الصيدلة في القرن العشرين

وما إن أقبَلَ مستهلُّ القرن العشرين حتى استهوى العلماء والأطباء والصيادلة البحث العلمي في مختلف أنواع العقاقير، وظهر منها ما غيَّرَ مجرى العلاج الطبي وما له من خطره العلمي، ونال المكتشفون منهم جوائز عالمية كجائزة نوبل.

وقد امتاز هذا العصر وخصوصًا النصف الأول من هذا القرن بالكشف عن عقاقير هامة في مقدمتها:
  • (١)
    مضادات الحيوية Anti-biotics.
  • (٢)
    الهرمونات Hormones.
  • (٣)
    الفيتامينات Vitamines.
  • (٤)
    مركبات السلفا Sulph compounds.

(١) مضادات الحيوية

إن ما يحدث بين الكائنات الدنيا الميكروسكوبية من تنازع البقاء أكثرُ ممَّا يحدث بين الكائنات العليا من أنواع النبات والحيوان؛ فهناك قتالٌ مستمرٌّ، وهناك كائنات تقضي على أخرى، وحياة تفني حياة …

باستور وجوبرت ١٨٧٧

إن الأفراد التي تتكون منها أية مجموعة من الكائنات، سواء أكانت من البشر أو من المخلوقات الحية الأخرى؛ إنما هي دائمة الانفصال والتأثُّر بالبيئة، وأكثر من هذا فإن الكائنات الحية المجاورة والأعضاء والخلايا إنما هي من أهم عناصر هذه البيئة.

وكثير من الأعضاء والخلايا المتشابهة أو المختلفة لا يمكنها أن تتواجد في حيِّز محدود ما لم تؤثِّر وتتأثَّر بما جاورها. وهذه الحقيقة الهامة أساسية في دراسة النمو والتطور، وعلاقة هذه الكائنات ومدى تأثيرها على غيرها، ومدى انفعالها بغيرها، وهذه الحقيقة أو القاعدة العلمية تنطبق جميعَ الانطباق على أعضاء الجسم الواحد أو على الأجسام المختلفة، والمجموعات الحيوانية والنباتية المتباينة.

كما أن هذه النظرية أيضًا — نظرية التأثير والانفعال — يمكن تطبيقها أيضًا على الكائنات الميكروسكوبية، ومدى صحتها في الحياة العملية المحلية، ومدى مقدرتها الشفائية من المتاعب والأمراض في الإنسان والحيوان والنبات، هذا هو موضوع البحث الجديد والميدان الذي تُدرس في مضادات الحيوية.

وكلمة مضاد للحيوية Antibiotic حسب اشتقاقها اللاتيني تعني بأوسع معانيها: كل عامل أو مؤثِّر بالحيوية، وكلمة Antibiosis استعملها لأول مرة فيلمين عام ١٨٨٩ عندما كتب: «إن الأسد الذي يثب على فريسته، والثعبان الذي ينفث سمه في ضحيته قبل التهامها؛ لا يمكن اعتبارهما طفيليات Parasites؛ فليس هناك التباس في أن أحدهما يقضي على حياة الآخَر ليحيا هو، فأحدهما مجاهد كدود والآخَر مستسلم جامد، وكلاهما على طرفَيْ نقيض، والعلاقة بينهما في منتهى البساطة يمكن تسميتها تضاد الحيوية Antibiosis، والعنصر الغالب يُسمَّى Antibiotie. من هنا أمكن التفريق بين الطفيليات ومضادات الحياة.»

ولكن في الصيدلة والطب، فإن كلمة مضاد الحيوية إنما تعني في حدودها الضيقة أيَّ مادة يفرزها أيُّ كائن ميكروسكوبي تقضي على الحياة أو تعيق نشاطها، أو توقفه في أي كائن ميكروسكوبي آخَر، حتى ولو كانت هذه المادة التي يفرزها الكائن الميكروسكوبي موجودة بنسبة ضعيفة، ومن هنا يمكن استبعاد المواد القاتلة للبكتريا المشتقة من النبات والحيوانات العليا.

وفي بعض الحالات أمكن استخلاص هذه المواد المضادة للحيوية من الكائنات الميكروسكوبية نفسها، أو من السوائل التي تعيش فيها، وأمكن تنقيتها وتحقيقها كيماويًّا، ولكن في حالات كثيرة أخرى أمكن تحضير خلاصات خام، ولم يمكن فصل موادها الفعالة.

وقد عُرِفت هذه المواد منذ أزمان بعيدة عن طريق تأثيرها فقط، فقد عرفها الصينيون منذ ٢٥٠٠ عام؛ إذ أمكنهم معرفة الخواص الشفائية للغشاء الطفيلي الذي ينمو على نبات الفول الصويا عندما عالجوا الجمرة والدمامل وما أشبه ذلك.

وقدماء المصريين، أولئك الذين حملوا مشعل الحضارة، قد استعملوا العفنَ الذي ينمو على اللحوم لعلاج الربو والأمراض الصدرية في تذكرة مشهورة وردت في بردية إيبرس، تتكون من: أربعة مقادير من الحنظل، وأربعة مقادير من الحموت، وأربعة من البصل، وخمسة مقادير من اللحم المتعفن، وأربعة من دهن الأرز، ومقدارين من الحبة الحمراء … تُغلَى جميعها على النار وتُصفى وتُشرَب لمدة أربعة أيام.

ومن قرأ تاريخ حياة البنسلين يرى أن العالم فيليمنج عام ١٩٢٨ عندما كان يستنبت نوعًا من الميكروب العنقودي على مزرعة من الأجسار في طبق من الزجاج، تلوَّثت المزرعة بنبت فطري دخيل تسرَّبَ إليها من الجو المكشوف، وكتب في مذكراته أن هذا النبت الفطري الذي أخذ ينمو إلى جوار الميكروبات العنقودية قد أثَّرَ فيها، وجعلها تتحلَّل وتتلاشى من حوله.

وتبيَّنَ من الفحص الميكروسكوبي أن هذا النبت الذي دخل المزرعة هو نوع من الفطريات المعروفة باسم «البنسليوم» أو الرمامة، وهو بعض أنواع العفن التي تنمو على البقايا العضوية، ثم زرع فليمنج بعد ذلك هذا النبت الفطري على أنواع من مرق اللحم فوجده يتكاثر بشكل خيوط خضراء متشابكة كخيوط اللبد، ورشَّحَ السائل بعد ذلك فوجده يقتل الميكروبات السبحية والعنقودية وميكروب الالتهاب الرئوي والسيلان وغيرها، ووجد أن هذا المرشح لا يفقد مفعوله الشافي قبل أربعة عشر يومًا في درجة الحرارة العادية، ولا يفقد مفعوله بالغلي. أليس هذا المرشح بعينه هو ما استعمله قدماء المصريين بغلي اللحم المتعفِّن وتصفيته، واستعماله لشفاء أمراض الصدر! لله درك أيها الشعب العريق.

منذ تلك العصور البعيدة التي لاحَظَ الفراعنةُ فيها وأهلُ الصين تأثيرَ هذه الكائنات الدقيقة، قد أُهمِل استعمالها كعلاجات شافية، ومصدر لأدوية نافعة في علاج الأمراض الميكروبية، حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

ولا يثير هذا الإهمال دهشتنا إذا علمنا أن علم البكتريولوجيا قد ظهر إلى عالم الوجود في منتصف القرن التاسع عشر بعد تلك الجهودات العلمية الجبَّارة التي بذلها العالِم الخالد باستور ومعاوِنوه.

وفي الواقع فإن باستور وجوبرت عام ١٨٧٧ أمكنهما أن يحقِّقا أن الكائنات الميكروسكوبية لها إمكانيات إكلينيكية كعوامل علاجية في كثير من الأمراض، وهذه حقيقة طبية هامة.

وقد لاحظنا أن ميكروب الجمرة الخبيثة Bacillus Anthracis ينمو بسرعة فائقة عندما يُزرَع في بول معقم في درجة مناسبة من الحموضة، ولكن هذه الميكروبات تتوقف عن النمو إذا دخل مزرعة الجمرة الخبيثة أيُّ نوع من بكتريا الهواء العادية. ودوَّنَا في مذكراتهما بعد ذلك: «من المدهش أن هذه الظاهرة يمكن ملاحظتها أيضًا في جسم الإنسان، مما يهدينا إلى تلك النتائج المدهشة … إن ميكروب الجمرة الخبيثة ممكن إدخاله بكثرة في جسم الحيوان بحيث لا تظهر عليه أعراض المرض، وبحيث يكون السائل الملوَّث الذي أُدخِل إلى جسم الحيوان محتويًا أيضًا على بعض البكتريا مختلطة مع ميكروب الجمرة الخبيثة، وهذه الحقائق تشير إلى درجة كبيرة بآمال كبار علم العلاج.»

وبعد بضع سنوات وصَفَ تاندل عام ١٨٨١ في مقاله عن المادة الطافية من الهواء: أن المحاليل الرائقة تتعكر بنمو بكتريا الهواء، ولكنها تروق وتصفى مرة أخرى عندما يُزرع بعض أنواع فطر البنسليوم على سطح السائل. وفي عام ١٨٨٥ افترض كورنل وببس وجود مواد كيماوية معطلة تسبِّب ظاهرةَ إيقاف مفعول الكائنات الميكروبية، ويتوقف على نسبة تركيزها قتل أو تحلُّل هذه الميكروبات. هذه الكيماويات نسمِّيها الآن مضادات الحيوية.

والفوائد الطبية لمضادات الحيوية تتمثَّل واضحة في تلك الظواهر الدائمة في التربة والمجاري البرازية والماء، وفي كثيرٍ من الظواهر الطبيعية المألوفة للميكروبات. وخلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أمكَنَ اختبار كثير من مضادات الحيوية طبيًّا، وكان أول المجهودات الأولية عام ١٨٨٠ حينما ظهرت في نظرية «استبدال العلاج» Replacement Theory التي تعني تطعيم المصاب بالميكروبات المرضية بأنواع من البكتريا غير المرضية التي ثبت عمليًّا أنها مضادة للميكروبات خارج الجسم، وقد استُعمِلت هذه الطريقة بنجاح محدود في علاج السل والدفتريا والجمرة الخبيثة والكوليرا والطاعون، وغيرها.
وتنقحت هذه الطريقة بعد ذلك عام ١٨٩٠ باستعمال خلاصات خام لهذه الكائنات المضادة للميكروبات المرضية، وفي هذه الحالات أمكن تجربة خلاصات الفطريات وأنواع البكتريا أيضًا لاختبار مدى نمو الميكروبات المرضية. وفي عام ١٩٠٠ أمكن تحضير خلاصة من ميكروبات الصديد الأزرق المسمَّى Ps. Pipcyamea وسُمِّيت هذه الخلاصة بيكوينيز بشكل تجاري، واستُعمِلت بكثرة في ألمانيا.
وكان اتجاه رجال الصيدلة والطب نحو طريقة أفضل في تحضير هذه الخلاصات أو العصارات الخام، وكانت آمالهم طامحة إلى الحصول على مواد كيماوية نقية من هذه الكائنات أو العصارات يمكن استعمالها ضد الميكروبات المرضية، وقد استمرت جهود الصيادلة والأطباء والبيولوجيين والكيماويين والمهندسين في أبحاث مضنية دائبة حتى أمكنهم تحضير مضادات الحيوية بشكل بللوري نقي، وفي كل هذه المجهودات — التي كُلِّلت بالنجاح — كانت ترشدهم إلى الطريق تلك الملاحظةُ العلمية الهامة التي لفتَتْ نظرَ فليمنج عام ١٩٢٩، والدراساتُ المنظَّمة التي قام بها رجال المدرسة الإنجليزية على إفرازات أنواع الفطريات، وخاصةً العفن Penicillia. وفي السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك من الكيماويات العلاجية ضد الأمراض البكترية غير أنواع السلفا التي لم تكن خلوًّا من المساوئ عند كثير من المرضى بالحساسية، وفوق ذلك فإن هناك كثيرًا من أنواع البكتريا التي لا تتأثر بالسلفا، كما أنه قد تتوالد أنواع من البكتريا محصنة نفسها ضد أنواع السلفا.

ولذلك اتجهت الأنظار إلى البحث عن مواد جديدة مضادة للبكتريا لا تكون فيها هذه المساوئ، وتمتاز بفوائد أخرى. وهنا تضافرت جهود بريطانيا والولايات المتحدة متفقتين على وضع جميع التسهيلات اللازمة، وتجنيد جميع الكفاءات العلمية لهذه الأبحاث، ووضع نظام ثابت مشترك للأبحاث العلمية على مضادات الحيوية.

وكان نتيجة هذه المجهودات المعملية المتضافرة أن خرج البنسلين من أبحاث المعمل الضيقة إلى عالم الصناعة الصيدلية الواسعة، واحتلَّ مكانه الممتاز بين العقاقير التي تكاد تكون سرية المفعول.

قبل مستهل الأبحاث المضنية المرتبة عن البنسلين، كانت أبحاث دوبو سنة ١٩٣٩ عن مضادات البكتريا التي أمكن تحقيقها في مزارع البكتريا الباشيلي القصيرة B. Brevis من أكبر العوامل التي أيقظت فضولَ العلماء عن مضادات الحيوية كعوامل كيماوية علاجية قوية.
وقد استخلص دوبو مادةَ تيروتريسيين Thyrothricin التي ثبت أنها قوية التأثير على عديدٍ من الميكروبات المرضية التي لم تتأثَّر بالمواد الكيماوية العلاجية، ولكن من سوء الطالع أن وُجِدت هذه المادة الأخيرة سامةٌ جدًّا مما حدَّ من استعمال هذه المادة، وكانت هذه النتيجة باعثةً على نشاط البحث عن مواد أقل ضررًا. وفي عام ١٩٤٤ اكتشف واكسمان ومساعدوه مصدرًا لمضادات الحيوية في الفطر الشعاعي Actenomycetes، وهو نوع من الفطر الطفيلي يُعتبَر وسطًا بين البكتريا والفطر، وتطوَّرت الأبحاث بسرعةٍ وعُنْفٍ حتى استُخلِص الإستربتوميسين، وحتى توصَّل العلماء إلى تحضير كميات منه وتصديرها إلى الأسواق الطبية.

ومنذ هذه اللحظات الحاسمة، احتلت مضادات الحيوية مكانةً ممتازة في الصناعة الصيدلية والعلوم الأقرباذينية، وقد قُدِّرت الكميات التي أنتجتها الولايات المتحدة عام ١٩٤٨ من البنسلين والإستربتوميسين بحوالي نصف العقاقير النباتية المحضرة، ومن المستحضرات المضادة للحيوية القيِّمة التي أمكن تحضيرها: الأورميسين، والباسبتراسين، والكلوروميسين، ولا يزال الكثير من هذه المواد تحت البحث العلمي الطبي. ومن المواد التي تبشِّر بالخير في استعمالها السوبتيلين والبولي مكسين، ويُقدَّر ما اكتُشِف من هذه المواد بما ينيف عن المائة، والكثير منها قد أمكن تحقيقه كيماويًّا، ولو أن القليل منها هو ما أمكن استعماله طبيًّا حتى الآن.

(١-١) علاقة المقايضة والمبادلة بين الكائنات

الكائنات الحية لا يمكن أن تعيش طويلًا دون أن تتأثَّر وتؤثِّر فيما جاورها من الكائنات الأخرى، فهي تبادل بعضها النفع كما هي الحال بين الألجي أو الضريع وبين الفطريات، ومثل هذه العلاقة تُسمَّى حياةَ الألفة: (Symbiotic) Sym = Together + Bios = Life. وقد يعيش كائن على حساب كائن آخَر مثل أنواع ندوة النبات وفطر الصدأ المرضي للنبات، وكذلك أنواع الفطريات التي تعيش طفيلية على الإنسان والحيوان، وفي هذه الحالة تُسمَّى تلك الحياة بالحياة الطفيلية فيكون أحدهما طفيليًّا والآخَر عائلًا، وفي حالات أخرى قد يمنع أحدهما نموَ الآخَر دون أي فائدة مباشِرة يجنيها، اللهم إلا أنه قد يكون في ذلك ما يساعد على إيجاد عوامل وبيئة حيوية له، وهذا النوع من الحياة يُسمَّى حياة المعاكسة أو المقاومة Antagonism، وهذا هو الباب الذي يدخل منه علم مضادات الحيوية.

(١-٢) كشف مضادات الحيوية من كائنات التربة

في التربة أسرار كثيرة، وفيها معين لا ينضب من مضادات الحيوية. وفي العصور الماضية كان الاعتقاد الشائع أن التربة مصدر قوي دائم لأنواع كثيرة من الميكروبات المرضية، وكان الرأي السائد أن الميكروبات التي يُعدَى بعدها الإنسان والحيوان تتسرب خلال التربة إلى مجاري المياه ومنابع الشرب فتلوِّثها.

ولكن خلال القرن التاسع عشر عندما أخذ علم البكتربولوجيا يزدهر، أخذ رسل هذا العلم يدرسون التربة، ويختبرون محتوياتها، ويبحثون عن تلك الميكروبات المرضية التي ذكرها الأولون، وبعد أن أضناهم البحث وصلوا إلى تلك النتيجة العلمية الهامة، وهي أن الميكروبات المرضية لا يمكنها أن تعيش طويلًا في التربة الطبيعية العادية.

وعندما توصَّلوا إلى هذه الحقيقة العلمية، بدأ تفكيرهم يتجه إلى أن التربة قد تكون عاملًا مرشحًا للميكروبات، أو أن هذه الميكروبات المرضية لا تتمكن من الحياة لما تحتاجه من مقومات طبيعية وكيماوية كالرطوبة ودرجة الحرارة والتغذية وغيرها.

وبعد ذلك بقليل توصَّلت أبحاث العلماء إلى أن هذه الميكروبات المرضية يمكنها أن تنمو وتزدهر في وسط من التربة المعقمة، وأن هذا الوسط يلائم نموَّها وتكاثُرَها أكثر من التربة العادية غير المعقمة، ومن هذه النقطة أمكنهم أن يصلوا إلى فرضٍ علميٍّ، وهو أن الكائنات المجهرية التي تحويها التربة غير المعقمة هي التي تقف عائقًا في سبيل الميكروبات المرضية التي تتلوث بها.

وإذا استثنينا ميكروبات الجمرة الخبيثة والتيتانوس أو الكزاز والغنغرينا أو الأوكال والتيفود، فإن أغلب ما عداها لا يستطيع العيش أكثر من بضعة أيام في التربة العادية؛ إما لأنها لا تجد فيها غذاءها الكافي، أو لأنها لا تستطيع التغلُّب على ميكروبات التربة، أو لأنها لا تنسجم معها في وسط واحد.

وهناك افتراض على شحذ همة دوبو للبحث المستمر، وهو أن فناء الميكروبات المرضية من التربة قد يتسبَّب عن تكوين مواد مضادة للحيوية بواسطة ميكروبات أخرى تتعارض معها، وأن الكائنات غير المرضية قد تنشط في حالة وجود الميكروبات المرضية، ومن هنا بدأ دوبو يضيف إلى التربة كميات من مزارع صناعية ميكروبية ليحصل مقابل ذلك من التربة على كميات أوفر من مضادات الحيوية، وكان نتيجة هذا أن حصل في عام ١٩٢٩ على مادة الجراميسدين، وهي مادة مضادة للحيوية تنتجها الكائنات الطبيعية الموجودة في التربة «العصيات القصيرة Bacillus Brevis»، وكانت هذه المادة شديدة التأثُّر على كثيرٍ من الميكروبات الإيجابية، ومن هنا ثبت علميًّا أن التربة رغم أنها مستودع كبير للأمراض إلا أنها قد تكون أيضًا مصدرًا هامًّا للمواد العلاجية الكيماوية المضادة.

ومن المجموعات العديدة التي كشفها العلماء من مضادات الحيوية أمكنهم التعرُّف على عشر مواد فعالة منها، وأمكنهم وصفها علميًّا، ومن بين هذه المواد العشر كان الإستربتوميسين واحدًا منها، ومع أن الكثير من الكائنات المجهرية تعطينا مظاهر مضادة للحيوية، إلا أن القليل منها يمكن الاستفادة منه من حيث القيمة الصيدلية الطبية.

وهناك اثنان آخَران من مضادات الحيوية التي اكتُشِفت حديثًا قد احتلَّا مكانًا ممتازًا من الناحية العلاجية والصناعية، وهما الأوروميسين والكلورميستين. ثم تتابع الكشف عن بعض مضادات الحيوية، التي بينها البوليكسين Polymexin الذي يؤثِّر على البكتريا الإيجابية، والسوبتلين Subotilin الذي يظهر أنه مضاد لحيوية ميكروبات السل، وبعض العناصر الأخرى المستخلصة من الكائنات المجهرية، والتي ثبت أنها تؤثِّر في نمو الخلايا السرطانية.

(١-٣) أهمية مزارع الانتشار والنمو

يتوقف مدى العلاقة وقوتها بين أفراد المجتمع أيًّا كان إلى حدٍّ كبيرٍ على حقول زراعتها، ويمكن تعريف مزرعة الانتشار بأنها الدائرة التي يمكن لقوتين أو أكثر فيها أن تُحدِثَا تأثيرًا، والتي فيها تتواجد تركيزات متدرجة لهذه العوامل.

وهذه القوى المنتشرة في المزارع، والتي يحدث بينها الصراع قد ترجع إلى عوامل كيميائية طبيعية، كما هي الحال في مزارع الكائنات المجهرية وبعض النباتات، وفي هذه الحالة تكون مسئولة عن مقاييس محكمة بطرق طبيعية كيميائية. وقد تكون هذه القوى غير ملموسة، ولكنها حقيقة لها تأثيرها الفعَّال كالعوامل الاقتصادية والنفسية والروحية، وهذه هي الحالات التي يصعب إيجاد مقاييس ثابتة لها يمكن تمييزها.

(١-٤) تركيز ثريشولد Threshold concentration

الاستجابة في جميع الوظائف الحيوية تتوقف على التغييرات الطبيعية والكيميائية التي تحدث في الأوساط التي تعيش فيها، فإن التغيرات التي تحدث في الأوساط المعيشية لا تُحدِث تغييرات ظاهرة في حياة الكائنات حتى تصل درجة تركيز ثريشولد إلى حدٍّ خاصٍّ، ويتضح هذا جليًّا عند استعمال أطباق تعقيم البنسلين.

وفي التقدير البيولوجي للبنسلين تُملَأ أطباق بتري Petri بالآجار المغذى، ثم تُطعم بدرجة رقيقة من البكتريا، وتكون عادة من الميكروب العنقودي الذهبي Staphy lococcus Aureus، ثم تُثبت أسطوانة زجاجية أو معدنية قطرها ٨ ملليمترات عمودية على سطح الآجار بحيث لا يسمح طرفها الملاصق بالتسرب، ثم تُملَأ هذه الأسطوانة بالمحلول المراد اختباره والمحتوي على المادة المضادة للحيوية، ثم تُوضَع الأطباق في مفرخات تحت درجة حرارة ٣٧ لوقتٍ محدود.
وبعد مدة حضانة مناسبة نجد حول كل أسطوانة منطقة نظيفة لا تنمو فيها الميكروبات العنقودية Zone of Inhibition حيث ينعدم وجود البكتريا بفعل مضاد الحيوية، وتتوقف مساحة هذه المنطقة على نسبة تركيز السائل الموجود داخل الأسطوانة، ويحدد هذه المنطقة التي تنعدم فيها الميكروبات منطقة ضيقة جدًّا تتزاحم فيها البكتريا، وهي تشبه منطقة الاحتشاد للقتال، وخارج هذه المنطقة المزدحمة منطقة يكون فيها النمو طبيعيًّا. ويجب أن تكون هذه التجارب الاختبارية تحت ظروف واحدة من نسبة المزرعة وكثافتها، وطريقة التهوية، ودرجة الحرارة، ولكن عاملًا واحدًا هو الذي يختلف، وهو نسبة تركيز محلول المضاد للحيوية.

(١-٥) التركيز المناسب Optimal concentration

لُوحِظ في التجارب الاختبارية في المعمل أن درجة إيقاف نمو الميكروبات أو قتلها بمحلول البنسلين لا تتوقف دائمًا على نسبة تركيز المحلول، وقد أُجرِيت عدة تجارب عام ١٩٤٦ لُوحِظ فيها أن البكتريا قد يتوقف نموها أو تموت في محاليل مخففة أكثر منها في المحاليل المركزة من البنسلين، وهذه ظاهرة طريفة سنعود إلى دراستها فيما بعدُ.

وتُسمَّى درجة التركيز التي فيها يموت أكبر عدد من البكتريا بدرجة التركيز المناسبة، ويكون أي محلول تنقص أو تزيد نسبته عن هذه الدرجة ضعيفَ التأثير.

(٢) الهرمونات

اعتقد الإنسان منذ أقدم الأزمان أن أعضاء جسم الإنسان المختلفة والحيوان لها تأثير طبي يكاد يكون مفعوله كالسحر، كما كانوا يعتقدون أن في استطاعة الإنسان أن يقوي شخصيته في النواحي الضعيفة منها بتعاطي أعضاء جسم الإنسان أو الحيوان؛ فكان الجندي يعتقد أنه إذا أكل قلب عدوه زاد جرأةً، واشتدَّ شجاعةً وإقدامًا، وقد حدث هذا للاسكتلنديين في حروبهم عام ١٨٧٣ ميلادية. وكان الإنسان يعالج اليد باليد، والمخ بالمخ، والكلى بالكلى وهكذا، كما كانوا يعتقدون أن الأمراض العضوية هي نتيجة نقص في هذه الأعضاء؛ ولذلك كانوا يعالجونها بالأعضاء الحيوانية المختلفة، وقد ورد الكثير من أمثال هذه الوصفات في برديات قدماء المصريين، ودساتير الصين والهند.

وقد وُصِفت الخصية لعلاج ضعف الرجولة، كما وصف ديسقوريدس خصيةَ الديك لزيادة القوة الجنسية عند الرجال، ووصف أطباء العرب الخصيةَ كذلك للضعف الجنسي.

وقد تطوَّر العلاج بالأعضاء الحيوانية تطورًا كبيرًا في العصور الوسطى خرج عن حد المألوف والمقبول، وقامت ضده ثورة العلماء في القرن الثامن عشر.

وقد عرف قدماء المصريين أن إفرازات الجسم تحوي عناصر مميزة لهذه الأجسام في كل حالة من حالاتها، حتى إنهم تذكَّروا في تذكرة مشهورة لهم للتحقُّق من نوع الحمل إذا كان ذكرًا أم أنثى … استعمال بول الحامل. وقد تطوَّرت معرفة الإنسان لتلك العناصر المميزة بتوسعه في دراسة الغدد الصماء وموادها الفعالة، وقد استهوى هذا البحث العلماء في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في النصف الأخير منه، وفي بداية القرن العشرين.

ففي عام ١٨٤٩ كشف برثولد Berthold أن تطعيم ذكور الدواجن بخصية الديك يسبِّب نمو عرف الديك نموًّا ملحوظًا، ثم في عام ١٨٧٥ سيطرت على عقل شارل برامن سيكوارد فكرة البحث عن أسباب الشيخوخة، وعلاقة الخصيتين بشباب الذكور ونشاطهم، فجمع الكلاب الهزيلة وحقنها تحت الجلد بخلاصةٍ حضَّرها من خصية الخنازير الشابة، ولم يلاحظ بين اثني عشر كلبًا أيَّ أثر ملحوظ إلا في كلبٍ واحد بدأت عليه علامات الحيوية والنشاط. ثم أجرى تجاربه بعد ذلك عام ١٨٨٩ على الأرانب العجوزة، وكانت النتيجة تبشِّر بالخير؛ إذ ظهر على هذه الحيوانات تقدُّمٌ كبير.

ومنذ ذلك التاريخ سيطرت على أفكار العلماء والجماهير فكرةُ استعمال الخصى للتقوية الجنسية، وتقدَّمَ البحث الطبي وكُشِفت الخصائص التشريحية للغدد الصماء كالدرقية والبنكرياس والمبيض والخصية والطحال، وتتابعت آلاف التجارب.

وفي عام ١٨٩٣ صنع الطبيب الإنجليزي جورج أوليفر دواءً قدَّمه إلى العلَّامة إدورد شيفر الأستاذ بجامعة لندن، وقال في تقديمه إنه إذا أُعطِي منه مقدار ضئيل لشخص ما، تنقلب حالته رأسًا على عقب فيتولاه الخوف الشديد، ويصفرُّ لونه، ويسرع نبضه، وينهمر عرقه، ثم يشعر برعدة يعقبها ارتفاع في الضغط … وكانت هذه المادة هي خلاصة غدة فوق الكلى، ولم يأتِ عام ١٩٠٣ عند نهايته إلا وكانت مادة الأدرنالين قد عُرِفت، وكانت أول هرمون عرفه العالم وحضَّره الكيماويون صناعيًّا في أنابيب الاختبار، وقد أمكن تحضيره من متخلفات قار الفحم. وكلمة هرمون تعني باليونانية الشيءَ المنبِّه أو الحافز.

وفي عام ١٨٥٦ أثبت موتيزشيف أن الخنازير (غينيا) تموت إذا استؤصلت غدتها الدرقية، وأثبت بعد ذلك أنه يستطيع إنقاذها من الموت إذا طعَّمها بهذه الغدة بعد استئصالها، وأمكنه أن يقرِّر أن هذه الغدة تفرز أو تقوم في الجسم بدور أساسي.

وفي عام ١٨٨٩ أجرى جوزيف فون فريج وأوسكار منكوفسكي تجاربهما على غدة البنكرياس، فأدَّى إلى الكشف عن مادة الإنسولين على يد الطبيب فريدريك بان تنج عام ١٩٢٠، ولم يأتِ مستهلُّ القرن العشرين إلا وكانت الهرمونات قد احتلت المكانة الأولى بين أبحاث العلماء والكيماويين.

ففي عام ١٩١١ أمكن ستنياخ Steinqch أن يمنع أو يوقف تغيرات العقم عند المرأة؛ بتطعيمها بخلاصة المبايض، وفي عام ١٩١٢ أمكن أدلر Adler أن يزيد نمو الرحم باستعمال خلاصة المبايض، وفي عام ١٩٢٢ كشف فرانك أن السائل الفصيصي للمبايض يحتوي على هرمون، وفي عام ١٩٢٣ أعلَنَ ألن أنديزي لأول مرة على العالم مكان التقدير الكمي للهرمون النسائي.
وفي عام ١٩٢٧ أمكن أشيم Ascheim وزندك Zondek الكشف عن الهرمونات النسائية في بول الحوامل. وفي عام ١٩٢٩ أمكن فنك Funk وهارو Harrow الحصول على الهرمون الذكري من بول الرجال. وفي نفس العام أعلن كوخ إمكان التقدير الكمي الفسيولوجي للهرمون المذكر، وأمكن دويزي Doisy في نفس العام استخلاص مادة بلورية من بول الحوامل وهي الإسترون.
وفي نهاية عام ١٩٢٩ أمكن بوتنندت Butenandt استخلاص هذا الهرمون ومعرفة التركيب الكيماوي له، كما استخلص في عام ١٩٣١ الهرمون المذكر مبلورًا وسمَّاه Androsterone.

واستمرت أبحاث العلماء تتابع في الكشف عن مختلف الهرمونات الجنسية، ومحاولة معرفة تأثيراتها على الدورات الجنسية عند الرجل والأنثى، وعلى مظاهر الشيخوخة عندهما، حتى توصلوا في آخر الأمر إلى تقديرها وتحضيرها في المعمل، ومعرفة الأمراض التي تتسبَّب عنها أو عن نقص وجودها، وعلى العلاقة بين هذه الهرمونات وبين الدورة الحيوية في الإنسان.

وتطوَّرَ البحث بهم إلى معرفة وظائف الغدد الصماء جميعها، وتحضير مختلف المستحضرات التي تحل محل هذه الهرمونات.

(٣) الفيتامينات

وقصة الفيتامينات قصة قديمة يرجع بها التاريخ إلى أيام قدماء المصريين حين لاحظوا ظهور بعض الأعراض المرضية على الإنسان، التي يمكن شفاؤها بنوعٍ خاصٍّ من الغذاء. وقد جاء في بردياتهم الكثيرة عن تاريخ الفيتامينات، وعن تأثير بعض أنواع الغذاء لشفاء أمراض خاصة، ولو أنهم لم يذكروا أسماءها، ولكنهم أعطوا الفكرة الأولى عن وجود عناصر فعَّالة في هذه الأغذية أو النباتات يمكنها شفاء بعض الأمراض.

وقد جاء في أغلب بردياتهم الطبية ما يثبت أنهم وصفوا الكبد لعلاج مرض الإعشاء بالليل Night Blindnesf، سواء وصفوا هذا الكبد نيِّئًا أو مطبوخًا أو مجففًا أو مسحوقًا، وقد أثبتت الأبحاث الأخيرة في القرن العشرين أن الكبد هو أغنى المصادر الغذائية بالفيتامين أ A، وأن هذا الفيتامين هو العلاج الوحيد لهذا المرض. وفي عام ١٩١٢ أثبت هوبكنز أن إطعام الفئران بكميات من اللبن يزيد نموها، كما أثبت ديفز عام ١٩١٥ أن اللبن يحتوي على عنصرين فعَّالين ضروريين للنمو، أحدهما يوجد في الزبدة وسمَّاه:
  • (أ)

    الذائب في الدهن.

  • (ب)

    الذائب في الماء.

ومن هذا بدأ استعمال الحروف الأبجدية في تسمية هذه العناصر الفعالة التي أخذت فيما بعدُ أسماءً مختلفة حسب تركيبها الكيماوي، عند الكشف عن تركيبها الكيماوي وشكلها الجزيئي.

ولا يمكن إرجاع الفضل إلا لذويه، فجميع مَن تضامنوا في الكشف عن عناصر المواد الفعالة في الأغذية (الفيتامينات) يرجع إليهم الفضل. فالإنسان الأول الذي لاحظ تأثير بعض الأغذية في النمو وعلى الأمراض هو صاحب فضلٍ في الكشف عنها، والكيماوي الذي استخلصها من هذه المواد والأغذية هو صاحب فضل أيضًا، والذي درس تركيبها وحدَّد شكلها هو صاحب فضل أيضًا، والذي صنعها في المعمل من مواد كيماوية هو صاحب فضلٍ، ما في ذلك شك.

وقد لاحظ قدماء المصريين ما في الحلبة من فوائد صحية جزيلة، فكتبوا فصلًا ملحقًا ببردية أدون سميث استخلصوا فيه زيت الحلبة واستعملوه لإعادة الشباب، وفي مرهم لإزالة تجعدات الوجه، كما أضافوا دقيق الحلبة إلى الدقيق العادي ليزيد من قوته الغذائية، ويمنع بعض الأمراض التي تتسبَّب من أكل الخبز العادي، مثل البلاجرا الذي ينتج عن نقص حامض النيكوتينيك. كما وصفوا نبات الخص للضعف الجنسي، وكان هو النبات المفضَّل عند الإله مين إله التناسل، حتى لا نجد صورةً أو نقشًا لهذا الإله إلا وفي يده الخص، أو يُقدَّم له الخص قربانًا، وقد أثبتت الأبحاث الأخيرة التي أُجرِيت على الفئران في القرن العشرين وجود الفيتامين د E بكميات وافرة في هذا النبات، كما ثبت علاقته الوثيقة بالدورة الجنسية عند الذكر والأنثى.
وقد لوحظ أن البحَّارة الذي يجوبون البحار، ويطعمون على الأغذية المحفوظة يُصَابون بمرض الاسقربوط Scurvy، ولُوحِظ أن هذا المرض ناتج عن نقصٍ في التغذية بعد التجارب التي أجراها لند Lind عام ١٩٤٧ عندما أخذ اثني عشر مريضًا بالاسقربوط، أطعمهم على أنواع مختلفة من الغذاء مختلفة التركيب والكميات، وكانت هذه الأغذية التي استعملها في تجاربه تحتوي على حامض الكبريتيك والخل وماء البحر والبرتقال والليمون، وبعض المشهيات كالثوم والخردل والمر والتمر هندي … إلخ، فلاحظ شفاء المرضى الذين يطعمون بالبرتقال والليمون في ظرف أسبوع واحد شفاءً تامًّا، مع بقاء الآخرين بأعراض أمراضهم رغم إطعامهم بالأغذية المذكورة، ومن هنا لاحظ أن البرتقال والليمون يحتويان على عناصر فعَّالة يتسبَّب من نقصها في التغذية ظهور ذلك المرض.
وأمكن القطع بتلك الحقيقة بعد أبحاث هولست Holst عام ١٩٠٧ على خنازير غينيا. وفي عام ١٩٢٨ أمكن زنت جورجي Szent Gyorgi استخلاص مادة الفيتامين ج من خلاصة غدة فوق الكلى وعصير البرتقال، وسماه Hexuronic acid نسبةً إلى خاصته المختزلة، وأمكن التحقُّق من طبيعته وتأثيره، وتسميته بفيتامين ج عام ١٩٣٢ بعد أبحاث تلمانز زنت جورجي وكنج.

وأمكن بعد ذلك بالتجارب العلمية إثبات أن مرض الاسقربوط يتسبَّب في الإنسان والقردة وخنازير غينيا عن نقص هذا الفيتامين، أما الحيوانات الأخرى كالكلاب والفئران فلا تمرض من نقصه؛ لأن جسمها يقوم بعملية بناء هذا الفيتامين.

وفي عام ١٨٨٢ لاحظ تاكاكي أن مرض بري بري المتفشي في الأسطول الياباني يمكن شفاؤه بإضافة الخضروات إلى اللحم وإلى أغذيته. وفي عام ١٨٩٠ كان إجكمان Eejkman يجري أبحاثه على مرض البري بري في جاوا، ولاحظ أن الطيور والدواجن إذا أطعمت على الأرز المصقول الأبيض الذي انتُزِع منه القشرة والجنين يحدث لها شلل في بعض أعضائها، يمكن شفاؤه إذا أطعمت بالأرز غير المقشور، ومن هنا أمكن أن يستنتج أن شفاء هذه الدواجن كان نتيجة لمادة تحويها قشور الأرز وأجنته، وتتابعت أبحاثه بعد ذلك على هذا العنصر الذي سُمِّي فيما بعدُ بالثياسين أو فيتامين ب١ الذي أمكن استخلاصه عام ١٩١٦ بعد أبحاث جنش ودونات. وفي عام ١٩٣٦ أمكن ر. ر. وليامز بعد أبحاث مضنية دامت خمسة وعشرين عامًا في أمريكا؛ الكشفُ عن تركيبه الكيماوي، وبعد ذلك أُجرِيت أبحاث كثيرة على فيتامين ب المركب إذ أمكن وضع الخميرة في درجة حرارة عالية تتلف فيتامين ب١، ولا تتلف العناصر الأخرى التي أمكن التحقُّق من تأثيرها بكثيرٍ من التجارب على الفئران والكلاب، وأمكن فيما بعدُ معرفة أنها تحتوي على فيتامين ب٢ الذي أمكن فصله إلى ربوقلافين وحامض النيكوتينيك، وهذا الأخير أمكن تحقيق وجوده عام ١٩١٢ في الخميرة، وأمكن تحقيق تأثيره كفيتامين عام ١٩٣٢، ومن الأمراض الشائعة التي تسبَّبت عن نقص حامض النيكوتينيك من الطبقات الفقيرة في مصر خاصةً هو مرض البلاجرا الذي يتفشَّى بشكل ذريع بين الفلاحين الذي يأكلون خبز دقيق الذرة، وبذلك يضاف إلى هذا الدقيق كمية من دقيق الحلبة الغني بحامض النيكوتينيك.
وقد عُرِف مرض لين العظام منذ أقدم العصور، ولدينا بعض الصور الفرعونية التي ترينا أعراض هذا المرض، وكانت هناك محاولات كثيرة لأنواع مختلفة من الأغذية لشفاء هذا المرض، حتى جاء عام ١٩١٨ حين أمكن ميلانبي Mellanby إصابة بعض الكلاب بمرض لين العظام وشفاؤها بعد ذلك بإطعامها بزيت كبد الحوت، ثم أُجرِيت التجارب بعد ذلك التي أمكنت الشفاء بتعريضها للأشعة فوق البنفسجية، وهاتان الملاحظتان ألفتت أنظار العلماء إلى العلاقة بين الغذاء والأشعة فوق البنفسجية والعنصر الفعَّال في زيت السمك؛ مما دعاهم إلى تعريض بعض الأغذية إلى الأشعة فوق البنفسجية، ثم إطعام المرضى بها، ولشد ما كانت دهشتهم عندما زالت أمراض لين العظام.
ومن هنا أمكن معرفة العلاقة الوثيقة بين فيتامين د D وقوة الإشعاع فوق البنفسجية. هذه قصة موجزة للفيتامينات يطول الوقت لو سردنا تفصيلها.

(٤) مركبات السلفا

اشترك هنريك مورلين الكيماوي وجرار دوماك الباثولجي في أبحاث مضنية منذ عام ١٩٠٨ على أنواع الأصباغ المختلفة، وتأثيرها على الميكروبات المختلفة بمساعدة متش وكلار حتى تمكنوا جميعًا في عام ١٩٣٢ من الكشف عن مكرب كيماوي يقضي على الميكروبات السبحية، وقدَّمَه هؤلاء إلى الدكتور شرويس لإجراء أبحاث عليه، وقد شاءت المصادفة الحسنة أن يُستشَار هذا الطبيب لعلاج طفل لم يتجاوز العام من عمره أُصِيب إصابة قوية بالميكروبات العنقودية، وفكَّرَ شرويس تفكيرًا سليمًا عندما جال بخاطره ذلك التشابُهُ الكبير بين الميكروبات العنقودية والسبحية، وأحذ من ذلك الدواء الجديد الذي صُنِع على شكل أقراص حمراء داكنة، وأعطى الطفل نصف قرص منها، ولم تمضِ ساعتان حتى اصطبغ جسم الطفل بلون قرمزي، وفي المساء أعاد الطبيب الجرعة، وما إن جاء الصباح حتى كانت حالة الطفل قد هدأت، وحرارته قد انخفضت، فكاد يطير من الفرح، واستمرَّ في علاجه يوالي جرعات الدواء حتى شُفِي الطفل تمامًا، وكان ذلك الدواء هو أول مركبات السلفا المسمى بالبرونتوزيل الأحمر الذي قاتَلَ في ميدان الأمراض قتالًا عنيفًا ضد الميكروبات المختلفة. وفي عام ١٩٣٥ كتب رومان التقارير الطويلة عن تلك الصبغة الحمراء التي سُمِّيت بالبرونتوزيل، والتي نال بسببها جائزة نوبل في عام ١٩٣٦. كان ابن الرئيس روزفلت يقاسي سكرات الموت في مستشفى بوسطن من إصابته بالميكروبات السبحية، وعندما وصلته تلك الأقراص الحمراء أمَرَ الأطباءُ بإعطائها له، فكانت سببًا في شفائه.

واستمرت الأبحاث الكيماوية على مادة البرونتوزيل، ففصلتها قسمين؛ وجدوا أن القسم الفعال منها هو بارامينوبنزين سلفوناميد الذي سموه فيما بعدُ سلفانيلاميد الذي قضى فيما بعدُ على استعمال البرونتوزيل، وتتابعت الأبحاث بعد ذلك حيث كشفوا عام ١٩٣٩ في المعامل البريطانية عن مركب السلفابريدين الذي سُمِّي بأسماء كثيرة منها ٦٩٣، والداجنان، الذي لعب دورًا كبيرًا في شفاء أمراض الالتهاب الرئوي، والمسالك البولية، والحمى الشوكية.

وأخذ العلماء يتنافسون بألعابهم الكيماوية في تحضير مركبات مختلفة من السلفا، كل منها يؤثر تأثيرًا خاصًّا على نوع من الميكروبات، فكشفوا عن سلفاثيازول وسلفاديازين وسلفاميرازين وسلفاميزاثين وسلفاجواندين وسلفاسوكسدين، وغيرها من المركبات التي خدمت الإنسانية في علاج كثير من الأمراض الوبائية الخطيرة.

وكانت آخِر الأبحاث الهامة على مركبات السلفا تلك التي قامت بها معامل هوكست وغيرها من المعامل، إذ بينما كان الكيماويون فيها يحاولون الحصول على مركبات من السلفا أقل ضررًا وأكثر نفعًا، إذ تمكَّنوا من الحصول على مركب من السلفا تسبَّب عنه نقص كميات السكر الموجودة في الجسم، مما قادهم إلى التفكير في أن هذه المركبات قد تكون ذات فائدة في علاج مرضى السكر، وفعلًا قد تُوِّجتْ أبحاثهم بنجاح كبير، وثبت أن هذا المركب له من المفعول ما يشبه تأثير الأنسولين، ويمكن تعاطيه بالفم على شكل أقراص، وقد سُمِّي هذا المستحضر Bz55، كما سمَّتْه معاملُ هوكست بالإنفنول Envenol.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤