بين السياسة والأدب

كان من أسباب انصرافي عن الكتابة في الأدب هذه الفترة؛ أَزَمات السياسة التي شغلت الناس في هذا البلد عمَّا سواها، وشيءٌ من الشك تسرَّب إلى عقيدتي في إصلاح الآداب العربية ألقى في نفسي أن الفروق في فهم الأدب وتقديره بين قومٍ وقوم، وبين مثالٍ ومثال إنما هي فروق في العنصر والطبيعة قَلَّ أن يُصلِح منها الاطلاع، أو يُجدِي فيها الإرشاد والانتقاد.

وكنتُ أرى المقياس الذي نقيس به الشِّعر والفنَّ يختلف اختلافًا بعيدًا عن مقاييسهما في عُرف أكثر الخاصة والعامة وذوي الثقافة من القوم والجهلاء الآخذين بالسماع والتقليد، فلعل أرقى ما يرقى إليه الأدب في رأيهم أنه زخرفٌ هندسيٌّ أو حليةٌ تُنَاط بجسم من الأجسام المشتهاة … تنفصل عنه فتموت، وتبدو عليه فإذا هي أجمل منها في علبة الصائغ أو عَيْبة الجوهري، وليست هي جمالًا من جمال الحياة ينبض فيها الدم، وتسري فيه العروق، وينمو نمو الطبيعة الحية أو يسبقها في وَثَبات النمو ويفضلها في نماذج الجمال، والأدب إن لم يكن كذلك فقد بطلت قَداستُه وتهدَّم هيكله وهَزُلتْ قرابينه وأصبح صناعةً من صناعات السوق أرخص من سائر الصناعات ثمنًا، وليس بأشرف منها في المقاصد والأصول.

وسأقول لكَ ماذا أعني بالزخرف الهندسيِّ الذي أَوْمأتُ إليه، فإنما أعني به ذلك التزويق الذي لا يَمُتُّ إلى الحياة بسببٍ، ولا يعمل فيه غير المسطرة والبركار وذهنٌ هو في الأذهان ضربٌ من المسطرة والبركار، أرأيت العمارة العربية في بنايةٍ من بناياتها القديمة أو الحديثة؟ هي جميلة في بابها ولا ريب، ولها من الرونق ما يجتذب العيون ويستدعي التأمل ويقع في الأبصار موقع السجع والجناس في الأسماع، ولكن هل رأيت فيها قط صورةً من صور الحياة النامية من زهرٍ أو ثمر أو قسمات وجهٍ أو مشابه عضو من الأعضاء؟ كلا، إنك لا تجد فيها أثرًا لهذه الصور ولا تقع فيها موقعها لو رأيتها.

وكذلك نجد الأدب في رأي المتأدبين على هذا الطراز الهندسي الذي تحل فيه الألسنة والأقلام محل المساطر والبراكير؛ خلا من روح الحياة وغابت عنه دلائلها حتى لو أمكن أن تخلو ألفاظ الكتابة من أثر الحياة خلو حجارة البناء منها لما أطلَّ عليك وجهٌ ناطق أو سِمةٌ متحركة من ذلك الأدب المزخرف الموزون، وكأنما الفرق بين العمارة والشِّعر في هذه المقابلة هو فرق ما بين طبيعة الحجارة وطبيعة الكلام الملفوظ، لا فرق ما بين الحياة في بناء الجدران والحياة في بناء الكلام.

وقد تلقى الرجل تتوسم فيه العلم بالأدب الصحيح والبصر بأقدار الكلام والتمييز بين صادِقِه ومكذوبِه ونفيسِه وزهيدِه، ثم تُصغِي إلى حديثه في هذه المعارض فتسمع عجبًا؛ تسمع رجلًا يُحدِّثك عن آثار الفحول من شعراء الغرب وكُتَّابه ويهشُّ لِمَا فيها من المحاسن والآيات، ويروي لك عن آراء النقاد في النظم والنثر والقصص والأخبار ما ينبيء عن فهمٍ مستقيم وحُكم مصيب وتمييز مسدد، ثم تكاد تنسى أنه ينقل إليك ما سمع وما قرأ حتى تخوض معه في حديث الأدب العربي، ويأخذ في مطارحاته ومساجلاته فإذا بك قد حككت جلد الروسي فظهر لك التتري القديم على قاب شعرةٍ أو شعرتين، وإذا بك تسمع الألمعيَّ المعجب بموليير ودي موسيه وسان بيف، لا بل المعجب بشكسبير وملتون وبيرون وهازليت ولسنغ وهيني يترنم ببيتٍ أو أبياتٍ من أسخف ما نظم ابن المعتز أو صفيِّ الدين الحلي في تلك المعاني الهندسية والتشبيهات الشكلية والتعبيرات التي تُقَاس بالمسطرة والبركار، أو تخبرك في أسمى ما تسمو إليه عن أحياءٍ كأنها «تحت التمرين» لم تتأصل فيها الحياة، ولم يوسع لها من الأفق الذي تعيش فيه إلى أن تقضي مدة التجربة على ما يرام …!

أو ربما تلقى الرجل يُحدِّثك في الأدب العربي، فيهزأ بتلك التشبيهات ويزدريها ويتفكَّه بالضحك من زورقها الذي أثقلته حمولة العنبر، ودمعها الذي يجري بلون البنفسج، وهلالها الذي جعلوه في السماء سوارًا، واحتاجوا إلى النقد فرهنوه بدرهمٍ … ويوافقك على هذه المآخذ التي اشتهر أمرها وكَثُر عدد المتنكرين لها فتقول نعم، هذه ضالةٌ سيقت إلينا … وما نخالُ صاحبنا إلا صيرفيًّا حسن النقد عارفًا بالجيِّد والرديء من آدابنا العربية مميِّزًا بين الطلاوة البرَّاقة والمعادن القيِّمة، فتُقبِل عليه وتأنس إلى رأيه، لكنه لا يلبث أن ينشدك أبياتًا من نظمه أو نظم غيره يَستحسِن فيها ما يستهجنه هناك، ويُجِلُّ فيها ما كان يزدريه أمامك قبل دقيقتين! وقد يكون الشبه خفيًّا في بعض الأحيان بين الأبيات الممدوحة والأبيات المُزدرَاة، ولكن الذي يدهشك ويُخلِف ظنك أحيانًا أن ترى الأبيات في الحالتين على نمطٍ واحدٍ من المعنى والصياغة والذوق والإحساس — إن اشتملت على ذوقٍ وإحساسٍ، فما باله يُثنِي عليها هناك وينحي عليها هنا؟! الأمر واضح، إنه مُقلِّدٌ في استهجانه للتقليد كما أنه مُقلِّد في الإعجاب والاستحسان، فهو مُقلِّد مركَّبٌ لعلَّه شرٌّ من المُقلِّد البسيط.

وأناسٌ آخرون نَشئوا بين مقياسين للأدب، لا أدري أيهما أحقُّ بالمقت والإعراض؛ الأول: مقياس الأديب المصريِّ في الجيل الماضي يغشى المجالس بالنكات المبتذلة والنوادر المُلفَّقَة والمجون الذي يلتمس به الحظوة، ويتقرب به من ذوي الجاه والثروة، والثاني: مقياس الأديب الأوروبيِّ في العهد الأخير يُزجِي ملالة القراء من حينٍ إلى حين بثرثرةٍ خاوية ونميمة عامة لا تختلف في شيء عن النميمة الخاصة، وكلمات يسميها أدبًا ونقدًا وما هي إلا هجسات لحظة وخطرات نعاس في اليقظة، والأول آفة الأدب في عهد الاستبداد، والثاني آفة الأدب في عهد «الديمقراطية».

لقد كان للإنسانية أسرةٌ جامعة، وكان لها أبوة وأُخوة ونسب وقرابة في اللحم والدم تُبيح الأمر والإرشاد وتأذن بالغيرة والنصيحة، فلَمَّا فشت آداب «العصر الحديث» ذهبت تلك الأسرة، وقامت في مقامها «شركة مساهمة» تستأجر سادتها وحُكَّامها وأنبياءها وكُتَّابها، وتحاسبهم على أعمالهم وعدد كلماتهم كما تحاسب الشركة المديرين والسماسرة والجباة والعمال، فلا حق اليوم لصاحب فكرة في أن يرشد الناس ويجهدهم، ولا شأن له بصلاحهم وفسادهم أو بصوابهم وخطئهم، وإنما كل واجبه أن يُسرِّي عنهم ويخدمهم ويلعب أمامهم كلما دعوه للعب على هواهم، فإذا فعل ما يأمرونه به نقدوه، وإن هو تَرفَّع عن هذه الصناعة طردوه، وقَلَّ في أبناء هذا الجيل — بعد أن سَرَتْ فيهم عقيدة المساواة التامة بين جميع الناس — مَن يظن أن للأديب حقًّا مقدسًا في أن يرشد ويجهد وفي أن يجد ويبرم، وقَلَّ فيهم مَن يظن أن يبذل درهمه ليشتري به ما قد يستعصي عليه أو يسمو به فوق مكانه الذي اطمأن إليه، ولِمَ السُّمُو وفيمَ المحاولة؟ أليس الناس سواء؟ أليس لكلٍّ حريته في أن يظهر للملأ بعيوبه ونقائصه وأن يبرز للقريب والبعيد ﺑ «شخصيته» ومقوماته؟

بلى، فما حاجة الإنسان إذن إلى المزيد المُجهد من صفات الكمال ودواعي الاحترام؟

فليس الأدب الآن رسالة الحياة التي توحي بها شعرًا أو نثرًا على ألسنة المختارين من أصفيائها، وليس الأدب الآن صلاة الروح التي لا تنبس بها حتى تتطهر من صغائرها وأدوائها، وليس الأدب الآن مناجاة الأسرة الواحدة يتلقاها إخوانها من إخوانها وأبناؤها من آبائها، وليس الأدب الآن نداء الرائد السابق يشير للأمم إلى البعيد المنظور من آفاقها وأجوائها، لا ليس الأدب شيئًا من ذلك ولا شبيهًا بشيء من ذلك، وإنما هو علالة السآمة وتزجية الفراغ وبضاعة لا شك أن بائعها هو الغابن وشاريها هو المغبون.

وليس من الصعب على النفس أن تهجر الكتابة في الأدب الذي يفهمه الأكثرون هذا الفهم ويقيسونه بهذا المقياس، وكاتب هذه السطور يقول ولا يجمجم في مقاله إنني لو علمت أن قصارى ما أسمو إليه بالأدب أن أروِّح بأوراقي على وجه القاريء، كما يروِّح الخادم بالمروحة على وجه سيدة المنصرف عنه بنعاسه وشجونه؛ لَمَا كتبت حرفًا ولا فتحت كتابًا ولا اخترت — إن خُيِّرت بين الاثنين — أن يُروِّح الناس على وجهي بدرهمٍ أبذله على أن أُروِّح على وجوه الناس بما أبذل فيه كنانة نفسي وذخيرة عقلي وخلاصة ما أنفقت من أنفاس حياتي، ولكني أكتب وأعلم أن ليست كل الواجبات عليَّ وحدي وأن ليست كل الحقوق للقاريء وحده، وأعلم أنني أكتب فأتحدث بخير ما أتحدث به لسامعيَّ فمن حقي عليهم أن يتقيظوا لما أُحدِّثهم به، وألَّا يكلفوني المضي في الكلام وهم بين الإصغاء والتهويم …

•••

وإني أحمد الله أن ليس من قراء الأدب الذي أحبه وأدعو إليه من يسومني أن أحمل المروحة في ساعة النعاس، وأن ليس هؤلاء القراء من القلة بحيث يبدو لنا لأول وهلة، فقد عرَّفتْني رسائلهم المتفرقة وتحياتهم الطيبة والتفاتهم إلى ما قدمتُ إليهم من كتبي ورسائلي؛ أنني لم أكن أثقل عليهم حين كنتُ أخوض معهم في أحاديث غير أحاديث البطالة والفراغ، وحين كنت أتعمد أن أقابلهم في غير موعد اللهو والتسلية، وأنهم فئة يُحسب حسابها ويُؤبه لشأنها بجانب الفئة الكبرى من طلاب المراوح والمرطبات وهواة اقتناء الأدباء على طريقة اقتناء الببغاوات والثعابين، وما أراني أُسَرُّ بنبأٍ من أنباء مصر سروري بالنبأ الذي بلغني عنها من قِبَل هذه الفئة الصالحة.

والآن وقد هدأت العاصفة السياسية بعض الهدوء وغلب الأمل على وساوس الشك والفتور نعود إلى الأدب فنعطيه حقه علينا يومًا في الأسبوع، ونعتذر إليه بعض الاعتذار — لا كله — من تركه في الأشهر الماضية أو مشاركته فيما له من حقوق الإقبال والعناية؛ فإنني لا أحسبني قد تركته كل الترك أو اشتغلت عنه بالسياسة كل الاشتغال.

نعم، لا أحسبني اشتغلتُ بالسياسة عن الأدب كل الاشتغال، ونسيتُ عهدي في هذا الغمار كل النسيان، فإن النفس التي تفرغت للأدب تقصر عليه سرائرها، وتمحضه زُبدة ودائعها، وتتخذ منه محرابًا تتوجه إليه ومعقلًا تلوذ به لن يسعها أن تصدف عنه إلى غيره أو تسلوه جد السلو في ساعة البُعد عنه، وقد يشتغل الإنسان بالسياسة للسياسة، ويعمل فيهاعمل مَن يتدله بطلعتها ويهيم بشمائلها، ومَن يُخيَّل إليه أن العالم كله أصوات وأحزاب وقوانين وشرائع ومعارضة وتأييد، وأن الأمور التي تُطرَح في معترك الأحزاب هي الأمور التي تدور عليها حقائق الحياة وأسرار الوجود وأحكام القضاء …! ولكن للعمل في السياسة على هذا المنوال أناسًا خُلِقُوا له لستُ أظنني منهم، بل أنا لا أرى الذين ينكبُّون هذا الانكباب على السياسة إلا كمَن يطعن في الهواء أو يقبض على الماء أو يجري في دائرةٍ مسدودة بلا انتهاء.

أما السياسة كما أعرفها وأميل إليها فهي على صلةٍ بالأدب كما أعرفه وأميل إليه؛ لأنها تستهويني بالمباديء الإنسانية المطلقة لا بمباديء العصبية الضيقة، وتتصباني بالنظرة الجمالية لا بالنظرة التي تحصر الحياة في الأنظمة والقوانين.

أيها القاريء، أَتَذْكُر ما يخامر نفسك في ميدان الصراع أو مضمار السباق؟ أَتَذْكُر كيف يتشيع قلبك لأحد الموقفين في حادثةٍ من حوادث التاريخ أو قصةٍ من قصص الخيال حين ترى أحدهما في جانب الضعف والمروءة، وترى الآخر في جانب القوة والخسة؟ كيف تسمي تشيعك اللدني لذلك الموقف؟ أتسميه تشيعًا فنيًّا أو تشيعًا سياسيًّا، إن كان لا بد من قسمة أنواع الشعور إلى هذين القسمين؟ أما أنا فأقول إن ما يخامرك بين الموقفين هو على الأقل من قبيل السياسة الأدبية أو من قبيل الأدب السياسي، وإن العُدَّة التي ينزل بها الأديب إلى ميدانه لا تختلف عن عُدَّة السياسي حين ينظر بتلك العين إلى ذينك الموقفين، وكذلك كنتُ وأكون في سياستي التي أشتغل بها، وكأن الأدب عندي شجرة طُعِّمَتْ بغصنٍ من السياسة فتَغيَّر طعم الثمرة بعض الشيء ولم تتغير التربة ولا الجذور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤