عين، مثل عصا!

إلى أبطال أمتنا في ميادين التحرير

١

يكون هادئًا، واسع النظرات، منتظم الأنفاس، وهو يصل إلى باحة المقهى. يصل في العاشرة والنصف بالضبط، من صباح كل يوم، أي بعد نصف ساعة فقط من فتح بابها. يكون النادل في انتظاره، أو كأنه ينتظره. مع مرور الزمن تكوَّنت بينهما علاقات دقيقة، بل ميكانيكية.

٢

يصل الرجل الشاب. ينتصب في مدخل المقهى النادل الشاب. يلقي الرجل الشاب نظرة استطلاعية على مجموع المكان، وهو يتجه إلى طاولة تتوسط الباحة في مواجهة الشارع العام. يتابع النادل الشاب زبونَه الاعتيادي وهو يتجه إلى الطاولة ويزيح الكرسي ويجلس، وهو يتنفس بعمقٍ كأنه ينفض عنه عبئًا ثقيلًا أرهقه طويلًا.

٣

لا يطلب الرجل الشاب شيئًا. النادل يعرف طلبه مسبقًا؛ إذ ما يلبث أن يكون قد انصرف إلى الخدمة، إلى إعداد الطلب، طلبه الذي يحتاج إلى وقت: ركوة القهوة تغلي، وجمرات النارجيلة تحمي، وحين يستوي الشيئان ينقلهما بأناة إلى الطاولة. لا يبدو الشاب أنه معنيٌّ بالطلب؛ عيناه تنظران إلى أعلى حيث لا يوجد شيء، إلا سقف المقهى.

٤

لا يبدو النادل الشاب معنيًّا بما يشبه شرود زبونه، لأنه متعود ربما أن يراه هكذا، ولأنه هكذا، فكل شيء ربما عنده على ما يرام، لأنه متأكد من معرفة المشهد، وبأدق تفاصيله. لذلك يقول إن الأفضل هو ترك زبونه يتمتع بهدوء جلسته، ونكهة قهوة الصباح الفوَّاحة، ومجَّات النارجيلة الأولى ليومٍ جديدٍ … يوم آخر يقول في خاطره، وهو يفكر في شيء ما، بأنه يكسبه.

٥

لكنه لا يترك النظر، لا يملُّ منه، رغم تكراره واستيعابه أسابيع وشهورًا متوالية. يحلو له الاستمرار واقفًا بمدخل المقهى، عينه على زبونه الصباحي المنتظم، كأنه ينتظر منه جديدًا، يتوقع منه فعلًا، أو حركة، أو كلمة، أي شيء يختلف عما ألِف منه على امتداد الأسابيع والشهور الفائتة. لكن، ماذا؟ هو لا يفعل، لا يتحرك، لا يقول شيئًا، البتة. سوى … سوى … سوى … ماذا؟ آه، هو الذي فعل، هو الذي رأى، هو وحده يعرف، يعرف ماذا؟

٦

تتلمظ القهوة الساخنة بُخارها هنيهة بين شفتَي الرجل الشاب، بينما عيناه تخترقان الدخان المنفوخ من فمه، بعد أن غرغرت نارجيلته، وهما تتجهان نحو الشارع العام، تعبره السيارات في سيولة غزيرة من جانبي الذهاب والإياب؛ لا تتوقفان عن التطلع إلى الأمام في نظرة أفقية مستقيمة تنتهي دائمًا، أو هذا ما يخمِّنه النادل الشاب، عند الواجهة الزجاجية العريضة لمتجر الأواني والفخار المقابل للمقهى في الخط الآخر للشارع.

٧

حين يكون النادل الشاب منهمكًا في إعداد القهوة للزبون الثاني أو الثالث، يكون الرجل الشاب، ذو البذلة الأنيقة دائمًا، بالساعة الذهبية حول معصمه، والحذاء حسن التلميع؛ يكون مستمرًّا ينفخ من نارجيلته، بينما نظراته تكرُّ وهي تتوسَّع حوله، تتحرك وتتنقل كأنما حول محيط دائرة مرسومة في الفراغ، وهو وحده يراها، وحده يتابع، إما خارجها، أو وسطها، مشهدًا ما، مشهدًا يتلألأ ضوءًا، أو شررًا في عينيه، هو وحده يراه.

٨

يكون النادل الشاب قد حمل الطلب إلى الزبون الرابع، الذي حضر قبل قليل، وهو يعود إلى ركن عمله يختلس نظرة إلى الرجل الشاب، يراه ما زال ملفوفًا في كتلة دخانه، فيبادر إلى حمل علبة الفحم، ولا يستطيع إزاحة عينيه عنه وهو يجدد له جمر النارجيلة، وهنا ترتعش يده بالعلبة، وهو يرى الجمر يتقد في نظراته، والمشهد حول الدائرة، أو داخلها، يتعدد، وكأنما يسمع صراخًا، كأنما يرى ركضًا أو تدافعًا، هرْجًا ومرْجًا يشهد … كأنما …

٩

عندما خرج الرجل الشاب الذي كان أكثر شبابًا أمس، من قاعة المحاضرات، برفقة الطلبة، لم يفكر أن الأمور ستأخذ مجرًى آخر غير ما اعتاد عليه تقريبًا كل يوم، بعد انتهاء الحصة الدراسية في الجامعة، في الثانية بعد الزوال … سيركب الباص، ويتوجه إلى حي المنبع حيث بيت العائلة، ويتغذى، ويضطجع في نعوسة خفيفة، يستأنف عقبها مراجعة محاضراته، وهكذا، ولا يفكر غالبًا في مغادرة البيت إلا إلى صباح اليوم التالي، وهكذا …

١٠

عندما خرج طالب الأمس من مُدرَّجه ظهيرة ذلك اليوم، واتجه إلى الباب الخارجي الكبير للجامعة، لم ينتبه أنه اختلط، سيختلط أكثر بجماعة من الطلبة ليسوا من صفِّه، لم ينتبه أن الجماعة كبرت، ستكبر أكثر، أنه أصبح في وسطها منحشرًا، وأن قدميه تخطوان بغير إرادته، وأن جسده لم يعد ملكه، وأن هناك كتلة كبيرة ما انفكت تزداد كبرًا، مثل كرة ثلجية، مثل كتلة رملية، مثل قبضة مكورة، مثل جمرة ملتهبة، وهو في قلبها بدأ يحترق، قد احترق، ومن خياشيمه يخرج دخان النارجيلة الكثيف، وهو، ما عاد يُرى إلا كتلة دخان.

١١

يكون النادل الشاب قد جدَّد وقفته عند مدخل المقهى حين استعاد الرجل الشاب الذي كان بالأمس طالبًا، ولا هو يذكر بالتدقيق متى لم يعد طالبًا، فيراه قد أرسل نظراته في الاتجاه الأفقي مرة أخرى … كلما انصرف إلى التحديق في ذلك الاتجاه وسوست في خاطره هواجس وشكوك، هل هو قلبه وقع هناك يومًا، أو انخطف ذات نظرة، وماذا لو أن سيارة دهسته وهربت، كما يحدث في هذا البلد الذي تطير فيه السيارات، ومن يومها وهو يتطلع في اتجاه الشارع، يبحث عمَّن دهسه، أو علَّه يستعيد للحظة من خطفت لُبَّه، من يدري، لا أحد يدري شيئًا، لا زبون حدَّثه يومًا عن شيء، وإن كانوا جميعًا يعرفون نزوات الزبون الأول، ولأمرٍ ما يصمتون، يتحفَّظون، يعرف هو جيدًا لماذا يخرسون، يكتفون بتبادل النظرات صامتين!

١٢

عندما رأى النادل الشابُّ الرجلَ الشاب يختفي وجهُه، جلُّه، في سحابة الدخان، أدرك، بحكم المعايشة، أن جلسة زبونه الصباحية قد بلغت منتصفها. دليله أنه رآه ينهض عن كرسيه، ويشرع في الدوران الخفي حول الطاولة. يدور وهو يتجنَّب الاحتكاك بها وعيناه شبه مغمضتين، دليله أنه حين أكمل عدة دورات، سبعًا عادة، جلس من جديدٍ، مسندًا وجهه إلى كفَّيه، بينا نظراته ذاهلة في لا-اتجاه.

١٣

لم تعد قدماه، ولا حركاته ملكه. أحس تدريجيًّا أن جسده الذي ظن دائمًا أنه ملكه، يتحكم فيه من اليقظة إلى المنام، في جوارحه، وغرائزه، كأنما بُتِر منه وانتزعه غيرُه. الحقيقة أنه لم يكن يعي وضعًا يتشكَّل، يراه يتطور أمامه، وهو في وعيه السابق، ومنفصل عنه في آنٍ. وفيما كان يظن أنه يرى كلَّ ما يجري تحت بصره، أن عينيه مفتوحتان على وسعهما وهو يلتقط ما يجري أمامه، ويستدير خلفه، ويتلفَّت حواليه، وهم مثله يفعلون، يتكاتفون ويتفاخذون، أنفاسهم متنافذة، أنفاسهم ساخنة، سائلة، مثل حناجرهم مدوية، وأصواتهم عالية، عالية، عالية؛ فيما كان يظن …

١٤

لمَّا انقشعت سحابة الدخان عن زبونه، هبَّ النادل الشاب يجدد له الجمر المتقد، أدرك حاجته للنفخ، ثم سينخرط في سعال متقطع، مترافق مع جسد يرتعش، كأن أطرافه موصولة بأسلاك كهربائية، وسيسمع هو والزبون الثالث، والرابع، أنينًا وعواءً هما أقرب إلى الحشرجة؛ أصوات تتكسَّر أو تختلط بالصخب الهادر لسيولٍ لا تنقطع من السيارات، وهو يقف فجأة رافعًا ذراعيه عاليًا، وفي حركة مَن يستسلم لتحذيرٍ، ومَن يريد تجنُّب محذور.

١٥

لا يذكر إن كان هو من أطلق الصرخة الشعار: «ليسقط مولانا، مولاهم، ونعيش نحن!» أم هي عدوى الهتاف دوَّت فيه كالقنبلة، لا يذكر كيف انتقلت المظاهرة من محيط الجامعة لتكتسح الميدان خارجها. لا يذكر متى زحف الطلبة المتظاهرون، وهو فيهم، حتى وهو لا يعرف لماذا يتظاهرون جرفه تيارهم، أحسَّ بنبعٍ في صدره يتفجر، وغضبٍ كبركان هامد يثور، فهتف مثلهم، أم هتفوا مثله: «يسقط مولانا، يسقط مولاهم، نعيش نحن! اليوم! غدًا، أبدًا!». ومثلهم اشتبك مع القادمين من الجهة الأخرى للميدان. هو لا يذكر هل تصدَّى حقًّا للعصا الغليظة التي … انخطف بصره إليها وهي تعلو رأسه، أم هوت فوق رأسه بلا توقُّع، أم لم تهوِ أبدًا، لأن تقرير الطبيب لم يسجِّل أيَّ أثرٍ للدم في رأسه، ربما ارتطم رأسه بشيء، مجرد ظنٍّ، لا شيء مؤكد، لا أثر محدد … ثم إنه لا يوجد أي شاهد على حادث مفترض، والصحف لم تُفد عن أي مظاهرة في اليوم التالي، ولا يوجد من يتحدث عما لا يتحدث عنه أحد … وهو بالكاد، يعي أنه هنا في مقهى «قناديل النهار» يشرب قهوته، ويدخن نارجيلته، ككل صباحٍ، وعيناه على عصا مرفوعة فوق رأسه في السقف، في الهواء، في السماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤