الأستاذ والعميد من جديد

في غرفة رئيس قسم اللغة العربية واللغات الشرقية وفي شتاء ١٩٣٥، يجلس رئيس القسم الدكتور طه حسين بعد الانتهاء من محاضراته ومعه من أساتذة القسم الأستاذ أحمد أمين والأستاذ أمين الخولي والأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ عبد الوهاب عزام.

طه حسين يبدي سرورًا بإنتاج زملائه الأساتذة مطالبًا بالمزيد؛ قد نشر الأستاذ أحمد أمين كتاب «فجر الإسلام»، وهو بداية لعمل ضخم في تاريخ الحضارة الإسلامية، تتجه النية إلى أن يضطلع به أحمد أمين وعبد الحميد العبادي وطه حسين نفسه، يتناول أحمد أمين الناحية العقلية، وعبد الحميد العبادي الناحية التاريخية، وطه حسين الناحية الأدبية، ورئيس القسم يهنئ أحمد أمين بأنه كان أسبقهم إلى الإنتاج، ويحثه على أن يستمر ليكون «ضحى الإسلام» بين يدي الباحثين والقراء بعد «فجر الإسلام».

وعبد الوهاب عزام، الذي نشر «شاهنامة» الفردوسي في ترجمتها العربية، قد أدى خدمة كبرى للدراسات الإسلامية، والقسم الآن في انتظار عودة الجيل الثاني من أصحاب الدراسات الفارسية والتركية، مثل إبراهيم أمين الشواربي الذي يدرس في لندن، ويحيى الخشاب الذي يدرس في فرنسا، ومن دارسي اللغات السامية (اللغة العبرية واللغة السوريانية) مثل مراد كامل وفؤاد حسنين اللذين يدرسان في ألمانيا. يقول طه حسين يجب أن نهتم كذلك بلغة الهند الإسلامية اللغة الأردية، وأن نبحث عمن يدرسها للطلاب إلى أن يتيسر إعداد أحد أبنائنا ليتخصص في لغات الهند.

وأمين الخولي يتابع دراساته القرآنية بتعمق وتفتح كبيرين، يقول له طه حسين إن الشباب يشكون من بخله في الدرجات، وهو يدافع عن نفسه بأنه يزن مجهودات الطلاب بميزان عادل دقيق، يقول إن الطلبة هم الذين يعطون الدرجات لأنفسهم، يقصد أنهم هم الذين يجيدون الإجابة أو لا يجيدونها.

طه حسين يذكر أن الأستاذ الألماني جوزيف شاخت سيلقي محاضراته في فقه اللغة العربية واللغات السامية، وأن خليل يحيى نامي مهتم باليمن، وأن القسم سيقترح أن يسافر إليها ليقوم هناك ببحوث لغوية بالتعاون مع قسم الجغرافيا بالكلية، ومن أساتذته الآن الدكتور محمد عوض محمد والأستاذ مصطفى عامر والأستاذ الشاب الدكتور سليمان حزين.

ويقول طه حسين إن القسم يجب أن ينبه طلابه إلى أهمية اللغات الأجنبية كلها، وليس الإنجليزية والفرنسية فقط، ويذكر أن الكلية ستدخل نظام الدراسات الاختيارية في مواد إضافية يقبل عليها الطلاب إن شاءوا، الأستاذ «ران» ومسز «برج» سيدرسان الألمانية بعد الظهر لمن شاء من الطلبة، وربما أيضًا من الأساتذة، أما اللغة الإيطالية فإن أحد شباب الكلية العائدين من البعثة في إيطاليا، الدكتور حسن عثمان، مترجم ومحقق الكوميديا الإلهية، سيعطي دروسًا في الإيطالية وآدابها لمن يريد، كما أن الأستاذ «بول كراوس» سيدرس البهلوية، وهي اللغة الفارسية قبل الإسلام، لمن يشاء من المهتمين بالحضارة الساسانية.

واللغة العربية لا بد من أن يبذل هذا الجيل أقصى الجهد لتيسير نحوها وتذليل صعوبات كتابتها، والأستاذ إبراهيم مصطفى مشغول ببحوثه في النحو العربي ويستعد لإخراج كتاب هام جديد في هذا الموضوع.

ويذكر طه حسين أن هناك جوانب من الأدب العربي لم نعطها حقها من الدراسة والبحث حتى الآن، عندما الأدب الأندلسي، القسم سيقوم بنشر كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام، وقد كون لجنة لتحقيقه ونشره يشرف عليها عبد الوهاب عزام وعبد الحميد العبادي، ويشترك فيها عدد من الشباب الممتازين، منهم عبد العزيز الأهواني، وبخاطره الشافعي، وعبده عزام،١ وعلى ذكر الشباب يشير طه حسين إلى أن عبد الحميد يونس مهتم بالأدب المصري، وشوقي ضيف يتابع دراسته في النقد في كتاب الأغاني، وسهير القلماوي يُنتظر أن تناقش قريبًا رسالتها عن «أدب الخوارج في العصر الأموي» للحصول على درجة الماجستير، وعبد اللطيف حمزة مشغول بابن المقفع.

وهناك أدب الفاطميين، محمد كامل حسين مشغول به، وأمامه نصوص كثيرة في مخطوطات لم يسبق نشرها نرجو أن ترى النور.

ثم يقول طه حسين: لا بد أيضًا من المساهمة في نشاط الكلية الموجَّه للجمهور خارج مقاعد الدرس، لا بد أن نشارك جميعًا في محاضرات الكلية العامة.

أحد الأساتذة يقول إن بعض طلبة القسم يطلبون القيام برحلات لزيارة الأماكن التي تُذكر في النصوص العربية القديمة، وإن أحد الطلبة قرأ في بعض الدروس هذا البيت من الشعر:

وفي حمص الدنيا نعيم وجنة
وماء وظل وارف غير زائل

فما انتهى من قراءته حتى أراد أن يرى حمص هذه ليرى النعيم!

وطه حسين يقول: «في الواقع عنده حق، يحسن فعلًا أن يرى هو وإخوانه الطلاب حمص وكل ما يمكن زيارته من المواقع والبلاد، على الجامعة وعلى الكلية أن تنظم لهم رحلات طويلة في الإجازات، رحلات علمية إلى الشام وفلسطين والأردن والحجاز ونجد واليمن والعراق ودول الخليج وشمال أفريقيا والأندلس … لماذا لا؟ وجزر البحر الأبيض المتوسط التي أنارتها الحضارة الإسلامية مدة طويلة؛ مالطة وصقلية وكذلك جنوب إيطاليا، وأيضًا ربوع السودان عندما تُفتح أبواب السودان للمصريين. وسأتكلم مع عوض ومع شفيق غربال ونعمل خطة لهذه الرحلات، وقد يأتي الوقت الذي تخصص الجامعة فيه إدارة خاصة للرحلات الجامعية.»

ويشير أستاذ آخر إلى موضوع النشاط الرياضي، ويقول طه حسين: «والنشاط الرياضي أيضًا «علموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبوا على ظهور الخيل وثبًا»، لكن المهم هو هل هؤلاء الطلاب المساكين في صحة جيدة أولًا، يحسن أن تقدم الجامعة لأبنائها وجبات صحية ورخيصة، غذاء كاملًا بمبلغ يجب ألا يزيد على ثلاثة أو أربعة قروش.»

ويتحدث طه حسين عن المؤتمرات يقول: «لا أريد أن نذهب إلى المؤتمرات لنستفيد نحن فقط من علماء الغرب وغيرهم من علماء العالم، أريد أن نذهب لنفيد نحن العلماء المصريين المشتركين في هذه المؤتمرات علماء العالم كما نستفيد منهم، هذه الكلية لا بد أن تقف على قدم المساواة مع نظائرها في أوروبا وأمريكا، وأساتذتها ينبغي أن يقفوا على قدم المساواة مع أساتذة بقية جامعات العالم.»

•••

طه حسين ومصطفى عبد الرازق يخرجان من قاعة المؤتمر الدولي المنعقد في روما يتحدثان عما دار في جلسة الصباح، وفي الطريق يلاحظان أن الشباب الفاشستي يتجمع في الشوارع متلهفًا لمعرفة أخبار الغزو الإيطالي للحبشة متظاهرًا مؤيدًا للزعيم، أي لموسوليني بحماس وبتهور.

طه حسين يرى أن هذا الهجوم الإيطالي على الحبشة عمل شنيع، «إنه تمزيق لميثاق عصبة الأمم، وأين هي العصبة؟!»

يقول الشيخ مصطفى: «وهذا التجنيد الإجباري في ألمانيا لا يبشر بخير.»

ويقول طه حسين: «عجيب أمر هؤلاء الألمان، في الوقت الذي يستسلمون فيه لحكم الفرد — وهذا دليل التخلف في ميدان السياسة — نراهم يحققون تقدمًا باهرًا في ميدان العلوم، قرأت أمس أنهم قد أنشأوا في برلين أول برنامج منظم للإذاعة المرئية، التي يسمونها التليفزيون أو الرؤية عن بعد، راديو لا يكتفي بالصوت ولكن يعرض الصورة أيضًا! وهكذا يصبح من الممكن أن يشهد الناس المسرحيات وهم جالسون في البيوت!»

والشيخ مصطفى يقول: «بعض أحلام الإنسان تتحقق.» ويسكت برهة ثم يسأل: «هل تعتقد أننا على حافة حرب عالمية أخرى؟»

طه حسين يرد بأنه لا يعرف، «إن العالم يتجه إلى العنف وينحرف عن القانون، وهذا الصراع بين العنف والقانون هو صراع في الواقع بين الهمجية والحضارة، الهمجية يمثلها هذا العدوان الإيطالي على الحبشة، والحضارة تتمثل في ميثاق عصبة الأمم، هل كان هذا الميثاق وكانت هذه العصبة مجرد حلم جميل تبدد؟ إن موسوليني يتحدى العالم اليوم بهذا الهجوم، وهتلر يفرض على شعبه التجنيد الإجباري بعد انسحابه منذ سنتين من عصبة الأمم، فهو يستعد فيما يظهر لمخاطرة خطيرة، إن الغزو الإيطالي للحبشة هو إعلان عن إفلاس عصبة الأمم.»

ويقول مصطفى عبد الرازق: «أظن ليس إفلاسًا كاملًا، العصبة لها جوانب غير سياسية، تتبعها مثلًا لجنة التعاون الفكري، وأنت عضو فيها.»

ويقول طه حسين: «نعم هذه لجنة عظيمة حقًّا، أود أن أقضي ساعة الآن مع الفرنسي الكبير «بول فاليري» الذي سيرأس اجتماعها القادم بعد عامين، في عام ١٩٣٧، وقد طلبوا إليَّ بحثًا ألقيه فيه إذا أحيانا الله، وإن كنت لم أقرر بعد في أي موضوع سأتكلم.»

ويقول الشيخ مصطفى: «تفكر في هذا الموضوع إن شاء الله في مصر، أظن أن عودتنا إلى مصر أصبحت واجبة الآن»، ويرد الدكتور طه: «نعم، ولكنا نحن سنتوقف بباريس أيامًا، فإلى اللقاء إذن في مصر.»

•••

طه حسين في فندق من فنادق باريس المتوسطة اسمه فندق لوتسيا، يملي على سكرتيره ردًّا على خطاب جاءه في الصباح من الدكتور محمد عوض محمد، يقول: «ما رأيك في هذه الحرب المقبلة؟ أتحبها أم تبغضها؟ أتنتظر منها لمصر خيرًا أم شرًّا؟ أتظن أنها ستضعف الإمبراطورية البريطانية؟ إني أكره الحرب وأشفق منها، وأتمناها مع ذلك بقوة؛ لأني أنتظر منها ضعف أوروبا وتقدم الشرق نحو الحرية، فهل تراني مخطئًا؟»٢

وطه حسين لا يستطيع أن يطيل في هذا الخطاب إلى عوض، فإن الأسرة تحزم الأمتعة، وتتهيأ للسفر، وهناك كما يقول طه: «جمع للمتفرق، وتفريق للمجتمع، وحمل للأثقال، وما يتصل بذلك من الأمر والنهي والزجر والوعيد …»

•••

وفي مايو ١٩٣٦ يُنتخب طه حسين عميدًا لكلية الآداب مرة أخرى، وينعقد مجلس الكلية برئاسته، فيستمع إلى بيانات الأساتذة عن دراساتهم في أقسام الكلية المختلفة: قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، وأقسام التاريخ والجغرافيا، والاجتماع والفلسفة، واللغات الحديثة: الإنجليزية والفرنسية، واللغات القديمة: اليونانية واللاتينية، ومعهدي الآثار المصرية والإسلامية اللذين نجح العميد أخيرًا في إنشائهما.

يتحدث الأستاذ سليم حسن عن ضرورة زيادة نشاط الكلية في التنقيب عن الآثار، والعميد يقول غير معقول أن نترك التنقيب عن آثارنا للمعاهد الأجنبية، إنه يرى أن أي معهد أجنبي يريد أن يقوم بأي بحوث أو حفائر في مصر يجب عليه أن يتعاون مع الكلية وأساتذتها، إنه يذكر كيف اكتشف الإنجليز مخطوط «نظام الاثينيين» في مصر فنقلوه إلى إنجلترا فاستفادوا به في بلادهم وجهلناه نحن ثلاثين عامًا، ويذكر الآثار التي تزين لندن وباريس وروما، ويذكر المتاحف العالمية وما نُقل إليها من تحف بل من مومياوات مصرية، ويذكر أوراق البردي والمخطوطات العربية التي تمتلئ بها متاحف أمريكا وأوروبا ومكتباتها، يقول: «منذ انعقد مؤتمر التاريخ في بروكسل في عام ١٩٢٣، والحديث يدور في الدوائر العلمية حول ضرورة عودة الوثائق والآثار إلى مواطنها الأصلية، ولكن هيهات!»

ويقول للأستاذ سامي جبرة: «إنني سأزور قريبًا الحفائر التي تشرف عليها في تونة الجبل، في مديرية المنيا، إن شاء الله.»

وينتقل الحديث إلى المؤتمرات الدولية، فيقول العميد: «لدينا دعوات لمؤتمرات كنا نريد، لولا قلة الاعتمادات، أن نشارك فيها جميعًا، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، والمهم أن تكون لاشتراكنا في أي مؤتمر ثماره العلمية.»

ويستمر مجلس الكلية في النظر في بقية ما ورد في جدول أعماله، ومن بين ذلك إقرار إدخال نظام المعيدين إلى كلية الآداب حسبما اقترح العميد.

•••

في دار العميد، في شارع سكوت مونكريف في الزمالك، عدد كبير من الضيوف، يتناولون الشاي، فاليوم هو يوم الاستقبال الأسبوعي — يوم الأحد — ومن بينهم أصدقاء وزملاء وزوار، مثل: الدكتور محمد كامل حسين، الشيخ مصطفى عبد الرازق، الدكتور حسين فوزي، الأستاذ سليم حسن، الأستاذ مصطفى عامر، الدكتور سليمان حزين، الدكتور محمد عوض محمد، الأستاذ حامد سلطان، والأستاذ رزق الله مكرم الله، وأجانب منهم مدير مصلحة الآثار المصرية، ومدير مصلحة الآثار الإسلامية، ومفتش اللغة الفرنسية، ومدير المعهد الفرنسي بالقاهرة.

طه حسين يجلس في ركن من أركان الصالون ومعه الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري الأستاذ في كلية الحقوق، والشاعر خليل مطران.

يقول خليل مطران: «في العمل المسرحي يعد النص الأدبي هو الأساس، إن المخرج والممثل إنما يترجمان النص الأدبي ويعطيانه الحياة، ولكن الأساس هو النص.»

ويوافق طه حسين قائلًا: «هذا صحيح، لقد نسى التاريخ أسماء المخرجين والممثلين في المسرح اليوناني، أما أسماء المؤلفين فهي خالدة، النص الأدبي هو الأثر الباقي.»

ويقول خليل مطران: «ونحن الآن نريد نصوصًا، لماذا لا تكتب للمسرح يا سيدي العميد؟»

ويقول طه حسين: «لقد ترجمت روايات مسرحية، ولكني لا أستطيع أن أكتب للمسرح، الكاتب المسرحي لا يخاطب آذان المتفرجين فقط بل يخاطب أبصارهم قبل ذلك. وعلى فكرة، بعض طلبة كليتنا تحدثوا إليَّ في رغبتهم في قراءة النصوص الشعرية المسرحية في اجتماعات عامة؛ ابنتي أمينة، ابني مؤنس، وزملاء لهما منهم جميل راتب، وغيرهم.»

وينضم الأستاذ سليمان نجيب ومؤنس طه حسين إلى العميد وأصحابه، ويقول سليمان نجيب الذي سمع حديث العميد: «إذا فعلوا ذلك أرجو أن يدعوني للسماع، ولماذا لا يقدمون تمثيلية كاملة وعلى مسرح الأوبرا أيضًا؟ إن الشباب هو الذي سينقذ المسرح»، ثم يستدرك وهو يلتفت ناحية خليل مطران الذي كان قد تجاوز مرحلة الشباب، فيقول: «إن الشيوخ قد عملوا كثيرًا، ويعملون كثيرًا طبعًا، ولكن الشباب … أقصد … يعني …»

ويقول الدكتور السنهوري: «لا داعي للتفسير والشرح الكثير! أنا اليوم كنت أدرس لطلبتي في كلية الحقوق، أخذت أفسر وأشرح وأبسط بعض المسائل، ويظهر أني بسطتها تبسيطًا شديدًا حتى تعقدت جدًّا.»

ويضحك طه حسين، ويقول: «لقد فهمت أن حكومة العراق تريد إنشاء كلية للحقوق، وأن فيها دارًا للمعلمين تريد تطويرها لتكون كلية للآداب، لماذا لا نقدم للعراق كل المساعدة التي يريدها في هذا الشأن؟ إن لبغداد دَيْنًا في عنق الأمة العربية؛ بغداد العباسيين، بغداد المأمون والرشيد، ألا تفكر في مساعدتها يا دكتور عبد الرزاق بشرط ألا تبسِّط الأمور هناك؟!»

الدكتور السنهوري يشارك صاحب الدار حماسه واعتقاده أن على مصر وعلى جامعة مصر واجبًا يتجاوز أسوار الجامعة ويتجاوز أيضًا الحدود المصرية، ولكن كيف تنشئ العراق كلية بغير أن تكون هناك جامعة؟

طه حسين يرد بأن «الكلية يمكن أن تكون نواة الجامعة، نعم جامعة بغداد، وهنا في مصر يجب أن نقيم جامعات جديدة، جامعة في الإسكندرية، وجامعة في أسيوط، وفي غيرهما من بلاد الأقاليم، وخارج مصر؛ أود أن أرى جامعة في بغداد وفي غيرها من عواصم العرب.»

ويسأل الدكتور السنهوري مداعبًا: «والمنيا؟»

ويرد طه حسين: «نعم، والمنيا، لماذا لا؟ ينبغي أن تضيء الجامعات في عواصمنا، عاصمة بعد عاصمة، فهذه هي المنارات التي ستضيء لمصر وللعرب طريق المستقبل.»

ويعود خليل مطران إلى موضوع التأليف للمسرح، فيقول إن توفيق الحكيم قد كتب قديمًا للمسرح بنجاح، وهو متأكد أنه لو تعاون مع طه حسين على تأليف مسرحية جديدة فلا شك أنها ستكون مسرحية خالدة، وطه حسين يقول إن هذه فكرة تستحق أن يتحدث عنها مع توفيق، ولعلهما يجتمعان في الصيف في فرنسا هذا العام.

•••

ويقترب سكرتير طه حسين منه ويهمس له بحديث يكفهر له وجهه وينهض مستأذنًا ممن حوله، وتسرع إليه زوجته تسأله عما حدث فيقول لها في حزن شديد: «محمد المرصفي إنه في المستشفى كما تعرفين، وقد عرفت الآن أنه قد مات، يرحمه الله! الدكتور سامي كمال تكلم من المستشفى.»

وتقول هي في حنان: «لقد عرفناه طويلًا، عرفته منذ أول يوم وصلت فيه إلى القاهرة، ولست أنسى منظره وهو يحمل أمينة وهي طفلة لم تتم العامين من عمرها، يحملها عاليًا ليخرج بها من محطة القاهرة، ولست أنساه وهو يحملك أنت وأنت مريض، بمثل الرقة التي كان يحمل بها أمينة، كان لنا نعم الصديق طيلة تلك السنين كلها، على أنه لا راد لقضاء الله.»

ويقول طه حسين: «نعم، كل نفس ذائقة الموت، أود أن أقضي ساعة الآن مع أسرته، سأذهب الآن إلى المستشفى.»

وتقول زوجته: «وأنا معك.»

ويكون الحاضرون قد تناقلوا الخبر فيستأذنون، وينصرفون معزين.

•••

يبدأ العام الجامعي ٣٥- ١٩٣٦ ومصر لا تزال تعيش حياة الأزمات، الإنجليز يميلون مع السراي فيسقط الوفد، ويميلون مع الوفد فتنهزم أحزاب السراي … الشباب غاضب على هذا التمزق … صمويل هور الوزير البريطاني يصرح٣ بأن الحكومة البريطانية قد نصحت حكومة مصر بعدم إعادة دستور ١٩٢٣، فإن مصر غير مستعدة للحكم الديمقراطي. والطلاب يتظاهرون احتجاجًا، ويدركون أن تمزق الشعب وانقسامه هو سبب هوانه، يرون ضرورة إرغام الزعماء على الائتلاف كي تتمكن البلاد مجتمعة من إجلاء الإنجليز عنها.

المظاهرات تتحرك والبوليس يغلق كوبري عباس ويحاول أن يفرق مظاهرة الجامعة بالقوة، فيقتل الطالب عبد المجيد مرسي من كلية الزراعة، والطالب عبد الحكيم الجراحي من كلية الآداب، ويتسامع الطلاب بأخبار عدد آخر من المصابين.

ويقوم الطلبة بالتعاون مع بعض العمال بإعداد شاهد رخامي يسجل مصرع الشهداء، وينصبونه ليلًا أمام مدخل الجامعة٤ والشباب يريدون الآن أن يحققوا ما مات شهداؤهم من أجله: استعادة دستور البلاد، وتخليص استقلالها من كل القيود.

يصبح من الواضح أن الأمة ترفض دستور ١٩٣٠ رفضًا باتًّا، فيعلن مجلس الوزراء أنه سيستصدر المراسيم اللازمة لإلغاء دستور صدقي، ولإعادة دستور ١٩٢٣.

وفي يناير ١٩٣٦ يستقيل توفيق نسيم باشا، ويؤلف علي ماهر باشا وزارة غير حزبية لإجراء الانتخابات، فيفوز الوفد من جديد بالأغلبية.

ويموت الملك فؤاد في ٢٨ إبريل ١٩٣٦ من نفس العام، ويتولى العرش ولده الأمير فاروق، ويؤلَّف مجلس الوصاية على العرش، وفي مايو ١٩٣٦ يُدعى رئيس الوفد مصطفى النحاس باشا لتأليف الوزارة.

•••

كان العالم العربي في ذلك العام مشغولًا بالعيد الألفي لشاعر من أكبر شعرائه وهو أبو الطيب المتنبي، وكان طه حسين مشغولًا به أيضًا، يصحبه طوال العام الجامعي، يدرس شعره مع طلابه درسًا دقيقًا، ويتحدث عنه إلى جمهور الناس.

ويقبل الصيف فيسافر طه حسين مع أسرته لقضاء أسابيع منه في قرية صغيرة من قرى جبال الألب الفرنسية اسمها «كولمبو»، وكان قد اتفق مع توفيق الحكيم على أن يلحق به فيها، ولعله كان يفكر في اقتراح الشاعر خليل مطران.

ولكن طه حسين ينفق وقته كله — قبل وصول توفيق الحكيم — مع المتنبي قارئًا ممليًا صباحًا ومساءً، رغم إلحاح أسرته عليه في أن يستريح قليلًا ليستمتع بجمال الطبيعة. ويُقبل توفيق الحكيم، يصعد إلى تلك القرية يستكشف حولها في الغابة شجر البندق، ويرى الثلوج تغطي رأس الجبل الأبيض، ويسعده تبادل الحديث مع طه حسين ولكنه يجده مشغولًا بالمتنبي.

ولم يكن طه حسين يحب شخص المتنبي منذ صباه، وكان هذا هو رأيه الذي كان يناقش به زملاءه من طلاب الأزهر، ولكنه كان يعجب ببعض شعره إعجابًا لا يخفيه، لما يصوره هذا الشعر من فتوة ومن قوة إيمان بالنفس وصدق معرفة للناس، وهو الآن يقرأ ديوانه من جديد، يستمع إلى شعره الذي أنشده حينما طوَّف في أنطاكية وحلب وفي الكوفة وإيران، يحدثنا طه حسين بذلك في فصل من تلك الفصول التي تبادل كتابتها مع توفيق الحكيم، كما يتبادل عازف الكمان وعازف البيانو جمال الموسيقى، والتي جمعاها في كتاب اختارا له عنوان: «القصر المسحور».

أما المتنبي فقد أتم طه حسين كتابه عنه، وأهداه إلى زوجته، متخذًا له عنوان «مع المتنبي»، معتذرًا إليها عما كانت تجد منه من جفوة وقسوة عندما كانت تلح عليه ليترك المتنبي لقليل من الراحة التي كان يستحقها ويحتاج إليها في ذلك الصيف.

•••

الأحزاب المصرية تتفاوض مع الإنجليز، ونتيجة لهذه المفاوضات تعقد مصر مع بريطانيا في ٢٢ أغسطس معاهدة عام ١٩٣٦.

وفي الصيف التالي٥ في مدينة مونتريه بسويسرا ينجح رئيس الوزراء مصطفى النحاس في الاتفاق مع الدول الأوروبية على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وبعد إبرام المعاهدة مع بريطانيا واتفاق إلغاء الامتيازات مع أوروبا تتقدم مصر لدخول عصبة الأمم فترحب بها العصبة.

ويزور طه حسين رئيس الوزراء النحاس باشا ليهنئه، فيتحدث معه الرئيس في أن مصر المستقلة تحتاج الآن إلى جهاد أكبر يبذل فيه كل المصريين كل ما يملكون من جهد وقوة، لتحقيق ما يجب عليها أن تحققه الآن من النهضة في كل ميادين الحياة.

ويستقبل العميد، في مكتبه بالجامعة، وفدًا من طلاب الجامعة يتساءلون عن واجب الشباب المصريين بعد فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية، يتجهون بهذا السؤال إلى قادة الرأي، كل في ميدانه.

يتحدث معهم العميد طويلًا، يقول لهم: «إن مهمتنا أولًا هي أن نجعل الاستقلال حقيقة، وأن نجعل الاستقلال مدخلنا إلى العمل والإنتاج»، يقول: «إن نصوص المعاهدة مثلًا تفتح للمصريين أبواب زيارة السودان، فيجب أن نستغل هذا النص فنبدأ في إرسال البعوث للسودان فورًا، لماذا لا تكونون أنتم من أوائل الزائرين؟ إن الأستاذ سليمان حزين أستاذ الجغرافيا مولود في السودان، وهذه فرصة يزور معكم مسقط رأسه، والأستاذ إبراهيم نصحي أستاذ التاريخ تهمه زيارة السودان، ويحسن إذن أن ترتب الكلية رحلة قريبة للسودان، في إجازة نصف العام مثلًا.»

يقول أحد الطلبة: «ما أسعد القادرين على الاشتراك في هذه الرحلة!»

ويرد العميد: «وأنت أيضًا ستشترك، والرسوم لن تتجاوز أربعة جنيهات أو خمسة.»

والطلبة يشكرون أستاذهم ويهمون بالانصراف ولكنه يضيف قوله: «أنا شخصيًّا غير مكتفٍ بإجاباتي، إن واجبنا في ذات الثقافة والتعليم بعد الاستقلال أعظم خطرًا وأشد تعقيدًا مما تحدثت به إليكم، لا بد من جهد وتفكير، إنني أطلب فترة للاستعداد لهذا الامتحان الصعب الذي وضعتموه لي!»

•••

وفي شهور الصيف يفكر طه حسين في السؤال الذي ألقاه عليه الشباب، وقد بذل جهده وأتم تفكيره وبحثه وأعد الرد المطول عليهم، وهو لا ينسى مقابلته لمصطفى النحاس وما أبداه أثناء المقابلة من الاهتمام بكيفية تحقيق نهضة البلاد في كل الميادين بما فيها ميدان الثقافة والتعليم.

ولهذا يقرر طه حسين أن يقدم إلى رئيس الحكومة نتائج هذا التفكير والبحث، فيبدأ في أوائل شهر يوليو ١٩٣٧ إملاء خطاب٦ طويل إليه يقول فيه:

سيدي صاحب المقام الرفيع

تعود الناس منذ عهد بعيد أن يكتبوا إليك وأن يكتبوا عنك، أكثرهم يحمد ويثني وأقلهم ينقد ويعيب، ولكني أريد أن أكتب إليك على نحو جديد لم يصطنعه الناس فيما كتبوا إليك أو كتبوا عنك إلى الآن … أكتب إليك في المنفعة العامة التي تمس حياتنا في الغد والتي سيكون لها أكبر الأثر في تكوين الأجيال المقبلة.

أنت رئيس الحكومة القائمة، وأنت زعيم الكثرة التي ستكون إليها أمور مصر دهرًا طويلًا إن شاء الله، وأنت بعد هذا وذاك أقدر الناس على أن تسمع لي، وتقبل مني، وتفكر فيما أرفع إليك من رأي فتقبله عن رضا ومودة، أو ترده عن اقتناع ومودة أيضًا … وإني لأذكر أني تشرفت بزيارتك بعد رجوعك فائزًا بإلغاء الامتيازات وإنزال مصر منزلتها الكريمة بين الأمم الحرة المستقلة في عصبة الأمم … ولست أخفي عليك أني خرجت من عندك راضيًا كل الرضا، قد امتلأت نفسي رجاء، وقد فتحت لي آمالًا عراضًا، وكنت أتحدث إلى نفسي واثقًا بأننا سنبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين.

والموضوع الذي أريد أن أرفعه إليك أدير فيه الحديث عن مستقبل الثقافة في مصر، التي رُدت إليها الحرية بإحياء الدستور وأعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال …

ولكن الملك فاروق يصل إلى سن الرشد في ٢٩ يوليو ١٩٣٧، فيعين علي ماهر باشا رئيسًا للديوان، دون أن يأخذ رأي رئيس وزرائه. وبعد شهور، في الثالث من ديسمبر من نفس العام، وقبل أن يقدم طه حسين تقريره ذاك المطول إلى رئيس الحكومة، يقرر الملك إقالة الوزارة، ويطلب إلى محمد باشا محمود تأليف وزارة جديدة، فيعدل طه حسين عن تقديم تقريره إلى رئيس الوزارة، ويقرر أن ينشره في كتاب يهديه إلى الشباب.

يصدر كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» في الصيف في جزأين، يرى طه حسين أن الكتاب في صورته هذه «سيذاع في الناس وسيقرءونه، سواء منهم من إليه أمر من أمور السلطان، ومن لا ناقة له في السلطان ولا جمل كما يقول الشاعر القديم، وسيقرؤه الجامعيون وغير الجامعيين، وسيجدون فيه صورة للواجب المصري في ذات الثقافة بعد الاستقلال كما يراه مصري، مهما يُقل فيه ومهما يُظن به فلن يُتَّهم في حبه لمصر وإخلاصه للشباب المصريين.»

وهو يتحدث في هذا الكتاب إلى الشباب يدعوهم إلى أن يثقوا بأنفسهم، وإلى أن يؤمنوا بأنهم ليسوا أقل شأنًا من شباب أوروبا، وأن يعرفوا أنه كان لأجدادهم العرب فضل على بلاد الحضارة الحديثة في أوروبا (وفي أمريكا ربيبتها)، وأنهم في الواقع شركاء في هذه الحضارة الحديثة؛ لأنها نابعة من حضارة البحر الأبيض المتوسط التي كان للمصريين والعرب فيها مشاركة بعيدة الأثر. وهو ينبه إلى أنه على شواطئ هذا البحر تقع مصر ولبنان وسوريا، وتقع ليبيا والجزائر والمغرب وتونس، وحضارة هذا البحر لا تقف عند حافته، إن حضارة دمشق وبغداد أيضًا تعد جزءًا من حضارة البحر الأبيض المتوسط، والخرطوم وشنقيط٧ أيضًا تعد جزءًا من حضارة البحر الأبيض المتوسط.

يقول المؤلف: «إن على الجيل العربي الحاضر أن يبني الآن على أساس تراثه الشرعي، بعد نفض الغبار عنه، مستفيدًا في الوقت نفسه بثمار الحضارة والثقافة المعاصرة، ويجب أن تُرفض هذه الدعوى الباطلة التي تقول إن أهل الحضارة الحديثة غربيون وإننا شرقيون، وإنه لا لقاء بين الغرب والشرق؛ فنحن لسنا شرقيين إذا كانت كلمة الشرق تعني الصين والهند واليابان، إن ما يسمى بالغرب الحضاري والثقافي ليس إلا امتدادًا وتطورًا لحضارة كان آباؤنا شركاء في صنعها.»

وينبه طه حسين في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» إلى ترابط الشعوب العربية وتضامنها، وإلى أنه من الواجب على مصر، التي استقلت بنفسها وبإرادتها، أن تمد يد المعاونة لمن حولها من البلاد العربية. يقول: «إن الحجاز مثلًا محتاج إلى مدارس لم يكن يستطيع بموارده المحدودة — في ذلك الوقت — أن يقيمها، فعلينا أن نساعده وأن نقدم له ما يحتاج إليه من العون ومن يحتاج إليهم من الأساتذة. وبلاد شمال أفريقيا لا تستطيع، لوجود الاحتلال الفرنسي، أن تبني المدارس العربية، فعلينا أن نبنيها لها»، يقول: «يجب إفهام حكومة فرنسا أن لها في بلادنا مدارس هي مدارس «الليسية»، فإذا لم تسمح لنا بإنشاء المدارس في البلاد العربية التي تقع حاليًا تحت حكمها، فإن لنا بل إن علينا أن نغلق مدارسها الفرنسية في مصر.»

•••

وفي المنيا، يزعم بعض الناس لوالد طه حسين أن ابنه قد كتب كتابًا يقول فيه:

إننا لسنا شرقيين — يعني لسنا عربًا — بل نحن غربيون. والشيخ حسين يقول لمحدثه إن هذا كلام غير دقيق، فهذا كتاب طه بين يدي. ويعطي كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لمن يقرأ فيه الصفحة التي يدله عليها، فيقرأ القارئ حلم المؤلف بأنه يرى «شجرة الثقافة المصرية باسقة قد نبتت أصولها في أرض مصر، وارتفعت أذرعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح.

ويقول الشيخ حسين: «يعني شجرة العلم عندنا لا بد أن تظلل كل ما حولنا من البلاد، يعني البلاد العربية شرقًا وغربًا وجنوبًا، وما تثمره الشجرة من الثمار يجب أن تشرك مصر فيه الأهل والجيران العرب!»

ويتابع القارئ القراءة: إن الدكتور طه حسين يرى في هذا الحلم مصر «وقد انجاب عنها الجهل، وأظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعًا، فأخذ بحظه منها الغني والفقير، القوي والضعيف، النابه والخامل، الناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذاتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والأكواخ.»

ويقول الشيخ حسين: «يعني أنه يدافع عنا، عني وعنك، يدافع عن الفقير والضعيف والخامل والعجوز!»

والقارئ يستأنف القراءة: «… وشاع في مصر كلها نشاط جديد، وأصبحت مصر جنة الله في أرضه، يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة وإنما يشركون غيرهم فيها، وأصبحت مصر كنانة الله في أرضه حقًّا، يعتز بها قوم أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة، بل يفيضون على غيرهم منها.»

•••

يقول الشيخ حسين: «هل فهمت الآن؟ يريد أن تشمل بلادنا السعادة والعزة، ولكنه يريد أيضًا أن نشرك إخواننا وجيراننا العرب في العزة والسعادة، يعني أننا مصريون وعرب ومن شعوب البحر الأبيض المتوسط، وشركاء في صنع ثقافة وحضارة الغرب، ولسنا شرقيين بمعنى أننا لسنا يابانيين ولا صينيين ولا هنودًا، فهمت واقتنعت أم ترى أنك ياباني أو صيني أو هندي؟»

ويضحك الحاضرون، ويقول أحدهم: «المهم أن هذا الكتاب يبدو وكأنه يصلح برنامجًا كاملًا للتعليم في مصر، ولكن الحقيقة أنه أقرب إلى الأحلام، والكاتب نفسه يقول إن تمنياته التي قُرئت علينا الآن هي حلم كبير ومن ذا يحقق لنا هذه الأحلام؟»

في شهر يونيه ينتهي العام الجامعي فتتأهب أسرة العميد لمغادرة القاهرة، ولكن العميد لا يغير من نظامه اليومي شيئًا؛ يقضي الصباح في مكتبه مع سكرتيره يقرأ له ما يريد من الرسائل والكتب العربية، ويستقبل أثناء ذلك من يستقبل من الزوار، فإذا انتهى من طعام الغداء وتناول القهوة مع أسرته خلا إلى نفسه يستمع من الراديو إلى إذاعة القرآن الكريم، ثم تقبل قارئته لتقرأ عليه مدة الساعتين اللتين يخصصهما كل يوم لمتابعة الحياة الأدبية الغربية.

وفي مساء يوم من أيام شهر يونيه ١٩٣٧ تقرأ عليه رسالة من هيئة التعاون الفكري بتوقيع الأديب الفرنسي الكبير «بول فاليري» يذكِّره بالبحث الذي سوف يلقيه في ندوة «مستقبل الآداب» في الصيف.

•••

وتُعقد الندوة في قصر الأمم، مقر عصبة الأمم المشرف — عبر حدائقه الواسعة — على بحيرة ليمان في جنيف، وينتهي أحد اجتماعات الصباح فيخرج طه حسين مع رئيس الاجتماع بول فاليري يتحدثان عن خطاب العميد في اجتماع الصباح.

ويلحق بالأديبين الكبيرين بعض أعضاء الندوة، من بينهم سيدة تسأل العميد: «أليس من الواجب أن تعين الحكومات أدباءها وفنانيها في هذا العهد الذي يتعرض الأدب والفن فيه للأزمات التي تحدثت عنها في جلسة الصباح؟»

يقول العميد: «في فرنسا وروما، في بغداد والقاهرة، وفي عواصم أخرى كثيرة، في عهود عديدة، كان هناك أمراء وملوك شملوا الفنانين برعايتهم، وقد أنتجت هذه الرعاية في كثير من الأحيان فنًّا رائعًا، ولكنه كان بطبيعة الحال فنًّا تابعًا، وإذا قامت الحكومات الآن برعاية الفنانين والأدباء رعاية مادية فإن التبعية القديمة للأمراء ستصبح تبعية للحكومات … إن الدولة سيد خطر لأنها لا تقدم شيئًا بلا مقابل، فإذا كان الثمن هو استقلال الأديب فهي صفقة قاتلة؛ لأنه لا سبيل إلى الإنتاج الحق إلا في ظل الحرية.»

ويقول أحد الأعضاء: «ولكنك سبق أن حدثتنا عن أديب كبير استغنى عن كل رعاية بأن عاش حياة البساطة وهجر الدنيا وما فيها ومن فيها وأنتج أدبًا عظيمًا خالدًا.»

ويرد طه حسين: «إن أبا العلاء المعري حاول أن يهجر الناس ولكن الناس لم يهجروه، وأنا على أي حال لا أرى أن يعتزل الفنان أو الأديب مجتمعه، إن الأديب أو الفنان يمكن أن يرتفع بنفسه عن الحياة من حوله ليتأملها، ولكنه لا يجوز أن يخرج منها، يجب أن يأخذ الفنان والأديب موقفًا مما يجري حوله، إن الكاتب يقود الفكر في مجتمعه، والفكر يقود العمل.»

وتسأل السيدة: «هل الفنان يستطيع دائمًا أن يعبر عما يريد التعبير عنه حتى يتسنى له المشاركة في قيادة الفكر؟»

ويرد العميد: «يحاول، هذه مسئوليته.»

وتسأل السيدة: «وأمام من تكون مسئولية الفنان؟»

ويرد العميد: «أمام ضميره.»

ويتدخل الرجل فيقول: «ولكن المجتمعات لا تُحكم حسب أحكام الضمير، إن المجتمعات تُحكم بالقوانين، والقوانين تُنفذ بأدوات السلطة، وبعض هذه القوانين في بعض البلاد تُسن خصيصًا لخدمة السلطان، ولذلك تصدر صارمة ظالمة تصادر حرية التعبير.»

ويقول العميد في هدوء واقتناع أكيد: «إنما تُحترم القوانين إذا صدرت صحيحة معبرة عن إرادة الأمم مصدر السلطات.»

فيسأل الرجل: «ومن يحمي الأديب والفنان إن هو خالف إرادة الظالم من الحكام؟»

ويقول العميد: «لا بد أن يوجد تضامن وتعاقد غير مكتوب بين الفنان أو الكاتب وبين مجتمعه المتحضر، هذا التضامن يفرض على الفنان أن يكون صادقًا أمينًا حرًّا، ويفرض على المجتمع أن يحمي الفنان من كل أنواع الطغيان.»

وتسأل السيدة: «كل أنواع الطغيان؟»

ويرد العميد: «نعم، بما في ذلك طغيان العامة، نعم، كل أنواع الطغيان ما عدا طغيان المرأة … هذا مقبول فيما أظن …»

وتضحك السيدة وتسأل: «وهل كتبت أخيرًا شيئًا عن المرأة؟»

ويقول العميد: «قصة فتاة أو فتاتين من صعيد مصر، قصة من الواقع، سميتها باسم طائر مصري مغرد حبيب إلى قلبي اسمه «الكروان»، لا أعرف اسمه بالفرنسية … لا، ليس البلبل.»

ويقول بول فاليري: «لقد حان موعد عودتنا إلى قاعة الاجتماع.»

•••

وينتهي الصيف ويبدأ العام الجامعي الجديد، ويستأنف العميد عمله أستاذًا في قسم اللغة العربية وعميدًا للكلية، ينظم عملها ونشاطها داخل الجامعة وخارجها. والمحاضرات العامة للكلية تشمل في ذلك العام الأسبوع الذي نظمته لدراسة أبي عمرو الجاحظ وعصره، يشارك في هذه الدراسة الأساتذة أحمد أمين وأمين الخولي وعبد الوهاب عزام وعبد الوهاب حمودة، ولا ينسى طه حسين شباب قسم اللغة العربية فيشرك فيها أيضًا الأستاذين الشابين شوقي ضيف وعبد اللطيف حمزة.

يتحدث العميد مع زملائه وطلابه المشتركين في هذه الدراسة عن البيئة التي عاش فيها الجاحظ، بيئة العراق: «لقد كان العراق هو الموطن الذي التقى فيه عرب الجنوب المتحضرون وعرب الشمال البدويون قبل الإسلام، ثم التقى فيه عرب الجنوب والشمال جميعًا بالفرس وحضارتهم الساسانية، وبالروم وحضارتهم المسيحية، وقد عرف العراق قبل ذلك حضارة أشور وبابل، وبتأثير ذلك كله كان العراق أول موطن، خارج الجزيرة العربية، يزدهر فيه الشعر قويًّا نابضًا بالحياة قبل الإسلام، وكان بعد الإسلام من أهم مواطن العرب تأثيرًا في نشأة وتطور الحضارة العربية والإسلامية.»

ويتمنى العميد أن يزور العراق يومًا، ويتمنى أن تنظم الكلية رحلة لطلابها وأساتذتها إلى العراق في عام مقبل، غير أن رحلة هذا العام ستكون إلى سواحل البحر الأحمر سعيًا بالسيارات من القاهرة إلى السويس ثم إلى الغردقة فالقصير، وانعطافًا، عبر طريق القبائل العربية القديم، إلى قنا، مرورًا بدير سانت أنطونيوس. ويتحدث العميد في تنظيم هذه الرحلة وقيادتها إلى وكيل الكلية الأستاذ شفيق غربال.

والأستاذ شفيق غربال يتحدث عن رحلات الكلية السابقة، رحلات فلسطين والأردن والحجاز والسودان وواحة سيوة، وهذه الرحلة إلى سواحل البحر الأحمر، وهو يأمل — والعميد يوافقه — ألا تكتفي الكلية بما يحصله طلابها وأساتذتها من فوائد في رحلاتها خارج مصر، فتعمل لتكون اللقاءات التي تتم فيها أساسًا لصلات تقوم وتتوثق بين الكلية وبين الهيئات العلمية والأدبية المماثلة في البلدان العربية التي تتم زيارتها.

العميد يذكر أن الأساتذة والطلاب الذين اشتركوا في رحلة السودان قد عادوا مغتبطين أشد الاغتباط بقيامهم بهذه الرحلة على ما لقوا فيها من مشقة، ويقول لشفيق غربال: «قد ذكرت لي ابنتي التي اشتركت في الرحلة أنه عندما وصل القطار الذي كانوا يستقلونه إلى محطة عطبرة، كان في انتظاره عدد كبير من السودانيين يرحبون بأشقائهم المصريين بحماس شديد، وأن ناظر المحطة كان على رأس المرحبين وقد تبين أنه شاعر مجيد، فقد رحب ببعثة الكلية بالشعر وقال لأمينة:

يا بنت أستاذنا قُصِّي تحيتنا
على العميد عميد العرب والضاد
وكرِّسي وقتك الغالي لنصرتها
تمسي عميدتنا في عدوة الوادي

وقد نقلت أمينة هذه التحيات التي تأثرت بها أنا كل التأثر، وضحكت هي لفكرة أنها يمكن أن تكون عميدة يومًا من الأيام!»

ويرجو أحد الأساتذة ألا يكون ما ينفقه الطلبة من الوقت في هذه الرحلات معطلًا لهم عن دراستهم، فيقول العميد: «إن طلبتنا شركاء في تراث الحضارة العربية الإسلامية، ولا بد لهم من أن يعرفوا مواطن هذا التراث، وأنا شخصيًّا يثير السفر عندي من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة، أنا في الخارج أفرغ للراحة أولًا ثم للدرس والإنتاج بعد ذلك، وسوف أسافر في العطلة القادمة، وأرجو أن أعود إليكم بكتاب جديد إن شاء الله.»

ويدخل سكرتير الكلية يستأذن للسيدة أم كلثوم، جاءت لتخبر العميد أنها ستستجيب لطلبه إحياء ليلة تخصص إيراداتها للكلية، تتبرع بذلك راضية بل شاكرة، وهي التي يتحدث الناس بكراهيتها للإسراف، وضبطها للإنفاق، ولكنها معجبة بالعميد، متحمسة للشباب، والعميد معجب بها ومتحمس لفنها.

•••

طه حسين يتفرغ في عطلة الصيف، كما كان يقول لزملائه، للراحة قليلًا وللدرس والإنتاج أغلب الوقت، يعود إلى قراءة مؤلفات أبي العلاء ليتم كتابه الجديد عنه.

على أنه ليس مشغولًا بأبي العلاء فحسب، إنه يكتب إلى لطفي السيد يتمنى لو تيسرت له الرحلة إلى فرنسا ليكون إلى جواره فترة من الزمان لا للاستجمام والراحة، بل لعمل سوف يجد فيه متعة تفوق متعة الاستجمام.

يقول طه حسين إن صورة النسخة المخطوطة من الترجمة العربية القديمة لكتاب «المنطق» تأليف أرسطو قد أخذت تصله شيئًا فشيئًا، ويقول: «وأخذت أحاول قراءتها، وهي محاولة شاقة جدًّا لغموض الخط في كثير من المواضع، وفساده في بعض المواضيع، ولكنها مع ذلك محاولة لذيذة حين أوفق إلى قراءة أرسطو في هذه الترجمة وألاحظ أنها في جملتها صحيحة، وأن المترجمين العرب كانوا يحرصون على الدقة في كثير من الأحيان حرصًا يضطرهم إلى إكراه اللغة العربية على ما لا تحب، فهم مثلًا لا يستعملون لفظ «القياس» وإنما يستعملون اللفظ اليوناني «سلوجوسموس»، يشتقون منه مصدرًا رباعيًّا على سبيل المصدر العربي وهو «السلجسة»، ثم يشتقون فعلًا ماضيًا وهو «سلجس» ومضارعًا وهو «يسلجس».»

ويرجو طه حسين أن «تنشر الجامعة صورة فوتوغرافية للمخطوطة كما هي، لتكون بين أيدي الباحثين، ثم توضع فصولها فصلًا فصلًا بين أيدي مدير الجامعة الفيلسوف ليقرأها ويتصفحها في أناة، وينشرها معلقًا عليها.» ويقول العميد إنه سيكون سعيدًا إن شارك المدير في هذا العمل.

ويتم طه حسين كتابه عن أبي العلاء ويختار له العنوان وهو «مع أبي العلاء في سجنه»، ويملي إهداء الكتاب وهو «إلى الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس».

•••

ويستأنف طه حسين نشاطه في العام الجديد وهو شديد الاهتمام، إلى جانب عمله الجامعي، بأمور الثقافة خارج الجامعة، فهو يقترح تأليف شعبة مصرية لمنظمة «جيوم بيديه» التي تقوم بنشر وترجمة تراث بلاد البحر الأبيض المتوسط الكلاسيكي، لتعمل الشعبة المصرية على نشر وترجمة التراث العربي كذلك، فتستجيب وزارة المعارف لطلبه، وهو شديد الاهتمام بعمله الجامعي، يخصص من وقته ساعات طويلة للإشراف على رسائل طلاب الدراسات العليا، ويرى ذلك واجبًا من أحب واجباته إلى قلبه.

ورسائل الطلاب المتقدمين للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه تُناقش عادة في كلية الآداب في المدرج الكبير، وبينما يمتلئ المدرج بالذين يتوافدون على الجامعة لشهود الامتحان في الأمسية التي تُناقش فيها إحدى الرسائل، يجتمع الأساتذة الممتحنون في غرفة رئيس القسم، أو غرفة العميد إذا كان العميد سيشارك في لجنة الامتحان، وينضم إليهم أساتذة آخرون سوف يشهدون المناقشة مع الجمهور.

وإلى أن تحين ساعة مناقشة إحدى الرسائل التي أشرف عليها طه حسين، يجتمع بعض الأساتذة في غرفة العميد يتبادلون الحديث.

العميد يقول: «إن نظرة إلى ما يقدمه متخرجو هذه الكلية من البحوث تبين أن الكلية على حداثة سنها قد دفعت الأدب العربي وتاريخه دفعة قوية، إن الأدب العربي وتاريخه يُدرسان الآن درسًا يبعث فيهما الحياة والقوة، ويحبب فيهما القارئين والباحثين، ويحقق ما ينبغي لهما من الدقة وحسن الاستقصاء.»

ويقول الأستاذ أحمد أمين: «لقد تجاوز أثر كلية الآداب في هذا بيئتها الخاصة إلى بيئات أخرى.» فيقول طه حسين: «ليس من الغرور أن نسجل هذا كله مع الغبطة والسرور. على أن عمل هذه الكلية لم يكن كله سهلًا ميسرًا، وما أظن أنه سوف يكون في المستقبل — على الأقل المستقبل القريب — سهلًا ميسرًا.»

ويبتسم طه حسين ابتسامته الخفيفة، ثم يقول للأستاذ أحمد أمين: «هل تذكر كيف أرادوا إغراءك بترك هذه الكلية وتعيينك أستاذًا مساعدًا للشريعة في كلية الحقوق؟»

ويسرع الأستاذ أحمد أمين بالرد يقول: «استشرت زملائي هنا فأشار عليَّ منصور فهمي وأمين الخولي بالقبول، وأشار عزام بالرفض، وكتبت إليك وأنت في الخارج أسألك الرأي والنصيحة، وأحسست من ردك أنك غضبت، فاعتذرت أنا فورًا عن منصب الأستاذ المساعد الذي يغضبك، وبقيت في الكلية في منصب المدرس الذي يرضيك.»

ويلتفت طه حسين إلى الأستاذ عبد الحميد العبادي ويقول: «وأنت هل تذكر كيف كانوا يغرونك أنت أيضًا بترك الكلية يا عبد الحميد؟»

ويقول الأستاذ عبد الحميد العبادي: «وكيف أنسى ذلك وكانوا يعرضون منصبًا إداريًّا من الدرجة الثالثة لا ييأس شاغله من الثانية؟ وقد كتبت لك أقول إنها لفتنة لمن كان أبًا لأولاد يوشكون أن يكونوا خمسة، لكنك رددت عليَّ فذكرت الكلية وذكرت خدمة العلم وذكرت الصداقة، وقلت أنا إن الكلية لها رب يحميها كما حمى الكعبة من قبل، أما خدمة العلم والصداقة فآه ثم آه، وعرفت أنك غضبت، فنسيت الأولاد الخمسة، ونسيت الدرجة الثالثة والثانية، ولو كانت الأولى أيضًا نسيتها.»

ويقول العميد: «وعزام؟ هل تذكر يا عبد الوهاب ترشيحك للخارجية؟»

ويرد الأستاذ عبد الوهاب عزام: «إنما كان يغريني منصب الملحق في سفارتنا في إيران لأنه كان سوف يتيح لي فرصة أكبر للتعمق في دراسة الأدب والحضارة في إيران.»

ويقول العميد: «وأنت يا أمين؟»

ويقول الأستاذ أمين الخولي: «نعم، لوحوا لي بسكرتارية مشيخة الأزهر الجليلة وبمنصب وكيل كلية أصول الدين مع أستاذنا الشيخ اللبان، ولكنهم للأسف الشديد اشترطوا عليَّ أن أتعلم السكوت.»

ويقول العميد: «وإبراهيم؟»

ويقول الأستاذ إبراهيم مصطفى: «قالوا لي إنك أحسن من يقرأ سيبويه، على أنهم — في الأزهر — اشترطوا أن أعود إلى الثياب الأزهرية عندما يعينونني فيه، وكنت قد أنفقت على هذه الثياب التي أرتديها مالًا غير قليل، فصعب عليَّ القبول بالشرط المفروض!»

ويقول العميد: «لا يا إبراهيم، إنك لم ترضَ أن تترك كليتك وإخوانك أساتذتها وأبناءك الطلبة. لقد رفضتم جميعًا إغراء المناصب والدرجات.»

فيقول إبراهيم مصطفى: «لأننا جميعًا كنا نعلم أننا معك سنخدم لغتنا وأدبنا، وسنخدم بلدنا وديننا خدمة نرجو بإذن الله أن تكون باقية الأثر.»

ويبتسم طه حسين ابتسامته الخفيفة، إنه يفكر في أن الهجوم على طه حسين لم يقتصر على شخصه وأن المهاجمين قد بذلوا أقصى الجهد لا ليهدموه هو وحده، بل ليهدموا كلية الآداب كلها، وأن هجومهم قد خاب بفضل هذه النخبة من الرجال وبفضل من تجمع حولهم من الشباب.٨

•••

ويدخل الدكتور محمد عوض محمد يقول: «باقٍ من الزمن خمس دقائق.» فينهض الأساتذة الممتحنون يلبسون أرديتهم الجامعية، وينهض معهم العميد وهو يقول للدكتور عوض وهو متجه إلى السلم يهبطه ليدخل المدرج الذي يُعقد فيه الامتحان: «لقد قرأت مقال محرر مجلة الثقافة السياسي هذا الأسبوع وهو ممتاز ولكنه مخيف.» ويقول عوض: «أخجلت تواضعي يا سيادة العميد، فإنك تعلم أني أنا محرر مجلة الثقافة السياسي! أما أن المقال ممتاز فهو وصف سوف أسجله وأعلقه في برواز، وأما أنه مخيف فإني أعوذ من ذلك بالله العظيم، كل ما قلته هو أني أعتقد أن اجتماع ميونيخ بين تشرشل والنازيين قد انتهى إلى هزيمة سياسية للإنجليز وحلفائهم، وإلى نصر سياسي لهتلر والنازية. على أن التاريخ — وأنت يا سيدي العميد سيد العارفين بالتاريخ — قد سجل كثيرًا من الهزائم السياسية والعسكرية تم تصحيحها فيما بعد بهمة وعناد المهزومين عندما رفضوا الهزيمة ورفضوا الاستسلام.»

ويقول العميد: «هل تذكر خطابي إليك عام ١٩٣٥ عندما كنا نقدر أن غزو إيطاليا للحبشة يهدد بنشوب حرب عالمية؟ كنت أسأل إن كان ذلك سيضعف أوروبا والإمبراطورية البريطانية فيمكِّن بلادنا من التحرر والانعتاق من نِير الاحتلال، غير أنه لا محل الآن لمثل هذا السؤال، إن الشر لا يلد الخير، وإذا انتصرت النازية والفاشية فإنهما لن يخلِّصانا نحن العرب من يد الإنجليز والفرنسيين ليقولا لنا كما قال الرسول من قبل: اذهبوا فأنتم الطلقاء.»

ويقول الدكتور عوض: «عندنا في مصر من يرون غير ذلك، ويصدقون أن الألمان سيحررون بلادنا من أعدائهم الإنجليز، وهناك لغط كثير عن دعايات واتصالات مع بعض رجال صحافتنا وقياداتنا تقوم بها ألمانيا، تستهدف بها الحصول على تأييد العرب للنازية، وتدبر للتهجم على كل من يؤمن بالديمقراطية ويدعو لها في هذه البلاد.»

وقبل دخول مدرج الامتحان يقول العميد للدكتور عوض: «لقد قيل لي يا عوض إنك كنت قاسيًا في لجنة منح المجانية لطلاب الكلية، يجب ألا تنسى أننا أنا وأنت قد تعلمنا بالمجان.»

•••

مجلس كلية الآداب منعقد في غرفة العميد صباح يوم ١٣ مارس ١٩٣٩.

يقول العميد: «لقد تحدث إليَّ مدير الجامعة بشأن شكوى بعض الناس من قراءة كتاب «جان دارك» ﻟ «برناردشو» وكتاب «محادثات خيالية» ﻟ «لاندرو» في قسم اللغة الإنجليزية بالكلية، وقد وعدته بالنظر في الأمر وذكرت أنني لن أتردد في أن أطلب إليكم منع قراءة هذين الكتابين إذا ظهر أن فيهما ما يمس العقيدة أو يهين الإسلام أو الرسول ، ثم تحدث إليَّ معالي وزير المعارف في نفس الموضوع فجددت له نفس الوعد، وقد طلبت إلى رئيس قسم اللغة الإنجليزية أن يحقق هذا الأمر وأن يعرض عليكم نتيجة تحقيقه، وأرجو الآن أن يفعل ذلك.»

ويقول رئيس قسم اللغة الإنجليزية: «أُثير هذا اللَّغَط حول سبع محادثات في كتاب «محادثات خيالية» تأليف لاندرو، وحول رواية «جان دارك» تأليف برناردشو. أما المحادثات السبع فإنه لا توجد فيها أي إشارة إلى الإسلام أو الرسول الكريم، فالشكوى من هذه الفصول باطلة لا أساس لها. أما الكتاب الثاني «جان دارك» فإنه من الكتب التي يطالعها طلاب قسم اللغة الإنجليزية منذ ست سنوات، أقول منذ ست سنوات، أي قبل أن تُنْتخبوا سيادتكم عميدًا، بل منذ كنتم، كما هو معروف، خارج الجامعة. وقد سبق أن تُرجمت هذه المسرحية إلى اللغة العربية ونشرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ سنوات أيضًا، وهي ما زالت معروضة في المكتبات ولم يعترض عليها أحد.

والذي تعترض عليه بعض الصحف الآن هو ما يجيء في المسرحية من حوار بين قسيس عظيم الحظ من التعصب، عظيم الحظ من الغباء والجهل، وبين أحد اللوردات، يتحدث القسيس عن جان دارك وعن النبي ويقول إن كليهما عدو للمسيح، لكن محاوره يرد عليه فورًا بأنه قد عرف المسلمين فوجدهم قومًا كرامًا، بل إنه رآهم يَفْضُلون قومه من نواحٍ كثيرة. واضح إذن أن المؤلف برناردشو لم يقصد التعريض بالإسلام، بل قصد إبراز الجهل والتعصب الذي اتصف به بعض رجال الكنيسة الذين كانوا يطالبون برأس جان دارك، والمؤلف قد رد على هذا القسيس المتعصب الجاهل على لسان اللورد الذي كان يحاوره ردًّا أنصف به الإسلام والمسلمين.»

يقول أحد أعضاء المجلس: «إن القرآن الكريم يحكي أقوال المشركين الذين كانوا يصفون النبي بالسحر والكهانة وما هو أسوأ، ثم يرد عليهم.»

ويقول عضو آخر: «الكنيسة الكاثوليكية هي التي كانت تصدر لائحة للكتب التي تحرم على المسيحيين الكاثوليك قراءتها، أما الإسلام فلم يعرف شيئًا من ذلك.»

ويقول عضو ثالث: «ليس في الجامعة كتب مقررة، والكتب التي يُطلب إلى الطلاب قراءتها لا يُطلب إليهم قبول ما فيها، بل إن الذي يُطلب إليهم هو دراستها ونقدها.»

ويقول العميد: «لقد طلبت إلى زميلين آخرين من خارج قسم اللغة الإنجليزية قراءة الكتابين، ورأيهما فيهما مطابق لرأي الأستاذ رئيس القسم الذي عرضه علينا الآن، فهل ترون إذن الموافقة على تقرير رئيس القسم وعلى رفعه إلى مدير الجامعة ليعلم نتيجة التحقيق؟»

يوافق المجلس، وينتقل إلى ما لديه غير ذلك من الموضوعات.

بعد يومين يتصل الدكتور هيكل وزير المعارف بالعميد بالتليفون، ويقول له إن رئيس الوزراء محمد محمود باشا أمر بمنع الكتابين.

ويقول العميد: «إن الأساتذة المختصين قرءوا الكتابين وقرروا أنه ليس فيهما ما يجرح الشعور الديني أو يمس الإسلام أو رسوله الكريم، وقد رفعت تقرير رئيس قسم اللغة الإنجليزية إلى مدير الجامعة فأقره المدير ووافق على ما رآه مجلس الكلية بهذا الشأن، وعلمت أن التقرير عرض على معاليكم فوافقتم على رأي الكلية وأيدتموه، أبلغني ذلك عدد ممن تحدثتم إليهم معاليكم في هذا الشأن.»

ويقول الوزير: «صحيح، صحيح، ولكن هذه الآن هي أوامر رئيس الحكومة.»

ويرد العميد: «إذن تبحثون عن عميد ينفذ أوامر رئيس الحكومة مهما تكن ودون سؤال، فإن طه حسين لا يحسن ذلك.»

ويدعو الوزير العميد لمقابلته للتفاهم، فيعد طه حسين بالذهاب إلى مكتب الوزير، ولكنه غير موقن بأن الوزير سيرى غير ما يراه رئيس الوزراء.

•••

الطلاب يستمعون إلى المحاضر باهتمام في المدرج الكبير في كلية الآداب صباح يوم ٢١ مارس سنة ١٩٣٩، ولكن باب المدرج يُقتحم فجأة ويتدفق عدد من الشباب من خارج الكلية يهتفون بسقوط الكلية وحياة الإسلام! وإدارة الكلية تتصل ببوليس الجيزة مستنجدة، ولكن البوليس يعتذر بحجة أنه ليس لديه قوة تستطيع حماية الكلية، والمهاجمون يقتحمون المدرجات وقاعات البحث ويصعدون سلم الكلية متجهين إلى غرفة العميد يهتفون بسقوط العميد الأعمى، يحاولون اقتحام حجرته وهو فيها وحده، فيوقفهم بعض السعاة والموظفين وعدد من الطلاب خرجوا من محاضراتهم وأسرعوا يحمون غرفة العميد. ويرتفع الضجيج من المهاجمين وتتعالى الهتافات وبعضها قبيح شديد الإسفاف مهين للطلبة جارح للطالبات، وأخيرًا يتمكن طلاب الآداب وموظفوها من إجلاء المهاجمين.

ويلبي العميد ومدير الجامعة دعوة الوزير، الذي يفسر موقف رئيس الوزراء: إن الوزارة تواجه ظروفًا صعبة، ورئيس الوزراء لا يريد أن يثير أزمة لا داعي لإثارتها في هذه الأوقات.

وينصرف العميد من عند الوزير إلى داره ويرسل استقالته، وقد فصَّل أسبابها، إلى مدير الجامعة.

إن الدكتور هيكل وزير المعارف قد سبقت له قراءة مسرحية «جان دارك»، وهو يعتقد أن ليس فيها ما يقتضي منع طلاب الجامعة من قراءتها وقد أبلغ ذلك بنفسه لعميد كلية الآداب، ولكنه عضو في وزارة محمد باشا محمود، وموقفه حرج، لذلك فهو يزور العميد المستقيل في منزله، ويتحدث إليه عن ظروف الوزارة وظروف رئيسها، وما يحيط به وبها من مؤثرات، رئيس الوزارة لا يحتاج إلى مزيد من الإزعاج، وتكفيه المشاغل والمخاوف التي تواجهه بسبب اضطراب الحالة الدولية وتدهورها.

وينتقل هيكل إلى الحديث عن عمله هو في وزارة المعارف، ومتاعبه فيها، إن مدير الجامعة سوف يرد إليه الاستقالة «آسفًا أشد الأسف للحوادث التي دعت إلى تقديمها، راجيًا أن يعود العميد إلى عمله بالكلية بما يعرفه له من الكفاية والإخلاص»، ويطلب الوزير هيكل من صديقه العميد أن يقبل هذا الرجاء الذي سيُقدم له رسميًّا بهذه الصيغة.

•••

ألمانيا النازية تقوي أجهزة دعايتها بإشراف «وزير الرايخ للتنوير والدعاية» جوزيف جوبلز، الذي يزور القاهرة بنفسه في شهر إبريل ١٩٣٩، وإيطاليا الفاشية شديدة الاهتمام بمصر، والجنرال إيتالو بالبو نجم الطيران الإيطالي يزور القاهرة في مايو سنة ١٩٣٩، والشائعات تتناثر عن اتصالات دول المحور بالملك فاروق وبعض المسئولين في مصر.

ويغادر العميد مصر في أول الصيف ليحضر اجتماع هيئة التعاون الفكري الدولية في جنيف.

يترك العميد مصر قلقة غير مستقرة، العلاقات بين الملك ووزارة محمد محمود تسوء رغم كل الجهود التي تبذلها الوزارة، والأمة ساخطة على السراي وعلى الوزارة معًا، ساخطة على الإنجليز والألمان، متعطشة إلى يوم مأمول تتخلص فيه من ظلم الحكم المطلق، ومن عنف الاحتلال.

وفي شهر أغسطس ١٩٣٩ يعلم طه حسين أن وزارة محمد محمود باشا قد سقطت، وأن الملك قد عين علي ماهر باشا رئيسًا للوزارة، ويتلقى العميد خطابًا من أحد أعضاء الوزارة الجديدة، وهو سابا حبشي باشا وزير الصناعة والتجارة، يقول فيه: «إن الحوادث لا تترك مجالًا للتفكير في غير ما يتهدد البلاد من خطر.» وفي نفس الشهر يتلقى العميد خطابًا من الدكتور محمد عوض محمد، الذي كان يزور ألمانيا، يقول فيه: «إن الحكومة الألمانية جادة في جمع الحديد القديم من جميع أرجاء البلاد.»

ويسأل السكرتير — الذي قرأ الخطاب على العميد: «ولماذا تجمع الحكومة الألمانية الحديد القديم؟!»

يقول العميد: «التوراة تحدثنا أنه في ظل السلام تُصهر السيوف لتتحول إلى محاريث، وإذا كانت الحكومة النازية تجمع الآن الحديد القديم فذلك لتصهره وتحوله إلى مدافع، وأغلب الظن إذن أن الحرب توشك أن تندلع، ولا بد لنا الآن من الإسراع بالعودة إلى أرض الوطن.»

يقول السكرتير: «لقد كنت تريد أن ترسل برقية إلى الدكتور السنهوري تهنئه بتعيينه وكيلًا لوزارة المعارف.» فيرد العميد: «بل الأفضل الآن إرسال خطاب.» ثم يملي على سكرتيره ما يلي:

أخي العزيز

تحققت أمس أنك أصبحت زعيمًا من زعماء التعليم أو قل الزعيم الثاني لشئون التعليم بعد معالي الوزير، فهممت أن أبرق إليك مهنئًا ولكني استحييت من عامل البريد الفرنسي، فإن هذه الظروف التي نحن فيها لا تسمح للناس بأن يتبادلوا التهنئات مهما تكن أسبابها ومصادرها، واكتفيت بأن أرسل لك هذا الكتاب طائرًا كما يقال، إن كانت الظروف العامة لا تزال تسمح للرسائل بأن تطير. وكل ما أتمناه الآن هو أن يظل السيف والمدفع صامتين … وأن تظل الكلمة للعقل والقلب …

ولكن الحرب أُعلنت فسكت العقل ونطق المدفع، والقطارات المتجهة من باريس إلى مارسيليا غاصَّة بالجنود، والمدنيون يتسابقون إلى الخروج من باريس إلى الأقاليم فيسدون الطرقات، وطه حسين وزوجته وابنته وولده يُضطرون إلى قضاء الليل جلوسًا في محطة السكة الحديدية في مدينة «ليون» ينتظرون قطارًا يصلون به إلى مارسيليا، ويصل القطار فيسرعون إلى الركوب فيه، ويصعدون إلى الباخرة المصرية «النيل»، فيمضون فيها أيامًا وهي لا تتحرك؛ لأن الحركة في البحر الأبيض المتوسط لا تكون في ذلك الوقت إلا بأمر من الأميرالية البريطانية.

وأخيرًا تتحرك الباخرة مزدحمة بركابها، وقبطانها المصري المثقل بالمسئولية في تلك الظروف الشديدة يعمل مشكورًا على توفير الراحة الممكنة لطه حسين وأسرته في رحلة العودة إلى الوطن العزيز.

١  يتغير تكوين اللجنة فيما بعد.
٢  خطاب مؤرخ في باريس يوم ٣١ / ٨ / ١٩٣٥.
٣  ٩ نوفمبر ١٩٣٥.
٤  نُصُب أصغر من النصب الحالي، ولكنه أقيم في نفس المكان.
٥  ٩ / ٥ / ١٩٣٧.
٦  هذا النص منقول عن مشروع خطاب لم يُرسل إلى رئيس الوزراء «النحاس باشا»، بسبب إقالة الملك له.
٧  الآن موريتانيا.
٨  كل ما جاء على لسان الأساتذة زملاء طه حسين في هذا الفصل منقول عن خطابات أرسلها بعضهم للأستاذ العميد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤