الفصل السادس

بناء عالم من العلم

لا يقتصر العلم على دراسة المعارف الخاصة بالعالم الطبيعي وتكديسها؛ فبدءًا من أواخر العصور الوسطى وصولًا إلى يومنا هذا تزايد استخدام المعرفة العلمية من أجل تغيير ذلك العالم، ومنح البشر سيطرة أكبر عليه. وبناء العوالم الجديدة التي نعيش فيها الآن جزء كبير من حياتنا، وذلك على نحو أكثر انعزالًا من أي وقت مضى على ما يبدو عن العالم الطبيعي. واليوم يزداد عدد الأشخاص الذين يحاطون من كل جانب بعالم اصطناعي أنشأته التكنولوجيا، حتى إنهم لا يلاحظون اعتمادهم عليه إلا حينما يعتريه القصور، وحينئذ يجدون أنفسهم عاجزين كفلاح في العصور الوسطى لم يسقط المطر على زروعه. ومن ثم، غالبًا ما يصاب المعاصرون بالفزع حينما يعيد العالم الطبيعي التأكيد على وجوده، بالتدخل على نحو غير مناسب في هذا العالم الاصطناعي؛ كأن تضرب الشهب أو الانفجارات الشمسية أنظمة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، أو تقطع صواعق البرق الطاقة الكهربائية، أو تعيق الانفجارات البركانية حركة الطيران. لقد غيَّر انتشار التكنولوجيا العالم اليومي للبشر تغييرًا أكثر جذرية من أي شيء آخر في القرون القليلة الأخيرة. وهذا الانفجار التكنولوجي يعتمد على البحث العلمي ويشجع عليه في آنٍ واحد. ولقد شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر تحولًا خاصًّا نحو استخدام المعرفة والدراسة العلمية في مواجهة المشكلات والاحتياجات المعاصرة.

عالم اصطناعي

في إيطاليا في عصر النهضة، غيَّرت المشروعات الهندسية الجديدة الطموحة المنظر الطبيعي ومنظر المدينة أيضًا. تطلبت القنوات ومحطات المياه أراضي جديدة، ووفرت مياهًا للشرب وطرقًا للنقل. وقد أدى إنشاء فيليبو برونليسكي (١٣٧٧–١٤٤٦) لقبة الكاتدرائية الهائلة ذات الطبقتين بتقنيات إنشائية مبتكرة إلى ظهور خط أفق جديد في فلورنسا. واستوفى التصميم الحضري الجديد تركيز المذهب الإنساني على الحياة المدنية، وأعلن عن حكمة الأمراء الحاكمين ونفوذهم، بينما حمت الحصون الجديدة مصالحهم. وكما هي الحال غالبًا، فإن تقنية جديدة واحدة أدت إلى تطور تقنيات أخرى. ومع التحول التكنولوجي في فنون الحرب في القرن الخامس عشر (بزيادة استخدام البارود وإنتاج مدافع البرونز المتحركة)، أصبحت حصون العصور الوسطى بلا جدوى؛ إذ صارت أبراجها المرتفعة ذات الفتحات أهدافًا ممتازة للمدفعيات؛ ومن ثم اعتمدت منظومة جديدة من التحصين على المبادئ الهندسية، وصارت أجزاء أساسية من تعليم النبلاء. وأسفرت الاهتمامات العملية العاجلة (والطموحات الأميرية) — أولًا في القرن السادس عشر في إيطاليا، ثم في كل مكان آخر — عن ظهور طبقة من المهندسين والمعماريين المتعلمين الذين تحولوا أكثر فأكثر — سعيًا على خطى العالِمين القديمين أرشميدس وفيتروفيوس — إلى المبادئ والتحليلات الرياضية لحل المشكلات العملية. قدمت هذه الطبقة الناشئة — التي اتخذت مكانها بين الحرفيين الذين يعتمدون على الخبرة اليدوية المتراكمة والدارسين المعزولين عن الحياة العملية — أساسًا مهمًّا للاستخدام المتزايد للرياضيات في استكشاف العالم، وهو ملمح أساسي من ملامح الثورة العلمية. ويعد ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩) أحد الأمثلة الأولى لهذه الجماعة «المتوسطة»، وكذلك المهندس العسكري تارتاليا في منتصف القرن السادس عشر. وفي نهاية ذلك القرن، استمد جاليليو الإلهام واستعار المناهج من المهندسين المتعلمين.

كانت النزعة العملية والرغبة الإنسانية في محاكاة القدماء مصدرَي إلهام للتجديدات التي شهدتها مدينة روما. اكتشفت المشروعات المقامة تحت رعاية البابا قنوات المياه وقنوات المجاري القديمة وأعادت بناءها.

أُزيلت كنيسة القديس بطرس المتداعية التي كانت قد بُنيت في القرن الرابع، وذلك لبناء كاتدرائية جديدة شاسعة لا تزال موجودة حتى اليوم، وهو ما أسفر عن أحد أعظم الإنجازات الهندسية في القرن السادس عشر، وهو نقل مسلة الفاتيكان. والمسلة عبارة عن حجر واحد يصل ارتفاعه إلى ارتفاع مبنى من ستة طوابق، ويزن أكثر من ٣٦٠ طنًّا، وقد أقامها الرومان في القرن الأول. عام ١٥٨٥، ومع اقتراب كاتدرائية القديس بطرس من المسلة، أطلق البابا سيكستوس الخامس دعوة لتقديم مقترحات بشأن نقل المسلة المصرية القديمة إلى موقع آخر — وهي أول مرة تُنقل فيها إحدى المسلات على مدى ١٥٠٠ سنة. أُسندت المهمة إلى المهندس دومينيكو فونتانا (١٥٤٣–١٦٠٧). وباستخدام القوة المجتمعة ﻟ ٧٥ حصانًا، و٩٠٠ رجل يشغِّلون ٤٠ ونشًا وخمس روافع طول كل منها ٥٠ قدمًا، وحبالًا طولها ثمانية أميال، نجح فونتانا في رفع المسلة — المحاطة بدعامات حديدية — وأوقفها على قاعدتها في ٣٠ أبريل عام ١٥٨٦. واعتُبرت هذه العملية من الأهمية بمكان حتى إن البابا سمح بهدم جزء من الكاتدرائية المعاد ترميمها حديثًا لإتاحة أفضل تشغيل للروافع والأوناش. وبعد ذلك أمال فونتانا المسلة فوق إحدى العربات (الشكل ٦-١)، ونقلها على طول طريق ممهدة، ثم أعاد تنصيبها حيث هي اليوم في مركز ميدان القديس بطرس.
fig16
شكل ٦-١: نقل مسلة الفاتيكان، من كتاب ألَّفه دومينيكو فونتانا بعنوان «عن نقل مسلة الفاتيكان» (روما، ١٥٩٠).1

تطلبت إنجازات عصر النهضة — والأدوات الاقتصادية والعسكرية التي دعمتها — مواد خام أولية. ومن ثم، شهدت الفترة من ١٤٦٠ إلى ١٥٥٠ طفرة في التعدين، لا سيما في قلب أوروبا حيث وفرة الموارد التعدينية. كان التعدين في العصور الوسطى، بوجه عام، عملية ضيقة النطاق تقتصر على الاستفادة من الطبقات السطحية، إلا أن متطلبات أوروبا في الفترة الحديثة المبكرة — الحديد والنحاس لصنع الأسلحة والمدافع، والذهب والفضة لسك العملات — أسفرت عن نشاط تعديني أوسع نطاقًا، وأكثر تنظيمًا، واستحداث تقنيات أفضل لصهر المعادن وتنقيتها من الشوائب. وتطلب الوصول إلى أعماق أبعد وارتفاعات أكبر المزيد من الوسائل الميكانيكية — ومنها عجلات مائية دافعة، ومعدات لتكسير الصخور، ومضخات لنزح المياه من المناجم، وتهوية أعمدة التهوية — فضلًا عن المزيد من تنظيم العمالة. ولعل أشهر من كتب عن التعدين جورجيوس أجريكولا (١٤٩٤–١٥٥٥)، وهو مدرس ألماني من أنصار الحركة الإنسانية سعى إلى تنظيم المعرفة الخاصة بالتعدين وتنميتها. حاولت أطروحته اللاتينية الشاملة والثرية بالرسوم التوضيحية «عن الأشياء المعدنية» إعلاء شأن نشاط كان يُعَد دونيًّا، وذلك بالربط بين ممارسات التعدين الألمانية والأدب الكلاسيكي، وابتكار مفردات لاتينية لعلم المعادن. وتوضح صور الأشجار المقطوعة، والدخان، وجداول الانسيال السطحي التي ظهرت عرضًا في رسوم أجريكولا التوضيحية كيف أن هذا النمو التكنولوجي قد أضر كثيرًا بالبيئة. والمرجح أن كتب لازار إركر (نحو عام ١٥٣٠–١٥٩٤) — أحد المشرفين على عمليات التعدين — المكتوبة باللغة الألمانية كانت أكثر نفعًا للممارسين الفعليين؛ إذ تزخر هذه الكتب بالخبرة العملية عن معالجة المعادن الخام، واختبار نقاوة المعادن، وتحضير المنتجات الكيميائية مثل الأحماض والأملاح بما فيها نترات البوتاسيوم، وهو المكون الأساسي في البارود. وبحلول منتصف القرن السادس عشر، كانت تلك الطفرة التعدينية قد انتهت — بسبب نضوب المناجم الأوروبية، وكذلك بسبب تدفق معادن «العالم الجديد» التي خفضت أسعار المعادن — مما جعل تشغيل المناجم الأوروبية أقل إدرارًا للربح.

ولقد شجعت الإمكانات المتوقعة للعالم الجديد على حدوث تطورات في علم رسم الخرائط، وفي الملاحة البحرية. كانت الخرائط الملاحية في أواخر العصور الوسطى تحدد فقط الخطوط الساحلية مغطاة بأشكال دائرية تمثل اتجاهات البوصلة من نقاط معينة. كانت تلك الخرائط مفيدة للرحلات القصيرة نسبيًّا في البحر المتوسط، أو على طول الخطوط الساحلية، لكنها لم تكن كذلك فيما يتعلق بتقديم منظور جغرافي، أو في الإبحار عبر المحيطات. وقد وصف الكتاب الذي ألَّفه بطليموس في القرن الثاني بعنوان «الجغرافيا» — والذي أعيد اكتشافه في القرن الخامس عشر — استخدام شبكة من الخطوط الطولية والعرضية (وهي من الشرق للغرب، ومن الشمال للجنوب على الترتيب) لرسم الخرائط. وقد تبنَّى رسامو الخرائط في أواخر القرن الخامس عشر — أمثال فالدسيمولر — هذا الأسلوب، مع استخدام خطوط عرض وطول منحنية تتلاقى قرب القطبين. عمَّم رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس ميركاتور (١٥١٢–١٥٩٤) إسقاط ميركاتور المعروف الآن؛ حيث تتقاطع خطوط الطول المتوازية مع دوائر العرض المستقيمة بزوايا متعامدة. ومع أن هذه الطريقة — التي تتضمن إسقاط الأرض الكروية على خريطة مسطحة — تُشوِّه اليابسة عند دوائر العرض العليا، فإنها كانت أسهل فيما يتعلق بالإبحار (على الأقل عند دوائر العرض السفلى)، وكانت المفضلة لدى المختصين بوصف العالم والملاحين الإسبان.

استُخدمت البوصلة والربعية — وهما أداتان لتحديد الاتجاهات ودوائر العرض على الترتيب — في الملاحة منذ العصور الوسطى، لكن لم تكن توجد حينئذ طريقة جديرة بالثقة لتحديد خطوط الطول، ولم يكن هذا القصور مشكلة خطيرة حين كانت السفن تمكث في المياه الأوروبية، أو تبقى على مرأى من اليابسة، لكن عبور المحيطات كان مغامرة محفوفة بالمخاطر دون وجود قياسات دقيقة لخطوط الطول. ولأن تحديد موقع ما يحتاج لكل من دوائر العرض وخطوط الطول؛ فإن غياب خطوط الطول سبَّب مشكلة كبيرة لرسَّامي الخرائط وللملَّاحين، حتى إن التوصل إلى طريقة لتحديدها أصبح أكثر المشكلات التكنولوجية إلحاحًا في تلك الفترة. عرضت الدول المتنافسة على السفر بحرًا — إسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا — تقديم جوائز قيمة لكل من يتمكن من ابتكار طريقة يمكن الاعتماد عليها.

معرفة الوقت هي المفتاح لخطوط الطول؛ فكل ساعة من الفرق في التوقيت المحلي بين مكانين يُترجَم إلى خمس عشرة درجة على خط الطول (ومن ثم فإن أي «منطقة زمنية» حديثة تساوي خمس عشرة درجة تقريبًا)، لكن كيف يمكن معرفة التوقيت في موضعين متباعدين في وقت واحد؟ يمكن للمرء أن يأخذ معه ساعة عند مكان إقلاع السفينة الأصلي، ثم يقارن قراءتها مع الوقت في موقع السفينة الذي يتحدد بمراقبة الشمس أو النجوم. ومما يؤسف له أن الساعات في الفترة الحديثة المبكرة لم تكن جديرة بالاعتماد عليها لمدة عشرين دقيقة في اليوم، ثم جاءت ملاحظة جاليليو بأن البندولات تدق بمعدل ثابت بغض النظر عن مدى تأرجحها، فأوحى له ذلك باختراع منظِّم جديد لمراقبة الوقت؛ فبدأ بتصميم ساعة يضبطها بندول بينما كان قيد الإقامة الجبرية في منزله، لكنه لم ينتهِ من تصميمها قط. الهولندي كريستيان هويجنز هو من صنع أول ساعة بندول عام ١٦٥٦، مما أحدث قفزة هائلة في درجة الموثوقية، على الأقل فيما يخص الساعات التي تعمل على اليابسة، بينما لم تكن ساعات البندول تعمل بدقة في السفن المتأرجحة. وبعد ذلك، أجرى هويجنز وروبرت هوك — كلٌّ على حدة — تجارب على الساعات المزودة بزنبرك، لكن تلك الساعات أيضًا لم تكن دقيقة بالقدر الكافي على متن السفن. ومع ذلك، أدت دراسة هوك لحركة الزنبرك إلى إعلانه العلاقة بين تمدد الزنبرك وقوته، والمعروفة اليوم باسم «قانون هوك»، مثلما أدى عمل هويجنز إلى إدخال تحسينات على قوانين الحركة التوافقية البسيطة (وأما مشكلة خطوط الطول نفسها، فلم تُحَلَّ إلا في القرن الثامن عشر باستخدام كرونومترات مبتكرة اخترعها صانع الأدوات الإنجليزي، جون هاريسون، وكان بوسعها الحفاظ على دقة الوقت حتى في البحار).

كان البديل للساعة الصناعية ساعة سماوية؛ أيْ حدث فلكي يمكن حساب وقت حدوثه عند موقع مرجعي، ثم مقارنته بالتوقيت المحلي لهذا الحدث في موقع المراقِب. وقد نجح مختصو وصف الكون الإسبان، في القرن السادس عشر، في استخدام المشاهدات المتسقة لخسوف القمر في تحديد خطوط الطول للمستوطنات في الإمبراطورية الإسبانية. ولكن حالات خسوف القمر نادرة للغاية فيما يتعلق بالملاحة، غير أن أقمار كوكب المشتري الأربعة تتعرض لظاهرة الخسوف بمعدل أكثر تكرارًا — فالقمر «آيو» الأقرب للكوكب يحدث له خسوف كل اثنتين وأربعين ساعة — فاقترح جاليليو استخدامها في مراقبة الوقت. وقد تمعَّن الفلكي جيان دومينيكو كاسيني (١٦٢٥–١٧١٢) في دراسة هذه الفكرة، وفي الستينيات من القرن السابع عشر جمَّع جداول زمنية لتلك الخسوفات. لكن مرة أخرى، رغم عمل هذا النظام جيدًا على اليابسة — إذ استُخدم بنجاح في تصحيح الخرائط البرية — فإن رصد ظواهر الخسوف باستخدام التليسكوبات من سفينة متحركة لم يكن ممكنًا. ومع ذلك، وأثناء دراسة الفكرة، لاحظ بعض المراقبين أن بعض الخسوفات تحدث بعد الوقت المتوقع بعدة دقائق. لمَّا أدرك الفيلسوف الطبيعي الدنماركي، أوول رومر (١٦٤٤–١٧١٠)، أن هذا التفاوت يكون في أقصى درجاته حين يكون كوكب المشتري أبعد ما يمكن عن الأرض؛ فإنه افترض عام ١٦٧٦ أن للضوء سرعة محددة — إذ كان التأخير الظاهري للخسوف بسبب زمن انتقال الضوء عبر الفضاء — وتوصل إلى قياس تقريبي لها.

تشير هذه الأمثلة القليلة إلى الترابط الذي لم تكن تنفصم عراه بين التطبيق التكنولوجي والاكتشاف العلمي؛ فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. أما فكرة العلوم «البحتة» مقابل العلوم «التطبيقية» فلم تكن موجودة في القرن السابع عشر، إن كان لها وجود من الأساس. والتقليل من أهمية الاحتياجات العملية — سواء العسكرية أو الاقتصادية أو الصناعية أو الطبية أو الاجتماعية السياسية — بوصفها القوة الدافعة وراء تطورات الثورة العلمية سيعطينا تصورًا زائفًا وخاطئًا لما حدث في الواقع.

ربما تكون العلاقة بين الاكتشاف العلمي والتطبيق العملي أكثر ارتباطًا بالفيلسوف الإنجليزي سير فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦). ولأن بيكون قد وُلد لأسرة مرموقة، ودرس المحاماة، ورشِّح للبرلمان، ونال لقب «لورد فيرولام»، وأخيرًا أسنِد إليه منصب «رئيس مجلس اللوردات» (الذي طُرِد منه بسبب تهم الرشوة)؛ فإنه عاش معظم حياته في أروقة السلطة. من ثم، لم يكن أمر السلطة وبناء إمبراطورية بعيدين عن تفكيره. أكد على أن المعرفة الفلسفية الطبيعية ينبغي «استغلالها»؛ فهي تعِد بالنفوذ الذي يخدم البشرية والدولة. نعت الفلسفة الطبيعية في عصره بأنها غير ذات جدوى، وقال إن مناهجها وأهدافها مضلِّلة، وممارسيها مشغولون بالكلام على حساب العمل. وحقيقة الأمر أنه رغم تعبير بيكون عن تشككه في الأسس الميتافيزيقية للسحر الطبيعي في عصره، فإنه أثنى على السحر؛ لأنه «يقترح استعادة الفلسفة الطبيعية من التنظير إلى الفعل». ينبغي أن تكون الفلسفة الطبيعية «عاملة» لا «تفكرية»؛ بمعنى أنها تفعل الأشياء، وتصنع الأشياء، وتمنح البشر الهيمنة. واعتبر أن الطباعة والبوصلة والبارود — وكلها إنجازات تكنولوجية — هي القوى الأكثر تحويلية في تاريخ البشرية. ونتيجةً لهذا، نادى بيكون بضرورة «إعادة بناء شامل للعلوم والفنون وجميع المعارف الإنسانية».

لا غنى عن علم المنهج في عملية الإصلاح التي ينشدها بيكون. وقد نادى بتجميع «التواريخ الطبيعية» — مجموعات هائلة من ملاحظات الظواهر سواء التي تحدث تلقائيًّا أو تحدث نتيجة للتجارب البشرية — وهو ما أسماه إرغام الطبيعة على ترك مسارها المعتاد. فبعد تجميع ما يكفي من المواد الخام، يمكن أن يركِّبها الفلاسفة الطبيعيون معًا لصياغة مبادئ عالمية عن طريق عملية الاستقراء. تكمن الفكرة في تجنُّب التنظير المسبق، والاستغراق الزائد في التفكير، وبناء أنظمة تفسيرية كبرى. وما إن يُكشَف اللثام عن مبادئ الطبيعة الأكثر عمومية، ينبغي استخدامها استخدامًا مثمرًا. إلا أن بيكون لم يكن ينادي بالنفعية المطلقة؛ فالتجارب ليست مفيدة عندما تؤتي ثمارًا فحسب (التطبيق العملي)، بل عندما تنير العقل أيضًا؛ فالمعرفة الحقيقية بالطبيعة أفادت في إظهار «عظمة الخالق، وتخفيف تَرِكة البشر». ومع أن بيكون قد أوضح أن أحد أهداف مشروعه هو تمكين بريطانيا وبسط سلطانها — وإن كان الملكة إليزابيث الأولى وجيمس الأول لم يستجيبا لمطالبه بدعم الدولة لأفكاره الإصلاحية — فقد رأى، على صعيد أعم، أن هدف هذه المعرفة العملية استعادة النفوذ والهيمنة البشرية على الطبيعة الممنوحة من الرب، حسبما ورد في «سِفر التكوين»، والتي فُقدت مع «سقوط آدم».

جدير بالذكر أن بيكون لم يضع نصب عينيه مناهج الفلسفة الطبيعية وأهدافها فحسب، بل اهتم أيضًا ببنيتها المؤسسية والاجتماعية، وأكد على أنه لا بد من استبدال نشاط تعاوني جماعي بالمُثُل القديمة الخاصة بالدراسة المنعزلة. وواقع الأمر أن برنامجه الخاص بجمع الحقائق يتطلب جهودًا هائلة. ومع أنه بدأ عملية الجمع هذه بنفسه، فإنه لم ينجز إلا القليل. وقبيل وفاته، طرح رؤيته عن الفلسفة الطبيعية المقوَّمة والمجتمع المعدَّل الذي قد يتمخض عنها في كتاب أسطورة يوتوبية بعنوان «أطلانتس الجديدة» (١٦٢٦). تصف الرواية جزيرة «بنساليم»، وهي مملكة مسيحية مسالمة، متسامحة، ومكتفية ذاتيًّا، تقع في المحيط الهادئ. السعادة التي تعم الجزيرة ليست بسبب مَلِكها الحكيم فحسب، بل ترجع أكثر إلى العمل الذي يقوم به «بيت سليمان»، وهو مؤسسة تديرها الدولة لدراسة الطبيعة شُغلُها الشاغل «معرفة أسباب الأشياء وتحركاتها السرية، وتوسيع نطاق الإمبراطورية البشرية بالتأثير على كل ما يمكن التأثير عليه من أشياء.» يدرس أعضاء «بيت سليمان» الطبيعة دراسة جماعية، وإن كانت لا تخلو من تقسيم العمل والترتيب الطبقي؛ فالمستويات الدنيا تجمع المواد، والمستويات الوسطى تجري الاختبارات وتشرف، والمستويات العليا تفسِّر. في «بنساليم» يشكل الفلاسفة الطبيعيون الذين يسيرون على درب بيكون طبقة اجتماعية ذات حظوة تدعمها الحكومة، وتقوم هي على خدمة الدولة والمجتمع. وقد كانت أفكار بيكون مصدر إلهام لكثير من الفلاسفة الطبيعيين في القرن السابع عشر في أنحاء أوروبا وهم يتباحثون بشأن أوضاعهم المتغيرة داخل المجتمع.

ظهور الجمعيات العلمية

في يومنا هذا، يُجرى البحث العلمي في مواقع كثيرة يحمل بعضها شبهًا ببعض الملامح التي يتميز بها «بيت سليمان»؛ فالعلماء يعملون في الجامعات، وفي المعامل الحكومية والصناعية والمستقلة، وفي مواقع بها أجهزة ضخمة وفريدة من نوعها (مثل التليسكوبات ومعجِّلات الجسيمات)، وفي الميادين أو محطات الأبحاث والمخافر، وفي حدائق الحيوان والمتاحف وغيرها. يرتبط العلماء الأفراد معًا في مجموعات اجتماعية عن طريق المنظمات المهنية، والجمعيات والأكاديميات العلمية، وفرق البحث، والمراسلة، وحديثًا عن طريق الإنترنت. إضافة إلى ذلك فإن تمويل البحث العلمي يأتي من المنح البحثية الحكومية، وأقسام البحث والتطوير في الشركات والجامعات والمؤسسات الخيرية الخاصة. وتعتبر هذه الملامح الثلاثة — المكان المادي، والمكانة الاجتماعية، والرعاية — أمورًا ضرورية لعمل العلم الحديث. وقد كان إرساء هذه الملامح أثناء الثورة العلمية ضروريًّا لبناء عالم العلوم الذي نعرفه اليوم. وعلى مدار القرن السابع عشر وحتى القرن الثامن عشر كان عمل الفلاسفة الطبيعيين يتخذ طابعًا رسميًّا يتزايد يومًا بعد يوم. تجمَّع الأفراد معًا في هيئات خاصة تطورت بدورها إلى أكاديميات قومية للعلوم. تطور تبادل المعلومات بين الأفراد من المراسلة إلى المجلات المطبوعة، وانضم إلى الفلاسفة الطبيعيين الهواةِ الذين يموِّلون أنفسهم بأنفسهم والجامعيين أفرادٌ محترفون يتقاضون رواتب ثابتة.

أثناء أواخر العصور الوسطى، كان البحث الفلسفي الطبيعي يحدث في الغالب في الجامعات والأديرة، وأيضًا — إلى حدٍ أقل بكثير — في قلة من قصور الأمراء. احتفظت بؤر النشاط التقليدية هذه بأهميتها أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر، وإن كانت قد أُلحقت بمواقع جديدة. وكان من الضروري للحركة الإنسانية في عصر النهضة تأسيس دوائر دراسية مثقفة خارج إطار الجامعات. داخل تلك الدوائر، يشارك الدارسون أعمالهم مع أفراد لديهم نفس الميول، بينما يتلقون الدعم والتقدير والنقد، فضلًا عن الرعاية المادية أحيانًا. وهذه الجماعات المبكرة كانت في الأغلب أدبية أو فلسفية الطابع، لكن في أواخر القرن السادس عشر، وسَّع الفلاسفة الطبيعيون نطاق نموذجهم لتظهر أولى الجمعيات العلمية. قامت أولى تلك الجمعيات في إيطاليا، حيث أُسِّس العشرات منها في القرن السابع عشر — أكثر من أي مكان آخر في أوروبا — لكن بقي أغلبها محليًّا وقصير الأمد.

من أوائل تلك الجمعيات: أكاديمية «دي لينشي» (Accademia dei Lincei أو بالإنجليزية Academy of Lynxes). تعني كلمة lynx حيوان الوشق أو السنور البري، ويشير هذا الاسم إلى الطبيعة الرمزية لهذا الحيوان بوصفه حاد البصر وحاد الملاحظة. تأسست الأكاديمية في روما عام ١٦٠٣ على يد الأمير فيديريكو تشيزي — الذي كان وقتئذ نبيلًا رومانيًّا عمره ١٨ عامًا — ومعه ثلاثة رفاق، واستمرت تعمل لمدة ٣٠ سنة. وقد أسس تشيزي الأكاديمية على أساس اعتقاده بأن استكشاف الطبيعة شأن معقد ومرهق يتطلب جهدًا جماعيًّا. ولم تضم الأكاديمية قط إلا عددًا قليلًا من العلماء، لكن كان منهم مؤيد السحر الطبيعي جيامباتيستا ديلا بورتا، وجاليليو، وجوهان شريك، الذي صار فيما بعد مبشِّرًا يسوعيًّا أدخل المعرفة العلمية الأوروبية إلى الصين. أجرى أعضاء الأكاديمية مشروعات في جميع فروع الفلسفة الطبيعية؛ كلٌّ على حدة غالبًا، وأحيانًا بشكل جماعي، مثل محاولتهم التي استمرت طويلًا لنشر كتاب «خزانة الأدوية من إسبانيا الجديدة» (١٦٥١) المؤلَّف من مخطوطات بعثة فرانشيسكو هيرنانديز إلى المكسيك، التي جُلبت إلى إيطاليا من إسبانيا. أيضًا شجعوا المناهج الكيميائية الجديدة المتعلقة بالطب، وأيدوا عمل جاليليو (إذ نُشر كتاب «خطابات عن البقع الشمسية» عام ١٦١٣، وكتاب «الفاحص» عام ١٦٢٣ تحت رعاية الأكاديمية)، وأجروا دراسات باستخدام المجهر، إلا أن وفاة تشيزي المبكرة عام ١٦٣٠ حرمت الأكاديمية من رائدها وراعيها، وعجَّلت بتداعيها.

عام ١٦٥٧، تأسست أكاديمية «دل سيمنتو» (ومعناها بالإيطالية أكاديمية التجريب) في بلاط مديتشي بمدينة فلورنسا، ويرجع معظم الفضل في هذا إلى الاهتمامات الشخصية للأمير ليوبولدو دي مديتشي بالفلسفة الطبيعية. يلخص شعار الأكاديمية «بالاختبار وإعادة الاختبار» تركيز أعضائها على إجراء التجارب. وقد أتاح بلاط مديتشي موقعًا مركزيًّا للدراسة الجماعية، وهو أمر كانت أكاديمية «دي لينشي» تفتقر إليه، بينما أتاحت رعاية مديتشي التمويل اللازم لاستمرار الأكاديمية. كان الكثير من أعضائها أتباعًا لجاليليو، وواصلت المجموعة العديد من مناهجه ومشروعاته البحثية. ومع ذلك، عمل أعضاء تلك الأكاديمية الفلورنسية في جميع المجالات العلمية بدءًا من علم التشريح وعلوم الحياة إلى الرياضيات وعلم الفلك، وأولت اهتمامًا خاصًّا للدراسات والتحسينات المتعلقة بالأجهزة والأدوات الجديدة؛ مثل البارومتر والترمومتر، التي شارك فيها ليوبولدو نفسه. كانت أبحاث ريدي ومالبيجي وبوريللي وكثيرين من مشاهير الفلاسفة الطبيعيين الإيطاليين تُجرى داخل أكاديمية «دل سيمنتو». أدت الخلافات بين أعضاء الأكاديمية، ورحيل عدد من نجومها اللامعين، وتنصيب ليوبولدو كاردينالًا — مما تطلب منه قضاء مزيد من الوقت في روما — إلى إغلاق الأكاديمية عام ١٦٦٧. وطوال هذه السنوات العشر، أسست الأكاديمية أوضح مثال لهيئة طوعية من الفلاسفة الطبيعيين الذين كرسوا أنفسهم بشكل جماعي للاستقصاء التجريبي للطبيعة.

في منتصف القرن، انتشرت الجمعيات العلمية شمالي جبال الألب؛ ففي عام ١٦٥٢ كوَّن أربعة أطباء في ألمانيا ما أسموها «أكاديمية محبي الاطلاع على الطبيعة»، وخلال السنوات المبكرة من عمر الأكاديمية، انصبَّ تركيزها على المجالين الطبي والكيميائي. أوضحت لائحة الأكاديمية — التي نشرت عام ١٦٦٢ — أن أهدافها «تمجيد الرب، والتثقيف بفن المداواة، وما ينتج عن هذا من فوائد لصالح البشر.» نمت الأكاديمية سريعًا، ورغم أن أعضاءها عاشوا متفرقين في الأراضي المتحدثة بالألمانية، ومن ثم لم يكن يتيسر لهم الاجتماع بانتظام كهيئة واحدة، فقد عملت على الربط بينهم افتراضيًّا، خاصةً أثناء النشر السنوي (بدءًا من عام ١٦٧٢) لعدد من الأبحاث المُجمَّعة التي يقدمها أفرادها. وفي عام ١٦٧٧ منحها الإمبراطور الروماني ليوبولد الأول اعترافًا رسميًّا. اتسع نطاق هذه المؤسسة لتشمل فروعًا أخرى غير العلوم الطبية وعلوم الحياة في السنوات التالية، وأخيرًا تطورت حتى أصبحت «الأكاديمية القومية الألمانية للعلوم» القائمة حتى يومنا هذا.

في جامعة أكسفورد في العقد الخامس من القرن السابع عشر، بدأت مجموعة تعرف باسم «نادي الفلسفة التجريبية» اجتماعها في كلية وادَم لمناقشة الفلسفة الطبيعية، ولإجراء التجارب على الأدوات الميكانيكية، ومراقبة عمليات التشريح. كان كريستوفر رين وروبرت هوك من أوائل الأعضاء، ثم لحق بهم روبرت بويل وغيره من الشخصيات المرموقة في إنجلترا في منتصف ذلك القرن. وبعد استعادة تشارلز الثاني لعرشه عام ١٦٦٠، اشترك عدد من أعضاء النادي مع آخرين لوضع لائحة لمؤسسة ذات طابع أكثر رسمية، وتلقوا امتيازًا ملكيًّا عام ١٦٦٢ تحت مسمى «الجمعية الملكية في لندن لتطوير المعرفة الطبيعية». وتمثل «الجمعية الملكية» — التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا — مرحلة جديدة في تطور الجمعيات العلمية. وشأنها شأن أكاديمية «سيمنتو» (التي كانت على اتصال بها)، كان الأداء الجماعي محوريًّا، وإن كان يُنظر إلى «الجمعية الملكية» على أنها منظمة أكبر وأكثر رسمية. سرعان ما انتُخب أكثر من ٢٠٠ زميل، وإن كانت معظم الاختيارات بين النبلاء الإنجليز تعكس تفكيرًا تواقًا يهتم بالإسهامات المالية أكثر من الفكرية. وضعت «الجمعية الملكية» — التي كان واضحًا اتخاذها من بيكون وتوجيهاته مثالًا يُحتذى — تصوُّرًا لأهداف عامة واجتماعية خاصًّا بها. والواقع أنه يمكن اعتبار «الجمعية الملكية» محاولة لتجسيد «بيت سليمان»؛ فالعديد من الزملاء الأوائل لتلك الجمعية اشتركوا في مشروعات يوتوبية وتعليمية في سنوات الحرب الأهلية، وأدخلوا تلك الأهداف إلى الجمعية. أيضًا حرصوا على تجنب الارتباطات المذهبية والسياسية، آملين في العثور داخل الفلسفة الطبيعية على أساس للاتفاق يمكن أن يتغلب على تحزُّبات سنوات الحرب الأهلية التي انتهت لتوِّها.

كان زملاء الجمعية الملكية يعقدون اجتماعات منتظمة في كلية جريشام في لندن؛ حيث كانت تُجرى التجارب، وتقدَّم النتائج والملاحظات الجديدة، وكان كل الفلاسفة الطبيعيين المرموقين في بريطانيا في تلك الآونة (وما بعدها) زملاء بها. ولم تلبث العضوية أن تجاوزت حدود بريطانيا، وصار انتخاب المرء زميلًا بها — كما هو الحال اليوم — مدعاةً للوجاهة. ولعل أهم ابتكار يرتبط بسنواتها الأولى هو تأسيس سكرتير الجمعية: هنري أولدنبرج أول مجلة علمية عام ١٦٦٥ بعنوان «المعاملات الفلسفية». بدأت تلك المجلة بالجهود الشخصية لأولدنبرج — الذي كان يأمل عبثًا في أن يكسب عيشه من اشتراكات المجلة — ولكن لم تلبث أن ارتبطت فكريًّا بالجمعية الملكية، وإن كان ارتباطها الرسمي لم يحدث إلا فيما بعدُ. احتفظ أولدنبرج بشبكة مراسلات هائلة (حتى إنه سُجن مرة بسبب ذلك في برج لندن بتهمة التجسس)، ومن ثم كان بإمكانه أن يبعث تقارير عن المستجدات العلمية في أنحاء أوروبا. ولم تكتفِ المجلة بنشر أنشطة الجمعية الملكية، بل نشرت أيضًا تقارير ورسائل علمية من الخارج، فضلًا عن القراءات النقدية للكتب. ومع أن النشر كان بالإنجليزية في الأغلب، فقد صارت المجلة أداة مهمة للحياة العلمية الأوروبية بوصفها منبرًا لنشر الملاحظات، وإعلان النتائج، وتأكيد الأسبقية، وعرض وجهات النظر المتباينة. نُشرت فيها أبحاث نيوتن عن الضوء، والبصريات، وتليسكوبه الجديد، وكذلك ملاحظات فان ليفينهوك المجهرية المرسَلة بالبريد من هولندا، ودراسات مالبيجي التشريحية المرسَلة من إيطاليا. أيضًا تنافست النقاشات الخاصة بالمذنبات مع التقارير الخاصة بحالات الولادة المشوهة على إيجاد مكان لها على صفحات المجلة، وظهرت موضوعات أخرى كلما جدَّ لبويل جديد موجز نسبيًّا.

ورغم طموح «الجمعية الملكية»، فإنها عانت من المشكلات المعتاد ظهورها في الجمعيات العلمية الأولى؛ مثل فقدان الأعضاء البارزين، والصعوبات المالية، والافتقار إلى الرعاية. ونتيجةً لهذا باء الكثير من مشروعاتها الكبرى بالفشل. كان غالبية الزملاء غير فاعلين، وقلما كانوا يسددون الرسوم المطلوبة منهم، أو كانوا لا يسددون شيئًا منها، وكانت صفة «مَلَكية» هي هبة الملك الوحيدة للجمعية. تعثَّر مشروع بيكون لتحسين التجارة بسبب عدم رغبة التجار المفهومة في تبادل خبراتهم الشخصية. ولم تكن الاستجابة الإنجليزية خارج الدوائر الفلسفية الطبيعية أفضل من ذلك؛ إذ تعرضت الجمعية وزملاؤها وأنشطتها للسخرية اللاذعة على خشبة المسرح في مسرحية «المبدِع» لتوماس شادويل (١٦٧٦)، وأيضًا تعرضت مزاعمها بتحقيق المنفعة العامة إلى المحاكاة التهكمية اللاذعة في قصة «رحلة إلى لابوتا» ضمن المجموعة القصصية لجوناثان سويفت بعنوان «رحلات جاليفر» (١٧٢٦). أسفرت وفاة أولدنبرج عن توقف مجلة «المعاملات الفلسفية» فترة من الوقت، ثم جاءت وفاة بويل عام ١٦٩١ لتفقد الجمعية أنشط زملائها وأكثرهم عطاءً. أصبح نيوتن — الذي كان زميلًا للجمعية منذ عام ١٦٧٢ — رئيسًا لها عام ١٧٠٣؛ إذ كان يعتبر في تلك الآونة أبرز الفلاسفة الطبيعيين في إنجلترا. وبفضل مكانته المرموقة بثت حياة جديدة في أوصال تلك الجمعية، لكن ميله لتفضيل الأعمال التي تروج لأعماله الشخصية قلَّص النطاق الواسع الذي كانت تدور فيه أنشطة الجمعية في السابق. ومع ذلك، صارت الجمعية مستقرة بحلول منتصف القرن الثامن عشر، واستمرت هكذا منذ ذلك الحين.

على عكس «الجمعية الملكية» التي تأسست من القاعدة إلى القمة، تأسست «أكاديمية العلوم الملكية الباريسية» من القمة إلى القاعدة. كانت الجمعية الباريسية واحدة من بنات أفكار جان بابتيست كولبير (١٦١٨–١٦٨٣)، وزير المالية لدى الملك لويس الرابع عشر. أراد كولبير إضفاء المجد إلى الملك لويس الرابع عشر بوصفه راعيًا للفنون والعلوم، وأيضًا تحقيق مركزية النشاط العلمي بأساليب تخدم الدولة، وهو جزء من السياسة المركزية الأعم التي ميَّزت فرنسا أثناء حكم لويس الرابع عشر الذي استمر طويلًا. عقدت الأكاديمية أول اجتماعاتها عام ١٦٦٦ بحضور عشرين أكاديميًّا يرأسهم كريستيان هويجنز الذي انتُدب من هولندا. كانوا يجتمعون مرتين أسبوعيًّا في «مكتبة الملك»، وكان يُفترض بهم أداء عمل جماعي (وهو ما لم يكن يجري بسلاسة في كل الأحوال)، وكانوا يتلقون راتبًا محددًا ودعمًا للأبحاث. ومن هذا نجد أن الفرنسيين تفهَّموا وجهة نظر بيكون بشكل أفضل بكثير مما فعل بنو جلدته. وفي مقابل ما يتلقاه أعضاء الأكاديمية من تمويل ملكي، كان يُتوقع منهم التوصل إلى حلول علمية لمشكلات الدولة. وليس من قبيل المصادفة أن يتم انتداب العالِمَيْن الأعلى أجرًا هوينجز وكاسيني إلى فرنسا أثناء عملهما على مشكلة خطوط الطول. اختبر أعضاء الأكاديمية جودة المياه في فرساي وفي كل أنحاء فرنسا، وقيَّموا المشروعات والاختراعات الجديدة، ودرسوا الكتب وبراءات الاختراع، وتوصلوا لحلول للمشكلات التقنية في دار الطباعة الملكية وغيرها من الأماكن، وقاموا بأول مسح دقيق لفرنسا. ويقال إن هذا المشروع الأخير — الذي وجد أن فرنسا أصغر مما كان يُعتقد سابقًا — قد جعل لويس الرابع عشر يتندر قائلًا إن أعضاء أكاديميته نجحوا في تقليص حجم مملكته وهو ما فشل فيه كل أعدائه. ورغم خدمة الدولة، كان أعضاء الأكاديمية يكرسون الكثير من الوقت لدراسات أخرى، لا سيما المشروعات الجماعية المتعددة التي حددوها لأنفسهم، ومنها التواريخ الطبيعية للنباتات والحيوانات التي تتطلب جهودًا مضنية (الشكل ٦-٢).
fig17
شكل ٦-٢: عملية تشريح يجريها أعضاء «أكاديمية العلوم الملكية الباريسية». يسجل سكرتير الأكاديمية (جان بابتيست دوهامل) الملاحظات، بينما تناقشها مجموعات من أعضاء الأكاديمية. وتظهر حديقة الملك خارج النافذة. من كتاب «مذكرات لخدمة تاريخ الحيوانات» (لاهاي، ١٧٣١. نُشر في الأساس في باريس، ١٦٧١).2

وفرت الرعاية الملكية لأعضاء الأكاديمية أيضًا أماكن للعمل، مثل: معمل كيميائي، أو بستان نباتي، أو مرصد فلكي في ضواحي باريس. أقيم «مرصد باريس» — الذي اكتمل بناؤه عام ١٦٧٢ — في البداية ليكون مقرًّا للأكاديمية بأكملها، لكنه أصبح قاصرًا على الفلكيين. أقام الفلكي جيان دومينيكو كاسيني — الذي أغواه الراتب الكبير وفرصة التحكم في المرصد الجديد بالابتعاد عن خدمة البابا والاتجاه إلى باريس — في المرصد قبل أن يُستكمَل بناؤه. وقد جعل كاسيني وثلاثة أجيال من خلفائه ذلك المرصد المؤسسة الفلكية الرئيسة في أوروبا. حدَّد خطه المركزي الشمالي-الجنوبي خط الطول الأساسي للكرة الأرضية الذي ظلت تقاس على أساسه خطوط الطول الأخرى على مدى قرنين، إلى أن انتقلت الأهمية عام ١٨٨٤ إلى الخط المار ببلدة جرينيتش (تأسس «المرصد الملكي» في جرينيتش عام ١٦٧٥ — بعد فترة قصيرة من إنشاء «مرصد باريس» — خصيصًا من أجل «التوصل إلى خطوط الطول الخاصة بأماكن معينة من أجل تحسين الملاحة والفلك»). أتاح التمويل الملكي أيضًا الفرصة أمام أكاديمية العلوم الباريسية كي ترسل بعثات علمية للخارج؛ إلى جويانا، ونوفا سكوشا، والدنمارك من أجل المشاهدات الفلكية، واليونان والمشرق من أجل جمع العينات النباتية، وإلى أمريكا الجنوبية ولابلاندا في أوائل القرن الثامن عشر من أجل إجراء الأرصاد والقياسات لاختبار افتراضات ديكارت ونيوتن حول شكل الأرض بالتحديد. وبالمثل جمعت ونشرت أرصادًا أرسلها اليسوعيون من سيام والصين وأماكن أخرى، وأجرت مراسلات واسعة النطاق مع أعضاء «الجمعية الملكية» (حتى حينما كانت فرنسا وإنجلترا في حالة حرب) ومع علماء آخرين في أنحاء أوروبا.

المجموعات العلمية خارج الأكاديميات

كثُرت الأكاديميات العلمية بعد عام ١٧٠٠، فظهرت في بولونيا، وأوبسالا، وبرلين، وسان بطرسبرج، ومراكز إقليمية فرنسية، بل وفي فيلادلفيا في المستعمرات الأمريكية الشمالية، وصارت رموزًا للعزة القومية والإنجاز الوطني، إلا أن تلك الأكاديميات لم تكن سوى وجه واحد للتعبير عن عالم العلوم المتنامي؛ إذ أعقبتها تجمعات اجتماعية غير رسمية، وإن لم تكن أقل منها أهمية؛ ففي باريس تبع إنشاء «الأكاديمية الملكية» صالونات الفلسفة الطبيعية التي كانت تعقد في المنازل أو الأماكن العامة، حيث يجتمع الأشخاص المهتمون بالفلسفة الطبيعية للنقاش والحوار والجدال تحت قيادة أحد المنظمين. ويوضح ظهور تلك الصالونات مدى ما حظيت به تطورات الفلسفة الطبيعية من اهتمام عام، حتى إنها تحولت إلى ظاهرة اجتماعية. وفي لندن، وفَّرت المقاهي الجديدة التي افتُتحت في أواخر القرن السابع عشر أماكن لفئات مختلفة من الناس من أجل اللقاء ومناقشة القضايا التي تهمهم بما فيها المتعلقة بالفلسفة الطبيعية. دعَّم هذا الاهتمام العام ظهور شخصية العارض في أوائل القرن الثامن عشر، وهي شخصية في جزء منها فيلسوف طبيعي، وفي الآخر ممثل استعراضي يسلِّي ويثقِّف التجمعات العامة (مقابل رسم دخول) باستخدام أدوات غريبة، أو عروض لافتة للنظر.

أقل وضوحًا من الأكاديميات، وإن كانت على نفس الدرجة من الأهمية لتاريخ العلم، تأتي شبكات المراسلة التي كانت تربط بين الأفراد في شبكات من التواصل. تبادل الفلاسفة الطبيعيون سرًّا الخطابات والمخطوطات وكتبهم المطبوعة حديثًا. وقد أتاحت خصوصية الخطابات انتشار الأفكار الجديدة غير المألوفة؛ مما أشاع النقاش في الخفاء، أغلب الأحيان، في أنحاء أوروبا على مدار القرن السابع عشر. وحَّدت «جمهورية الخطابات» (عبارة استخدمها الإنسانيون في عصر النهضة) المستترة هذه المفكرين ذوي الميول المشتركة على اختلاف قومياتهم ولغاتهم وعقائدهم، واختزلت المسافات بينهم. وقد تعزَّز تأسيس شبكات المراسلة بفضل أناس أُطلق عليهم اسم «رجال التحرِّي». هؤلاء كانوا يتلقون الخطابات، وينظمون ويجمعون ما بها من معلومات، ويوزعونها على الأطراف المعنية، ثم يرسلون نماذج استفسار بغرض المتابعة. وكان حجم المراسلات الخاصة بأحد رجال التحري المنشغلين يمكن أن يصل إلى قدر مذهل. فقد أشرف نيكولا كلود فابري دو بريسك (١٥٨٠–١٦٣٧) — الذي شجَّع جاسيندي ونشر أفكار جاليليو في فرنسا — على نحو ٥٠٠ مراسل، وترك وراءه ما يزيد على ١٠ آلاف خطاب. وقد كان أحد مراسليه — وهو الراهب مارين ميرسين (١٥٨٨–١٦٤٨) — يدير بنفسه شبكة مراسلة؛ ففي غرفته الرهبانية في باريس، كان يتلقى المراسلات، وينشر أعمال ديكارت وجاليليو وغيرهم من خلال شبكة تغطي أنحاء أوروبا. وفي إنجلترا، أشرف صامويل هارتليب (نحو عام ١٦٠٠–١٦٦٢) — وهو لاجئ بروسي من حرب الثلاثين عامًا — على شبكة مراسلة تربط بين جميع أجزاء أوروبا البروتستانتية وأمريكا الشمالية، والألفا خطاب التي خلَّفها وراءه ليست سوى جزء صغير للغاية مما كتبه. كان هارتليب مدفوعًا بأفكار يوتوبية ونفعية تهدف لإصلاح التعليم والزراعة والصناعة على النمط البيكوني، لكنه كان مدفوعًا أيضًا بمعتقدات دينية، لا سيما آماله المرتبطة بفكرة العصر الألفي السعيد من أجل إنشاء «جنَّة على الأرض» تكون بروتستانتية في إنجلترا. وقد شملت دائرة عمله أخلاقيين وفلاسفة طبيعيين، ولاهوتيين ومهندسين، وتراوحت مشروعاته ما بين افتتاح كليات تقنية لتحسين تخمير الجعة. وقد أصبحت الأكاديميات نفسها نقطًا في تلك الشبكة التراسلية. ويمكن النظر إلى المجلات العلمية مثل «المعاملات الفلسفية»، و«مجلة العلماء»، وما تبعها من مجلات حديثة باعتبارها صورًا من هذه الشبكات ذات طابع رسمي ولكن في شكل مطبوع.

وبفضل تأسيس الأكاديميات العلمية، وزيادة أهمية التطبيقات التكنولوجية في القرن السابع عشر، شهدت القرون التالية إضفاءً تدريجيًّا للصبغة الاحترافية على العمل العلمي، والاختفاء التدريجي للفلاسفة الطبيعيين «الهواة». أما الحاجة المتزايدة إلى أشخاص واسعي الاطلاع وأهل للثقة يمكنهم تطبيق مناهج المعرفة العلمية على حل المشكلات العملية، فقد أسفرت عن ظهور نظم تدريسية أكثر رسمية وصرامة في الجامعات؛ وهو ما أدى بدوره إلى توحيد أكبر للأفكار والمناهج. وكانت النتيجة التراكمية لذلك ظهور «العلم» في القرن التاسع عشر بوصفه مهنة، و«العلماء» بوصفهم طبقة اجتماعية ومهنية مميزة، والتنظيم التدريجي من جديد للعالم الحديث المبكر إلى عالم حديث من العلم والتكنولوجيا. كان هذا التحول عملية بطيئة ومعقدة لا يسعنا الحديث عنها في هذا الكتاب؛ فلم تكن المنعطفات على الطريق الذي اختارته الشخصيات التاريخية، والأفكار والاحتياجات التي أثرت على قراراتهم، والأحداث التي ساعدت أو أعاقت أهدافهم واضحةً ولا مقدَّرةً سلفًا. وصحيح أن حقائق العالم الطبيعي قد لا تختلف عن هذا الوضع، غير أن الطرق التي يتخذها البشر للتعبير عنها وصياغتها ونشرها قد تختلف كثيرًا. وقد قادنا الطريق التاريخي المحدد الذي اخترنا أن نسلكه إلى عالم من العلم والتكنولوجيا مليء بالعجائب على نحو قد يصيب أكبر مؤيدي «البراعة الطبيعية» بالذهول، لكنه لم يكن خاليًا من المشكلات، سواء التي لم تُحَلَّ أو التي صنعناها بأيدينا. ومن بين مخزوننا الذي نفخر به من المعرفة الطبيعية لا تزال فكرة «جزيرة بنساليم» الحكيمة المسالمة المنظمة تستعصي على إدراكنا، وإن كانت لم تتوقف قط عن أن تكون مصدر إلهام.

هوامش

(1) Courtesy of the Johns Hopkins University, The Sheridan Libraries, Rare Books and Manuscripts Department.
(2) Collection of the author.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤