخفف الحمَّى؛ لأن البرودة تلغي الحرارة، إلا أن بعض الأشياء سلكت سلوكًا غريبًا عجزت الخواص الظاهرة عن تفسيره؛ فاعتُبر أن هذه الأشياء لها «خواص كامنة»، وهي الخواص التي لا نستطيع إدراكها بحواسنا، وهذه الخواص غالبًا ما كانت تعمل على نحو محدد للغاية بما يوحي بوجود علاقة خفية خاصة بين أشياء معينة وبين الأشياء الأخرى التي تؤثر عليها. جمَّع الفلاسفة الطبيعيون في القرون الوسطى قوائم بهذه الظواهر، والمغناطيس أدلُّ الأمثلة التقليدية على ذلك؛ فنحن لا نشعر بشيء تجاه حجر المغناطيس (معدن ممغنط بطبيعته) يمكن أن يفسِّر قدرته الغامضة على جذب الحديد تحديدًا إليه. وينطبق الأمر نفسه على التجاذب الظاهر بين الشمس وزهرة عبَّاد الشمس، واستدارة إبرة البوصلة تجاه النجم القطبي، والتأثير المنوم للأفيون، وتأثير القمر على حركة المد والجزر في البحار، وأشياء أخرى كثيرة. كانت «البراعة الطبيعية» محاولة للبحث عن مثل هذه الخواص الكامنة للأشياء وتأثيراتها، ومحاولة للإفادة منها.

كيف يمكن للمرء الوصول إلى هذه الارتباطات أو «العُقَد الخفية» في الطبيعة؟ إحدى الوسائل كانت ملاحظة العالم عن كثب. يتفق الجميع على أن الملاحظة الدقيقة هي نقطة بدء حاسمة في التقصي العلمي؛ وقد أدت ممارسة البراعة الطبيعية إلى تعزيز هذه الملاحظة، وثمة وسيلة مساوية في الأهمية هي التنقيب في تاريخ ملاحظي الطبيعة الأوائل؛ أي التقارير والملاحظات — التي تتراوح بين العادي والغريب — المدونة في النصوص المختلفة من الأزمنة المعاصرة رجوعًا إلى العالم القديم. ومن ثم كان الكثير من البراعة يقوم على القراءة المتأنية للنصوص على الطراز الإنساني، مع بناء شبكات متداخلة من خلال تجميع افتراضات الكتَّاب السابقين. وفي ظل ذلك التنوع الهائل في الطبيعة، تكون مهمة ممارسي «البراعة الطبيعية» الطموحين جسيمة ومربكة للعقل؛ إذ لن تقل عن حصر خواص كل الأشياء. هل توجد طريقة مختصرة؟ آمن بعض الفلاسفة الطبيعيين أن الطبيعة تحتوي على مفاتيح ترشد هؤلاء الأشخاص؛ ربما في صورة تلميحات وضعها في مكانها ربٌّ رحيم يريدنا أن نفهم خلقه ونستفيد منه. يزعم «مذهب التوقيعات» أن بعض الأشياء الطبيعية تكون «موقَّعة» بإشارات عن خواصها الخفية. وغالبًا ما يعني هذا أن اثنين من الأشياء المترابطة يبدوان متشابهين إلى حدٍّ ما، أو يكون لهما بعض الخصائص المتشابهة؛ فعبَّاد الشمس، على سبيل المثال، لا يتبع الشمس فحسب، بل إن الزهرة نفسها «تشبه» الشمس في اللون والشكل. وهناك أجزاء عديدة في النباتات تشبه أجزاء مختلفة في جسم الإنسان؛ فثمرة الجوز في استكنانها داخل قشرتها تبدو شديدة الشبه بالمخ داخل الجمجمة. هل يمكن أن تكون هذه علامة على أن ثمار الجوز قد تكون دواءً مفيدًا للمخ؟ سيكون على ممارسي «البراعة الطبيعية» تجربة هذه الأشياء للتأكد منها، إلا أن الملاحظة مقرونة بفكرة التوقيعات قدَّمت نقطة انطلاق مفيدة نحو تقصي العالم الطبيعي، وتفسيره، والاستفادة منه.

يمثل مذهب التوقيعات وجهًا واحدًا فحسب من أسلوب أوسع نطاقًا من التفكير التشابهي الذي كان منتشرًا على نطاق واسع في الفترة الحديثة المبكرة. فرغم ميل المحدثين إلى اعتبار هذه التشابهات مجرد مصادفة أو حدث عرضي، أو اعتبارها أمرًا «خياليًّا» غير مادي، فإن كثيرين في الفترة الحديثة المبكرة نظروا إلى تلك الأشياء من منظور مختلف تمامًا؛ إذ توقعوا وجود روابط تشابهية بين أجزاء العالم المختلفة، وكان اكتشاف تشابه أو تناظر في الطبيعة يعني لهم وجود ارتباط حقيقي بين الأشياء. وبدلًا من كون كل تشابه بين شيئين في العالم الطبيعي نتاجًا لخيال البشر، كان هذا التشابه يشير إلى خط آخر في مخطط الخلق؛ أي علامة مرئية على وجود ارتباط خفي وضعته العناية الإلهية في الكون. وهكذا كان للآراء المترتبة على التشابه قوة خاصة وقدرة إثباتية تتجاوز ما اعتدنا على التفكير فيه اليوم. وقد قام اليقين بوجود هذا الارتباط على إيمان لا يتزعزع في كونٍ لم يكن عشوائيًّا ولا تصادفيًّا، بل هو كونٌ ممتلئ بالمعنى والغاية، توجِّهه الحكمة والعناية الإلهية بطرق شتى بما يخدم مصلحة البشر. هذا اليقين — وما صاحبه من استخدام التفكير التشابهي — لم يكن صفة قاصرة على أولئك المهتمين بالبراعة الطبيعية فحسب، بل الواقع أنه امتد إلى كل المفكرين الجادِّين في تلك الفترة.

باستخدام الملاحظة المباشرة والتشابه والمراجع النصية والتوقيعات جمَّع مفكرو الفترة الحديثة المبكرة مجموعات هائلة من الأشياء اعتبروها مترابطة. على سبيل المثال، مَن غيرهم يمكن ربطه بالعلاقة بين الشمس وزهرة عبَّاد الشمس؟ الشمس هي مصدر الدفء والحياة في العالم الكبير، ولا بد أن يكون نظيرها في العالم الصغير هو القلب (ألقِ نظرة أخرى على صورة كيرشر، وستجد شمسًا صغيرة جدًّا مكان القلب في الهيكل البشري الذي يمثل العالم الصغير). الشمس هي أكثر الأجرام السماوية تميزًا، وهي لامعة وصفراء، ومن ثم تشبه الذهب في عالم المعادن، وبعيدًا عن هذا العالم تشبه كل الأشياء الصفراء أو الذهبية. أما في عالم الحيوان، فالشمس تتسبب في صياح الديك؛ مما يدل على وجود رابط خاص بين الاثنين، كذلك الأسد بلونه الأصفر البني، ومكانته الملكية، ورأسه الشبيه بالشمس (حيث تحيط لبدة الأسد برأسه مثل أشعة الشمس) يبدو مرتبطًا بالشمس. بالمثل، فإن شجاعة الأسد تتماثل بدورها مع القلب. إذن فالشمس، وزهرة عبَّاد الشمس، والقلب، والذهب، واللون الأصفر، والديك، والأسد، كلها تحمل روابط مشتركة، ومن ثم روابط حقيقية وإن كانت خفية. يرى أنصار البراعة الطبيعية أن هذه الروابط التشابهية تترجَم إلى روابط فعالة يمكن الاستفادة منها. وأكثر الاستخدامات عمليةً قد يتضمن استخدام الذهب أو زهور عبَّاد الشمس في إنتاج دواء للقلب، لكن يمكن أن تأخذ الأمور أبعادًا أخرى من الإثارة كما سنرى فيما بعد.

تتفاوت الآراء حول ما يربط الأشياء المتصلة بعضها ببعض في شبكات التطابق هذه، لكن عادة كان يُعتقد أنها تؤدي دورها عن طريق كانت تعتبر مؤدية لوظائفها من خلال «التعاطف» الذي يعني حرفيًّا «المعاناة معًا، أو استقبال الفعل المؤثر معًا». فكِّر في آلتَي عُود مُدَوْزنتين جيدًا في جانبين متقابلين في إحدى الغرف. انقر وترًا معينًا في أحد العودين وستجد الوتر المقابل بالعود الآخر قد بدأ في الاهتزاز فورًا، وإصدار نغمة خاصة به تماثل النغمة التي صدرت عن العود الأول. لا نزال اليوم نسمي هذه الظاهرة «الاهتزاز بالتداعي». اعتبر مفكرو الفترة الحديثة المبكرة أن هذه الظاهرة تعطي مثلًا لعملية الروابط الخفية التي تعمل عن بُعدٍ بين الأشياء التي يوجد «تناغمٌ» بينها وبين بعضها البعض. قال البعض إنه من الضروري وجود وسط لنقل التأثير بين شيئين منفصلين مكانيًّا؛ فذكر أرسطو أن شيئًا لن يؤثر في آخر على مسافة منه لولا وجود وسط متدخِّل يحمل التأثيرات. في حالة أوتار العود، على سبيل المثال، نعرف أن الهواء وسط خلالي يحمل الاهتزازات بين الآلتين الموسيقيتين. وفي الأفعال التعاطفية الأخرى، قد يكون هذا الوسط هو ما يطلق عليه «روح العالم»؛ وهي مادة كونية معنوية أو شبه مادية نافذة وقادرة على إبقاء الأشياء — حتى البعيدة منها — في حالة اتصال فعلي بعضها ببعض، وذلك بنقل التأثيرات من شيء إلى الآخر. لم تكن هذه «الروح» كيانًا خارقًا واعيًا، لكنها في العالم الكبير نظيرة الأرواح الحية في العالم الصغير؛ تلك المادة الخفية في أجسادنا، التي تنقل الأمر «تُحرَّك!» عبر الأعصاب إلى أقدامنا، حينما تدرك عقولنا أن شاحنة تزن طنَّين تنطلق سريعًا تجاهنا. بالمثل، تحمل روح العالم «إشارات» من الشمس إلى عبَّاد الشمس أو من القمر إلى مياه البحار. ومرة أخرى نقول إن العالم الصغير والعالم الكبير كلاهما انعكاس للآخر، وكلاهما يحتوي على الروح التي تنقل الإشارات. وبالمناسبة، فإن هذه الطبيعة المتناظرة ينبغي أن تعني أيضًا أن العالم الكبير نفسه به روح من نوع ما؛ وهي نقطة يؤكد عليها أفلاطون في كتابه «تيماوس»، ويصعب على المعاصرين فهمها، وسوف نعود إلى مناقشتها في الفصل التالي.

«البراعة» العملية من المطبخ إلى البحث العلمي

نظرية السحر الطبيعي فيما يتعلق بعالم مترابط هي نظرية مثيرة للإعجاب، بل أنيقة ورائعة، إلا أن المفتاح الرئيس لها هو التطبيق العملي. تتراوح الأجزاء العملية لمفهوم السحر أو البراعة في الفترة الحديثة المبكرة ما بين العادي والسامي؛ وعادة لا يكون للعادي صلة بالأسس النظرية. يقدِّم كتاب «السحر الطبيعي» للعالم جيامباتيستا ديلا بورتا (١٥٣٥–١٦١٥) مثالًا جيدًا على ذلك. اشتهر ديلا بورتا بإنشائه في مدينة نابولي أول مجتمع علمي — «أكاديمية الأسرار» — وبكونه عضوًا في أكاديمية «دي لينشي»، وهي الجمعية العلمية التي أُنشئت في وقت مبكر من القرن السابع عشر، والتي ضمت «جاليليو» بين أعضائها. يلخِّص الفصل الأول من كتاب ديلا بورتا مبادئ العالم المترابط، مشيرًا كيف أن السحر «استعراض للمسار الكامل للطبيعة» و«الجزء العملي من الفلسفة الطبيعية». ينصح ديلا بورتا القارئ بأن يكون «سخيًّا في سعيه وراء الأشياء؛ وبينما يكون منشغلًا وحريصًا في السعي، عليه أيضًا أن يتحلى بالصبر … وعليه ألا يألو جهدًا في سبيل ذلك؛ لأن أسرار الطبيعة لا تنكشف للكسالى والمتبطلين.» تشمل الأسرار العملية للطبيعة — التي تكشف عنها بقية كتاب ديلا بورتا — ملاحظات عن المغناطيسية وعلم البصريات، لكن أغلب الكتاب عبارة عن مزيج من الوصفات لكل شيء بدءًا من تصنيع الجواهر الصناعية والألعاب النارية، إلى تربية الحيوانات والنباتات، إلى نصائح منزلية عن كيفية تصنيع العطور، وشيِّ اللحم، وحفظ الفاكهة، وكل هذه الوصفات لا تعتمد على أي مفهوم نظري للعالم. يتلاءم كتاب ديلا بورتا أكثر مع فئة «كُتُب الأسرار» التي كانت تزداد رواجًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي أُعيدَ طبع بعضها حتى في القرن التاسع عشر. والعديد من تلك الكتب يبدأ بشرح لأفكار مهمة رفيعة عن الكون، لكنها تتكون في الأساس من وصفات للتدبير المنزلي، أو الصناعات الحرفية، وتحتوي على القليل — إن وُجد — من المعلومات حول طبيعة العالم.

على النهاية السامية من المقياس، نجد مارسيليو فيسينو (١٤٣٣–١٤٩٩) الذي ظهر تطبيقه العملي لترابط العالم في أساليب الحياة والطقوس الدينية. غالبًا ما كان فيسينو يشكو من مزاجه السوداوي؛ ربما كان يعاني مما نسميه الآن اكتئابًا. كان الطب في تلك الآونة يعتقد أن زيادة كمية المرارة السوداء — واحدة من «أخلاط» الجسم الأربعة التي لا بد أن تبقى في توازن من أجل التمتع بالصحة — تسبب الاكتئاب. والواقع أن المصطلح اليوناني المقابل لكلمة المرارة السوداء melaina cholé هو أصل الكلمة الإنجليزية melancholy؛ أي الكآبة أو سوداوية المزاج. (وبنفس الطريقة، فإن الشخصيات التي لا تزال توصف بأنها دموية المزاج، أو صفراوية المزاج (سريعة الغضب)، أو بلغمية المزاج (باردة الطبع) تنبع من زيادة أحد أخلاط الجسم الثلاثة الأخرى؛ الدم، والمرارة الصفراء، والبلغم على الترتيب. انظر الفصل الخامس). اكتشف فيسينو العلاقة بين الحياة الدراسية والكآبة، واقترح على رفاقه من المفكرين تغيير أنماط حياتهم كي يساعدهم ذلك في حل المشكلة. أعد فيسينو نظامًا غذائيًّا ومكملات دوائية لمنع تكوين المزيد من المرارة السوداء في الجسم، ويقترح كتابه «حول الحصول على الحياة من السماء» الاستعانة بالمؤثرات السماوية للقضاء على هذا الخطر المهني الذي يحيق بالدارسين.
اعتبر الأطباء أن للمرارة السوداء خاصيتين ظاهرتين؛ هما: البرودة والجفاف، ولأن لدى كوكب زحل هاتين الخاصيتين؛ فإن هناك ارتباطًا تعاطفيًّا بينهما. ومن ثم، فإنه يتعين الابتعاد عن أي شيء يدخل في شبكة التشابهات مع المرارة السوداء وكوكب زحل. أما الخاصيتان المضادتان لكل من الشمس (الحرارة والجفاف) وكوكب المشتري (الحرارة والرطوبة)، فإنهما تُعادلان برودة المرارة السوداء وجفافها، وهكذا يمكن لأي شيء يدخل في شبكة التشابهات مع الشمس والمشتري أن يساعد في القضاء على الكآبة التي تصيب الدارسين (كلمة jovial الإنجليزية المستخدمة بمعنى فَرِح أو جَذِل تعني حرفيًّا «له علاقة بكوكب المشتري Jupiter»، وهي إشارة إلى مدى رسوخ هذا المفهوم وقبوله قديمًا). وهكذا فإنه من أجل الإفادة من الروابط التعاطفية مع الشمس، اقترح عالم الإنسانيات الفلورنسي، فيسينو، ارتداء الملابس الصفراء والذهبية، وتزيين المكان بالزهور التي تدور مع الشمس، والحصول على وفرة من أشعة الشمس، وارتداء الذهب والياقوت، وتناول أطعمة وتوابل «شمسية» (مثل الزعفران والقرفة)، وسماع الموسيقى المتناغمة الراقية والتغني بها، وحرق صمغ المُرِّ والبخور، والاعتدال في تناول الخمر. غير أنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مع بعض القرَّاء عندما اقترح أيضًا — سيرًا على خطى الأفلاطونيَّيْن المحدثَيْن القديمَيْن بلوتينوس ويامبليخوس اللذين ترجم هو أعمالهما من اليونانية — عمل صور يمكنها أن تجتذب وتأسر قوًى كوكبية، وهو قول يثير الكثير من الجدل حينما يُنسَب لقسيس كاثوليكي روماني تابع للكنيسة رسميًّا. والواقع أنه يمكن قراءة فيسينو عند هذه النقطة وكأنه يعبر الخط من السحر «الطبيعي» إلى السحر «الروحاني»، وإن كان من الأرجح سيختلف مع ذلك التأويل؛ فالسحر الطبيعي استخدم قوى التعاطف الخفية في الطبيعة، بينما استدرَّ السحر الروحاني المساعدةَ من كائنات روحانية، مثل: الأرواح الحارسة والآلهة في الفلسفة الإغريقية الوثنية، أو الشياطين والملائكة في اللاهوت المسيحي. وعليه، لم يكن ثمة اعتراض على النوع الأول من السحر، بينما كان من المنطقي أن يثير النوع الثاني استنكار اللاهوتيين، وهكذا أثيرت الشكوك حول استقامة فيسينو الدينية، لكن لم تُتَّخذ ضده أي إجراءات؛ إذ كان يمكن تأويل تلك الطقوس على أنها فيزيائية أو طبية بالكامل، ومن ثم تكون مقبولة تمامًا. وعلى مدى قرن تالٍ، استخدم الراهب الدومنيكاني توماسو كامبانيلا، والبابا أوربان الثامن طقوسًا تتضمن أضواء وألوانًا وروائح وأصواتًا — في تشابهٍ مع وصفات فيسينو — للقضاء على أي آثار سيئة محتملة؛ نتيجة الفقدان المؤقت للتأثيرات الشمسية الصحية أثناء إحدى حالات الكسوف الشمسي التي كان يُتوقع أنها ستتسبب في وفاة البابا. نجا البابا، لكن رغم أن هذا النوع من السحر كان طبيعيًّا في استخدامه المزمع، فقد ارتاب بعض المراقبين في أمر هذه التطبيقات.

وفي وقتنا الحاضر، أحيانًا ما تواجَه تطبيقات البراعة الطبيعية وفكرة العالم المترابط الذي يحتوي تعاطفات وتشابهات بالرفض؛ باعتبارها غير منطقية أو خرافية، لكن هذا الحُكم القاسي خاطئ؛ فهو ناتج عن عجرفة وإخفاق في فهم التاريخ. ما فعله أسلافنا أنهم لاحظوا أوجه الغموض المختلفة، والظواهر التي تبدو متشابهة في الطبيعة، ومنها استقرءوا نتيجة كونية — قانونًا للطبيعة — عن الارتباطات وانتقال التأثيرات في العالم. وقد أدى هذا الاستقراء إلى اعتناقهم معتقدًا لم نعتنقه نحن، مفاده أن الأشياء المتشابهة أو المتناظرة يؤثر بعضها على بعض في صمت. وما إن وُضع هذا الافتراض حتى بُنيت عليه بقية المنظومة على نحو ممنطق. لقد كانوا يحاولون فهم العالم، وفهم الأشياء، والاستفادة من قوى الطبيعة. وقد انتقلوا بالاستقراء من الأمثلة المشاهَدة أو المصرَّح بها إلى مبدأ عام، ثم انتقلوا بالاستدلال إلى تبعاته وتطبيقاته. وقد نختار أن نقول — في ضوء ما لدينا من معلومات بفضل الدراسات الحديثة — إن الفعل الحاصل بين الشمس وزهرة عبَّاد الشمس، أو القمر والبحر، أو المغناطيس والحديد يفضَّل تفسيره بشيء آخر غير علاقات التعاطف الخفية، لكن هذا لا يخوِّل لنا أن نقول إن مناهجهم أو استنتاجاتهم كانت غير عقلانية، أو أن المعتقدات والممارسات التي ترتبت عليها كانت «خرافية». إذا سمحنا بهذا التجاوز، فإن أي نظرية علمية تُرفَض في نهاية الأمر في ضوء تطور فهمنا للعالم — وهذا يشمل بلا شك بعض الأشياء التي نعتقد اليوم أنها تفسيرات حقيقية لبعض الظواهر — سوف يُحكم عليها بأنها غير عقلانية وخرافية أيضًا، بدلًا من مجرد وصفها بأنها أفكار «مغلوطة» جرى التوصل إليها بطريقة عقلانية في ظل الأفكار ووجهات النظر والمعلومات المتاحة في حينها.

الدوافع الدينية وراء البحث العلمي

إن مفهوم «البراعة الطبيعية» هو أقوى تعبير عن الأفكار واسعة الانتشار المتعلقة بالعالم المترابط، وبالعالمين الكبير والصغير، وبقوة التشابه. نفس أنواع الارتباطات وأنماط التفكير كانت مضمَّنة غالبًا في عمل الفلاسفة الطبيعيين الذين لم يشكُّوا في فكرة «البراعة الطبيعية». كان كلُّ مفكِّر في تلك الفترة واثقًا من وجود ارتباطات حميمية بين البشر والرب والعالم الطبيعي، ومن ثم من علاقات الترابط بين الحقائق اللاهوتية والعلمية. وهذا الملمح يثير الموضوع المعقد الخاص بالعلاقة بين العلم واللاهوت/الدين. ولكي نفهم الفلسفة الطبيعية في الفترة الحديثة المبكرة، من الضروري أن نتحرر من عدة افتراضات وتحيزات حديثة شائعة؛ أولًا: فعليًّا، كان كل شخص في أوروبا — وبالتأكيد كل مفكر علمي ذُكر اسمه في هذا الكتاب — مسيحيًّا متدينًا وممارسًا لديانته، والفكرة القائلة إن الدراسة العلمية، حديثة كانت أو غير ذلك، تتطلب وجهة نظر إلحادية — أو بتعبير ألطف «متشككة» — هي خرافة ظهرت في القرن العشرين على يد أناس أرادوا أن يكون العلم نفسه دينًا (بحيث يكونون هم كهنة هذا الدين). ثانيًا: لم تكن تعاليم المسيحية لدى من عاشوا في الفترة الحديثة المبكرة آراء أو اختيارات شخصية، بل كانت لها مكانة الحقائق الطبيعية أو التاريخية. ومن الواضح أن الشقاقات التي وُجدت بين الطوائف المختلفة كانت بسبب نقاط بعيدة بعض الشيء عن اللاهوت أو ممارسة الطقوس، تمامًا كخلاف العلماء اليوم حول النقاط الأكثر دقة دون التشكك في حقيقة الجاذبية الأرضية، أو وجود الذرات، أو صلاحية البحث العلمي. لم يحدث قط أن تدنَّت مكانة اللاهوت إلى «الاعتقاد الشخصي»؛ بل إنه شكَّل (مثل العلم اليوم) كيانًا من حقائق متفق عليها، وبحث مستمر عن الحقائق المتصلة بالوجود. ونتيجةً لذلك؛ اعتُبرت المعتقدات اللاهوتية جزءًا من مجموعة البيانات التي استخدمها الفلاسفة الطبيعيون في الحقبة المبكرة، وهكذا لعبت الأفكار اللاهوتية دورًا أساسيًّا في الدراسة العلمية والتفكير العلمي؛ ليس بوصفها «مؤثرات» خارجية، بل كأجزاء جادة ومتكاملة من العالم الذي كان يدرسه الفيلسوف الطبيعي.

واليوم، نجد الكثيرين من الناس يقبلون الخرافة المنتشرة على نطاق واسع، والتي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، بشأن وجود معركة ملحمية بين «العلماء» و«رجال الدين». فرغم الحقيقة المؤسفة أن بعض أفراد الطرفين قد رسخوا هذه الخرافة بأفعالهم اليوم، فإن هذا «الصراع» قوبل بالرفض من كل مؤرخي العلوم المعاصرين؛ كونه لا يمثل الموقف التاريخي. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر وفي العصور الوسطى، لم يكن يوجد معسكر من «العلماء» يكافحون من أجل التحرر من تسلط «رجال الدين»؛ فلم يكن لهذين المعسكرين وجود على هذا النحو. والقصص المتداولة عن القمع والصراع توصَف في أفضل الظروف بالإفراط في التبسيط أو المبالغة، وفي أسوئها بأنها اختلاقات فولكلورية (انظر الفصل الثالث عن جاليليو). الواقع أن الباحثين في الطبيعة كانوا هم أنفسهم رجال دين، وكان كثير من الكنسيين باحثين في الطبيعة. وقد قام الارتباط بين البحث اللاهوتي والعلمي في جزء منه على فكرة «الكتابين». ويقرر هذا المفهوم الذي أعلنه القديس أوغسطين وغيره من الكتاب المسيحيين الأوائل، أن الله يكشف عن وجوده للبشر بطريقتين مختلفتين؛ بإلهام الكُتَّاب القديسين بكتابة «الكتاب المقدس»، وبخلق العالم ممثلًا في «كتاب الطبيعة»؛ فالعالم حولنا رسالة إلهية — لا تقل عن الإنجيل — علينا أن نقرأها؛ ويمكن للقارئ المتبصر أن يتعلم الكثير عن الخالق عن طريق دراسة الخلق. وتعني هذه الفكرة راسخة الجذور في المسيحية الأرثوذكسية أن دراسة العالم يمكن في حد ذاتها أن تكون فعلًا دينيًّا. فقد اعتبر روبرت بويل، على سبيل المثال، أن أبحاثه العلمية نوع من العبادة الدينية (ومن ثم كان ملائمًا أن يُجريها أيام الآحاد) يعمِّق معرفة الفيلسوف الطبيعي وإدراكه لله عبر التفكر في خلقه، وقد وصف الفيلسوفَ الطبيعي بأنه «كاهن للطبيعة» واجبه أن يوضِّح ويُفسِّر الرسائل المكتوبة في «كتاب الطبيعة»، وأن يجمع كل ما يستحقه الخالق من ثناء ويُظهِره أمام الخلق.

خلاصة القول، إن المحدثين المبكرين رأوا — بطرق مختلفة — عالمًا مترابطًا من منظور كوني فيه كل الأشياء والبشر والرب، وجميع فروع المعرفة أجزاء مترابطة من كلٍّ لا تنفصم روابطه. وفي بعض التقديرات، قد يُنظر إلى التطور الحديث لعلم البيئة والعلوم البيئية على أنها تسترجع بعض خطوط شبكات الاعتماد المتبادل غير المرئية، التي تخيَّل الفلاسفة الطبيعيون في الفترة الحديثة المبكرة وجودها في عالمهم. ومع ذلك، فقد راقب المفكرون في الفترة الحديثة المبكرة — مثل أسلافهم في القرون الوسطى — عالمًا من الترابطات، وعالمًا مليئًا بالهدف والمعنى، فضلًا عن الغموض والعجب والبشارة.

هوامش

(1) Courtesy of the Division of Rare and Manuscript Collections, Cornell University Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤