نذير من السماء

طفق أوديسيوس يتقلَّب في فراشه على أحرَّ من الجمر، وطفق رأسه يغلي كالقِدْر، بل يفور كالتنُّور بطائفة ثائرة صاخبة من الأفكار والوساوس، وهو لا يدري ماذا يصنع بهذه العصبة أولي القوة من أولئك العشاق المفاليك وهو وحده! ومهما يكن شجاعًا صنديدًا فقد يتكاثر الذباب على الأسد فيقتله.

هبطت من السماء مينرفا اللطيفة في صورة حسناء هيفاء ممشوقة القد بارعة القسمات، فجعلَت تُواسيه وتُطمئنه وتُبشِّره بأن الأولمب كله من ورائه، فلا يخاف ولا يأسى.

«هذا حسن أن يكون الأولمب وتَكوني أنتِ يا ربة الحكمة من ورائي، حتى أنتصر على أولئك الجبارين، فكيف لا أخشى أن يهبَّ من ورائهم قبائلهم وذراريهم واللائذون بهم يثأرون لهم، فيحل بي بطش شديد؟» فتقول مينرفا: «الذي يحفظك منهم غدًا يحفظك من غيرهم بعد غد، ولو جمعوا لك جحفلًا أضعافًا، فلا عليك أيها العزيز! خلِّ عنك الوساوس إذن، ونَمْ ملء جفنَيك، واترك للسماء قِيادك؛ فهي حسبك.» قالت هذا وزفت في الأثير اللانهائي إلى الأولمب، تاركةً وراءها القصر العتيد بمن به من نوام وغير نوام.

مسكينة بنلوب! لقد كانت هي الأخرى شاردةَ اللُّب موزَّعةَ القلب، ما ترقأ لها عَبْرة، ولا تغفى لها عين، ولا قرَّ لها قرار؛ لقد لبثت ليلها كله تتشوَّف إلى أوديسيوس، وتبكي عليه، وتستذكر أيامه، وترثي لهذا الفتى اليافع تليماك، ثم تدعو الموت كي يخمد أنفاسها، ويوفِّر عليها أحزانها، ولكن المنايا نوافرُ لا تستجيب لدعاء أحد، وهبَّ أوديسيوس عند مطلع الفجر، فانطلق إلى المذبح الكبير حيث جثا متضرِّعًا لهفان، يُسبِّح باسم زيوس العلي ويُصلي له، ويهتف به أن يجعل له علامة يطمئن قلبه بها، وليعلم أن كبير الآلهة لا يزال يحميه ويكلؤه، كما كلأه في شدائده في البر والبحر، وكان أوديسيوس يُزكي صلاته بأطهر الدموع وأحرِّها، وكان سيد الأولمب يُصغي لدعائه من علياء السماء، فما إن فرغ الملك المحزون حتى أرسل زيوس في الأرجاء زلزلة عظيمة مدوية رجَّعت أصداءها جنباتُ القصر الساكن، وأحيادُ الجبال الشامخة، وكانت خادمة بائسة تسهر طوال ليلها عاملة في طاحونها ناصبة، فلما وقرت في سمعها الزلزلة ذُعِرت ورُوِّعت، وأزاحت طرف الستر لتنظر إلى السماء فلم تجد فيها سحابة واحدة، بل وجدتها مشرقة بتباشير الصباح مضيئة بنور ربها، فجعلت تجأر إلى الله وتقول: «زلزال وليس في الأفق سحاب! أمَا والله إنه لنذير، أما والله إنها لغَضْبة السماء على هؤلاء المناكيد القساة، الذين يقسرونني على هذا العناء وذاك النَّصَب طوال الليل كأنني من حديد! يا جوف العلي، إن يكن ما سمعتُ حقًّا، فإني أسألك بحق أسمائك أن يكون هذا الدقيق آخرَ ما يأكلون من زاد هذه الدنيا.»

وتبسَّم أوديسيوس من قولها، وتوسَّم فيه وفي تلبية السماء خيرًا له، وشاع في أعطافه شعورٌ قدسي بما دنت ساعة الانتقام، وكانت الوصيفات الأخريات يُوقِدن نار المدفأ في الردهة الكبرى، بينما برز تليماك من مخدعه مخترطًا سيفه ورمحه يختال من خلفه، حتى إذا بلغ وصيد الباب الكبير هتف بالمرضع العجوز يوريكليا يقول: «كيف حال الغريب النازح يا أماه؟ بودِّي لو أنكنَّ عُنِيتنَّ به كما ينبغي؛ لأن والدتي على ما جُبِلَت عليه من خير ولطف لا تهش لأمثاله من النازحين الغرباء.» وقالت يوريكليا تُجيبه: «يا بني، لا تثريب على والدتك في هذا السبيل؛ فقد احتسى ضيفُك من الخمر ملء بطنه، حتى لقد أبى أن يذوق طعامًا بعد، وقد أبى إلا أن ينام على فراش خشن في الردهة الكبرى، ولا أدري لماذا تشبث بهذا.» وانطلق تليماك إلى المدينة يتبعه كلباه، ثم أقبل الراعي يومايوس يسوق بين يدَيه ثلاثة خنازير كناز من أسمن قطعانه، وما إن رأى أوديسيوس — الشحَّاذ الفقير في حسبانه — حتى قصد إليه، ولبث يُسائله عما لقي من العشاق، فذكر له أوديسيوس ما كان من وقاحتهم، وبينا هما كذلك إذ أقبل الراعي السفيه سليطُ اللسان ميلانتيوس وهو يحدو قطعانه وماعزه، وطفق كدأبه يسبُّ أوديسيوس، ويُرسل عليه وعلى يومايوس ما نزح به فمه من شتائم؛ تحرُّشًا بالرجل الشحَّاذ الفقير، ولكن أوديسيوس لم يُحرِّك ساكنًا. وأقبل راعٍ آخرُ يقود بقرة صفراء لا ذَلول ولا فارض، يُدْعَى فليوتيوس، فوقف عند زميله يومايوس يُسائله عن صاحبه الفقير الشيخ، وكأنما راعته ملامحه وحسن سمته: «إنَّ له سيماء كسيماء الملوك برغم أسماله ومزقه.» ثم صافح أوديسيوس وقال له: «مرحبا أيها الأب! خفَّف الله عناءك ووضع عنك وِزر ما تشكو، يا للسماء! إن مَرْآك يُفجِّر الدموع في عينَي؛ لأنك تُذكِّرني بمولاي أوديسيوس الذي وكَل إليَّ رعْي قطعانه وأنا بعدُ صغير حَدَث، فكبرتُ كما كَبُرَتْ وتضاعف عددها، ولكني وا أسفاه لا أفرح بسمنها ووفرة عددها، بل إن الحزن ليرزح على نفسي؛ لأنها تسمن فتكون غذاءً لا مباركًا ولا هنيئًا لأولئك الظالمين، ولولا رجائي في السماء، وأملي الكبير في عودة مولاي أوديسيوس للُذْتُ من زمن بعيد بسيد آخر أخدمه؛ لأن الصبر على خبائث هؤلاء البغاة الطغاة لم يعد في طَوْق أحد، وا أسفاه عليك يا مولاي! أين أنت اليوم؟ ألا ليتك تعود فتبطش البطشة الكبرى بهؤلاء الجبارين!» واغتبط أوديسيوس بما سمع من كلام الراعي فقال له: «الله ما أشجعك أيها الصديق! ولكني أُبشرك وأُطمئنك، وأُقسم لك أن مولاك عائد ما في هذا شك، وهو عائد عما قريب، وستشهد عيناك هاتان مصارعَ البغاة الطغاة.» وبينما هما يتحدَّثان إذا بالعشاق يُقبِلون أفواجًا فيَملَئون البهو، ويجلسون إلى وليمتهم، فيُشير تليماك إلى أبيه فيُجْلِسه معهم ويُعِد له مائدة ومقعدًا، ويُحْضِر له من الشواء والخبز والشراب ما هو حسبه، ويقول له بمَسْمع من الجميع: «اجلس أيها السيد، ولا تخش رهقًا؛ إني أمقت أن أسمع شغبًا اليوم، فالبيت بيت أوديسيوس وإني لصاحبه.» وغِيظَ أنطونيوس فقال: «دعوه، فقد حقَّ له أن يقول ما شاء، فتالله لولا أنْ حال جوف بيننا وبينه لأسكَتْنا إلى الأبد أنفاسه.» وقال سفيهٌ آخر: «طِبْ نفسًا يا تليماك خوس، وقَرَّ عينًا؛ فهاك منحة لضيفك مضغة مشتهاة.» ثم تناول عظمة من السلة القريبة فقذف بها أوديسيوس الذي انحرف عنها فلم تُصِبْه، وعندئذٍ قال تليماك غاضبًا: «تالله لو أصابته لأقصدتك برمحي هذا، فنفذ في صدرك وخرج من ظهرك، ولانقلب العرس الذي تحلم به إلى مناحة تؤزُّ بيتك! إني لم أعُد صبيًّا بعد فلا ترهبوني، سترون كيف أستطيع أن أضع لكلٍّ حدًّا بعد إذ طفح الكيل.» وهنا هبَّ لئيم آخر فحبَّذ في سخرية مقالة تليماك؛ «لأن مِن حقه أن يحمي ضيفه، ولكن اسمع يا تليماك خوس، لِمَ لا تمضي إلى أمِّك وقد يئست من عودة أبيك فتطلب إليها أن تحضر فتختار البعل الذي يروقها من بيننا؟» فتعمَّل تليماك الكلام وقال: «هي حرة مطلقة الحرية، إني لا أقف في طريقها ولا أقسرها على شيء.» وما كاد يفرغ حتى انفجر المناكيد يضحكون ويضجُّون.

ثم حدثت المعجزة!

لقد تضرَّجت وجوهُ القوم بحُمْرة الدم، ولقد تحرَّكت قطع اللحم فوق الخوان فهي تقطر دمًا أحمر كأنه ينبثق من غلاصم قتلى، ثم امتلأت عيونهم بدموع غزارٍ حرار، ثم طفقت دموعهم تعلو وتهبط، وتنشق عن تنهُّدات تصعد من سويداءات القلوب، ثم هذا تيوكلمنوس — الكاهن الآبق — يشهد المعجزة ويرى النذير، فينهض فيهم قائلًا: «تعسًا لكم أيها الأنجاس! لقد سيء بكم! ماذا تُخبئ المقادير يا ترى؟ ما هذه الظلمات كأنها قطع الليل تغطش رءوسكم وتُزلزل أقدامكم؟ وما هذه الدموع تتصبَّب من عيونكم فتشوي خدودكم؟ انظروا إن استطعتم ما هذه الدماء التي تضرج جدران القصر؟ ما هذه الأشباح التي تكظ البهو الخالد؟ إنها تتهاوى إلى عالم الفناء فويل لكم! أوه! وتلك آية أخرى؛ لقد كُسِفت الشمس فجأة، توارت بالحجاب، الضباب الضباب! ما أروع الضباب ينتشر فيملأ ما بين الأرض والسماء!»

figure
لقد قُتِلَ العدَّاء المعروف أرسيللوب أيدومين العظيم الذي لم يكن يُباريه في سرعة عَدْوه أحد.

وبالرغم مما أنذر الكاهن فقد أغرق القوم في الضحك، ولم يزدادوا إلا خَبالًا، وقال قائلهم، وإنه ليوريماخوس: «ما أحسب إلا أن به جِنَّة. خذوه فغلُّوه، ثم في السوق صلُّوه، عسى أن يجد ثمة ضياءً يمشي فيه، إنه لا يجد ضياءً هنا.»

وتلبَّث الكاهن فقال: «اربَعْ عليك يا يوريماخوس فإن لي عينَين وأذنَين، وإني لأرى وأسمع، وإني نذير لكم من بلاء يحلُّ بكم فلا يُبقي ولا يذر، أيها الأفَّاكون المفسدون.» وانطلق الكاهن من القصر، ولمز أحد العشاق تليماك فقال: «ألا ما أتعسك في كل مَنْ ضيَّفتَ من ضيف يا فتى! أما كان بحسبك هذا الفقير الشحَّاذ القذر الذي تُطعِمه، ما عليه من سبيل، حتى تجلب هذا المتفيهق الذي يدَّعي النبوة ويرجم بالغيب؟»

وصمت تليماك فلم ينبس، وظل ينظر إلى أبيه، ويرقب ساعة الجدِّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤